الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101], {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}[يونس:102], {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103], الآيات مِن سورة يونس, وفي هذا السياق بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى-لرسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بأنَّ هذا العناد والكفر الذي قوبل به مِن هؤلاء الكفار المشركين, هو نابع عن ردهم الحق بعد علمهم به, وأنَّ إضلالهم قد كتبه الله -تبارك وتعالى-؛ بسبب هذا الجحود, وبَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه مشيئة الرَّب -جلَّ وعَلا-, وأنه لو شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يجمعهم على الهُدَى, قال -جلَّ وعَلا- لرسوله : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99], وهذا لشدة شوق النبي -صلى الله عليه وسلم-, وشدة رغبته في أنْ يهتدي أهل دعوته, كل الذين أُرْسِلَ إليهم إشفاقًا عليهم منه -صلى الله عليه وسلم-, لكن هؤلاء الجاحدون الذين قابلوا هذه الدعوة بهذا لجحود, وبهذا الرد حقت عليهم عقوبة الرَّب -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس:99], {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ........} }[يونس:100], فإنَّ أمره ومشيئته نافذةٌ في خَلْقِهِ وعباده -سبحانه وتعالى-, {..........وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ}[يونس:100], نَجَس القلب, وافتراء الكذب ثم اتباعه له هؤلاء لا عقل لهم, {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101], {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ........}[يونس:101], مما أقامه الله -تبارك وتعالى- مِن آية على وحدانيته, وأنه الرَّب, الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى -, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[يونس:101], ماذا تفيد كثرة الآيات, قوم هم وَطَّنُوا أنفسهم على ألا يقبلوا الحق وهم لا يؤمنون, يكذبون الحق بعد ظهوره ووضوحه.
ثم قال -جلَّ وعَلا- مهددًا لهم : {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ........}[يونس:102], أي لا نتيجة غير هذه سؤال يراد به التقرير, وأنه لا نتيجة لهذا التكذيب إلا أنْ يصيبهم الله -تبارك وتعالى-بمثل ما أصاب الأمم السابقة التي كذبت رسلها, {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ}, هؤلاء المكذبون بك يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}, الأيام, { أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ}, أيام العذاب؛ يوم قوم نوح عندما أغرقهم الله -تبارك وتعالى-, يوم عاد, يوم ثمود, يوم قُرَى لوط هذه أيام هذه الأُمَم الماضية, أيامها فهؤلاء لا ينتظرون بعد تكذيبهم إلا أنْ يُحْدِثَ الله -تبارك وتعالى- بهم, وأنْ يصيبهم الله -تبارك وتعالى-بمثل ما أصاب السابقين, {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}[يونس:102], {قُلْ فَانْتَظِرُوا} هذا تهديد جاء في صورة تمهلوا, {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ}, النبي -صلى الله عليه وسلم-, {مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ}, وذلك لنرى لما بعد مَن ستكون له العاقبة, ومَن ستدور عليه الدائرة, وقد كان؛ فإنَّ الأمر انتهى إلى ما بَشَّرَ الله -تبارك وتعالى-به رسوله مِن أنَّ الحسنى له في الدنيا والآخرة, والبقاء له, والظهور له, والدائرة دارت على المكذبين به -صلى الله عليه وسلم-, قال -جلَّ وعَلا- مبينًا سُنَّتِهِ الجارية قال : {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا.........}[يونس:103], ثم بعد هذا الابتلاء؛ ابتلاء الرسل بهؤلاء المكذبين المعاندين, {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا.........}[يونس:103], إنجاءهم هو إخراجهم مِن هذا الذي توعدهم وتهددهم به الكفار مِن الهلاك والسبر, {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا.........}[يونس:103], في نهاية المطاف تكون العاقبة لهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103], {كَذَلِكَ},كذلك كهذه النتيجة, {حَقًّا عَلَيْنَا}, حق أحقه الله -تبارك وتعالى-, أي أمر جعله الله حقًا عليه, وهو الذي أوجبه على نَفْسِهِ -سبحانه وتعالى- لنْ يوجبه عليه أحد, {نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}, إنجاء المؤمنين جعله الله -تبارك وتعالى- حقًا واجبًا عليه -جلَّ وعَلا-, وهذا مِن رحمته وإحسانه بعباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-.
ثم في ختام هذه السورة وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى-نداءات إلى هؤلاء الكفار قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:104], هذه مفاصلة, أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم- أنْ يفاصل الكفار, {قُلْ}, لهم أي يا محمد, {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}, نداء إلى كل مَن بُعِثَ لهم النبي -صلى الله عليه وسلم-, وقد أُرْسِلَ إلى الناس جميعًا, {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}, إنْ كنتم تَشُكُّونَ شك الريب فيما جئت به هذا الدين الذي جئت به, وهذا الدين يشمل كل ما جاء به النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن مسائل الإيمان والعمل, {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}, نفي ويراد به الالتزام, أنا لن يكون مني عبادة, أنا لا أعبد الذين تعبدون مِن دون الله ألهتكم شرككم هذا لا, لن أتطرق إليه, فهذه مفاصلة, {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}, وقد عرفنا معنى العبادة فيما مضى, وأنها في لغة العرب هي الذُّل والخضوع واستسلام لأمر المعبود, والمقصود بالعبادة في الدين العبادة في الله -تبارك وتعالى-, الإسلام له, والذُّل له, والخضوع لأمره -سبحانه وتعالى-, والإيمان بخبره فهي إيمان والتزام, {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}, {تَعْبُدُونَ}, تعبدونهم مِن دون الله, {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}, {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ}, ثم الله هذا ليس إلهًا خاصًا بل هو رب العالمين, ثم وصف الله نفسه هنا بصفة عظيمة جدًا وهو أنه هو {الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}, أين تذهبون إنه الذي يملك أرواحكم, وهو الذي يتوفاكم الوفاة هو الموت, وسميت وفاة؛ لأنها أخذ الإنسان كاملًا يؤخذ كاملًا, تؤخذ روحه, ويلقى جسده, أين يلقى حيث جعل الله -تبارك وتعالى-مصير ذلك في هذه الأرض, {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}[طه:55], فهذا نعبد الرَّب الذي يتوفاكم فإنْ كان كل منكم قد اتخذ ربًا خاصًا قد لا يضر, هو لا يضر ولا ينفع عابدًا ولكنه لا علاقة له بالآخرين, فقد اتخذ أناس ربًا غيره لكن هذا رب الجميع, هذا الله الذي أعبده إنما هو رب الجميع -سبحانه وتعالى-, رب هذه السموات والأرض رب العالمين -سبحانه وتعالى-, ثم وصف الله نَفْسَهُ قال : {الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}, فنعبد هذا الرَّب الذي يتوفاكم, إذن هو الذي يستحق العبادة؛ فأروا حكم هي بيده -سبحانه وتعالى-, {........وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:104], أمرني الله, {َأُمِرْتُ}, بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله, والآمِر هو الله -تبارك وتعالى-, {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, المُصَدِّقِينَ بكلام ربي, المُذْعِنِين بذلك, المطمئنين إلى أنَّ كلام الله -تبارك وتعالى- حق وصدق, وهذا مع الإيمان, ثم بعد ذلك بعد هذه المفاصلة, بعد أنْ أمر الله -تبارك وتعالى- أنْ يفاصل الكفار وأنَّ له طريق وهم اتخذوا هذا الطريق فليأخذوه ولينتظروا ما يترتب على أخذهم طريق مخالف لطريق الرَّب -جلَّ وعَلا-, وَجَّهَ الله رسوله قال : {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يونس:105], {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ }, يا نبينا, يا رسولنا, وإقامة الوجه هي استقامته على أمر الله -تبارك وتعالى- {لِلدِّينِ}, المنزل لك مِن الله -تبارك وتعالى-, {حَنِيفًا}, مائلًا عن كل طرق الشرك, فأصل الحَنَف هو الميل, العرب تُسَمِّي مَن يكون قدمه مائلة تسميه أحنف, والميل هنا الحنيفية والحنيف في الدين هو الذي يميل ويبتعد عن كل طرق الشرك, يترك المشركين وشركهم, ويتوجه في طريقه إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-وصراطه, {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ}, حال كونك {حَنِيفًا}, مائلًا, تاركًا كل طرق الشرك, ومستقلًا بهذا الطريق, طريق الرَّب -سبحانه وتعالى- وصراطه المستقيم, {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يونس:105], أمر, {وَلا تَكُونَنَّ}, بالتأكيد, النون الثقيلة في التأكيد, {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}, إياك أنْ تكون مِن المشركين, تحذير وإنذار للرسول -صلى الله عليه وسلم-, وهذا لاشك أنه خطاب لكل مَن يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- مِن المؤمنين بأنْ يستقيموا على أمره -سبحانه وتعالى- : {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}[يونس:106], {وَلا تَدْعُ}, دعاء طلب, {مِنْ دُونِ اللَّهِ}, غير الله -تبارك وتعالى-, {مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}, وكل هذا كل ما سِوَى الله مما يُدْعَى هو لا ينفع ولا يضر, لا ينفع عابده ولا يضره كذلك, بل هو أيضًا لا ينفع نَفْسَهُ ولا يضر نَفْسَهُ إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-, ومشيئة الله؛ فهولا يملك لنفسه نفع ولا ضر, وبالتالي هو لا يملكه لعابده كذلك, {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يونس:105], {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ........}[يونس:106], {فَإِنْ فَعَلْتَ}, أي دعوت مِن دون الله إلهًا آخر, {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}, {إِذًا}, حين ذلك تكون حينذاك, {مِنَ الظَّالِمِينَ}, والظلم في لغة العرب وضع الشيء في غير محله, ولا وضع الشيء في غير محله أكبر مِن الشرك بالله -تبارك وتعالى-؛ لأنه وضع للعبادة فيمن لا يستحقها, كيف تضع العبادة لغير الله -تبارك وتعالى- فالإنسان الذي جعل العبادة وهو ذُلّ وخضوع وعناء وجه, وثمرة قلب, ودعاء وطلب يجعلها لغير الله, وضع هذا الأمر في كل محله, دعا ما لا يستجيب له, طلب مِمَن لا يملك شيء, دعا بأنْ يدفع هذا الإله عنه الضر, وهو لا يستطيع أنْ يدفع ضره إذن ضلال وضع أمر العبادة هذه شيء شريف هذا, والدعاء في غير محله, {فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ}, كل مَن دعا غير الله -تبارك وتعالى- فهو ظالم؛ لأنه وضع العبادة في غير محلها, ثم هو ظالم لِنْفسه كذلك بأن أوردها النار فظلمها وهذا أعظم الظلم, {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- هذا الإله الذي يعبده النبي -صلى الله عليه وسلم-, والذي يوجهه الله -تبارك وتعالى- إليه, قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ........}[يونس:107], هذا إلهك الذي أُمِرْتَ أنْ تجعل الدين كله لله, والعبادة كلها له, والسير كله في طريقه, {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}, الله -سبحانه وتعالى-, {بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}, لا يكشف هذا الضر, وكشفه هو رفعه وإبعاده وإزالته, {إِلَّا هُوَ}, -سبحانه وتعالى- فإذن حصول الضر لم يكون إلا بإذنه ومشيئته, قال : {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}, لا يوجد ضر دون الرَّب -تبارك وتعالى- مِن أي فاعل لهذا الضر إنما هو بإرادة الرب وبمشيئته -جلَّ وعَلا-, {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}, ضر ما, أي ضر جاء هنا مُنَكَّر أي ضر, {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}, لم يكشف هذا الضر إلا الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}, إذا أرادك الله -تبارك وتعالى-, {بِخَيْرٍ}, أي خير, {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}, لا يستطيع أحد أنْ يقف حائلًا وحاجزًا بين الفضل الذي يريده الله -تبارك وتعالى- يتفضل به عليك وبينك مستحيل, كما قال -صلى الله عليه وسلم- : «واعلم أنَّ الأُمَّة لو اجتمعت على أنْ ينفعوك, لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك, وإْن اجتمعت على أن يضروك, لم يضروك بشيء إلا قد كبته الله عليك», قال -جلَّ وعَلا- : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ .........}[فاطر:2], فالخير كله بيده -سبحانه وتعالى-, وكذلك الضر لا ينال أحدًا مِن خَلْقِهِ إلا بأمره ومشيئته -سبحانه وتعالى-, { وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}[يونس:107], {يُصِيبُ بِهِ}, بهذا الفضل, {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}, سواءً كان هذا الفضل فضل الدنيا والآخرة, فضل في الدين, أو فضل في الدنيا, {يُصِيبُ بِهِ}, بهذا الفضل, بفضله -سبحانه وتعالى-, {مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}, فإفضال الله -تبارك وتعالى-, وإنعامه على عبده في الدين كله مِن الله, فالهُدَى هُدَى الله -سبحانه وتعالى-, وكذلك إفضاله وإنعامه -سبحانه وتعالى- في الدنيا فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء, وكذلك يقدر بمعنى يضيق على مَن يشاء -سبحانه وتعالى-, {........وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يونس:107], {الْغَفُورُ}, واسع المغفرة -سبحانه وتعالى-, {الرَّحِيمُ}, مِن الرحمة فالمغفرة الله -تبارك وتعالى-, غفور وصف نَفْسَهُ, وأصل الغفر هو الستر والتغطية, والرَّب -تبارك وتعالى- الرب, الرحيم غفور, عبده قد يصيب مِن الذنوب ما يصيب مِن كبائر الإثم, ومِن الفواحش, ومِن الإعراض عنه, ومِن التكذيب برسله, ومن ومن, ثم إنه إذا مال عن ذلك, وأتى إلى طريق الرب -تبارك وتعالى-, واستغفر ربه, وأحسن سلوكه في صراط الرَّب فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يقيل هذا كله ويغفره, يستر عنه هذه العيوب كلها فلا يفضحه بها, ولا يحاسبه عليها يوم القيامة, بل قد يجازيه على سيئاته حسنات -سبحانه وتعالى-, {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:70], فهو الغفور -سبحانه وتعالى-, فإزالة الله وستره ومحوه لسيئات عبده عندما يستقيم على أمره, ويتوب إلى الله -تبارك وتعالى-هذا؛ لأنَّ الرب -تبارك وتعالى-هو الرب, الإله, الغفور الذي يجب توبة عبده التائب إليه -سبحانه وتعالى-, وقد ندب الله -تبارك وتعالى- ودعا كل مذنب وكل مُفْرِط ومسرف في حقه في المعصية أنْ يتوب, وأنْ يرجع قبل الموت, وقبل أنْ يأتيه العذاب, {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الزمر:53], {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ}[الزمر:54], دعوة عظيمة, رحيمة مِن الرَّب -تبارك وتعال-, وكذلك قوله في الذين سَبُّوهُ وشتموه واتخذوا الولد قال :{أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[المائدة:74], وقال في الذين فعلوا فعل شنيع في الإجرام وهم الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات حرقهم بالنار, أهل الأخدود قال: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ}[البروج:4], {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}[البروج:5], {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}[البروج:6], يتفرجون, {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}[البروج:7], حاضرين, ويلقى في هذه النار الرجال والنساء والأطفال حرقًا بالنار فقط؛ لأنهم امتنعوا عن عبادة هذا الفاجر, الذي ادعى الألوهية, وقال للناس أنا ربكم, ومع ذلك قال الرَّب -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10], {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا}, جاء هذا قيد؛ ليدل على أنَّ باب التوبة مفتوح للذين فعلوا كل هذا الإجرام, حرقوا أهل الإيمان وعادوهم على هذا النحو, وفعلوا هذا الفعل الشنيع, وظهرت منهم هذه الغلظة؛ غلظة القلب, وهذه الشناعة, لكن بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- بأنه لم يُقْفَل عليهم باب التوبة, بل أصبح كذلك باب التوبة مفتوح لهؤلاء؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10], فالله -جلَّ وعَلا- قال : {هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}, وفي هذا حث لهؤلاء الكفار المعاندين أنْ يعودوا إلى ربهم -سبحانه وتعالى-, ويعلموا أنه غفور رحيم.
ثم نداء بعد ذلك أخير في هذه السورة : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ........}[يونس:108], {قُلْ}, يا محمد, نادي الناس, يا أيها الناس, {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ}, الحق, الثابت, المستقر, {مِنْ رَبِّكُمْ}, ليس مِن إله ورب بعيد عنكم أنتم, بل هذا مِن ربكم, خالقكم, رازقكم, المتصرف فيكم, المُوَكَّل بأمركم, فهو ربكم وهو الذي يدعوكم, فربك الذي خلقك ويرزقك هو الذي يدعوك, {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ........}[يونس:108], مَن اهتدى على هذا الطريق, إنما يهتدي لِنَفْسِهِ, وذلك أنَّ نفع هذا وأثر هذا, وعاقبة هذا على نَفْسِهِ حصول هذه البركات والخيرات للاستقامة في الدنيا بركات الدنيا وبركات الآخرة فضل الله -تبارك وتعالى- وجنته ورضوانه فأثر هذا الإيمان يعود على نَفْسِهِ, أما الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى- فإنه لا يستكثر بطاعة الطائعين عن قلة, ولا يتخذ وليا له مِن الذُّل, {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}, والعبادة لا تزيد شيئًا في مُلْكِهِ, كما قال -جلَّ وعَلا- : «يا عبادي, لو أنَّ أولكم وآخركم, وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا», فهذا لا يزيد شيئًا في ملك الله, وكذلك لا يتضرر الرب -تبارك وتعالى- بمعصية العاصين, «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئًا», فالرَّب هو الغني الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى- الله هو الغني -سبحانه وتعالى -الغني عن كل خلقه كل خلقه مفتقرون إليه وهولا يفتقر إلى أحد من خلقه وإلى شيء مِن خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى- لا العرش, ولا الكرسي, ولا السماوات, ولا الأرض, والملائكة, ولا الإنس, ولا الجن كل هذه المخلوقات, والعوالم محتاجة إلى الله في وجودها, في بقاءها, في استمرارها, في رزقها, في دوام حركتها واستمرارها في هذه الحياة, كلها هذه منوطة بالله -تبارك وتعالى-, الله هو الذي يقيم لهذا السموات والأرض العظيمة هذه, {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ........}[فاطر:41], فكل مخلوقاته مفتقرة إليه, وهولا يفتقر شيء إلى مخلوقاته -سبحانه وتعالى-, {........فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}[يونس:108], {مَنْ ضَلَّ}, عن طريق الحق اتخذ الطريق الآخر, {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}, على نَفْسِهِ, فَوَبال هذا إنما يكون على نَفْسِهِ, ثم : {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}, {وَمَا أَنَا}, النبي, {عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}, لم يوكلني الله -تبارك وتعالى- بكم, بل الله -تبارك وتعالى- هو المتوكل بكم, وهو مَالِك شأنكم كله, ومعنى أنه لم يوكلني بكم بمعنى أنه لم يجعلني أنا القائم بأمركم, الذي أُحَاسِبكم وأعاقب مَن يذهب عن الطريق لا كل هذا إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}, أي بمتوكل بأموركم وشئونكم, إنما أنا رسول فقط, مُبَلِّغ مِن الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[يونس:109], أمر أخير في آخر هذه السورة مِن الله -تبارك وتعالى-, يقول الله لرسوله : {اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ}, هذا الطريق سِر فيه, {مَا يُوحَى إِلَيْكَ}, والذي يوحيه الله -تبارك وتعالى-, {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الشورى:3], والوحي هو الإعلام بالطريق خفي, والنبي -صلى الله عليه وسلم- يُوْحَى إليه, يُعْلَم مِن الله -تبارك وتعالى- إما بأن يأتيه الملك؛ فيكون صوت يسمعه كصلصلة الجرس وهذا أشد, وإما أنْ يتمثل له الملك رجلًا؛ فيخبره بأمر الله -تبارك وتعالى-, فهذا الذي نوحيه إليك, يوحيه الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله الله قال له اتبع هذا اتبع وسر فيه, لست إنشاء الدين واختراعه هذا ليس لك, وإنما أنت عليك أنْ تُنَفِّذَ وتسير فيما أمرك الله -تبارك وتعالى-, أنْ تسير فيه؛ في الطريق الذي أمرك الله تعالى أنْ تسير فيه, {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ}, على الكفار, اصبر على هؤلاء المعاندين, {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}, بينك وبينهم, فالحكم كله لله, والأمر كله بيده -سبحانه وتعالى- فانظر ما الذي سيتحقق حُكْم الله -تبارك وتعالى- هم لن يقولون, لن تمر, لن يسير هذا الدين سينتهي, {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ}, -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}, ما يحكم خير مِن الله -تبارك وتعالى-, فحكمه هو القضاء, العدل, الفصل ولا شك أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حَكَمَ بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين مناوئيه ومعارضيه وقد كان؛ فكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى-به رسوله مِن أنْ يكون له مِن العز والنصر والتمكين, ودخول الناس في هذا الدين, وعلو دينه على كل الأديان كله قد تحقق, وما أنذر الله -تبارك وتعالى- به الكفار مِن القتل, ومِن الإهانة, ومِن الإزالة, ومِن حصول اللعن لهم في الدنيا والآخرة, وانقطاع أثرهم, وذهاب سلطانهم كله قد تحقق, كل هذا قد حققه الله -تبارك وتعالى- فكان الأمر كما أخبر الله -تبارك وتعالى-رسوله, {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[يونس:109], وقد حَكَمَ الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى -.
بهذا تنتهي هذه السورة, العظيمة؛ سورة يونس, وهي إحدى السور التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم- : «شيبتني هود وأخواتها», هذه مِن أخوات هود, ونشرع -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية في سورة هود عليه السلام-, في الختام أُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله , ولله الحمد والِمَّنة, وأستغفر الله لي ولكم.