الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1], {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}[هود:2],{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود:3], {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[هود:4], هذه الآيات هي افتتاح سورة هود, وهود مِن السور المكية نزلت كلها في مكة, ونزلت على الصحيح قبل سورة يونس, وقد جاء في حديث أبي بكر الصديق -رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال : شبت يا رسول الله قال : «شيبتني هود وأخواتها», وجاء في رواية هذا الحديث وأخواتها الحاقة والواقعة, وإذا الشمس كورت, هذه السورة موضوعها هو بيان رسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, الدين الذي بُعِثَ به النبي -صلوات الله والسلام عليه-, بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه المقدمة التي سمعنا آياتها؛ التذكير بأنَّ هذا القرآن كلام الله -تبارك وتعالى-, وأنه كتاب مُفَصَّل, مُحْكَم كله, فَصَّلَهُ الله -تبارك وتعالى- في كل معاني التي نزل بها هذا القرآن, وأنها مِن عند الله -سبحانه وتعالى-, وهذه المقدمة بيان مرارًا أنها قد تكررت في مواضع كثيرة, كثيرة مِن القرآن, بيان أنَّ هذا القرآن إنما هو مِن عند الله -سبحانه وتعالى - وليس مِن عند غيره, ثم بيان الهدف مِن هذا القرآن وهو أنْ يُعْبَدَ الله وحده لا شريك له ألا تعبدوا ألا الله, وبيان أنَّ الرسول إنما جاء نذيرًا مِن الله -تبارك وتعالى- مُحَذِّرًا العباد مِن أنْ يميلوا عن هذه المهمة, وهذه الغاية التي خُلِقُوا مِن أجلها, وأنه بشير لِمَن أطاع الله -تبارك وتعالى-, هذا بيان مجملًا لهؤلاء المطيعين وثم المكذبين, ثم بعد ذلك تفصيل المواقف الناس إزاء هذا القرآن, المكذبين منهم مع وضوح هذا الأمر الحجج والدلائل الواضحة في هذا الأمر الذي مِن أجله أرسل الله -تبارك وتعالى- رسوله, ثم بيان حال المكذبين فكان تصوير حالهم كحال الأعمى الذي يقال له إنَّ الشمس طالعة فيقول : لا ليست بطالعة بَيَّنَ الصبح لذي عينين ولكن الأعمى الذي لا يراه هذا حال الكافر مع هذا الحق الذي جاءت به الرسل, ثم بعد ذلك بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة مَصَارِع الغابرين نماذج مِن الأمم السابقة التي أرسل فيها رسل, وكيف كانت قصة كل أمة مع رسولها, نَفْس الأمر, نَفْس الأحوال, نَفْس المشاهد, نَفْس الخاتمة بدءًا بنوح -عليه السلام- الذي يأتي إلى قومه؛ يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ مهمته هو بيان طريق الرَّب لهم -سبحانه وتعالى-, ويحذرهم مِن مَغَبِّة مخالفة هذا الأمر وأنه عبد الله ورسوله, وأنه على بينة مِن هذا الأمر, ثم يكون الاستهزاء به والتكذيب, ثم تقوم صراع بين هذا الحق وبين الباطل, ثم تُطْوَى في النهاية صفحة الكفار بإهلاكهم, وينجي الله -تبارك وتعالى - الفئة المؤمنة, وهذا الأمر يتكرر مع هود -عليه السلام- وقومه, ومع صالح وقومه, ومع لوط وقومه, ومع شعيب وقومه, وكذلك مع فرعون وقومه, وكيف كانت دعوة موسى إليه, ثم أنَّ فرعون وقومه كَذَّبُوا برسالة موسى, {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود:97], {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود: 98], ثم يُعَقِّبُ الله -تبارك وتعالى- بعد أنَّ قَصَّ مَصَارِع الغابرين على هذا النحو : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103], {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}[هود:104], {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:105], فيبين الله -تبارك وتعالى- أحوال كل هؤلاء الناس يوم القيامة, وأنهم سينقسمون في النهاية إلى شَقِيّ وسعيد, {شَقِيٌّ}, هو الذي وقف, كل الذين وقفوا مِن الرسل هذا الموقف هذه نهايتهم, {وَسَعِيدٌ}, كل الذين آمنوا بالرسل هذه هي نهايتهم, ثم بعد ذلك تثبيت للنبي في خاتمة هذه السورة أنَّ هذا هو دين الله -تبارك وتعالى-, وأَّن هذه سُنَّتَهُ, وأنه لا يكون في أدنى ريب مِن أنَّ الذي عليه قومه إنما هو شرك وكفر, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد هداه إلى هذا الصراط؛ فليتمسك به, لا يركن إلى الذين ظلموا, ويتمسك بهذا الطريق, عليه أنْ يعبد الله -تبارك وتعالى- وحده, هو ومِن أطاعه وأنْ يلتزموا صراطه المستقيم, ثم بيان هذا الأمر الذي جرى به التاريخ على هذا النحو, تاريخ الرسالات هي سُّنَّةِ الله ,طريقته في عباده -سبحانه وتعالى-, وأنَّ الله لو شاء غير ذلك لفعل, لو شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعل كل هذا الخَلْق على دين التوحيد, وعلى ملةٍ واحدةٍ لتمت مشيئته -سبحانه وتعالى- إذ لا راد لمشيئة, ولكن شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يكون الأمر على هذا النحو , رسل مِن عنده يدعون الناس ينقسموا الناس بإزائهم إلى مؤمن وكافر, يقوم الصراع, تكون العاقبة لهؤلاء الرسل في الدنيا ثم تلك هذه العاقبة في الآخرة, فليتمسك النبي بالحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- إليه هو ومَن معه, وليثبتوا على ذلك فإنَّ هذه سُنَّةِ الله -تبارك وتعالى- ولن تتغير, هذا هو مجمل موضوعات هذه السورة, وكل حلقة وفاصل مِن هذه السورة آخذٌ بالحلقة الأخرى في سلسلة بديعة, عظيمة, كتاب, بليغ, محكم, مُنْزَل مِن الله -تبارك وتعالى- فلنسر مع هذه السورة العظيمة فقرة فقرة, آية آية.
قال جلَّ وعَلا- : {الر}, بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الحروف المُقَطَّعَة, الألف واللام والراء, وقد ذكرنا مرارًا أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف, وأنَّ أمثل ذلك أنها إشارة مِن الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ هذا القرآن الذي يكذب به هؤلاء الكفار هو مُؤَلَّف مِن هذه الحروف التي يتكلمون بها؛ فليأتوا إذا كانوا مكذبين بهذا القرآن بسورة مِن مِثْلِ سور هذا القرآن, {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}, هذا كتاب, إشارة إلى هذا الكتاب, أو بيان هذا الكتاب وهو القرآن, سُمِّيَ بالكتاب؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- كتبه في السماء وأنزله مِن عنده مقروءًا, ثم كُتِبَ في الأرض, ثم هو أعظم كتاب كُتِبَ في هذه الأرض يقرئه القارءون, ويتعبد به المتعبدون, لا كتاب أعظم مِن هذا في الوجود, {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}, بالبناء لما لم يُسَّمَ فاعله, والذي أَحْكَمَ آياته هو الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, والإحكام هو الإتقان, وعدم تطرق الخلل إلى آيات هذا القرآن بأي صورة, مِن تطرق الخلل كأن يكون فيه شك, فيه ريب, في معنى ضعيف مِن المعاني, فيه ضعف كذلك في البناء والأسلوب والصياغة, لا, بل أُحْكِمَت مِن حيث اللفظ والمعنى إحكامًا تامًا بحيث أنه لا يتطرق أي خلل إلى هذا الكتاب, {آيَاتُهُ}, الآية هي هذه الجملة التي تبدأ بفاصلة وتنتهي بفاصلة, وسميت آيات؛ لأنَّ كل جملة مِن جمل القرآن شاهدة على أنها مِن الله -تبارك وتعالى- معجزة, {........ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1], ثم زيادة على الإحكام فيها تفصيل جاءت محكمة, كل القرآن مُحْكَم, ثم مُفَصَّل, التفصيل هو البيان, وفصل كل معنى عن المعنى الآخر, وعدم خلط المعاني بعضها ببعض؛ بحيث تشتبه في الفهم والعِلْم, بل كل أمر قد فَصَّلَهُ الله -تبارك وتعالى- تفصيلًا مِن كل هذه الأحكام, موضوعات القرآن متعددة؛ توحيد الله -تبارك وتعالى-, النهي عن الشرك , أنواع هذا الشرك, كيفية إبطاله, الأدلة على بطلانه, صفة الرب -تبارك وتعالى, سُنَن الله -تبارك وتعالى- في خَلْقِهِ, صنيعه مع المؤمنين, صنيعه مع الكافرين, أحكامه التي يريدها مِن عباده -سبحانه وتعالى- مُفَصَّلَة بدءًا بالعبادات التي يحبها الله -تبارك وتعالى-, ويرضاها أنْ يؤدوها له صلاة وصيامًا وزكاة وحَجًا, الأخلاق التي يحب الله -تبارك وتعالى- عباده أنْ يتخلقوا بها, المعاملات التي يتعاملوا بها, الطهارة, النظافة, البيع, الشراء, هذه موضوعات متعددة فهي بيان لصراط الرب -تبارك وتعالى- ما منه العقائد التي فيه وهي مسائل الإيمان, وكذلك مسائل العمل والتشريع هذا قد فَصَّلَهُ -تبارك وتعالى- تفصيلًا عظيمًا, كل أمر فيه مُفَصَّل فإذا أخذت آيات الميراث تجد أنها فُصِّلَت تفصيلًا بإحكام عظيم, آيات الوضوء فَصَّلَت تفصيلًا عظيمًا, بين كل حكم فيها, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ........}[المائدة:6], مُفَصَّلَة, كل ما يريد الله -تبارك وتعالى- قد فَصَّلَهُ في هذا القرآن تفصيلًا عظيمًا, {........كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[هود:1], {مِنْ لَدُنْ}, مِن عند, فالله -تبارك وتعالى- هو المتكلم بهذا القرآن, وهذا القرآن منه -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٍ}, صفة مِن صفات الله -تبارك وتعالى-, والحكمة هي وضع الأمور في نصابها, يضع كل أمر في نصابه لا يوجد أمر خارج عن مكانه وعن نصابه, بل كل أمر في نصابه فهو الحكيم -سبحانه وتعالى-؛ لأنه هو الذي أحاط بكل شيء علمًا, فعندما يأمر, أو ينهى, أو يقرر, أو يقول فإنما قوله الحق, ويضع كل أمر -سبحانه وتعالى- في مكانه الصحيح, {خَبِيرٍ}, الخبرة هي نقل العلم, أي عليم علمًا دقيقًا بشئون الخَلْق كلهم؛ فلا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى-, وهذه المقدمة لا شك أنها تسترعي كل مَن له عقل وحظ في الفقه والفهم؛ أنَّ هذا الكلام آتٍ مِن الله -تبارك وتعالى- الذي هذه صفته إذن ارعه سمعك وانتبه واحذر هذا كلام ليس كلام أي أحد إنما هو كلام الرب -تبارك وتعالى- وهو كلام مُحْكَم, مُفَصَّل, نازل منه فلا مجال للحيدة عنه, وللتهاون فيه, أو الاستهزاء به, لا؛ لأنَّ هذا له تبعة عظيمة؛ لأنه مِن الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّ كل ذلك تبعاته الموضوع هذا الكلام هذا إشارة مِن الله أنَّ هذا القرآن المُحْكَم المُفَصَّل منه -سبحانه وتعالى-, {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}, هذه هي مهمة هذا الكلام أو غايته, أو الذي الرسالة التي نزل بها كلام الرب -تبارك وتعالى-, {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}, أيها المخاطبون, وهذه الجملة قد أجملت كل ما يريده الرب -تبارك وتعالى- مِن عباده, {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}, وذلك أنَّ العبادة هي اسمٌ جامع لكل ما يرتضيه الرب -تبارك وتعالى- مِن الخَلْقِ, وأخبر بأنه لا تعبدوا إلا هو -سبحانه وتعالى- فيدخل فيها مسائل الإيمان به؛ الصلاة, الصيام, الزكاة, الحج, بر الوالدين, كل شُعَبِ الإيمان التي ارتضاها الله -تبارك وتعالى- أمرنا أنْ نسير فيها داخلة كلها في هذا المعنى, {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}, {اللَّهَ}, هذا اسم عَلَم على ذات الرَّب لم يُسَّمَ به غيره -سبحانه وتعالى- يعرفه كل الخَلْقِ, كل الخلق إذا أُطْلِقَ هذا الاسم يعرفون أنَّ المراد بهذه كلمة الله ربِّ العالمين, خالق السموات والأرض, ربّ هذا الكون -سبحانه وتعالى-, فهو الذي عَرَّفَ نَفْسَهُ -سبحانه وتعالى- لعباده بما أنزل على الرسل بأنَّ الله هو رب العالمين, وخالق الخَلْقِ أجمعين -سبحانه وتعالى-, {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}[هود:2], {إِنَّنِي}, النبي الذي منزل إليه هذا الكتاب, {لَكُمْ}, أيها الناس, {مِنْهُ}, مِن الله, {نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}, هذه صفة النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {نَذِيرٌ}, مُحَذِّر مُخَوِّف؛ وذلك أنَّ الرَّب -تبارك وتعالى- يجب أنْ يُخَافَ منه أولًا لأنه الرَّب الذي ملك كل شيء, وخضع له كل شيء, وذَلَّ له كل شيء, أنه يؤاخذ بالذنب -سبحانه وتعالى-, وأنه لم يَخْلُق خَلْقَهُ عبثًا بل يؤاخذهم بالصغير والكبير مِن الذنوب, وأنَّ عقوبته شديدة -سبحانه وتعالى-؛ فجاء الرسول يُنْذِرُ الناس عقوبة الرَّب -تبارك وتعالى-, وأنه عنده عذاب شديد, وجاء ينذرهم بهذا, {وَبَشِيرٌ}, البشير المُبَشِّرُ والبشارة هي الخبر بما يَسُّر, كل الأخبار السارة والأخبار السارة, إنما هي لأهل الإيمان وسيأتي تفصيل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن هذه الأخبار السارة, مِن الحياة الطيبة في هذه الدنيا, مِن المآل السعيد الذي لا مآل أفضل منه, وهو العيش والحياة في جنات الخلود, حياة لا انقطاع ولا نهاية لها في كل ما جُمِعَ , كل ما هو مِن السرور والحبور واللذة والنشوة, فلم يغب عن ذلك شيء, والنبي نذير حقيقي, وبشير حقيقي وحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما كانت على هذا النحو بالقرآن الذي أنزله الله -تبارك وتعالى-, وفي أنواع النذارة كل أنواعها, تحذير مِن عقوبة الرَّب -تبارك وتعالى-؛ فالصغير والكبير وأنواع هذه العقوبة وصفتها, وكذلك البشارة العظيمة لكل أهل الإيمان, بشارات عظيمة جدًا في الدنيا والآخرة فهذه مهمة النبي أنه يأمر إلى أنْ يُعْبَدَ الله -تبارك وتعالى -مع التحذير مِن مخالفة الأمر, ومع التبشير في كل أمر بعاقبة الاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى-, وأول خطبة خطبها النبي؛ خطبة علانية قال للناس فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, لما جمع الناس في بطون قريش في أول خطبة خطبها على ظهر الصفا وقال : يا بني فلان, يا بني فلان لما كلهم اجتمعوا قال إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, فيه عذاب شديد ينتظركم وأنا نذير لكم, فهذه هي صفة النبي هذه خلاصة الدين, ألا تعبدوا إلا الله وأنا مهمتي أني نذير وبشير نذير لِمَن ابتع هذا الطريق, لِمَن لم يتبع هذا الطريق بهذه العقوبات مترتبة عليه, {وَبَشِيرٌ}, لِمَن اتبعه بهذه البشارات العظيمة.
ثم : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود:3], {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}}[هود:4], هذا بيان لبعض معاني النذارة والبشارة, : {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ........}[هود:3], أي الطريق إلى الله -تبارك وتعالى- ابدأوه بالاستغفار, {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}, مما وقع منكم قبل ذلك, مِن الشرك والكفر والبعد عن الله -تبارك وتعالى-, {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}, التوبة هي الرجوع, أي ارجعوا إليه, استقيموا في مستقبل أيامكم على هذا الطريق, فالاستغفار يكون لِمَا مضى, والتوبة والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- تكون فيما يأتي, أي يكونوا توابين رجاعين إلى الله -تبارك وتعالى-, والسائرين في طريقه, {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى........ }[هود:3], هذا البشارة {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}, الدنيا متاع وسَمَّاهُ هنا يمتعكم, ما قال يحييكم في هذه الدنيا حياة كاملة لا, هذا متاع حسن إلى أجل مسمى, متاع حسن بأن يحل لكم الطيبات, يحرم عليكم الخبائث, ييسر لكم الأمر, يرزقكم في هذه الدنيا الرزق الحلال الذي تأكلوه حلالًا, يسهل عليكم المشقات والمصاعب التي قد تقع في هذه الدنيا, الحياة الطيبة التي كفلها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين, {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97], في الآخرة, فالمؤمن يحيا الحياة الطيبة وفيها الرضا والعفة والقناعة والطهر والنظافة, اطمئنان القلب هذه هي معاني الحياة الطيبة التي هي مَن شاهد وقارن بين حياة المؤمن وحياة الكافر, وليست الحياة الطيبة هي الحياة الرغيدة, وفيرة الرزق أنْ يغدق الله -تبارك وتعالى- عليهم أنواع الملذات والشهوات لا, وإنما حياة الرسل جميعهم كانت حياة فيها شدة وتحمل, لكن كانت حياة طيبة هذه هي معنى الحياة الطيبة لهم مهمة يشعر بأنَّ له غاية في الحياة, وأنه قائم بهذه الغاية, وأنه مؤدي الواجب الذي أنيط به, يعرف بدايته, يعرف نهايته, مطمئن قلبه إلى ربه, إلى أنَّ طريق هذا هو الطريق الحق يستمتع بما يسره الله -تبارك وتعالى- له مِن طيبات هذه الحياة, الاستمتاع الطيب, يسعى في المال الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- مريدًا وجه الله -تبارك وتعالى- بعكس الكافر الذي يعيش في ظلمة, لا يعرف البداية, لا يعرف النهاية, يتعلق بخيوط العنكبوت يتكل على آلهة لا تسمن ولا تغني شيئًا, لا تنفعه ولا تضره, مُظْلِم القلب عن ربه, جزع عند المصائب, فَرِح عند النعم فهذا لا يحيا حياة طيبة, بل حياة تكون كذلك ملؤها النجاسة والخسة, فهو مِن حيث إلهه وربه ومولاه جاحدٌ كافرٌ بخالق هذا الوجود ربِّ العالمين -سبحانه وتعالى-, غير قائم بشكره, نجس القلب, نجس العمل, مُدَنَّس, فقول الله -تبارك وتعالى-, {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا}, بالدين والعلم والفضل وبهذه الدنيا, {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}, وذلك أنَّ الدنيا محددة الوقت, كل واحد قد حدد الله -تبارك وتعالى- أعطاه عمره قبل أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ -سبحانه وتعالى-, وهذا مسجل عند النفخ؛ نفخ الروح في العبد يكتب المَلَك أي ربي ينفخ الروح في هذه العلقة وفي هذه المضغة التي أصبحت مضغة ويقول : أي ربي ما رزقه؟ ما عمله؟ ما أجله؟ شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟ فهذا أمر مفروغ منه أجل, {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ........}[الأنعام:2], لكل هذه الدنيا, {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}, فهذا أجل مسمى كل واحد له أجل مسمى, وأقصر الآجال هي آجال هذه الأمة؛ أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-, فمنذ بعثة النبي وإلى آخر الزمان هذه الأمم, كل هذه أمة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- مؤمنها وكافرها؛ الُأَّمة التي أرسل لها النبي وهذه أعمارها قليل كما قال النبي: «أعمار أُمَّتِي مِن الستين إلى السبعين», فهذا في الأعم الأغلب الستين إلى السبعين هذا هو العمر الافتراضي لعامة النفوس هنا كَمَن يطول قليلًا حتى يُرَد إلى أرزل العمر مائة ومائة وعشرين, وهناك مَن يموت دون ذلك, لكن متوسط أعمار أُمة محمد ما بين الستين إلى السبعين, فهذا الأجل مُسَمَّى وهو كما ذكرنا عمر أبناء هذه أمة محمد في هذه السن, {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}, كل صاحب فضل في الدين مِن المطيعين لله -تبارك وتعالى- يؤتيه فضل؛ فلا يضيع الله -تبارك وتعالى- على مؤمن حسنة قط, سَبَّحَ تسبيحة واحدة, سبحان الله, كبر تكبيرة واحدة, صَلَّى ركعة زيادة, صام يومًا لله أكثر مِن غيره, أنفق شيء مِن النفقة, صنع شيئًا مِن البر أي خير فكل صاحب فضل يؤتى فضله, يؤتيه الله -تبارك وتعالى- فضله, بمعنى يؤتيه ثواب حسناته في الآخرة فلا يضيع -سبحانه وتعالى- عليه شيء, {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}, في الآخرة, ثم قال جلَّ وعَلا- : {........وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود:3], هذا التحذير, {وَإِنْ تَوَلَّوْا}, أي وإنْ تتولوا أيها الناس, {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}, أمر النبي أنْ يقول هذا, ويُحَذِّرُ الناس مِن أنه يخاف عليهم عذاب يوم كبير, كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, وظل هذا دأب النبي -صلوات الله والسلام عليه- يُحَذِّر الكفار مِن مَغَبَّة كفرهم, ويحذر كل عاصٍ مِن معصيته سواء كانت هذه المعصية على الصغير والكبير, {وَإِنْ تَوَلَّوْا}, عن الطاعة وعن الإيمان وعن الدخول في هذا الدين, {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}, {يَوْمٍ كَبِيرٍ}, في كل شيء, كبير في طوله فإنه خمسين ألف سنة مِن عمر زماننا هذا, كما نعد في هذه الدنيا, كبير في عذابه, كبير في أهواله, في كل شيء, {فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}, وعذاب اليوم الكبير؛ لأنه يُحْكَم على العبد في هذا اليوم وليس أنه فقط عذابه هو محصور في هذا اليوم, لا, هذا اليوم عذاب بوقفته وانتظار المصير فيه, وبالأهوال التي تكون منه, ثم فيما المآل بعد ذلك -عياذًا بالله-, {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}, لا إلى غيره, {........وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[هود:4], أي اعلموا أنَّ {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}, فمرجع العباد كلهم إلى الله لا إلى غيره, قَدَّمَ هنا {إِلَى اللَّهِ}, ما قال مرجعكم إليه, وإنما قال : {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ}, وذلك أنَّ كل مرجع العباد إلى الله -سبحانه وتعالى-, {........وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[هود:4], في أنْ يحييكم -سبحانه وتعالى-, وأنْ يعيدكم إليه .
نقف عند هذا, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبده ورسوله محمد, والحمد لله رب العالمين.