الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّيِ وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[هود:5], {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:6], {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[هود:7], الآيات مِن سورة هود -عليه السلام-, وقد مضى في الحلقة الماضية أنَّ الله -تبارك وتعالى- بدأ هذه السورة بمقدمة بَيَّنَ فيها -سبحانه وتعالى- أنَّ هذا القرآن قد أُحْكِمَت آياته وفُصِّلَت مِن لَدُن حكيمٍ خبير, فَبَيَّنَ أنَّ هذا القرآن منه, وأنه قرآن مُحْكَم على هذا النحو كله ومُفَصَّل, وأنها مِن عنده -سبحانه وتعالى-, وأنَّ هذه الآيات مِن عنده الحكيم ,الخبير -جلَّ وعَلا-, وأنّ المهمة التي نزل بها القرآن ألا تعبدوا إلا الله, ثم بيان مهمة الرسول -صلى الله عليه وسلم-, وأنه فقط بشير ونذير, {........إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}[هود:2], ودعوة إلى الخَلْقِ, {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ........}[هود:3], والنتيجة والمحصلة, {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}, في الآخرة, {........وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}[هود:3], {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[هود:4], بعد هذه المقدمة التي بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- فيها أنَّ القرآن منه, وأنَّ هدفه دعوة الناس إلى الرَّب -تبارك وتعالى-, وأنَّ هذه مهمة الرسول هي النذارة والبشارة, وأنْ مُجْمَل هذه النذارة العذاب الكبير الذي ينتظر المكذبين, ومجمل هذه البشارة الحياة الطيبة للمؤمنين في الدنيا والآخرة, والمآل الحسن في الآخرة.
ثم بدأ فاصل جديد من هذه السورة وهو بيان حال الكفار مع هذه الدعوة الواضحة, البَيِّنَة مِن الله -تبارك وتعالى-, هذا الفاصل مَزَجَ الله -تبارك وتعالى- فيه بين مقالات الكفار وعنادهم, وردهم لكلام الرب -تبارك وتعالى-, وبين قيام الحقائق والأدلة الواضحة, البَيِّنَة على أنَّ هذه الدعوة وهذه الرسالة حق, وأنَّ هذا الكلام مِن الله -تبارك وتعالى- حق, وأنَّ ما يدعوهم الله -عزَّ وجلَّ- إليه حق, وأنَّ ما ينتظرهم حق مِن النار والوعيد والعذاب, لكن انظر كيف أنَّ الصبح بَيِّن, وأنَّ الأعمى لا يراها, فهذه الأدلة قائمة, وانظر هذا الأعمى يرد هذه الأدلة ويجادل فيها, بدأ الله -تبارك وتعالى- ذلك بقوله : {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ.......}[هود:5], صورة بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- صورة الكفار في محاولتهم الابتعاد عن هذا الدين؛ بأنَّ يثني صدره, أي يُحَوِّلَ وجهته بعيدًا عن هذا الدين كراهية له, وعدم رغبة في أنْ يسمعه؛ حتى لا تقام حُجَّة عليه, وإنه ما يطرق أذنه هذا الكلام فتقيم الحجة عليه, لا يريد سماع ذلك حق يكرهونه وبالتالي يميلون عنه كل الميل, {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ.......}[هود:5], يستخفوا مِن الله -تبارك وتعالى-, يستخفوا أنْ يكون قد سمعوا الحق وفقهوه قامت عليهم الحجة, لا يريدون هذا, قال -جلَّ وعلَا- : {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}, {أَلا}, فليعملوا أنهم حين يستغشون ثيابهم, حين يكونون تحت الأغطية التي يغطون بها أنفسهم, الثياب التي يغطون بها أنفسهم, {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ}, في صدورهم, وما يعلنونه كذلك في العلانية, {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}, أدق وأخفى ما في الإنسان ذات صدره, وذات الصدر سره الدفين, والحديث الذي لم يخرجه قط, ما خرج على لسانه لإنسان أمر في صدره قال اعتقده شيء فعله وأخفاه في صدره ما باح به لأحد, الله بعلمه -سبحانه وتعالى-, {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ}, في الخفاء, يفعلونه في السر, {وَمَا يُعْلِنُونَ}, يفعلونه بالعلانية, {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}, فلمَ تستخفي, ولمَ تميل بصدرك عن الرَّب -تبارك وتعالى-, وتظن أنَّ الله -عز وجل- لا يعلم ذلك منك, وليس بِمُطَّلِع عليك, ثم هذه صورة مِن صور نفرة الكفار مِن هذا الدين, وظنهم أنهم يمكن أنْ يخفوا شيئًا عن إلههم وربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-, ثم بيان للآيات؛ آيات الرب -جلَّ وعَلا- قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:6], هذه آية لا يسع تفصيلها المجلدات, يُخْبِرُ -تبارك وتعالى- أنها {مَا مِنْ دَابَّةٍ}, لتأكيد النفي, {مَا مِنْ}, تأكيد النفي, {مَا}, ما نافية, {مِنْ دَابَّةٍ}, كل ما يدب على الأرض, مَا له دبيب على الأرض فهو دابة, النملة نقول دبيب النمل؛ لأنها تدب على الأرض وتسير إلى الشيء الكبير, فيل الذي يدب على الأرض فما بين النملة الصغيرة, والفيل الكبير مِن حيوان وزواحف وإنسان كل هذه دواب, {مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ}, وهذه قد نشر الله -تبارك وتعالى-, وزَعَّ وخَلَقَ وَبَثَّ في هذه الأرض مِن كل الدواب في سهلها وجبلها وبحرها؛ ففي البر والبحر ملأ الله -تبارك وتعالى- وزخر الله -عزَّ وجلَّ- هذه الأرض بكل أنواع الدواب ما عَلِمْنَا منها وما لم نعلم, وكل هذه فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد رتب رزقها وهو يعلم, {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}, رزقها الذي ترزق به, أكلها, طعامها, شرابها, كيف ترزق؟ مِن الحوت الكبير في البحر, كيف يرزقه إلى النملة الصغيرة, إلى هذا المخلوق الصغير في البر, مِن القوقعة الصغيرة, والخلية الواحدة التي تعيش وتدب في هذا البحر إلى غيرها, كل دابة مِن هذه الدواب على الله رزقها, وذلك أنه لا يخلق إلا هو -سبحانه وتعالي-, الله خالق كل شيء؛ قطرة الماء, حبة القمح, أي شيء تأكله هذه الدواب وتشربه كلها مِن خَلْقِ الله -تبارك وتعالى- ما يشارك الله -تبارك وتعالى- أحد في الخَلْقِ, ثم ترتيب هذه الأرزاق هذا كله وتنظيمه لله -تبارك وتعالى-؛ فالله بكل شيء وكيل, {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62], هو المتوكل بكل شيء -سبحانه وتعالى-, فهو المتوكل بكل هذه المخلوقات -سبحانه وتعالى-, تصريفها وإقامتها وتوزيعها ونشرها كل هذا إلى الله -جلَّ وعَلا-, ثم أنها بعلمه -سبحانه وتعالى-, {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}, { مُسْتَقَرَّهَا }, مكان استقرارها في حَجَر, في عش, في كنف هنا, في مخبأ هنا, في سرب, أين تستقر, {وَمُسْتَوْدَعَهَا}, المستودع المكان الذي يودع فيه الشيء, والوديعة مِن الوداع ما يحب الإنسان أنْ يكون هذا محفوظ فما يحب الشيء المخلوق أنْ يكون هذا محفوظ, الإنسان, هذه الدواب تحب أنْ تستودع بيضها, صغارها, قُوْتَهَا حتى لا يناله الآخرين, فأين تخفي كل دابة بيضها, صغارها, الصغار قوتها, هذا كله بعلم الله -تبارك وتعالى-, انظر هذا العلم الإلهي الذي وسع كل شيء, هذه المخلوقات فلا يوجد مخلوق صغير أو كبير إلا وسعه عِلْمِ الله -تبارك وتعالى-؛ فهو الذي أحاط بكل شيء علمًا -سبحانه وتعالى-, ثم هو الذي خلق هذا, وهو الذي رتب, وهو الذي نظمه, وهو الذي أجراه كما يجري كله بأمر الله -تبارك وتعالى- أي آية أعظم مِن هذا؟ وهذه الآية تفصيلاتها يستحيل مثلًا لو أنَّ البشر أرادوا أنْ يكتبوا هذا ويسجلوه, كل نملة, وكل مخلوق مِن هذه المخلوقات أنْ يُكْتَبَ تاريخ حياتها وعملها مِن وقت ولادتها إلى منتهاها, فهذا أمر لا تسعه مجلدات, {........كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:6], كل هذا منذ بدء الخليقة وإلى نهاية العالم قد حسبه الله -تبارك وتعالى-, وقد كتبه لكل دابة, {فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, لوح محفوظ لا يغادر شيء مِن هذه المقادير إلا وهو مكتوب فيه مهما كان شيئًا حقيرًا, خلي شيء حقير, نملة صغيرة, نحلة صغير, دودة مِن هذه الديدان لا يؤبه بها لكنها قد سُجِّلَت, كتب تاريخ حياتها, كتب فعلها بدءًا مِن أول لحظة مِن وجودها إلى منتهاه؛ فقد أحكم الله -تبارك وتعالى- خلقه وضبطه ضبطًا كاملًا وكتبه وحَسَبَهُ -سبحانه وتعالى-, وكأنَّ الله -تبارك وتعالى- يوجه أنظار هؤلاء المخاطبين بهذا القرآن مَن هذا الرب الذي يدعوكم إليه, انظروا هذا الرَّب, الإله الذي يدعوكم إليه, إنه هو الذي خلق هذا الكون, وأنه ما مِن دابة في هذا الخَلْق إلا والله -تبارك وتعالى- قد رَتَّبَ لها حياتها, رزقها الذي هو أهم حلقة مِن حلقات المخلوق, الرزق, وكذلك عَلِمَ الله -تبارك وتعالى-, {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا}, وأنه قد أحصى هذا وكتبه -سبحانه وتعالى-, {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, فيكف يُكْفَرُ بهذا الرَّب؟ وكيف يُظَنّ أنَّ الإنسان ممكن يخفي عنه شيء؟ وهو لا يخفى عنه حياة نملة مما خلق -سبحانه وتعالى- فكيف يمكن أنك تستخفي عنه, ولا تهرب هنا, ولا تثني صدرك عن طريقه, ولا تريد أنْ تسمع كلامه, انظر مِن يخاطبك بهذا, وأنك إذا كان أنَّ الله -تبارك وتعالى- في خلقه فأين المهرب؟ أين مهربك مِن هذا الرب, الإله -سبحانه وتعالى-؟.
ثم : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا........ }[هود:7], ففي هذا الخَلْق على هذا النحو.
ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- الخطاب لبيان غاية خَلْق الإنسان هذه الدابة المخصوصة التي لها وضع مخصوص, خَلْق مخصوص, وهدف مخصوص خَصَّهُ الله -تبارك وتعالى- قال وهو الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى- : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ........}[هود:7], هذه السماوات, المشاهدة التي أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها سبع, وإنْ كنا لا نحيط علمًا بها, ولا بسعتها ولا بأبعادها, والأرض التي نحن عليها, قال -جلَّ وعَلا- : خلقها في ستة أيام مِن أيام الله -تبارك وتعالى-, مِن أيام الرَّب -تبارك وتعالى-, والصحيح أنها ليست مِن أيام بعمر أيامنا على هذه الأرض, {وَكَانَ عَرْشُهُ}, أي قبل خَلْق السموات والأرض, {عَلَى الْمَاءِ}, عرش الله -تبارك وتعالى- مخلوق, وهذا العرش قد جاء في الآيات والأحاديث أنه سقف هذا العالم, سقف السماوات والأرض, والمحيط بها مِن كل جوانبها في السماوات السبع, في عرش الله -تبارك وتعالى- كحلقة في فلاة, العرش أعظم العرش مخلوق قبل هذه السماوات, وكان عرش الله -تبارك وتعالى-, {عَلَى الْمَاءِ}, ما صفته هذا الماء وأيها لاشك أنه ليس هو الماء القدير الصغير, القطرة الصغيرة هذه الموجودة على هذا سطح هذه الأرض, فإنَّ هذه الأرض إنما هي ذرة مِن الذرات, حَبّة رمل في السماء, والسماء الأولى في الثاني كحلقة صغير في فلاة فالماء هذا تعريف الذي عند الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}, أي أنَّ الله خَلَقَ هذا الخلق هذه السموات, وخَلَقَ هذه الأرض على هذا النحو, {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}, وأنه كان مقصد وغاية الخِلْق أنْ يبلوكم أيها الناس, {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}, {لِيَبْلُوَكُمْ}, ليختبركم اختبار, شاءت حكمة الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذا الإنسان يُخْلَقُ على الصورة التي خَلَقَهُ الله -تبارك وتعالى- عليها مِن طين هذه الأرض, يهبط آدم مِن الجنة إلى هذه الأرض, يتناسل ويكون أتباعه جيل يتبع جيل الخلائف في هذه الأرض, جيل يخلف جيلًا فيها, يُرْسِلُ الله -تبارك وتعالى- الرسل يُبَيِّنُونَ لهم طريق الرَّب -تبارك وتعالى-, هذا طريق الرَّب سر فيه, فَمَن سار فيه هذا إلى الله -تبارك وتعالى- وإلى الجنة, وهذا مَن لم يسر فإلى النار- عياذا بالله-, {لِيَبْلُوَكُمْ}, أيها الناس, {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}, يبلوكم بإحسان العمل, والعمل الحسن هو هذا الذي بينه الله -تبارك وتعالى-؛ لأنَّ البشر لا يستطيعون بعقولهم أنْ يصلوا إلى العمل الحسن القبيح, التحسين والتقبيح ما يستطيع البشر أنْ يَصِلُوا بعقولهم إلى هذا الأمر؛ لذلك فطرهم الله -تبارك وتعالى- على شيء مِن هذا, وأنزل الله -تبارك وتعالى- رسله يبينون الحَسَن والقبيح, الخير والشر, طريق الهدى وطريق الضلال؛ حتى يوضحوا لهم الأمور, وتستبين لهم السبيل, {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}, أحسن عملًا باتباع سبيل الرب -تبارك وتعالى,- فهو العمل الحسن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- تقوى الله, عبادة الله وحده لا شريك له, الميل عن كل طرق الغواية والضلال والظلم, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90], هذا هو الرَّب -جلَّ وعَلا- الذي خَلَقَ هذا الخَلْق, والذي ضبطه على هذا النحو, خلق السماوات والأرض, خلقكم أيها الناس لمهمة, فانظر قيام هذه الأدلة, الواضحة, البينة, ولكن انظر بعد ذلك حال الكافر مع هذا, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[هود:7], {وَلَئِنْ قُلْتَ}, لهم يا محمد -صلى الله عليه وسلم-, {إِنَّكُمْ}, أيها الناس, {مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ}, لتحاسبوا على هذه؛ لأنَّ الله خلقكم لهذه المهمة, {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}, {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ}, {إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ}, أي قائمون مِن قبوركم, {مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ}, وهو حتم والكل يعلم أنه يموت, يستنكروا هذا ويستعظموه, ويقولوا هذا لا يكون, يدفعونه أولًا؛ لأنهم يظنون أنَّ الرب لا يستطيع أنْ يفعل هذا, وأنَّ هذا خارج القدرة, وهذا الرب الذي خَلَقَ هذا الخلق على هذا النحو, وخلق السموات والأرض على هذا النحو, وخلقكم ويعلم كل ذرة مِن خلقه, وهو الذي رتب لها رزقها وأجلها وعملها وحياتها هذا الترتيب, ويعلم في كل لحظة مِن اللحظات ما يصنعه خلقه, عباده, هذا الرب الذي هو بهذه الصفة, وبهذه المثابة يعجزه أنْ يعيدكم مرةً ثانية, {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ}, يخبرهم هذا, {........ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[هود:7], {ليَقُولَنَّ}, بالتأكيد, {الَّذِينَ كَفَرُوا}, جحود, {إِنْ هَذَا}, الذي تخبرنا به يا محمد, وتدعونا إليه, {إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}, كلام سِحْر, سِحْر يُسْحِرُ العقول, يُفَرِّقُ به بين الولد وأبيه, وبين الأخ وأخيه, وبين الزوجة وزوجها, أو هذا النبي هذا رجل مسحور, وجاء بِسِحْرٍ فهو لا يدري ما يقول, وأنَّ هذا أمرٌ يسحرنا به, ويغوينا به, وليست له حقيقة, يظن أنه ليس له حقيقة وليس له مؤدى, كيف يكون هذا سِحْر؟ شأن السِّحر معروف, فإنَّ ما يقدر عليه السَّحرة مِن العمل إنما هو الإفساد, لا عمل للسحر متى كان الساحر داعيًا إلى خير, وإلى هُدَى, وإلى بِرّ ومميز بين الحق والباطل, ومعرفًا بالرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, وداعيًا إليه, ومنذرًا بناره, ومبشرًا بجنة, وداعيا إلى صراط مستقيم وإلى خلق قويم, متى كان السحر هذا موضوعه, ولا الساحر هذا شأنه, فحال النبي -صلى الله عليه وسلم-, وما جاء به لا يمت إلى هذا السحر بصلة, ولكن الكافر لما يعمى فيكذب بعد أنْ يفتري الكذب, يصدق هذا الكذب الذي افتراه, {........وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[هود:7], {إِنْ هَذَا}, الذي تدعون إليه كلام تسحرنا به, وتغير وتلبس على عقولنا وكذا وهذا أمر, لا يمكن أنْ يكون ولا يمكن أنْ يتحقق.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[هود:8], أيضًا انظر مزج للدليل الإلهي مع التكذيب هؤلاء المكذبين, {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ........}[هود:8], يستحقوا العذاب أولًا, أي الذين ردُّوا هذا الرد على النبي -صلى الله عليه وسلم- مع وضوح الحُجَّة, ومع بيانها يستحق لكن الرب -تبارك وتعالى- شاء أنْ يجعل لهذا العذاب وقت محدد, عذابهم في الدنيا بأنواع الهلاك والعقوبة, أو عذابهم في الآخرة إذا أخره الله -تبارك وتعالى- إلى هذا الأجل, {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ........}[هود:8], العذاب؛ عذاب الآخرة الذي لا يأتيهم إلا يوم القيامة, أو العذاب عذاب الدنيا الذي يتوعدهم الله -تبارك وتعالى- به في الدنيا, {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}[فصلت:13], إذا أَخَّرَ الله -تبارك وتعالى- إيقاع عذابه في الدنيا عنهم, {إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ}, {أُمَّةٍ}, وقت محدد معدود؛ لأنَّ الأمة هي الجماعة, أي جماعة مِن الأيام, أو مِن السنوات, {مَعْدُودَةٍ}, ما هي أجل مفتوح, وإنما هو أجل محدد, معدود أَخَّرَ الله -تبارك وتعالى- إنزال بطشه -سبحانه وتعالى- بهم بطش الجزء في هذه الأمة؛ أمة محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ثم البطش الكبرى والعذاب الأخير في النار, إذا أَخَّرَ الله كما أخر الله -تبارك وتعالى- عقابهم في بدر إلى الوقت الذي حدده الله -تبارك وتعالى-, {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}, يعين, {لَيَقُولُنَّ}, للرسول قول استهزاء واستكبار, {مَا يَحْبِسُهُ}, لماذا يتأخر هذا العذاب الذي تتهددنا به, وتتوعدنا به؟ والحال أنه موجود وأنه محتوم, وحدده الله -تبارك وتعالى- وكتبه, وأنَّ الرب, الإله هو الذي يتهدد به ويتوعد به, إذن لابد أنْ يكون فانظر الكافر أين كلامه, وانظر الحقيقة القائمة مِن كلام الرب -تبارك وتعالى-, {لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}, قال -جلَّ وعَلا- : {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}, {أَلا}, فليعلموا أنه يوم يأتيهم هذا العذاب ويكونون فيه بدءًا بهلاكهم في الدنيا, ثم دخولهم مباشرة إلى عذاب الآخرة, {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}, لا مجال إذا وقع بهم العذاب, ونزل بِمَن نزل منهم, وهو كافر أنه يُصْرَف عنه, الصرف التحويل والمنع, فإنَّ عذاب الله -تبارك وتعالى- إذا وقع بالكافر فلا مجال لأنْ يصرف هذا العذاب عنه بكل ما هو متخيل مِن أنواع الصرف, ما الذي يُصْرَف العذاب فدية لا تقبل, استعتاب قال : {........وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}[فصلت:24], أي يطلبوا العتاب, أنا أخطأت, أنا عملت ارجع إلى الدنيا, أعطينا فرصة أخرى, {........قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:99], {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100], فلا رجوع إلى الدنيا, ولا استعتاب, ولا فدية تُقْبَل, {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}[الزمر:47], ما تقبل منهم شفاعة, لا يقبل فيهم شفاعة قط وأنْ شفع فيهم مَن شفع بل لا يشفع أحد عند الله -تبارك وتعالى- إلا بإذنه, وبأنْ يكون الله -تبارك وتعالى- قد رضى عن المشفوع, نهاية لهذه الأحزان تنتهي, ما المدى الذي تنتهي إليه؟ سيمكثون في الدنيا ما يمكثوا في النار المكث الذي يمكثوه ما ينقطع, بل هو باق أبدًا, {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77], فلا بالقضاء يقضى عليه فيموتوا, ولا يخفف عنهم مِن عذابها, ولا بالاستعطاف, ولا بأي صورة مِن الصورة المتخيلة لأنْ يصرف عنهم هذا العذاب, فلا يصرف, فالله يهددهم ويقول : {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}, إذا جاءهم هذا العذاب, أي فليعلموا أنه لن يتحول هذا العذاب عنهم, ومهما تخيلوا أنَّ هناك وسيلة ليتحول هذا العذاب عنهم فلن تكون هناك صرفًا بالعذاب, {........أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[هود:8], {حَاقَ بِهِمْ}, العذاب أحاط بهم مِن كل مكان, {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}, أي الذي كانوا يستهزئون به, وهو العذاب ما العذاب هذا الذي تتوعدنا به؟ يعذبهم يهددهم بالنار, يهددهم بعقوبة الرب فيستهزئن بهذا ويظنون إنَّ هذا أمر كله خيال, وأنه كلام ساحر ما لا حقيقة لهم, {........أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[هود:8], أهلكهم وأحاط بهم هذا العذاب مِن كل مكان.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }[هود:9], وهذا بيان جديد في هذا الفاصل لحقيقة هذا الإنسان, الكافر, المكذب بآيات الله -تبارك وتعالى- .
نُرْجِئ هذا -إنْ شاء الله- للحلقة الآتية, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.