الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على عبد الله
والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، قول الله –تبارك وتعالى- {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا
مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80]، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ
فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، هذا من جملة ما بيَّن الله –تبارك
وتعالى- فيه كذب بني إسرائيل، وأنهم قد تعلقوا بالأماني والأوهام، فمن جملة
أوهامهم وأمانيهم الكاذبة، قولهم {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ
إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً}، النار؛ نار الآخرة، قالوا أنه مهما وقع منا
من ذنب، فإن الله لن يعذبنا في النار إلى أيام معدودة نبقى فيها، بعد ذلك يكون مآلنا
إلى الجنة، قال –جل وعلا- ردًا على زعمهم الباطل هذا {قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا}، هل عندكم عهد من الله؟ ميثاق مؤكد
أعطاكم الله –تبارك وتعالى- في هذا الأمر، وعاهدكم بأنه مهما وقع منكم من كفرٍ
وتكذيب وكبائر وذنوب، في أنه لا يدخلكم النار إلا أيام معدودة، أم الحال أنكم
تقولون على الله ما لا تعلمون، وإذا انتفى الأمر الأول بأنهم لا يحملون عهدًا من
الله –تبارك وتعالى- بذلك، ولم ينزل الله شيئًا من هذا في كتبه، لتعين الاحتمال
الثاني الذي لا ثالث له، وهو أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، مجرد ظنون؛ ظنوها
واتبعوها.
ثم بيَّن الله –تبارك
وتعالى- الحكم عنده، قال –جل وعلا- {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً
وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ}[البقرة:81]،
بلى نفي النفي؛ ونفي النفي إثبات، نفى ما قالوه هنا بأنه لن تمسنا النار إلا
أيامًا معدودة، أخبر الله –سبحانه وتعالى- بلى نفيًا لما نفوه هذا، ثم قال –جل
وعلا- {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ}، الكسب يطلق على الخير والشر، {وَلا
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، بالكسب يقال كسب خيرًا وكسب
شرًا، {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً}، السيئة هي كل
معصية، كل معصية للإله الخالق –سبحانه وتعالى- هي سيئة، وسميت سيئة لأنها تسوء
صاحبها، {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}، أحاطت
به خطيئته أي أنه لم يستطع الخروج منها والفكاك منها، وذلك بأنه لم يتب منها، لم
تمحى عنه، بل بقيت محاطة به ولازمة له،{فَأُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، فأولئك الموصوفون هؤلاء أصحاب
النار، سموا أصحاب النار أما الصحبة هي الملازمة الطويلة، أو الصحبة بمعنى المُلك،
نقول صاحب هذه الدار أي مالك هذه الدار، فهم أصحاب النار بمعنى أنهم الملازمون
لها، والملازمة لا تنقطع، ،{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}،
هم في هذه النار خالدون، باقون بقاءً سرمديًا، هذه الآية طبعًا سيئة لفظة منكَّره
مطلقة، أي سيئة، لم يخرج منها صاحبها، ولكن جاء البيان بأن هذه السيئة التي تخلد
صاحبها في النار، إذا لم يتب منها ، هي الكفر والشرك، فمن ارتكب كفرًا أو شركًا
ومات على ذلك، ولم يخرج من ذلك، أي في الدنيا بالتوبة؛ والتوبة لا تكون إلا
بالإيمان، والرجوع إلى الله –تبارك وتعالى- ونبذ الشرك، فهذا خالدٌ مخلدٌ في النار
لقول الله –تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، والسيئة
التي ارتكبها اليهود هنا، ويستحقون بها الخلود في النار، هي كفرهم بالنبي محمد –صلوات
الله وسلامه عليه-، وإن زعموا الإيمان بما قبله من الرسل، فإن من كفر برسول؛ فقد
كفر برسل الله جميعًا، فكفرهم بعيسى كفر يخلدهم في النار، وكفرهم بمحمد –صلوات
الله وسلامه عليه- كفر يخلدهم في النار، فهذا ينطبق على بني إسرائيل، وهذا الآيات
نزل فيهم، وفي كل من كسب سيئةً؛ سيئة كفر وسيئة شرك، ثم لم يخرج منها، ،{فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وأن استدلال من استدل
من هذه الأمة وهم الخوارج، بأن هذه الآية مطلقة، وأن من كسب سيئة؛ أي سيئة وحملوها
على الكبيرة، وأنه مات ولم يتب من هذه الكبيرة، فهم أصحاب النار هم فيها خالدون،
هذا لا شك أنه حَمل لهذه الآية لعمومها، أو عدم الرجوع إلى الآيات الأخرى التي
بيَّن الله –تبارك وتعالى- فيها، أن السيئة التي لا يغفرها الله –تبارك وتعالى- هي
الكفر والشرك، لقوله –سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}،
وكذلك الأحاديث المستفيضة وستأتي في بيان أن بالشفاعة يخرج أهل الكبائر من النار،
أهل الكبائر الذين شاء الله –تبارك وتعالى- أن يعذبهم فيها، يعذبهم فيها ما شاء
الله –تبارك وتعالى- ثم يكون مآلهم إلى الجنة، وأما الذين يخلدون في النار خلودًا
لا انقطاع فيه، هم الذين يموتون على سيئة الكفر والشرك خاصة.
وفي المقابل قال –تبارك
وتعالى- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:82]، المراد أن أهل الجنة هم
هؤلاء؛ الموصوفون بأنهم الذين آمنوا، الإيمان بمعناه الشرعي هو تصديق القلب،
وإقرار اللسان، والعمل بالجوارح، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}،
عملوا الصالحات؛ الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة الصلاة والصيام والزكاة والحج،
وكل ما أمر الله –تبارك وتعالى- به فهو عمل صالح، والله لا يأمر إلا بما فيه صلاح
العبد –سبحانه وتعالى-، وعملوا الصالحات، أولئك أي الموصوفون بهذه الصفة، {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أصحابها؛
ملاكها والملازمون لها ملازمةً لا تنقطع، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيها؛ في
الجنة خالدون، أي خلود لا ينقطع.
إذن هذا هو نظام
الحكم عند الله –سبحانه وتعالى-، ونظام الحساب عند الله –تبارك وتعالى- أن من كسب
سيئةً، وأحاطت به خطيئته، قد علمنا أنها سيئة الكفر والشرك، {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}،
أي خلود لا ينقطع، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:82]، وعندما يطبق هذا الأمر على
اليهود المكذبين بالنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، الذين تعاهدوا على كتمان
الحق، والذين وقع منهم تحريف الكتاب، والكذب على الله –تبارك وتعالى-، وكتابة ما
يكتونه بأيديهم ونسبته إلى الله –تبارك وتعالى-، الذين فعلوا كل هذه الجرائم وهي
داخلة في الكفر، أقول هذه الجرائم كفر، فكيف يطمع مثل هؤلاء في جنة الله –تبارك
وتعالى-! إذن لا شك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم فاصلٌ آخر يبين الله –تبارك وتعالى- فيه
لأهل الإيمان، كيف أن اليهود ناكسون لعدهم مع الله –تبارك وتعالى-، وأن من عادتهم دائمًا نكس العهود، قال
–جل وعلا- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا
تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ
مُعْرِضُونَ}[البقرة:83]،
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، يخبر –سبحانه
وتعالى- أنه أخذ عهد بني إسرائيل –أولاد يعقوب-، أخذ منهم العهد المؤكد على هذه
الأمور، {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، هذا
أول شيء، أعبد الرب إلهك، لا تعبد إلا الله، ومعنى لا تعبدون العبادة بكل معانيها،
من الأعمال التي اختص الله –تبارك وتعالى- بها نفسه، ومن الطاعة المطلقة له –سبحانه
وتعالى-، {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ}، الله؛
الرب الذي يعرفه كل أحد، تعرفه كل الأمم –سبحانه وتعالى-، وهو ربهم الذي يقولون
إنه ربنا الذي نعبده.
{لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}،
أي أحسنوا بالوالدين إحسانًا –الأب والأم-، فهذا مما أخذه الله –تبارك وتعالى-
عليهم، ومما ألزمهم به، من ميثاق الله المؤكد لهم، {وَذِي
الْقُرْبَى}، أي أحسنوا كذلك لذي القربى، ذي القربى؛ القريب مثل أقرب
القربى الأخ، الإخوة بعد الوالدين، الإخوة الأعمام الأخوال والأرحام، فأمرهم الله –تبارك
وتعالى- بصلة القرابة، صلة الرحم، {وَالْيَتَامَى}،
جمع يتيم، واليتيم من مات أبوه وهو دون البلوغ، من مات أبوه خاصة، أي أحسنوا إلى
اليتامى، {وَالْمَسَاكِينِ}، جمع مسكين، والمسكين
هو الفقير المتعفف الذي لا يفطن إليه غالبًا، غير الفقير الذي تراه ظاهرًا، هذا
الفرق بين المسكين والفقير، أي أحسنوا إلى المساكين، {وَقُولُوا
لِلنَّاسِ حُسْنًا}، اجعلوا قولكم كله لجميع الناس بإحسان، حسنًا هذا يدخل
في الصدق والرفق والإرشاد إلى الخير، ليكن قولكم للناس قولًا حسنًا، والقول الحسن
يشمل هذا كله، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}، أقيموها
أدوا الصلاة، أي الأداء الكامل كما يحبه الله –تبارك وتعالى-، {وَآتُوا الزَّكَاةَ}، أعطوا الزكاة، إنفاق جزء من المال
في الوجوه التي أمر الله –تبارك وتعالى- بإنفاقها، هذا هو الزكاة، وسمي هذا
الإنفاق زكاة لأنه طُهرةٌ للنفس وطُهرةٌ للمال.
قال –جل وعلا- {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}،
بالرغم من أن الله –تبارك وتعالى- أخذ عليكم هذا العهد، والميثاق المؤكد على أن
تقوموا بهذه الأعمال، عبادة الله وحده لا شريك له، والإحسان إلى الوالدين وذي
القربى واليتامى والمساكين، وأن تكلموا الناس بالإحسان، وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا
الزكاة، وكلها أعمال كريمة فاضلة صالحة مستقيمة على الخط والصراط، إلا أنكم نقضتم
ميثاق الله –تبارك وتعالى- معه وتوليتم، التولي هو الإعراض، هو الإعراض والذهاب
بعيدًا عن العهد الذين عاهدتموه مع الله –تبارك وتعالى-، والصراط الذي أمركم الله –تبارك
وتعالى- بسلوكه، توليتم بعيدًا، {إِلَّا قَلِيلًا
مِنْكُمْ}، أي إلا عددًا قليلًا منكم، هم الذين التزموا عهد الله –تبارك
وتعالى- وميثاقه، {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ}،
معرضون أي معطون عرضكم لهذا الميثاق الذي واثقكم الله –تبارك وتعالى- به، فهذه صورٌ أخرى من صور عناد بني إسرائيل، وهو أن
الله –تبارك وتعالى- يأخذ عليهم هذه العهود المؤكدة، ثم يكون هذا حال أغلبهم،
الأغلبية أو الأكثرية تعرض، وقلة هم الذين ثبتوا على ما عاهدوا الله –تبارك
وتعالى- عليه.
ميثاقٌ أخر وعهدٌ آخر على أمور أخرى من الخير، يلزمهم الله –تبارك وتعالى-
بها، ثم انظر كيف يعاملون عهدهم مع الله –تبارك وتعالى-، قال –جل وعلا- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ
وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ
تَشْهَدُونَ}[البقرة:84]،
{ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ
مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا
خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ
الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:85]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:86]، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}، اذكروا إذ أخذنا
ميثاقكم أي عهدكم المؤكد، {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}،
السفك بمعنى السفح، والمقصود هنا القتل، تقتلون أنفسكم فتسفكون دماءكم، سمي دم
الأخ هو دم النفس، لأن الأخ بمنزلة النفس، أي إخوانكم الذين تقتلونهم هم بمنزلة أنفسكم، {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}، يقتل بعضكم بعضًا ، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}، لا
يحل لليهودي أنه يخرج أخاه من دراه، يقاتله ليخرجه ويجليه من مكانه، {وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ}، أنفسكم أي إخوانكم، لأن
الأخ بمنزلة النفس فجاء التعبير هنا ، {وَلا تُخْرِجُونَ
أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ}،
أي أن الله لما أخذ عليكم هذا العقد أقررتم، والإقرار هو أنكم صدقتم هذا، وأعلنتم
موافقتكم له والتزامكم به، أقررتم وأنتم تشهدون؛ وأنتم تشهدون أي حاضرون معنى
وصورة، بمعنى أنكم بعقولكم وجسومكم حاضرون هذا العهد الذي أخذ عليكم، فأمرٌ لم يكن
في غيبةٍ عنكم، ولم تكونوا غائبين عنه، بل شاهدتموه وأُخذ عليكم العقد حضورًا؛
حضور عقل وحضور أجسام، وأنتم تشهدون.
قال –جل وعلا- {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ
وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ
بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، ثم أنتم هؤلاء انظروا ماذا فعلوا بالعهد!
تقتلون أنفسكم بمعنى أنكم طبعًا تقتلون أنفسكم إخوانكم، {وَتُخْرِجُونَ
فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ}، تقاتلون آخرين منكم فتخرجونهم من
ديارهم، {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}،
تظاهرون؛ التظاهر بمعنى التعاون، أي تتعاونون عليهم بالإثم، الإثم الذنب، والعدوان
الاعتداء.
ثم قال –جل وعلا- {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، إن جاءكم إخوانكم هؤلاء أُسارى فإنكم تفادوهم، ومعنى
تفادوهم يجمعون لهم المال لإخراجهم من الأسر، فيدفعون لهم الفدية، قال –جل وعلا- {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ}، وفي الأصل
أن إخراج الأخ لأخيه منهي عنه، نهاكم الله –تبارك وتعالى- أنه تخرج أخاك من دراه، {وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، أفتؤمنون ببعض الكتاب مما
أخذ الله –تبارك وتعالى- عليكم وتكفرون ببعض، هنا كل هذه الأحكام التي أخذت عليهم
في مقابلة معاملة الأخ لأخيه، فقد أُخذ عليه الميثاق ألا يقتله، ألا يخرجه من
داره، ألا يظاهر عليه عدوًا، أنه يفديه إذا وجده مأسورًا.
أربعة أمور من واجب اليهودي على اليهودي، الأخ
على أخيه، هذه الأربعة أمور لم ينفذوا فيها إلا أخذوا بواحد فقط وتركوا الباقين،
قال –جل وعلا- {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ
أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ
عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، فيقع منهم القتل، ويقع منهم
الإخراج من الديار، ويقع منهم أنهم يظاهرون غير اليهودي على اليهودي، ثم قال –جل
وعلا- {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ}،
والحال أنه محرمٌ عليكم أخراجهم من الأول، {أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}، وقد وقع هذا لليهود في
المدينة كذلك، فإن اليهود في المدينة لما نزل الأوس والخزرج انقسم اليهود معهم إلى
قسمين، وكانت تقع بين الأوس والخزرج حروب، فكان بعض من اليهود يوالون الأوس والبعض
يوالون الخزرج، ثم إذا نشبت الحرب بين الأوس والخزرج، قام اليهود كلٌ ينصر حليفه،
فمن حالف الأوس قام معهم، ومن حالف الخزرج قام معهم، ويقع في هذا أن اليهود يقتل
بعضهم بعضًا في أثناء هذه الحرب القائمة، ثم إذا انتهت الحرب ووضعت أوزارها، عند
ذلك يأتي اليهود يجتمعون سرًا بعضهم مع بعض، ويجمعون أموال ويفادوا الأسرى من كلا
الجانبين، الأسير الذي لهم عند الأوس يخرجونه، والأسير الذي لهم عند الخزرج
يخرجونه، من باب أن هؤلاء إخوانهم، وإنما دخلوا الحرب في الأساس إنما نصرةً لحلفائهم،
فالله –تبارك وتعالى- أخبرهم هنا أن هذا كفر، فإنهم في أساس الأمر قد نهي اليهودي
أن يقتل أخاه، أو أن يظاهر عليه أو أن يخرجه من داره، ثم الذي تمسكتم به بعد ذلك
مما أخذ عليكم هو فداء الأسرى.
قال –جل وعلا- {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ}، جعل الله –تبارك وتعالى- فعلهم هذا أنه إيمان ببعض الكتاب وكفر
ببعض، ذلك أنهم قد كانوا يستحلون هذا، يستحلون فعلهم هذا في قتال بعضهم بعض، من باب
أنهم دخلوا نصرةً لحلفائهم، وهؤلاء لحلفائهم، قال –جل وعلا- {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، هذه مجازاة الرب –تبارك وتعالى- لمن يؤمن ببعض
الكتاب ويكفر ببعض، قال –جل وعلا- {فَمَا جَزَاءُ مَنْ
يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أن
يخزى في الحياة الدنيا، وذلك بصنوف من الخزي، كتمكين الله –تبارك وتعالى- عدوه
منه، قهره، ما ينزل الله –تبارك وتعالى- عليه من العقوبات، فهذه عقوبة معجلة له في
الحياة الدنيا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى
أَشَدِّ الْعَذَابِ}، تكون عقوبته يوم القيامة عقوبة شديدة، أشد من عقوبة
الكافر الأصلي، الذي لم يؤمن أصلًا بنبيٍ ولا برسول، {يُرَدُّونَ
إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}، أشد أنواع العذاب الذي جعله للكفار لهؤلاء،
وذلك أن كفرهم فيه كفر وتلبيس، قال –جل وعلا- {وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وما الله نفى –سبحانه وتعالى- أن
يكون غافلًا عن عملٍ من أعمالهم هذه، التي يظنون أن الله –تبارك وتعالى- ربما
يغفرها، ربما ينساها، ربما لا يفعلها لهم، وهذه مقالتهم لن تمسنا النار إلى أيامًا
معدودة، ما الله –تبارك وتعالى- غافل عما تعملون، وهذه عقوبته؛ ستكون عقوبته لكم
على هذا النحو.
{أُوْلَئِكَ}، بالإشارة للبعيد احتقارًا وتصغيرًا لهذا
الأمر، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:86]، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا}، استبدلوا، {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، أخذوها {بِالآخِرَةِ}، التي باعوها وتركوها، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}، يوم القيامة،
تخفيفه تفتيره؛ أن يفتر أن يروا ساعة من الراحة، يأتيهم شيء من الرحمة، شيء من
الماء، شيء من الظل، {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ
وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}، في الآخرة، ولا هم ينصرون من الرب –تبارك وتعالى-
بل إن الله مضطرهم إلى هذا العذاب اضطرارًا وضرورة، لابد أن يصلوه ولن ينصروا من
الله –تبارك وتعالى-.
كل هذا إبطال للدعوة
التي ادعوها، في أنهم لن تمسهم النار إلا أيامًا معدودة، فبيَّن الله أن الحكم
عنده غير هذا تمامًا، وأن كل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته أولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون، وهذه السيئة هي سيئة الكفر أو الشرك، ثم بيَّن الله –تبارك وتعالى-
أنهم كفروا فيما نقضوا به عهد الله –تبارك وتعالى- وميثاقه الذي واثقه، وبيَّن
الله –تبارك وتعالى- هنا صورة من صور نقضهم لهذا العهد، وفعلهم بعض ما أُمروا به،
وتركهم البعض الأخر، وأخبر –سبحانه وتعالى- بأن إيمانهم ببعض الكتاب، وكفرهم
بالبعض الأخر؛ كفر وهو أشد من الكفر كله، وأن أصحابه مخلدون في النار، ومردون في
النهاية إلى أشد العذاب، {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ مِنْكُمْ}، اللي هو يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض،{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ
فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، {أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ
الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:86]، ثم قال –تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ
بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا
تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]،
هذه جملة كذلك من جرائمهم وكفرهم، والتي بها يستحقون الخلود في النار، ولهذا تفصيل
-إن شاء الله- في حلقةٍ آتية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد