الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (273) - سورة هود 36-49

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36], {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود:37], {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود:38], {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[هود:39], في سياق ما قَصَّهُ الله -تبارك وتعالى- مِن مَصَارِعِ الغابرين في هذه السورة؛ سورة هود بدءًا بنوح -عليه السلام-, في هذا السياق وصلنا إلى قول الله -تبارك وتعالى- لنوح : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ........}[هود:36], أي أَوْحَى الله -تبارك وتعالى- إلى عبده نوحًا أنَّ الذين آمنوا به هم الذين آمنوا, ولن يؤمن بعد ذلك أحد, {........فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36], مِن استهزاءهم به, وتهديدهم له, حيث قالوا مِن جملة ما قالوا في نهاية المطاف : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116], وضُيِّقَ عليه وعلى مَن آمن معه, وناله الكرب العظيم, كما قال الله -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ}[الصافات:75], {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}[الصافات:76], وأَمَرَهُ الله -تبارك وتعالى- خلوصًا لما هو فيه, وإنجاءً له وللمؤمنين معه بأنْ يصنع الفُلْكَ, الفُلْك السفينة والفلك تقال للسفينة للواحد فالواحدة فُلْك والجمع فُلْك, {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود:37], برعاية الله -تبارك وتعالى-, بعين الله -تبارك وتعالى-, تحت عين الله -تبارك وتعالى- وبصره؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو السميع البصير تعليمًا وتوجيهًا منه -سبحانه وتعالى-, ورعاية له, وحماية له لأنْ ينجز هذا العمل على النحو الذي يحبه الله -تبارك وتعالى-, {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}, فإنَّ جبريل المُنَزَّل مِن الله -تبارك وتعالى- إليه هو الذي نستطيع أنْ نقول هو الذي أعلمه كيف يصنع الفلك, وكيف يرتبها, وكيف ينظمها؛ وذلك أنها ستكون فُلْك لا مثيل لها في الوجود, إنها سفينة تُحْمَلُ فيها خلاصة الحياة البشرية أهل الإيمان الذين معه رجال ونساءً, وكذلك مِن كل دواب هذه الأرض زوجين, ذكر وأنثى {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}, مِن كل دواب الأرض وزواحفها وهوامها وحشراتها, فإذن ستكون سفينة مخصوصة, تحمل كل طائفة الأحياء, جنس الأحياء, زوج ذكر وأنثى مِن كل أحياء هذه الأرض, وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيدمر هذه الأرض بما عليها, الكفار, وكذلك ما على وجه هذه الأرض, {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}, برعاية الرب -تبارك وتعالى- ورعايته وسمعه وبصره وإحاطته بهذه, وإعانته لنوح أنْ يصنع هذه السفينة العظيمة, وكذلك بالوحي المُنَزَّل مِن جبريل الذي يرشده إلى كيفية هذه الصناعة, وماذا سيكون فيها وكيف يرتب الأمر, {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ........}[هود:37], قيل ولا تخاطبني فيهم, إما بخطاب استعطاف للرَّب -تبارك وتعالى- إذا علم نوح بأنَّ الأمر سيأتي مستأصلًا الجميع, فربما أعاد بأنْ يستعطف لهم الرَّب -تبارك وتعالى-, قال : {وَلا تُخَاطِبْنِي}, أو ولا تخاطبني فيهم باستعجال الأمر متى يكون, فإنَّ تحديد وقت هذا الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-, مما يدل على الأمر الثاني أنَّ نوح كان يريد التعجيل باستئصالهم, بلجوئه إلى الله -تبارك وتعالى-, قال : {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}, أي أني غُلِبْت, مغلوب مِن قومي, {فَانْتَصِرْ}, أي فانتصر لي يا رب, وقوله : {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26], {دَيَّارًا}, صاحب دار, {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ........}[نوح:27], {تَذَرْهُمْ}, تطلقهم, عملية الإضلال مستمرة فإنَّ الكبير يوصي الصغير بالكفر والعناد, {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27], وهذا يُرَجِّحُ قول مَن قال مِن المفسرين مِن أهل العلم : {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا........}[هود:37], باستعجال هلاكهم فإنَّ أمر هلاكهم أصبح محتوم, وهو أمرٌ موكولٌ إلى الله -تبارك وتعالى-, توقيته موكول إلى الله -تبارك وتعالى- هو الذي يوقت هذا الأمر, وأما القول بأنه : {لا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}, أي باستعطاف لهم, أو استرحام, فإنَّ هذا لا يدل عليه سياق قصة نوح -عليه السلام- في القرآن, {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[هود:37], صَدَرَ الحكم الإلهي الذي لا يُرَّد, هذا حُكْم الرب -تبارك وتعالى-, {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}, بالتأكيد بهذه الجملة الاسمية المتمكنة في الخبرية, هذا حكم الرَّب -تبارك وتعالى- فيهم, والغرق معروف الموت بالماء غرقًا, ثم صَوَّرَ الله -تبارك وتعالى- حاله, والقضاء قد حُمَ, قضاء الرب -تبارك وتعالى- قد حُمّ, لكن لننظر إلى عمى الكافر, قد صَدَرَ الأمر الإلهي بهلاكه وبغرقه, ولكن انظروا كيف يستهزئ بالأمر كأنه لا يرى ولا يسمع, قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}, بالفعل المضارع ؛لأنه يشرع في هذا ويصنع, يمارس هذا الأمر والفلك صناعة, الصناعة هي العمل المتقن, {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}, {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ}, مِن القوم, جماعة مِن قومه, {سَخِرُوا مِنْهُ}, بصنوف السخرية, السخرية الاستهزاء أي ما هذه السفينة, يا نوح إنك تبني سفينة على اليابسة, وإنك, أين البحر؟ أتظن أنك ستركب في هذا الأمر؟ ومِن هذه الكلمات السخرية والاستهزاء بنوح وبفعله أنَّ هذه هي مَرْكَب نجاة وحيد على ظهر الأرض كلها, ولكن انظر حال الكافر : {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}, قال نوح المتيقن مِن الأمر, المستند إلى وحي الرب -تبارك وتعالى- هذا صاحب البرهان, قال لهم : {........إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود:38], مَن الذي يستحق السخرية أنا الذي أُنَفِّذُ أمر الله -تبارك وتعالى-, واستند إلى  موعوده الصادق الذي لابد أنْ يكون, موعوده بأنْ يُنْقِذَ الله -تبارك وتعالى- الرسول المؤمنين, ووعيده الذي لا يتخلف بأنه سيغرق الكافرين هذا الذي مستند إلى هذا إلى خبر الرب -تبارك وتعالى-, أم هؤلاء العميان الذين يأخذوا هذا الأمر مأخذ السخرية والاستهزاء والتكذيب, قال : { إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}[هود:38], {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ.........}[هود:39], تهيد وبيان الأمر على حقيقته انتظر سترون أنا ولا أنتم, {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}, عندما يركض ويفر مِن هذا العذاب بالخزي والعار والدمار, وأنه كان على الباطل وكان أعمى لا يرى الحق؛ فيخزى, {........وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[الزمر:40], {يَحِلّ}, الحلول هو الإتيان والبقاء فالحال غير, والحال هو المقيم أي يقيم عليه عذاب مقيم, قائم لا ينفك عنه, كما قال -تبارك وتعالى- : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25], فَمَن الذي سَيَحِلُّ عليه عذاب مقيم باقٍ لا يرحل عنه هذا العذاب أبدًا, قال -جلَّ وعَلا- : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}, أمر الله -تبارك وتعالى- في الوقت الذي حدده -سبحانه وتعالى-, فإنَّ الله يجعل هذا له -سبحانه وتعالى- فإنَّ وقت الهلاك هذا كان أمره عند الله -سبحانه وتعالى- وقته عند الله, {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}, هذا علامة الركوب, هذه العلامة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- لنوح ليركب, {فَارَ التَّنُّورُ}, قيل فار بالماء, أول عين إشارة تنبعث ليبدأ الطوفان سيكون التنور, تَنَّور هو المكان الذي يوقد فيه الخبز ولإنضاج الطعام, لما فار هذا انفجرت عين الماء مِن هذا المكان الذي عينه الله -تبارك وتعالى- لنوح التنور المعهود الذي أخبره الله -تبارك وتعالى- عنه, {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}, قلنا لنوح هذا العلامة ظهرت, {احْمِلْ فِيهَا}, فيها في هذه السفينة, {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}, لأنَّ الفرد الذي له نظير مِن جنسه هذا زوج, كما نقول للرجل هذا زوج, وللمرأة هذه زوجك؛ فيصير الرجل وامرأته اثنين زوجي, فإذا قلت عندي زوج حمام مثلًا يبقى عندك واحدة إما ذكر أو أنثى, وعندي زوجين مِن الحمام أي عندك اثنين ذَكَر وأنثى, {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ}, ذَكَر وأنثى, {اثْنَيْنِ}, {مِنْ كُلٍّ}, مِن هذه المخلوقات التي بثها الله -تبارك وتعالى- في الأرض, {وَأَهْلَكَ}, أي احمل أهلك كذلك, {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}, بكفره قول الله -تبارك وتعالى- كان منهم امرأته, وكذلك منهم ابنه الذي حَرَمَهُ الله -تبارك وتعالى- النجاة, {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ}, احمل مَن آمن معك مِن القوم فالمؤمنين الذين آمنوا هم الذين يُسْمَحُ لهم بركوب هذه السفينة, ثم عَقَّبَ الله -تبارك وتعالى- على مَن آمن فقال : {........وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}[هود:40], لم يؤمن مع نوح -عليه السلام- إلا عدد قليل, قيل هم بضع وثمانون رجل وامرأة مِن كل أهل الأرض في وقته, هذا كل الموجود في الأرض كلهم, أصحاب هذه السفينة وقال نوح -عليه السلام- لهؤلاء الذين كتب الله -تبارك وتعالى- نجاتهم, {ارْكَبُوا فِيهَا}, اركبوا في هذه السفينة, {فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}, {بِاِسْمِ اللَّهِ}, توكلًا وتبركًا, وهذا العمل قائم باسم الله -تبارك وتعالى-, {مَجْرَاهَا}, جريها في هذه اللُّجَّة العظيمة, {وَمُرْسَاهَا}, عندما ترسو, فجعل اسم الله عليها لتبريكها ولتبيثها ولحمايتها؛ فاسم الله -تبارك وتعالى- مُبَارَك, {بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}, بدؤها, بدء جريانها عندما تطفو على سطح الماء, وكذلك رُسُوُّهَا عندما ينتهي الطوفان, {........إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[هود:41], { إِنَّ رَبِّي}, تأكيد, {لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}, لذنوبنا هذا رجوع إلى الله -تبارك وتعالى- واستعطاف له, بأنه هو الغفور الرحيم -سبحانه وتعالى- لذنوبنا, فإذا غفر الله -تبارك وتعالى- لذنوبنا؛ أنجانا هذه النجاة, {........إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}[هود:41], استعطاف للرَّب -سبحانه وتعالى- بأنه الغفور, الغفر هو الستر, الرحيم -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين, وذلك أنَّ العباد كلهم خطاءون مهما كانوا؛ فهو اعتذار للرب -تبارك وتعالى-, ورجوع إليه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ........}[هود:42], انفجرت الأرض عيون, هَطَلَت الأمطار مِن السماء, وكما قال الله -تبارك وتعالى- : {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[القمر:12], التقى الماء النابع مِن الأرض, والنازل مِن السماء {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}, قَدَرَهُ الله -تبارك وتعالى-, تقدير عظيم وهو أنْ يُغَطِّي كل شارف فوق هذه الأرض, أنْ يصل إلى رؤوس الجبال, ويُغَطِّي الجبال حتى لا يبقى شيء مما هو على الأرض, ممكن يلوذ بشجرة عالية, بجبل مرتفع, لا, لابد أنْ يُغَطِّي الماء كل مُشْرِف وكل عالٍ مِن هذه الأرض, {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ........}[هود:42], كذلك {مَوْجٍ}, ارتفاعات الماء مِن الريح التي تحركه, الله يخبر ويصف هذا الموج بأنه كالجبال, {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}, في خِضَمّ هذا الطوفان العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله قَطّ, نادى {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ}, {مَعْزِلٍ}, مكان منعزل لم تصله الماء بعد كأن يكون في وسط شِعْب في جبال, وسفينة بدأت ترتفع وابنه يركض وهو باقي مازال في هذا المعزل الذي لم تصله الماء, وهو أي ابن نوح, فيقول له : {........يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود:42], {يَا بُنَيَّ}, يناديه بهذا الاسم, وبُنَيّ تصغير ابن ما قال ابني, {يَا بُنَيَّ}, تصغير تحبيب, والتصغير يأتي للتحبيب وللاستعطاف هنا يقول : {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا}, تعالى مع المؤمنين, {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}, إياك أنْ تكون مع الكافرين, وذلك أنه كان مناوئ لأبيه وخارجٌ عنه, {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}, {قَالَ}, أي هذا الابن العاق المُؤْثِر لأنْ يكون مع الكافرين على المؤمنين, {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}, {سَآوِي}, مِن المأوى, أي اركض, {إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}, أركب عليه فوق في القمة؛ فيعصمني مِن طُفُوّ الماء علي, فقال له نوح : {قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}, قال له يا بني : {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ}, العاصم المانع, أي لا يمنع, {الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}, أمر الله -تبارك وتعالى- هنا الذي أنفذه, الغرق والهلاك, {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}, إلا مِن رحمه الله -تبارك وتعالى-, والذين رحمهم كتب الله نجاتهم في هذه السفينة فقط, {إِلَّا مَنْ رَحِمَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ}, حال بين نوح وبين ابنه الذي ربما أنه لما أدركته الماء أراد الخلاص والذهاب إلى السفينة, لكن الأمواج المرتفعة حالت بين السفينة, وبين هذا الابن العاق, {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ}, انتهى, أصبح مِن هؤلاء الهلكى الذين أغرقهم الله -تبارك وتعالى-.

وبعد هذا مشهد عظيم, السفينة التي تحمل صفوة الخلق في هذا الوقت نوح والمؤمنين معه, ومعه كل ما اختصه الله -تبارك وتعالى- مِن دواب الأرض زوجين, والأرض التي قد ماجت بهذا الطوفان العظيم الذي غطاها مِن أقصاها إلى أقصاها, ولم يترك مُشْرِفًا ولا جبلًا مُشْرِفًا إلا غمره بالمياه, الله -تبارك وتعالى- ينهي هذا المشهد -سبحانه وتعالى- بكلمات معدودات, فقيل : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ........}[هود:44], {وَقِيلَ}, بالبناء للمجهول, وهذا أمر إلهي -سبحانه وتعالى- مِن الله للأرض, {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ}, تَسَرُب الماء الله -تبارك وتعالى- هنا أخبر عنه بصورة البلع, والبلع شدة الأخذ, {ابْلَعِي مَاءَكِ}, كلا الماء هذا ابلعيه, {وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي}, الإقلاع هو الكف أي كُفِّي عن المطر, {وَغِيضَ الْمَاءُ}, {غِيضَ}, تناقص سريع, {وَقُضِيَ الأَمْرُ}, قضي الأمر كله في إنجاء الله -تبارك وتعالى- مَن يشاء الله -تبارك وتعالى- إنجاءه, في اهلاك هؤلاء المعاندين, المكذبين الذين ظنوا أنَّ هذا الأمر مجرد فِرْيَة وكذب وأمر لن يكون, فكان إهلاكهم بهذه السرعة, وبهذه العقوبة الشديدة التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- عليهم, وقيل : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ........}[هود:44], استوى على, أي عَلَت على الجودة وركنت إليه, ووقفت عنده, وبقيت عنده, {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}, جبل الجودي, وقيل إنه جبل موجود بهذا الاسم في جبال تركيا الشرقية, {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}, أي السفينة, {........وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44], {بُعْدًا}, هلاكًا وسحقًا, {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}, هؤلاء الكفار الذين كذا, أي أنه قد ألحقهم الله -تبارك وتعالى- باللعنة والإبعاد مِن رحمته؛ لأنهم ظالمون, لننظر إعجاز القرآن في إنهاء هذا المشهد العظيم بهذه الكلمات المعدودة السريعة : {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[هود:44].

ثم يصور الله -تبارك وتعالى- نوح وهو يدعو ربه -سبحانه وتعالى- بعاطفة الأبوة نحو ابنه الذي غرق فيقول : {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ}, ناداه مناداة بأنه دعاه -سبحانه وتعالى- بصوت يناديه, وينادي الرَّب -تبارك وتعالى- بدعاه ونادى نوح ربه فقال : {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}, {رَبِّ}, يا رب, {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}, فيما ظنه نوح أنه مِن أهله, أهله المؤمنين الذين قد أمر الله -تبارك وتعالى- وسمح الله -عزَّ وجلَّ- بأنْ يركبوا معه؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قال له : {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}, لم يكن نوح يدري ويعلم أنه مِن الكافرين, وإنما ظن أنه مِن أهله المؤمنين, {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}, ولكنه خالف الأمر وذهب على هذا النحو, {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}, يوم القيامة, {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}, فيما حَكَمْتَ به مِن أمر, وكان منِ حكم الله -تبارك وتعالى- أنْ يغرق ابنه مع الغارقين فطلب له أنْ ينجيه الله -تبارك وتعالى- مِن عذاب الآخرة؛ فأجابه الله -تبارك وتعالى- بقوله : {قَالَ يَا نُوحُ}, أي الرَّب, الإله الذي لا إله إلا هو, {يَا نُوحُ}, ناداه الرَّب -تبارك وتعالى- باسمه, {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}, {إِنَّهُ}, أي هذا الابن, {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}, أي المؤمنين الذين كَتَبَ الله -تبارك وتعالى- لهم أنْ ينجو في السفينة, وأنْ تأخذهم معها, {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}, {إِنَّهُ}, قيل إنه أي العمل الذي عمله هذا الولد في إيثاره أنْ يكون مع الكفار, وألا يركب في هذه السفينة, {عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ}, أي أنه قد عمل هذا الابن عملًا غير صالح بمفارقته هذا الدين, وأهل الحق, بمفارقته أبيه, النبي, الرسول, الداعي إلى الله -تبارك وتعالى-, وإيثاره أنْ يكون مع الكفار, {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}, {فَلا تَسْأَلْنِ}, تطلب مِنِّي, {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}, وهذا قوله : {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}, الذين أُمِرت وسُمِحَ لي بأنْ أحملهم معي, قال : {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ}, وهذا حُكْمُ الله -تبارك وتعالى-, والله -تبارك وتعالى- هو العليم بقلوب عباده -سبحانه وتعالى-, {إِنِّي أَعِظُكَ}, أي أنَّ هذا الكلام الذي فيه عتاب شديد لنوح, أعظك به, {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}, فتحكم على أمرٍ ما بغير اليقين, {.........إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود:46], لما أتى نوح هذا الخطاب الإلهي المباشر على هذا النحو, {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ........}[هود:47], قال نوح : {رَبِّ}, أي ربي, {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ}, {أَعُوذُ بِكَ}, العياذ هو الإنجاء أي ألتجأ إليك, وأحتمي بك, {أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}, فإنه لا يَقْدِرُ على هذا الأمر إلا الله -سبحانه وتعالى-؛ فإن القلوب والهداية بيده -سبحانه وتعالى-, {........ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[هود:47], {إِلَّا تَغْفِرْ لِي}, أي هذا الطلب منك, وهذا الدعاء لك فيما لم أكن على عِلْمٍ به, {إِلَّا تَغْفِرْ لِي}, أي هذا الذنب, {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}, أي لو أخذتني بذنبي هذا كنت خاسرًا, {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا}, {قِيلَ}, بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله لا شك أنَّ القائل هو الموحي هو الله -سبحانه وتعالى-, {يَا نُوحُ}, نداءٌ مِن الرَّب -تبارك وتعالى- لعبده ورسوله نوح, {اهْبِطْ بِسَلامٍ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}, {اهْبِطْ}, الهبوط مِن السفينة التي رسا عليها التي رست على هذا الجبل اهبط منها, فيهبط إلى الجبل الذي رست عليه, ثم يهبطون بعد ذلك إلى الأرض هو والمؤمنون معه؛ لِيُنْشِئُوا حياةً جديدةً على ظهر الأرض ولا يكون فيها إلا أهل الإيمان فقط, {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا}, سلام الأمن والسلامة والطمأنينة, فقد سَلَّمَهُم الله -تبارك وتعالى-, {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}, البركات زيادة الخير ونماؤه, {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ}, على نوح, {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}, {أُمَمٍ}, ليس أمة واحدة, {مِمَّنْ مَعَكَ}, مِن الذين معك, الذين حملتهم أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيوجد منهم أُمَم كثيرة تملأ الأرض بعد ذلك, {مِمَّنْ مَعَكَ}, تكون مِن أهل الإيمان, {........وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[هود:48], {وَأُمَمٌ}, أخرى مِن الكفار, مِن أصلاب هؤلاء المؤمنين, مِن صلب نوح -عليه السلام- ستكون أمم على الهداية, وأمم كذلك كثيرة على الضلال, {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ}, أي متاع الدنيا فقط, {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}, في الآخرة ثم بعد أنْ أنهى الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر, وعُرِفَت, نتيجة هذه الرسالة أول رسالة, وأول رسول إلى أهل الأرض, وانقسام الناس معه إلى مؤمن وكافر, ثم كانت النتيجة على هذا النحو, إنجاء الله -تبارك وتعالى- نوح والذين آمنوا معه, وإهلاك الآخرين.

قال -جلَّ وعَلا- : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود:49], {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}, {أَنْبَاء}, الأخبار العظيمة, {الْغَيْبِ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا}, هذا غيب, أمور سابقة كان النبي غائبًا عنها, لم يحضرها ولم يشاهدها, {نُوحِيهَا إِلَيْكَ},  {نُوحِيهَا}, الرَّب -سبحانه وتعالى- هو الذي يوحيها, {إِلَيْكَ}, يا محمد, {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا}, فالنبي كان رجل أُمِّي لم يقرأ شيئًا عن ذلك قَطّ, {أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ}, العرب, فإنَّ العرب كانوا في جهل تام, وبعد تام عن هذه الأمور, ما يعرفون نوح ولا سمعوا عنه, ولا قرؤوا عنه, ولا عندهم كتب يقرؤونها على هذا النحو, ولا قومك العرب, {مِنْ قَبْلِ هَذَا}, مِن قبل أنْ يُنْزِلَ الله -تبارك وتعالى- خبرها, {فَاصْبِرْ}, على ما أنت فيه مِن التكذيب والوعيد؛ فإنَّ شأنك مثل نوح, {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}, {الْعاقِبَةَ}, النهاية والخاتمة ستكون للمتقين كما كانت العاقبة لنوح وقومه؛ فستكون كذلك لك يا محمد, لِمَن آمن معك .

نقف ونكمل في سياق السورة -إنْ شاء الله- الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.