الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (269) - سورة هود 9-16

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود:9], {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}[هود:10], {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[هود:11], جاءت هذه الآيات في هذا الفاصل مِن سورة هود -عليه السلام-, وهذا الفاصل قد ذكرنا في الحلقة الماضية أنه الله -تبارك وتعالى- فيه أعطى الأدلة والبراهين على هذا الحق؛ الذي يدعو الله -تبارك وتعالى- العباد إليه مِن أنه الرَّب, الإله, الذي لا إله إلا هو الحق, وأنه يدعو عباده إلى عبادته وحده لا شريك له, وأنه رتب على ذلك الفوز والنجاح للطائعين, والخسار والدمار للمعاندين الكافرين, يضرب الله -تبارك وتعالى- الأمثال, يسوق البراهين والأدلة, ثم يكون هناك الالتفات إلى حال الكفار أمام هذه البراهين والأدلة, ثم يُبَيِّنُ الله -تبارك وتعالى- طبيعة هذا الإنسان الكافر, أخلاق هذا الإنسان الكافر أمام الحسنة والسيئة التي يسوقها الله -تبارك وتعالى- له في هذه الدنيا, وأنَّ هذه حاله, {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}[هود:9], هذه حالة هذا الإنسان الكافر مع نعم الله -تبارك وتعالى-, إذا أذاقه الله -تبارك وتعالى- منه رحمة, سعة في الرزق, صحة في البدن, أمن, طمأنينة مِن هذه النعم التي ينعم الله -تبارك وتعالى -بها على عباده, ثم إذا نزع الله -تبارك وتعالى- منه نعمةً مِن هذه النِّعَم, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}, يئوس قانط مِن أنْ يتحول هذا الذي فيه إلى غيره, يئوسٌ مِن رحمة الله -تبارك وتعالى-, وذلك أنه مقطوع, مبتوت عن ربه -سبحانه وتعالى- لا يظن أنَّ هذه النعمة التي كانت عنده إنما هي مِن الله, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- عندما سَلَبَ هذه النعمة, وأخذ منه هذه النعمة إنما الأمر ابتلاءٌ واختبارٌ, لا هو ينظر للأمر على أنه ابتلاء واختبار إنما هو صنيع الأيام معه, فهو عند المصيبة التي تأتيه بعد النعمة يئوس كفور بربه -سبحانه وتعالى-, جحود للنعم السابقة بل قد ينسب ما جاءه مِن شر إلى الرَّب -تبارك وتعالى-, وينسى أنَّ الله -تبارك وتعالى -هو الذي ساق له الخير قبله والعكس, {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}[هود:10], إذا غَيَّرَ الله -تبارك وتعالى- بهذا الإنسان مِن هذه السيئة, وأنعم عليه فإنه لا ينسب ذلك إلى ربه وإلهه وخالقه -سبحانه وتعالى-, وإنما يظن أنه فعل الأيام وأنها جرت الأيام, وأنه قد أصبح مِن ذوي الحظوظ, صاحب حظ عظيم, وأنَّ الحظ قد جاءه والريح التي ولَّت عنه قد جاءت الآن, {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي........}[هود:10], انتهت السيئات عني, وأصبحت أنا في مرحلة جديدة, {إِنَّهُ لَفَرِحٌ}, بما جاءه مِن النعمة, {فَخُورٌ}, بِنَفْسِهِ, وأنَّ هذا الذي أتاه إنما هو عن استحقاق وجدارة وحظ, ولم ينسب شيئًا مِن ذلك إلى الله -سبحانه وتعالى-, والحال أنَّ النعماء منه -سبحانه وتعالى-, والضراء منه -سبحانه وتعالى- يبتلي عباده بالسراء والضراء -سبحانه وتعالى-, {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً........}[هود:9], فالله هو الذي يسوق الرحمة -سبحانه وتعالى-, وهو الذي يذيقها عبده -جَّل وعَلا-, {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}, الذي ينزع هو الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ}, {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ}[هود:10], إنه يفسر كل هذه المقادير التي تجري عليه وهي مقادير الله -تبارك وتعالى -بالخير والشر, يفسرها بعيدًا عن فعل الله -تبارك وتعالى-, وعن إرادة الرَّب -جلَّ وعَلا-.

 قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}[هود:11], هذا أهل الإيمان صبروا في حال المحنة؛ لأنهم يعلمون بأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي ابتلاهم بذلك, وأنَّ النعمة التي كانت بهم, ثم نزعها الله -تبارك وتعالى- عنهم, ابتلاءً منه -سبحانه وتعالى- إنما هو ابتلاء لعباده -جلَّ وعَلا-, كما قل -جلَّ وعَلا- : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155], {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156], نحن لله ملكه وعبيده, وما يجري علينا مِن المقادير كلها خيرها وشرها إنما هي مقادير الرب -تبارك وتعالى-, وهي إرادته, والله -تبارك وتعالى-يريد لعبده المؤمن الخير, فإنْ أصابه خير هذا مِن الله وشكر, وإنْ أصابه شر عَلِمَ أنه مِن الله -تبارك وتعالى- وصبر, {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ........}[هود:11], إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- جعلهم مداومين على عمل الصالحات, والصالحات جمع صالحة, والصالحة هي كل عمل طيب, مشروع يؤجر الله -تبارك وتعالى- فاعله عليه, كل هذا يدخل في الصالحات؛ فكل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به مِن أعمال القلوب, وأعمال الجوارح كلها مِن الصالحات, الإيمان بالله -تبارك وتعالى- والصلاة والصيام, وكل شُعَب الإيمان التي يقول النبي فيها -صلوات الله والسلام عليه- : «الإيمان بضع وستون شُعْبَة, أعلاها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق, والحياء شُعْبَةً مِن الإيمان», هذه كلها صالحات, {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ........}[هود:11], لذنبوهم, ستر, تغطية, محو لهذه الذنوب التي سبق منها, والذنب هو كل معصية الله -تبارك وتعالى- ذنب, {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}, على الصبر, وعلى الرضا, وعلى عمل الصالحات, لهم أجر كبير عند الله وهو كبير وذلك؛ لأنه الخلود في دار النعيم.

 ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك الخطاب إلى رسوله -صلوات الله والسلام عليه- مع اقتران هذا الخطاب بشبهتين كبيرتين مِن شُبَهِا الكفار نحو شخص النبي -صلوات الله والسلام عليه-, والطعن في رسالته, وأنه لو كان رسول الله حقًا لَمَا كان حاله في الدنيا على هذا النحو, قال -جلَّ عَلا- : {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[هود:12], {فَلَعَلَّكَ}, الخطاب للنبي -صلوات الله عليه وسلم-, {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}, وهذا عتاب وتصوير مِن الله -تبارك وتعالى- لحال النبي عند هاتين الشبهتين, العظيمتين التي يلقيهم عليهم الكفار, وهو أنْ يقول الكفار : {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ}, {لَوْلا}, هَلَّا إذا كان رسول الله حقًا, رسول مَن في السماء, والذي بيده هذا المُلْكُ كله, وله هذا المُلْك كله فلما لا يحمي رسوله مِن الصفق في الأسواق, ومِن ممارسة العمل, ومقاساة طلب الرزق, كبقية للناس لما لا يغنيه ويجعل له كنز يعطيه كنز ينفق منه على نفسه وعلى دعوته وعلى قيامه يعني بهذا الأمر, {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ}, أي مِن الله -تبارك وتعالى-, كما قالوا : {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}, فكيف يكون مثلنا يمارس الحياة ويعانيها ويقاسي آلام العيش وشقاءه كما نقاسى نحن؟ ينبغي أنْ يغنيه الرب الذي أرسله عن هذا الأمر, {أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}, مِن السماء يقف معه ويؤيده, ويقول هذا الملك : إنَّ هذا رسول الله, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي اختاره, فيكون هذا تأييد لهذا الرسول وتصديق له, هذا مما اقترحه الكفار على النبي -صلى الله عليه وسلم- إنْ كان رسول الله حقًا فلمَ لا يغنيه؟ ولمَ لا يؤيده بهذا التأييد؟ {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ........}[هود:12], قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}, حَصَرَ الله -تبارك وتعالى- مهمة هذا الرسول قال له : {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ}, بالحصر, أنت أُرْسِلْتَ مِن قبلنا, أرسله الله -تبارك وتعالى- مِن قِبَلِهِ؛ لينذر الناس عقوبة الله -تبارك وتعالى-, {........وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[هود:12], الله -سبحانه وتعالى- هو المتوكل بكل شيء, فهداية هؤلاء الناس وإضلالهم كلها بيد الله, لا يملك النبي -صلى الله عليه وسلم-, والنبي كان يضيق صدره يريد آية مِن الله -تبارك وتعالى-, آية قاهرة تجعل هؤلاء الناس يؤمنون, كما قال الله -تبارك وتعالى- : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4], وكان النبي يُشْفِقٌ مِن كُفْرِ الناس إشفاقًا عظيمًا جدًا, ويخاف عليهم, ويكاد يقتل نَفْسَهُ حزنًا وأسفًا على بعدهم عن هذا الدين؛ فالله -تبارك وتعالى- أخبره لا أنَّ هذا الأمر إليه فالأمر الأمر كله إليه -سبحانه وتعالى-, وبيده -سبحانه وتعالى-, وأنَّ مهمته فقط هو إنذار وتخويف الناس عذاب الله -تبارك وتعالى-, وليس مِن شأنه أنْ يقهر الناس قهرًا, لم يقهرهم قهرًا على أنْ يدخلوا في هذا الدين, وطلب آية مِن الآيات القاهرة؛ ليدخلوا بها في الإسلام, هذا أمره إلى الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ ما أنزله الله -تبارك وتعالى-, وما أرسل به رسله, وما أيده بهذه الآيات, لاشك أنها آيات عظيمة, وهي كافية لكل مَن طلب الهداية, فهذا قد وصلت وقد علمها, وأما الجاحد لها لا تنفعه أي آية مهما كانت, وذلك أنَّ الآيات إلى الله -تبارك وتعالى-, وهو أعلم -سبحانه وتعالى- بحقيقة عباده, كما قال -تبارك وتعالى- : {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ}[الأنعام:111], فالأمر كله مرجعه إلى مشيئة الرَّب -تبارك وتعالى-, {........إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[هود:12], هو المتوكل بكل شيء, بمعنى أنَّ كل الأمور, كل الخَلْق إنما الله -تبارك وتعالى- هو المتصرف فيهم, وهو القائم بهم, وهو المُوَكَّلُ بهم -سبحانه وتعالى-, ولم يُوَكِّل الله -تبارك وتعالى- أحدًا غيره بخلقه وعباده -سبحانه وتعالى-, كما قال لرسوله : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا}, لفتهم الله -تبارك وتعالى- إلى الدليل, الواضح, البَيَنِّ, والمعجزة التي أعجزتهم والتي هي مُكْنَتِهِم أنْ يلتمسوها, وأني علموها حق العلم, قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}, أي يقول هؤلاء الكفار أنَّ النبي افترى هذا القرآن, وأتى به مِن عند نَفْسِهِ, {........قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[هود:13], هذه آية النبي -صلى الله عليه وسلم-, كان الله يقول : هذه آيتك أيها النبي, وهؤلاء الكفار الذي يقترحون هذه الآيات {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ}, هذه آية النبي -صلى الله عليه وسلم-, {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}, افترى هذا القرآن, والافتراء هو الاختلاق والكذب, {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}, لم يكلفهم الله -تبارك وتعالى- بأنْ يأتوا بسور مثل هذا القرآن معنىً ومبنىً, بل في الصياغة فقط, والمعاني فلتكن مفتراة مِن عندهم, فليكذبوا مِن القصص ومِن الحكايات ومِن المعاني ما يشاءون, لكن فليأتوا بأسلوب وسور في الفصاحة, في البلاغة, في البيان تعدل هذا القرآن, وهم أساطير هذا الفن وعلماؤه؛ فالكلام قد كان صناعة العرب, صناعتهم الكلام, وكانوا يقيمون له الأسواق والمساجلات, وحلقات النقد لأشعر شاعر, وأحسن قصيدة, وأفضل بيت, ويستر الناس بعد المناقشات الطويلة على أنَّ شاعر هذا الموسم هو فلان, وأنَّ أفضل قصيدة أُلْقِيَت في هذا الحشد هي قصيدة فلان, وأنَّ أفضل بيت مِن الشِّعْرِ هو فلان, ويميزون بين الكلام, بين صحيحه وسقيمه, وعاليه وسافله فهم نقاد هذا الأمر؛ فليأتوا بكلام يُحْكَم عليه بأنه في مستوى كلام الرب -تبارك وتعالى-, {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}, والحال أنَّ النبي بَشَر مثلكم وأنتم مثله, فإذا كان هو بشر أتى بهذا الكلام, فأتوا بكلام مثل هذا عند ذلك تضحد حجتهم, وأخبرهم الله -تبارك وتعالى- أنَّ لهم أنْ يستعينوا في أمر تأليف كلام كالقرآن بِمَن استطاعوا من إنسٍ وجِنّ, شياطين الشِّعِر وغيرهم فليستعينوا بما يشاءون, وليعلموا أنهم لن يصنعوا شيئًا مِن هذا, قال -جلَّ وعَلا- : {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ........}[هود:14], {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ}, أيها المؤمنون, إذا لم يستجب هؤلاء الكفار لكم؛ {فَاعْلَمُوا}, يعلم الجميع, {أَنَّمَا أُنزِلَ}, هذا القرآن, {بِعِلْمِ اللَّهِ}, كل معانيه هذه مِن علم الله -تبارك وتعالى-؛ فالله هو الذي قاله -سبحانه وتعالى-, وهذا كلامه -سبحانه وتعالى- نازلٌ بعلمه, فكل أخباره مِن الله -تبارك وتعالى- وهي صدق, وكل أحكامه مِن الله -تبارك وتعالى-, وهي عدل, {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا..........}[الأنعام:115], وكذلك نزوله نازل بعلم الله -تبارك وتعالى-, ما أُنْزِلَ على النبي آتاه ملك مِن عند نَفْسِهِ, وأنزله على النبي أو جيء به هنا, أو أنَّ الشيطان أو هو سرقه, وإنما نزوله آية آية بعلم الله -تبارك وتعالى- جبريل يأخذ الآيات, يسمع الآيات مِن الرب -تبارك وتعالى-, وينزلها على قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ}, فكان جبريل يقرأ القرآن ويصل مِنه إلى سمع النبي إلى قلبه -صلى الله عليه وسلم- لا يقرؤه في ورقة أوفي رقعة, ثم يحفظه بعد ذلك, لا بل مِن السماء إلى قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-, {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}, أي في صدرك, {وَقُرْآنَهُ}, وقرآنه أي على لسانك, {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}, أي المَلَك, {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}, {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19], {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ}, نزول هذا القرآن بعلم الله, وهو نازل بعلمه -سبحانه وتعالى-, أي أنَّ محتوى هذا القرآن وموضوعه مِن علم الله -تبارك وتعالى-, {وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, الحقيقة الكبرى, لا إله في الوجود إلا الله, إله يستحق أنْ يكون إله, يُعْبَدُ, يُدْعَى, يُسْتَجَابُ لأمره أنه لا يشاركه في هذه الألوهية أحد قط على الحقيقة, لكن على الكذب والميل فالبشر قد كل منهم اتخذ له إلها مع الله -تبارك وتعالى-, لكن هل يستحق أنْ يكون إلهًا؟ هل تستحق الشمس والقمر والنجوم والكواكب والرسل والأنبياء, وما دون ذلك مِمِن عبده الناس مِن هذه المخلوقات الكثيرة؛ الأحجار والأشجار والأوثان والأنهار والفئران والقرود؟ هذا الذي اتُّخِذَ آلهة مع الله ليس شيء مِن ذلك إله لا المَلَك الشريف العالي, ولا الرسل, ولا الأنبياء ولا الشمس ولا القمر ولا هذه المخلوقات الدنيا كل هذا كل مَن ادعيت له الإلهة غير الله -تبارك وتعالى-فدعوة كاذبة, دعوة كذب, {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}, لا يوجد إله يستحق أنْ يُؤْلَه, وأنْ يُعْبَدَ إلا الله -تبارك وتعالى- للعالمين؛ فهو رب العاملين, خالقهم جميعًا -سبحانه وتعالى-, والمتوكل بهم, والمنفذ لأمورهم, كل أمورهم إنما هي بيده -سبحانه وتعالى-؛ إحياءً, إماتةً, رزقًا, هدايةً, إضلالًا, سعادةً, شقاءً, بكاءً, ضحكًا, {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43], {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44],{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}[النجم:45],{مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى}[النجم:46], {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى}[النجم:47], {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48], {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49], {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50], {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51], {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى}[النجم:52], {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى}[النجم:53], {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى}[النجم:54], كل هذا فعل الله, {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}[النجم:55], كل هذا فِعْلهُ -سبحانه وتعالى-, وهذه آلاؤه, هذه نِعَمهِ على خلقه -سبحانه وتعالى-, ولا يفعل ذلك في الوجود كله إلا هو, {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[سبأ:22], أي كل مَن زعمتم له الألوهية, {........لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22], {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ........}[سبأ:23], فهؤلاء جميعًا, كل هؤلاء الذين ادُّعُوا لهم الألوهية مِن دون الله, لا يوجد إله مع الله -تبارك وتعالى- فالحقيقة وأنه لا إله إلا الله, {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}, هذا الرسول دليله قائم القرآن المعجز الذي تحداكم به وألا إله إلا الله في هذا الكون ماذا بقي, {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}, منقادون, مذعنون, مستسلمون لأمر الله -تبارك وتعالى-, سامعون لهذا الأمر ومستجيبون له, هذا معنى الإسلام, الإسلام سمع وطاعة, إذعان, استسلام لأمر الله -تبارك وتعالى-, {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}, بعد ذلك؟ ثم هذا سؤال يراد به أنَّ الدعاء, التقرير فإذا قالوا نعم والله آمنا وأسلمنا هذا حق دخلوا في الإسلام, وإذا بعد ذلك أصروا واستكبروا أقيمت عليهم الحُجَّة, ما أعظم ما يصرف الناس عن هذا الحق الواضح, البَيِّن, لا يوجد لَبْس لكل مَن أراد الحق أعظم, ما يصرف الناس عن هذا الحق الواضح البين هو ركونهم إلى هذه الدنيا, إيمانهم بهذه الحياة, جعلهم كل همهم ومنتهى آمالهم في هذه الدنيا؛ فانظر كيف بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- لهم هذا الأمر, وما يترتب عليه, قال : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}[هود:15], لكن, {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:16], {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا........}[هود:15], وهذا هو مراد الكافر, يريد بحياته هذه الحياة الدنيا فهي أمله, نهاية ما يطمع أنْ يعيش في هذه الدنيا, ويسعى لأنْ يعيش الحياة التي يتخيلها أنها حياة سعيدة, فيركض وراء الأسباب التي يظنها أسباب السعادة مِن المال, ومِن حصوله الشهوات والملذات فهذا سعيه لهذا الأمر وهي نهاية الأمر, ما يفكر في شيء بعد ذلك؛ أنَّ ثمة حياة أخرى, ثمة قيامة, ثمة محاسبة على العمل ,فهذه كل آماله هنا, وعامة الذين انحرفوا عن طريق الرب -تبارك وتعالى- كان هذا هو سبب انحرافهم؛ فكفار العرب المشركين ما إيمانهم بالله -تبارك وتعالى-, الخالق الذي يملك هذا الوجود إلا أنهم اعتقدوا بأنَّ فقط إنما هي حياة دنيا لا يوجد بعث, وأنَّ عبادتهم للرب -تبارك وتعالى- مِن صلاة, مِن حج ومِن نُسُك ومن غير ذلك, إنما هي ليرزقهم وليعيشوا الحياة الطيبة التي يظنون أنها طيبة وسعيدة في هذه الدنيا, وكذلك كل الذين أنكروا الرب -تبارك تعالى-, وتركوا الرسالات كان همهم أنْ يعيشوا في هذه الدنيا, ويعملوا لها ولا شيء وراء ذلك, فهؤلاء يقول الله -عزَّ وجلَّ- فيهم : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}[هود:15], التوفية إعطاء هذا الشيء وافي ,سنعطيهم حظهم ونصيبهم مِن عملهم في هذه الدنيا وافيًا غير منقوص؛ نتيجة أعمالهم الدنيوية التي سعوا فيها, يأخذوها بالحرث والزرع والكد وغير ذلك, فالكافر يحرث ويحصد, ويكد ويتعب, ويشقى ويجد لكنه لن يأخذ إلا ما كتبه الله -تبارك وتعالى-, له فلن ينال على شيء لم يكتبه الله -تبارك وتعالى-, ولم يحسبه مِن الأَزَلِ فإنَّ هذه تقسيم الأرزاق بداية مِن الله -تبارك وتعالى, كما قال -جلَّ وعَلا- : {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا}[الإسراء:18], فهذا الله أخبر بأنه يوفي لهم أعمالهم, {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}, سيأخذ ثمرة عمله وكده وكدحه الذي فعله في هذه الدنيا, لكن {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ........}[هود:16], هذا في الآخرة ليس له عند الله -تبارك وتعالى-, {إِلَّا النَّارُ}, وذلك أنه يوقف نِفْسَهُ على هذه الدنيا أولا كفر بالله -تبارك وتعالى-, جاحدٌ به لم يعلم أنَّ هذه الدنيا لله -تبارك وتعالى- كما الآخرة لله, لم يقم بما أمره الله -تبارك وتعالى- به فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد خَلَقَهُ ليعبده فجحد هذا كله, انصرف عن ربه وعن إلهه, لم يعرف الغاية والمهمة التي خلقه الله -تبارك وتعالى- مِن أجلها, فهذا الجاحد على هذا النحو, والذي يتضمن فعله هذا اتهام للرب -سبحانه وتعالى- بأنه خلق هذا الخَلْق عبث, كأنه خلق السموات والأرض عبث يلعب فيها الناس, ويأكلوا فيها ويشربوا فيها, ويتركوا الأمر الإلهي, وكأنَّ الله -تبارك وتعالى -خَلَقَ خَلْقَهُ سدىً وعبثًا, {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115], {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون: 116], قال : {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا........}[هود:16], الحَبَط أصله داء يصيب الإبل في أجوافها تنتفخ, يظن الظان عندما يراها منتفخة أنها هذا مِن السمنة, ومِن العافية, ولكنها في الحقيقة داء بالجوف, ورم في الجوف ثم لا يمضي وقت حتى تنهار وتنفق وتموت, وهذا حال الكافر في هذه الدنيا تنتفخ دنياه وتنتفش وتتزين, ثم بعد مدة وإذا بكل الآمال التي بناها إذا بها تنتهي بموته, بفقده, {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}, هلك هذا الذي صنعوه فيها, {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, كل الذين يعلمون باطل؛ لأنَّ كل العمل الذي عملوه لم يستفيدوا منه في نهاية المطاف, وإنما كان وبالًا عليهم, وخسارًا عليهم في الآخرة .

نقف عند هذا -إنْ شاء الله-, ونكمل في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.