الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (274) - سورة هود 49-60

الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}[هود:51], {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}[هود:52], {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[هود:53], {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[هود:54], {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}[هود:55], {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[هود:56], بعد أنْ قَصَّ الله -تبارك وتعالى- نبأ نوح -عليه السلام-, وما كان معه مِن قومه الذين كَذَّبُوا به وشأن المؤمنين معه, وما حَكَمَ الله -تبارك وتعالى-به وقضى به في نهاية المطاف أنْ ينجيه -سبحانه وتعالى- وأهل السفينة, وأنْ يهلك الباقين, ووَجَّهَ الخطاب بعد ذلك لنبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه - قال له : {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ........}[هود:49], هذه الأنباء؛ أنباء نوح ما كان لك عِلمٌ بها, وهذا دليل على أنك رسول الله, فإنهم مِن أين تأتي بهذه الأخبار التي هي تُصَدِّق تمامًا ما عند أهل الكتاب, وأنت لم تقرأ كتابًا مِن أهل الكتاب, ولم تستمع, لم تجلس إلى راهب, ولم تجلس إلى حبر مِن أحبارهم فتتعلم هذا, ولا قومك العرب كذلك لم يكن عندهم علم بشيءٍ مِن ذلك, {فَاصْبِر}, كما صبر نوح, {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.

بدأ الله -تبارك وتعالى- يقص علينا صورة أخرى مِن صور التكذيب للرسل, وكيف كانت النتيجة؟ عاد قبيلة عربية كانت تسكن الأحقاف صحراء الأحقاف في جنوب الجزيرة جهة الربع الخالي, أرسل الله -تبارك وتعالى-لهم عبده ورسوله هودًا داعيًا لهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِلَى عَادٍ}, القبيلة العربية التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- في نهاية المطاف بعد أنْ أنجى المؤمنين, {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا},  أي أرسلنا إلى عاد, قبيلة عاد, {أَخَاهُمْ هُودًا}, أخوهم في النسب؛ فإذن يعرفونه يعرفون مدخله ومخرجه ونسبه وأخلاقه فاختار الله -تبارك وتعالى-لهم رسولًا منهم هودًا النبي, قال أي هود -عليه السلام- : {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}, هذه خلاصة الرسالة, {اعْبُدُوا اللَّهَ}, الله, الرب, الإله المعلوم بهذا الاسم بكل الخلائق, خالق السموات والأرض رب العالمين -سبحانه وتعالى-, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, لا يوجد لكم إله لكم تألهونه وتعبدونه إلا هو, فهو ربكم, خالقكم, خالق آباءكم مِن هذه الأرض, وهو الذي يرى رفع لكم هذه السماء هو ربُّ العالمين -سبحانه وتعالى- ليس هناك إله يمكن أنْ يعبد غيره -سبحانه وتعالى-, ويستحق العبادة إلا هو, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, هذا خلاصة دعوة هذا الرسول, وهي دعوة الرسل جميعًا, {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ........}[النحل:36], {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, ثم قال لهم : {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}, حصرهم في الفِرْيَة وذلك بما ادَّعُوهُ مِن آلهةٍ كاذبةٍ عبدوها مع الله -تبارك وتعالى-, {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}, فيما اتخذتم مِن آلهة تعبدونهم مِن دون الله -تبارك وتعالى-, {قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا}, هذه الرسالة, وهذا النصح لكم, وهذا البيان والإرشاد إلى طريق النجاة والهداية والخير والسعادة لا أطلب عليها أجرًا منكم, أنا محتسب قائم بهذا لله -تبارك وتعالى-, {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}, {إِنْ أَجْرِيَ}, في قيامي بهذه المهمة العظيمة, {عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}, على الله -سبحانه وتعالى- الذي خلقني, وهو اصطفاني بهذا الأمر, {أَفَلا تَعْقِلُونَ}, ألا عقل لكم تميزون به, قد جاءتكم هذه الهدية مجانية بدون ثمن, هدية العمر, ما هي فقط متاع لا, هذا طريق إذا سلكتموه فزتم بالسعادة الأبدية, برضوان الرب -تبارك وتعالى-, بجنته ورضوانه أنجاكم الله -تبارك وتعالى- مِن الهلاك المحقق, مِن الخسارة الدائمة, {أَفَلا تَعْقِلُونَ}, {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ}, اطلبوا مغفرته مِن هذه الجرائم التي أنتم قائمون عليها؛ مِن عبادة غيره -سبحانه وتعالى-, ومِن الفرية عليه, {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ........}[هود:52], وارجعوا إليه, التزموا طريقه, التوبة الرجوع إلى الله -سبحانه وتعالى-, {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11], ماذا تبغوا تبدوا الدنيا فهي عند الله -تبارك وتعالى-كذلك, {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11], الدَّر هو استمرار هطول المطر أي أنها مستمرة, {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}[نوح:11], {يُرْسِلِ السَّمَاءَ}, والماء نازل مِن السماء, {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}, ليس بالإيمان تضعفون وتتفرقون لا, بل أنتم أقوياء وأشداء فالله -تبارك وتعالى- بإيمانكم به ورجوعكم إليه, {يَزِدْكُمْ قُوَّةً}, بكل معانى القوة, قوة الأجسام, قوة البناء, قوة العمل, {قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}, ثم تحذير : {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}, {لا تَتَوَلَّوْا}, التولي الابتعاد عن طريق الرَّب -تبارك وتعالى- حال كونكم مجرمين, فاعلين للجُرم والإثم والنكول والذهاب بعيدًا عن طريق الرَّب إجرام, {وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}, رسالة واضحة بينة وقوية أيضًا بهذا الكلام القوي مِن هود؛ لأنَّ الأمر يستحق هذا فقومه غلاظ, شداد, متجبرون, أقوياء, مفتخرون بقوتهم فإنهم كانوا يقولون : {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}, وأنهم كانوا كذلك عند بطشهم بالآخرين يبطشون بهم بأشد القوة, كما قال لهم في موضع آخر قال : {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ}[الشعراء:130], أي بغيركم, فهم ناس كانوا يرون أنهم أعظم القبائل والشعوب على الأرض, وأنهم ذَوُو قوة, وهم في غير حاجة إلى غيرهم؛ لذلك كان خطاب هود بهذه القوة, يقول لهم : {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}, ويقول : {........إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ}[هود:51],ثم يستعطفهم : {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}[هود:52], فما كان مِن قومه إلا {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}[هود:53], {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ........}[هود:54], انظر هذه الردود السيئة التي هي تنم, بل هي الجهل والحمق والحقارة, قالوا : {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ}, على أنك رسول مِن عند الله -تبارك وتعالى-, أما أنَّ الرسالة هذا أعظم بينة فهذه حقائق, إخبارهم عن ربهم الإله, الخالق -سبحانه وتعالى- أنه لا إله لهم غيره -سبحانه وتعالى- خالقهم وبارئهم, هو الذي أنشاهم, هل سمعوا أنَّ هناك إله يستحق العبادة إلا الله -تبارك وتعالى-فهذه الآلهة المُدَّعَاة التي يَدَّعُونَهَا مِن أين لها أنْ تستحق الألوهية؟ ما الذي تستحقه؟ فلو كان أعظم آلهتهم الشمس أو القمر أو النجوم أو الكواكب أو أو مِن هذه المخلوقات العظيمة, هي في ذاتها لا تستحق هي في ذاتها مربوبة مسخرة ذليلة, فكيف إذا كانت آلهتهم أحجار أوثان وأصنام لا تنفع ولا تضر, كيف توجه العبادة إلى هذه؟ أي دليل يريدونه أكبر مِن إرشادهم إلى الرَّب الإله, خالقهم ومولاهم, وأنه هو الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-,ثم ماذا يريدون مِن دليل وبرهان على أنه رسول الله حقًا وهو يجابههم بهذا ويقرع آذانهم ويسب آلهتهم على هذا النحو, ولا يخاف منهم, مع أنهم أهل البطش, وأهل القوة, وأهل الإجرام فهذا دليل كذلك, دليل على أنَّ الذي يقف هذا الموقف مُؤَيَّد مِن الله -تبارك وتعالى- : {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ ........}[هود:53], لن نترك آلهتنا التي نعبدها لمجرد قولك الذي تقول فيها أنها لا تنفع ولا تضر, وأنها وأنها ما نترك آلهتنا لقولك هذا, {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}, قفلوا على أنفسهم الباب وقالوا : {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}, في مستقبل الأمر, نحن على ما نحن عليه, ولن نقبل أنْ نتحول عنه, {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ}, بِمُصَدِّقِينَ, ثم قالوا : {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ........}[هود:54], نحن رأينا أنَّ الذين أتاك مِن هذا الجنون وهذا الكلام الذي تقوله, إنما هو أثر مِن آثار آلهتنا التي أصابتك بهذا الجنون الذي أنت فيه, فخوفوه بأنَّ دعوته هذه إنما هي ناتجة مِن صناعة هذه الآلهة به, وأنَّ هذه الآلهة هي التي جننته على هذا النحو وجعلته يهذي بهذا الكلام, فجعلوا هذا الكلام نوع مِن الهزيان, ونوع مِن الجنون, {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ........}[هود:54], فعند ذلك قال لهم رسولهم : {........قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[هود:54], مِن دونه, {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ}, أجعله شهيدًا عليَّ وعليكم, {وَاشْهَدُوا}, على كلامي هذا, وقولي هذا, {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}, مِن دونه, أنا برئ مِن كل هذه الآلهة التي عبدتموها وأشركتموها مع الله, جعلتموها أندادًا لله -تبارك وتعالى-في الصفة وفي العبادة, جعلتم لها العبادة والتقديس والمكانة, والحال أنه لا تقديس لهذه الآلهة المُدَّعَاة إنما الذي يستحق التقديس, ويستحق العبادة هو الرب الإله وحده -سبحانه وتعالى-, {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}, {مِنْ دُونِهِ},مِن دون الله -عزَّ وجلَّ-, {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}, أنتم يا أهل القوة والبطش والإجرام, {فَكِيدُونِي جَمِيعًا}, كيدوني أي اجهدوا في المكيدة والمكر بي والتآمر عليّ قتلي, أو إيصال الضر إليّ بكل أنواع المكيدة, والمكيدة هي محاولة إيصال الضر بالغير بطريق الخفاء, وتدبير الحِيَل, {........فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ}[هود:55], لا تمهلون, عندما يَقِرُّ أمركم وقراركم على أمر مِن إهلاكي وإنزال الضر بي, فلا تمهلون, عاجلوني بالذي قد اتفقتم عليه, {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ........}[هود:56], {تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ}, أسلمت أمري لله -تبارك وتعالى-, {رَبِّي}, إلهي ومولاي وسيدي, خالقي, {وَرَبِّكُمْ}, كذلك هو إلهكم, سيدكم, ربكم, أنتم في قبضته وتحت يده -سبحانه وتعالى-, {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}, كل دابة, دابة كل ما يدب, كل ما له دبيب على هذه الأرض مِن النملة إلى الفيل, إلى ما هو أكبر إلى ما هو أصغر, {إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}, الناصية مُقَدَّمُ الرأس, وفيها توجيه الإنسان, أين يتوجه؟ وأنَّ الله آخِذ بها, أنها لا تتوجه إلى أمر إلا بإرادته ومشيئته -سبحانه وتعالى- فما من دابة في الأرض واحد منكم, أي دابة في الأرض تتوجه توجهًا ما إلا والله -تبارك وتعالى- هو موجهها -سبحانه وتعالى-, {........إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[هود:56], { إِنَّ رَبِّي}, الله -سبحانه وتعالى-, {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}, فهو الرَّب, الإله -سبحانه وتعالى- الذي شرع لعباده الطريق القويم الموصلة إلى جنته ومرضاته -سبحانه وتعالى-, وأمره هو الأمر المستقيم, وهو الذي شرع الصراط المستقيم -سبحانه وتعالى- فكلامه كله, أخباره كلها صدق, وأحكامه كلها عدل -سبحانه وتعالى-, {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[هود:57], {فَإِنْ تَوَلَّوْا}, أي بعد هذه الدعوة التي أقام فيها الحُجَّة, وأظهر أعظم حُجَّة وهو أنهم لن يستطيعوا أنْ يصلوا إليه إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-, وأنه متوكل في هذا, وأنهم مع قوتهم وجبروتهم وبطشهم, ومع هو مجابتهم بما يكرهون وسبه آلهتهم فإنهم لن يستطيعوا أنْ ينالوا منه شيئًا؛ لأنه محفوظ بأمر الله -تبارك وتعالى-, وأنهم لن يتحركوا حركة نحوه إلا بأمر الله -تبارك وتعالى- ومشيئته, وأنَّ الله آخِذٌ بناصية كل دابة, {فَإِنْ تَوَلَّوْا}, عن هذا الأمر البَيِّن الواضح, {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُم}, أنا أديت المهمة, {أَبْلَغْتُكُمْ}, البلاغ هو إيصال الأمر, {مَا أُرْسِلْتُ بِهِ}, الذي أرسلني الله به -تبارك وتعالى-, {إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}, أي أنَّ الله يهلككم ويُنْشِئ أجيال أخرى, يُنْشِئ أُمَم أخرى تعبده -سبحانه وتعالى- وتقوم بأمره, {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي}, الخَلف أي يهلككم الله -تبارك وتعالى-, ويجعل خليفة أخرى مِن الناس غيركم, {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا}, {لا تَضُرُّونَهُ}, بالفقد والإزالة عن هذه الأرض, {وَلا تَضُرُّونَهُ}, بأنكم تستطيعون ضر الرب -تبارك وتعالى-, ما تستطيعوا ليس أمامكم حيلة أمام بطش الرب -تبارك وتعالى- بكم, {........وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}[هود:57], {إِنَّ رَبِّي}, إلهي ومولاي وسيدي وخالقي الذي أرسلني, {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ}, مما هو موجود مِن هذه المخلوقات, {حَفِيظٌ}, حافظٌ له, حافظ لأعماله أحصى لها, وحافظ عليه, على تصرفاته فلا يتصرف إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}, كذلك تهديد, وعيد, واضح, بَيِّن لهؤلاء القوم ولكن مَن كتب الله -تبارك وتعالى-عليهم العمى والكفر والهلاك, هم سائرون إلى حتفهم, لابد أنْ يسيروا إلى حتفهم ما دام أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أعمى بصائرهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[هود:58] , {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}, بهلاك هؤلاء المجرمين, {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}, فإنَّ الله -تبارك وتعالى-أمر هود وأهل الإيمان معه أنْ ينحازوا بعيدًا عن هؤلاء, فإنَّ الله مُهْلِكٌ هؤلاء -سبحانه وتعالى-, {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}, هذه رحمة الله -تبارك وتعالى- قد لحقت هود والذين آمنوا معه؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- كتب إنجاء المؤمنين, كما قال -تبارك وتعالى- : {........وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الروم:47], وأخبر -سبحانه وتعالى- قال أنه لابد أنْ ينجي الله -تبارك وتعالى- الذين آمنوا, وأنْ يهلك الكافرين -سبحانه وتعالى,- {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[هود:58], أكد الله هذا, وأنه نجاهم مِن عذاب غليظ, وكان هذا العذاب الغليظ وهو الفاحش في الشدة, وهو أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أرسل عليهم ريحًا عقيمًا جافة, مهلكة تسفي عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامًا حسومًا, تبدأ بصباح وتنتهي بمساء, ثمانية أيام وسبع ليالٍ, كما قال -تبارك وتعالى- : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا}, لما رأوا العذاب الذي استعجلوه, {عَارِضًا}, معترض, آتٍ لهم, {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}, ظن هؤلاء الهلكى والمغرورون, ظنوا أنَّ هذا عارض ممطر, العارض هو السحاب الذي يأتي, {مُمْطِرُنَا}, قال -جلَّ وعَلا- : {........بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}[الأحقاف:24], {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}[الأحقاف:25], قال -جلَّ وعَلا- : {........إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}[الذاريات:41], وقال : {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى ........}[الحاقة:7], الصريع هو المُلْقَى على وجهه أو على ظهره, {........كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7], {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ}, النخل الخاوي وهو القديم جعلهم الله هكذا, وكذلك أنَّ الريح جففتهم, جففت دماؤهم وألقتهم كلٌّ في مكانه, تدخل عليه لو هو في بطن جبل تدخل عليه الريح, {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}[هود:58], {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ ........ }[هود:59], {وَتِلْكَ}, بالإشارة إليهم بإشارة البعيد, {عَادٌ}, هذه القبيلة العربية, {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}, الجَحْد هو الحجب والمنع بعد العلم, أي علموا آيات الرب -تبارك وتعالى-ولكنهم جحدوها, والجحود الإنكار مع العِلْمِ فمع علمهم أنَّ هذه آيات الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ هذا رسول الله حقًا وصدقًا, والقيام بالأدلة أمامهم على هذا النحو, ولكنهم استنكافًا واستكبارًا لم يريدوا أنْ يسيروا في هذا الطريق, {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[هود:59], قال -جلَّ وعَلا-: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ}, وهم إنما الرسول الذي شاهدوه وعصوه إنما هو رسولٌ واحدٌ, وهو هود -عليه السلام-, لكن هود إنما هو فرد في مجموعة, مجموعة الرسل دعوتهم واحدة, فهو فرد يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- كسائر إخوانه مِن المرسلين, فتكذيبه تكذيب للكل تكذيب للرسل جميعًا, فَمَن كَذَّبَ رسولًا واحدًا مِن رسل الله -تبارك وتعالى-؛ فقد كَذَّبَ كل الرسل؛ لأنَّ هذه دعوة واحدة, {........وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[هود:59], انظر المفارقة البعيدة, تركوا دعوة الرسل الهادين, الداعين إلى الله -تبارك وتعالى- الذين هم على البينة وعلى الحق, {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}, الجبَّار القاسي, العاتي, العنيد المعاند الذي يرد الحق بعناد وإصرار عليه, وبقاء عليه, {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}, مِن الكفار المعاندين لدعوة الرسل, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً........}[هود:60], {أُتْبِعُوا }, بالبناء بما لم يُسَمَّ فاعله والذي أتبعهم هذه اللعنة هو الله -تبارك وتعالى- على ألسنة مَن جاء بعد هود مِن الرسل, ما مِن رسول جاء بعد هذا إلا وهو يلعن هؤلاء الكفار, يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- عليه هذه اللعنة, وإلى يومنا هذا نحن نعيش بعد هذه القبيلة عاد القبيلة التي أبادها الله -تبارك وتعالى-بعد هذا ونلعنهم, {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[هود:59], {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً........}[هود:60], فلا يُذْكَرُوا إلا واللعنة معهم, {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}, كذلك يُلْعَنُونَ مِن كل أحد, فالكافر يُلْعَن مِن كل أحد, لعنهم الله -تبارك وتعالى-بأنْ طردهم وأذاقهم عذابه, وتلعنهم الملائكة, ويلعنهم المؤمنون, ويلعنهم كل اللاعنين حتى مَن في النار يلعن بعضهم بعضًا, {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ........}[هود:60], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ}, {أَلا}, فاعلموا أيها الناس, {إِنَّ عَادًا}, القبيلة العربية هذه المشهورة, {كَفَرُوا رَبَّهُمْ}, كفروه, كفروا به -سبحانه وتعالى-, جحدوه والكفر هو الستر والتغطية, {........أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}[هود:60],  {أَلا}, أيضًا الإعلانية, الإخبارية, {بُعْدًا}, هلاكًا وسحقًا لهم, {لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}, {لِعَادٍ}, هذه القبيلة الذين هم, {قَوْمِ هُودٍ}, النبي الذي دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- هذه صورةٌ ثانية مِن صور هؤلاء الغابرين القصة واحدة, تتماثل تمامًا مع القصة السابقة نوح مع قومه, وهود مع قومه نَفْسِ الأمر, قوم مِن الكفار الضالين يُرْسِلُ الله -تبارك وتعالى- لهم رسول, يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- موضحًا دعوته بالأدلة الواضحات البينات ينقسم الناس إزائه, يسارع إليه فريق غالبًا ما يكون هذا الفريق الذي يسارع إليه مِن أهل الضعف والمسكنة, الكبراء والعظماء يردون هذا الأمر, يستهزئون بهذا الرسول, ينذرهم رسولهم, يحذرهم يستمرون في عنادهم؛ فيكون الشأن والعاقبة أنْ ينجي الله -تبارك وتعالى- الطائفة المؤمنة, الرسول والمؤمنين, ثم يهلك الله -تبارك وتعالى- الكافرين, هذه القصة والله -تبارك وتعالى- يُذَكِّرُ عباده -سبحانه وتعالى- بهذا, ثم يُذَكِّرُ الله -تبارك وتعالى- الذين أنزل الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن هذه مَصَارِع الغبارين قبلكم, انظروا ماذا كانت النتيجة, الكفار لُعِنُوا وتلاحقهم اللعنة, {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}[هود:60].

ثم بعد ذلك شرع الله -تبارك وتعالى-في بيان قصة أخرى فاصل آخر مِن هذا التاريخ النبوات نَفْسِ الأمر القصة واحدة ويتكرر, وهذه تكرر معها ثمود القبيلة العربية عاد كانت تسكن في جنوب الجزيرة في الأحقاف وثمود كانت في الحجر في مدائن صالح, الحجر بين الحجاز وبين نجد وديارهم معروفة للآن وآثارهم معروفة, يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}, أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا, {........قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61].

ونعيش -إنْ شاء الله- مع هذه الآيات, مع صالح ومع قومه ومع دعوته وماذا كان مِن شأنه, وهذا في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده وسوله محمد.