الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (272) - سورة هود 25-36

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[هود:25], {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[هود:26], {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[هود:27], {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[هود:28], بعد أنْ فَصَّلَ الله -تبارك وتعالى- في مصير أهل الايمان, وأهل الكفران, في هذه السورة؛ سورة هود التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بالتنويه بهذا الكتاب الكريم, والغاية مِن إنزاله, وهي أنْ يكون الرسول بشيرًا ونذيرًا إلى الناس, وداعيًا لهم إلى عبادة الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له, وبعد أنْ فَصَّلَ الله -تبارك وتعالى- الأدلة الواضحات على أنَّ هذا الدين حق, وبَيَّنَ -سبحانه وتعالى- كيف يرد أهل الكفر هذا الحق, الواضح, البَيِّن دون أنْ يكون لديهم أي حُجَّة, أو أي دليل أو أي يستدون إليه إلا العمى, أو رد الحق بدأ الله -تبارك وتعالى- يُذَكِّر بِمَصَارِع الغابرين فبدأ الله -تبارك وتعالى- بنوح -عليه السلام-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}, تأكيد مِن الله -تبارك وتعالى- أنه هو الذي أرسل نوح, ونوح هو أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض, وقد بَيَّنَا في الحلقة الماضية لماذا كانت رسالة نوح -عليه السلام-, وذلك بعد أنْ وقع الشرك في الأرض بعبادة الصالحين؛ فأرسل الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله نوحًا داعيًا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له, بعد أنْ وقع الشِّرك فيهم, {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23], وهذه كان كما قال ابن عباس : (رجال صالحون بين آدم ونوح), كان فيه عشر قرون ما بين آدم ونوح كله على التوحيد, ثم أنه لما مات هؤلاء الصالحون, والشيطان أوهم الناس أولًا بنصب نُصُب لهم في أماكنهم التي كانوا يعبدون الله -تبارك وتعالى- فيها, ثم لما تقادم العهد استطاع الشيطان أنْ يغويهم, وأنْ يُدَلِّسَ عليهم بأنَّ مَن كانوا قبلهم مِن آبائهم كانوا يتخذون هؤلاء صالحين وسائط بنهم وبين الله -تبارك وتعالى- يدعونهم ويستشفعون بهم إلى الله فوقع الشرك, وتغلغل في النفوس أرسل الله -تبارك وتعالى- نوحًا داعيًا عباده -سبحانه وتعالى-, داعيًا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له, ثم ماذا كان مِن أمره يَقُصُّ الله -تبارك وتعالى- وهذا تذكير لِمَن أنزل عليهم هذا القرآن انظروا واعتبروا هؤلاء هم سلفكم في التكذيب؛ فانظروا كيف صنع الله -تبارك وتعالى- بهم, وكذلك انظروا صنيع الله -تبارك وتعالى- بأهل الايمان, برسوله نوح -عليه السلام-, وِبِمَن آمن معه, يؤكد الله -تبارك وتعالى- ويقول : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ........}[هود:25], ولم يكن في الأرض كلها إلا قومه, {.........إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[هود:25], {إِنِّي}, نوح -عليه السلام-, {لَكُم}, أيها الناس, {نَذِيرٌ مُبِينٌ}, بَيِّن النذارة, {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ........}[هود:26], هذه هي المهمة خلاصتها {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ........}[هود:26], عبادة بمعناها الجامع الذي هو كل ما يريده الله -تبارك وتعالى- مِن عباده أنْ يصنعوه قُربَة لهم, أو إقامة للعدل فيما بينهم كل هذا مِن العبادة طاعة الله -تبارك وتعالى- فما يراد به, {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[هود:26], كلام الرسول أي قل لهم هذا, قل لهم يا نوح : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ}, أي يا قومي, {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}, يوم القيامة, {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ........ }[هود:27], الذي تصدى له وهذه هي العادة, {الْمَلَأُ}, عِلْيَةُ القوم قيل سُمُّوا الملأ؛ لأنهم يملؤون المكان مثلًا, أو أنهم يملؤون العين بخلاف الضعفة والمساكين, قال الملأ مِن قومه, أهل الغنا وأهل الثراء, أهل الوجاهة, الذين يملؤون المكان, ويملؤون العين, الذين كفروا, {الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا}, وقد يدل على أنَّ بعض هؤلاء الملأ مِمَن تبعهم, ولكن عامة مَن يتبع الرسل وخاصة في أول أمرهم يكونون مِن ضعفة الناس وفقرائهم, {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ........ }[هود:27], قوم نوح, {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا}, أي لِمَ اخْتُصِصْتَ مِن دوننا بهذا الأمر العظيم, والشرف الكبير, رسالة أنْ يكون الله -تبارك وتعالى- قد اختارك مِن أوساطنا, وجعلك رسول وأنت مثلنا بشر, فما الذي جعلك مختصًا بذلك؟ {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}, هذا في الرسول أنه يقول لِمَ اختصك الله ورفعك عنا هذه الرفعة العظيمة؟ ثم الذين اتبعوك ما نراهم, {إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا}, هذا اتهام لهم بأنهم رذالة الخلق, ورزيل الخلق هو وضيعه وشنيعه, وهذا سبٌ لهم, وتشهيرٌ لهم, استضعفوا حالهم مِن أنهم فقراء ومساكين, وربما كانوا مِن التابعين لهؤلاء الأغنياء, الكبراء فقالوا : {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ}, أي أنهم يصدرون عن رأي بادئ بمجرد أنْ يسمعوا كلامًا, يصدقوه دون أنْ يتعمقوا فيه, وأنْ ينظروا فيه؛ فهم ليسوا مِن أهل الخبرة والتعمق والنظر في الأمور, وإنما سمعوك تقول كلامًا فاستجابوا لك, {بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}, أي لا نرى أنك تَفْضُلُنَا بشيء تستحق أنْ تكون به رسولًا مِن دوننا, وكذلك ما نرى أنَّ هؤلاء الذين اتبعوك هم أفضل منا, في عقل أو في مال بل هم دوننا, {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا}, أي أنت ومَن اتبعك, {........مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ}[هود:27], اتهام, أي نحن نظنكم أنكم تكذبون في هذا أنت ومَن تبعك في هذا الأمر, ولا شك أنَّ هذه ليست حجج التي احتج بها الكفار؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- له أنْ يصطفى مِن عباده ما يشاء -سبحانه وتعالى - ليجعله رسولًا, ثم إنَّ الهداية هداية الرب -تبارك وتعالى-, فإذا كان هؤلاء قد اهتدوا على الحق فما العيب في هذا, أنْ يكون الفقراء هم الذين هداهم الله -تبارك وتعالى- إلى الأمر, لكنه هو عنت أي إعنات وتعنت مِن هؤلاء الكفرة؛ فإنَّ اعتراضهم ليس اعتراض, وليس عندهم دليل على كذب نوح -عليه السلام-, ولا كذب هؤلاء الناس الذين استجابوا لدعوة الله -تبارك وتعالى-, وإنما هو اتهام بالباطل, فكان رد نوح عليهم : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي........}[هود:28], {أَرَأَيْتُمْ}, أخبروني, {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}, أنا على بينة مما أرسلني الله -تبارك وتعالى- به, ودليل يقيني مِن ذلك, جاءني الوحي مِن الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى-, {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}, دليل واضح البين, {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِه}, هذه النبوة والرسالة رحمة مِن الله -تبارك وتعالى-, وهو يعطيها مَن يشاء, فالله أعطاني هذه الرحمة مِن عنده, {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}, عُمِّيَت بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله, أي قد عَمَّاهَا مُعَمٍ عليكم, {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}, ممكن يكون المُعَمِّي هو الشيطان الذي أذلهم على هذا النحو, وجعلهم ينظرون إلى الرسول إلى أنه ليس برسول, ولماذا يفضلكم هذا ولماذا يتفضل عليكم مِن تزيين الشيطان لهم, ويكون هذا التزيين كذلك عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى- بتسليط الشيطان عليهم؛ ليقول لهم هذا, ويُزَيِّن الكفر في قلوبهم, بكفرهم وعنادهم, لما رأوا الحق, الواضح, البَيِّن ولا يؤمنوا به؛, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يعاقبهم هذه العقوبة ويُسَلِّطُ عليهم الشيطان, كما قال -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83], وقال : {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}, وقال : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:6], {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[البقرة:7], بكفرهم والله لا يهدي القوم الكافرين, {.........فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}[هود:28], هذا السؤال للاستنكار, {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}, الإلزام هو أنْ نجبركم على أخذها بالقهر والغَلَبَة, {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}وأنتم كارهون لها, لا هذا أمرٌ تأخذونه باختياركم طواعية, ولا إكراه فيه ولا إلزام فيه, فهذه نعمة الله -تبارك وتعالى- النبوة أنزلها عليّ, وهذه معروضة عليكم, والأمر لكم اختاروا ما تشاؤا يا إما الايمان, وإما الكفر, {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}, على هذا النحو, {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا........}[هود:29], لمَ تنفرون مِن هذا الحق والخير الذي آتاكم مجانًا دون مال, أنا ما أطلب منكم علي الدلالة على هذا الخير الذي يحقق لكم خير الدنيا والاخرة, الفلاح الكامل ما أطلب عليه أجر, {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا........}[هود:29], المال الأجر, والمال كل ما يتمول ويُنْتَفَعُ به؛ نقود أو ثمار أو حيوان أو ثياب, ما أطلب منكم أي نفع مِن هذه المنافع المادية قَطّ, {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ}, على دلالتي لكم على الخير, وعلى إرشادي لكم, وتعليمي لكم, {مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}, أنا رسول محتسب, وأجري في القيام بالدين والدعوة والتعلم, {عَلَى اللَّهِ}, -سبحانه وتعالى-, ثم قال لهم : {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا}, ليس لي أنْ أطرد الذين آمنوا عن هذه الهداية, وأقول لهم أنتم فقراء الناس وضعفاؤهم ابتعدوا عني, وأفسحوا المجال للأغنياء, {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}, هذا دين -تبارك وتعالى- وليس ديني, ليست هي مصلحتي, هذا دين الله -تبارك وتعالى-, وهؤلاء هم ملاقوا ربهم سيحاسبهم إنْ كانوا صالحين أو غير صالحين, الذي يَعْلَمُ حقائق الأمر, وما في داخل قلوبهم هو الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ}, وبالتالي لو أنا طردتهم أكون لهم خصم لهم أمام الله -تبارك وتعالى-, {........وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}[هود:29], {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ}, برفضكم هذه الدعوة, {قَوْمًا تَجْهَلُونَ}, بالفعل المضارع تهذيب لهم, أي تفعلون الجهالة ليس جاهلين, بل السفه والجهالة أنتم فاعلون لها, فإنَّ كل ما رددتم به الحق ليس بحجة للرد, ما هو حجتكم في رد هذا الحق الذي جاءكم مِن الله -تبارك وتعالى- مجانًا, ودون ثمن تدفعونه, {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}.

 ثم واصل نوح في بيان الأمر لهم فقال : {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ........}[هود:30], مَن منكم يستطيع أنْ ينصرني مِن الله إنْ طردتهم؟ طَرْد هؤلاء المؤمنين الصالحين مِن حولي جريمة كبرى, أرتكب جريمة كبرى أني أُعَادِي أولياء الله -تبارك وتعالى-؛ فإذن أرتكب معصية للرب -تبارك وتعالى-, فهل يستطيع أحد منكم أنْ ينصرني أمام الله -تبارك وتعالى-؟ ومَن قال : {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ........}[هود:30], أي لا ناصر لي, أكون قد عاديت أولياء الله -تبارك وتعالى-, {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}, ألا عقل لكم تذكرون به هذه الأمور؟ تذكرونها تذكر فعل العقل تذكرون هذه الأمور, وتنظرون في هذه الأدلة وهذه الحقائق كما هي, {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}, {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ........}[هود:31], ما تظنوا أنَّ الله عندما اختارني للرسالة أنه جعل تحت يدي الخزائن, خزائن الله له عنده -سبحانه-, {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ........}[هود:31], فقد كان يظن هؤلاء كما ظن, ويظن كل الكفار في كل أمة أنَّ الرب -تبارك وتعالى- إذا اختار عبدًا رسولًا فهذا رسول الله, إذن لابد أنْ يضع الخزائن تحت يديه, {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ........}[هود:31], الخزائن جمعة خزينة, وهي ما يُخْزَنُ فيها الخير وما يحفظ كالأموال والأولاد, وعطاء الله -تبارك وتعالى- هذا كله بيد الله -عز وجل-, {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب........}[هود:31], كذلك {أَعْلَمُ الْغَيْب}, بكل أنواعه سواء الغيب الإضافي, أي حقائق الأمور الموجودة, الاضافة بالنسبة للخلق, والغيب الذي استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه, وهو ما يكون في غد, كل هذا إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}, ولا أقول لكم إني مَلَك مِن ملائكة الرب -تبارك وتعالى-, ولكن أنا بشر مثلكم, وقد استنكفتم أنْ يكون الرسول بشرًا مثلكم, والحال أنَّ الله -تبارك وتعالى- يختار, يصطفي مِن البشر رسلاً, ويصطفى كذلك مِن الملائكة رسلًا؛ يرسلهم الله -تبارك وتعالى- إلى البشر برسالاته فالله -سبحانه وتعالى- يخلق ما يشاء ويختار, ولا أقول لكم إني ملك بل أنا بشر مثلكم, أكل أشرب, أقاسي الحياة, أتحملها, تحمل الآلام والامراض مثلما أنتم بشر, {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا}, ولا أقول كذلك لهؤلاء الذين تزدري, الازدراء هو الاحتقار والاستصغار, وهم هؤلاء الفئة الذين التفوا حول نوح مِن المؤمنين, {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا}, لِمَ؟ قال : {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ}, الله -تبارك وتعالى- هو الذين يحاسبهم, هو أعلم ما في نفوسهم فإنْ كان في نفوسهم الصدق والإيمان والإخلاص لله -تبارك وتعالى-؛ فإنهم بذلك يكونون أولياء الله -تبارك وتعالى-؛ فإن الله يأجرهم على ذلك, هذا الأمر أمر مجازاة هؤلاء إلى الله -عز وجل-, {........وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[هود:31], {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}, لو ذكرت بأنَّ هؤلاء لن يدخلوا ملكوت الرب -تبارك وتعالى-, ولن يدخلوا جنته, ولن يكون لهم الفضل والإحسان عند الله كما تظنون, ولن يهبهم الله -تبارك وتعالى- الهداية كما تستهترون, لا, هذا الأمر كله إلى الله -تبارك وتعالى-.

بعد هذا البيان والإيضاح الواضح مِن نوح لقومه, دائمًا الباطل يتبرأ مِن الحق لا يسمعه, {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا........}[هود:32],  {قَالُوا يَا نُوحُ}, هكذا باسمه؛ لأنهم لا يؤمنون بأنه عبد الله ورسوله, {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا جعلوا هذه الأدلة الواضحة, البينة, وهذه البراهين التي يقولها نوح جعلوها جدال, والجدال أصلًا هو مأخوذ مَن جَدْلِ الحبل, أي أنْ يقول هذا بحجة وهذا بحجة فجعلوا إدلائه بما قاله نوع مِن الجدل والرد على حججهم, وأنَّ هذا جدال بالباطل, {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[هود:32], بلغ بهم الحنق والغيظ والتعالي مَبْلَغَهُ, {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}, به أي مِن العذاب, يقول لهم : {........إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}[هود:26], فقالوا: ائتِ لنا بهذا, نريد أنْ نرى هذا الذي تتوعدنا به, {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}, أي مِن العذاب والهلاك, {إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}, في دعواك أنك رسول الله, وأنَّ الله اختارك, {قَالَ}, أي نوح لهم : {........ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}[هود:33], قال لهم ما عندي هذا, هذا العذاب ليس عندي, وإنما بيد الله -تبارك وتعالى- {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ.........}[هود:33],  {إِنَّمَا}, للحصر, أي أنَّ الأمر محصور كله عند الله -تبارك وتعالى-, وعقوبتكم بيد الله وحده, وليس لي في هذا الأمر شأن, {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ}, أي العذاب, {اللَّهُ}, الذي يأتيكم به, {إِنْ شَاءَ}, والأمر إلى مشيئته -سبحانه وتعالى-, {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}, لله, بفائتينه, أعجزني هذا الأمر, أي فاتني, ولم أستطع عليه, أي لستم فائتنين الرب -تبارك وتعالى-, ولا أنتم بمعجزيه -جلَّ وعَلا-, {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ}, لربكم وإلهكم -سبحانه وتعالى-.

ثم قال لهم : {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ........}[هود:34], بَيَّنَ نوح بعد ذلك أنَّ الأمر أمر ضلالهم وهدايتهم إنما هو راجعٌ إلى الله -تبارك وتعالى-, وليس راجع إليه؛ فإنَّ الرسل لا يستطيعون أنْ يهدوا مَن شاءوا, ولا أنْ يضلوا كذلك مَن شاءوا, {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........}[القصص:56], {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ........}[هود:34], أصل النصح هو الخلوص, الإخلاص, نصحي لكم غير نافع لكم, أي إخلاصي في هذه المواعظ, وفي بيان الحق لكم, واجتهادي في ذلك, فأنا ناصح لكم, غير غاش, الناصح لا يغش؛ لأنَّ ضد النصح الغش فأنا مُخْلِص لكم تمام الإخلاص, أُحِبُ لكم الخير, وقد بذلت في هذا ما بذلت, ولكن هذا النصح مِنِّي, إرادة الخير لكم, ومحبة أنْ تُسْلِمُوا, وأنْ تؤمنوا, وأنْ تتبعوا طريق الخير, كل هذا لا ينفعكم, وإنْ أردت هذا, وحرصت عليه, كانت مِنِّي إرادة في هذا, {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}, إنْ كان الله -تبارك وتعالى- يريد أن يغويكم, وأنْ يضلكم فإنَّ الأمر إليه -سبحانه وتعالى-, ولا ينفع أنا نصحي لكم واجتهادي في بيان الحق لكم, وإخلاصي في هذا غير نافع لكم, {إِنْ كَانَ اللَّهُ}, -تبارك وتعالى-, {........يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[هود:34], {هُوَ}, الله -تبارك وتعالى-, {رَبُّكُمْ}, سيدكم, خالقكم, بارئكم كل معاني الرب, متصرف فيكم, الذي أنتم بيده -سبحانه وتعالى-, وبقبضته فالأمر كله, أمركم راجع إليه -سبحانه وتعالى-, وليس راجع إليّ, {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}, {إِلَيْهِ}, لا إلى غيره في النهاية, أنتم راجعون إليه, وسيحاسبكم على أعمالكم, فقال لهم : أنا مهما بذلت مِن النصح لكم وأردت هذا؛ فإنَّ هذا لن يفيدكم إنْ كان الله -تبارك وتعالى- {يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}, فالأمر إليه -سبحانه وتعالى -.

بعد هذه الحجة القاهرة, والبيان الواضح والرد الشنيع مِن هؤلاء الكفار على دعوة نوح, هنا يأتي التفاتة الله -تبارك وتعالى- عندما يسوق هذا تأتي التفاتة بعد ذلك إلى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- والمحيطين به, فيقول -جلَّ وعَلا- : {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}[هود:35], {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}, هل هؤلاء الكفار, أو بل هؤلاء الكفار {يَقُولُونَ}, عن هذا القرآن إنَّ النبي محمد افتراه, كيف يفتري؟ كيف للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنْ يعلم هذه الأخبار وتفصيلات هذا الأمر, مِن مقالة نوح وما رد عليه قومه به على هذا النحو؟ مِن أين للنبي أنْ يعلم بهذه الأخبار لولا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أعلمه, فإنه كان رجلًا أُمِّيًا لم يتعلم القراءة ولا الكتابة, ولم يقرأ كتابًا قبل ذلك, ومثل هذه كانت في بطون الكتب الإلهية المُنْزَلَة على الرسل قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-, على موسى وعيسى وعلى الأنبياء, وكان بنو اسرائيل هم الذين يحتكرون هذا الأمر ويعلمونه, ولا يُعْلِمُونَ به غيرهم؛ لأنَّ الدين كان خاصًا بهم هم, وكان النبي لا يعرف شيئًا مِن ذلك, ولم يقرأ كتابًا قبل هذا, فهذا التفصيل الواضح لما كان مِن شأن نوح -عليه السلام- وقومه, هل كان النبي على عِلْمٍ بهذا؟ كيف للنبي أنْ يعلم هذا الأمر؟ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}, هذا القرآن, ثم أنه نَزَلَ بهذه الصياغة المعجزة التي تحدى الله -تبارك وتعالى- به العرب أنْ يأتوا بسورة مِن مثله, فأنى للنبي أنْ يصوغ القرآن, ويصوغ هذه الحقائق هذه الصياغة المعجزة؟ {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي.........}[هود:35],  {إِنِ افْتَرَيْتُهُ }, افتراض لجريمة كبرى, الافتراء على الله -تبارك وتعالى-, افتراء الكذب على الله, إنما هو جريمة كبرى, قال له : {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}, يكون هذه الجريمة عليّ, والحال النبي لم يفترِ ولكن كلام الله -تبارك وتعالى-, {.........وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}[هود:35], ردكم لهذا الحق وقولكم عنه إنه افتراء, والحال أنه الحق مِن الله -تبارك وتعالى-, جريمتكم هذه أنا برئ منها, أنا علي أنتم الذي تسمونه جريمة هو ليس جريمة؛ لأَّن النبي صادق فيقول : أنا علي إجرامي حسب كلامكم إنه افتراء, {.........وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}[هود:35], ولا شك أنَّ الذي يجرمونه هو جريمة بالفعل؛ لأنهم ردوا الحق الثابت مِن الله -تبارك وتعالى-, قال : {.........وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ}[هود:35].

 ثم بعد ذلك بعد هذه الالتفاتة في سياق ما يخص الله -تبارك وتعالى- مِن شأن نوح, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36],  {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ}, بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله, والموحي هو الله -تبارك وتعالى-, {أَنَّهُ}, الحال والشأن, {لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}, أخبره الله -تبارك وتعالى- بأنَّ هؤلاء الذين آمنوا به هم فقط أهل الإيمان و وأنه لن يُزَادَ واحدًا بعد هؤلاء, {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}, قبل هذا الإخبار, {.........فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36], تعزية مِن الله -تبارك وتعالى-, ومواساة وتطييب لخاطره, قال له : {لا تَبْتَئِسْ}, الابتئاس والبؤس هو الشعور بالأسى والحزن, قال له : لا تحزن ولا تأسى ولا تبتئس, مصيبة البؤس, {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}, وذلك أن َّفعلهم شديد مِن الاستهزاء به والسباب والاستهزاء بِمَن حوله, والتضييق عليهم والتهديد, فقد جاءوا منهم كل أنواع مِن مثل قولهم : {........لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116], فقد هددوه بالرجم والقتل وهددوا من معه, بالغوا كل المبالغة على رسولهم وإيصال الكرب لهم, كما قال -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}[الصافات:75 ], {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الصافات: 76] , {الْكَرْبِ}, الشدة الهائلة الغم الهائل الذي أصاب نوح فهنا يُسَلِّيهِ الله -تبارك وتعالى- ويقول له : {.........فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36].

نقف عند هذا, ونكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.