الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود:61], {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[هود:62], {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}[هود:63], {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}[هود:64], بعد أنْ قَصَّ الله -تبارك وتعالى- علينا ما كان مِن شأن عاد, هذه القبيلة العربية التي كانت تسكن في الأحقاف في جنوب الجزيرة, وما دعاها إليه نبيها هود -عليه السلام-, وما ردوا على دعوته, دعاهم إلى أنْ يعبدوا الله وحده لا شريك له, ذكرهم بالله -تبارك وتعالى-, ردوا عليه ذلك الرد السيئ, ثم ما كان مِن شأن الله -تبارك وتعالى -ومِن سُنَّتِهِ أنْ طوى صفحتهم وأهلكهم, وأنجى الله -تبارك وتعالى- نبيه هودًا والذين آمنوا معه, قصة تتكرر نَفْسِ الأمر تاريخ النبوات تاريخ واحد, فهذه صفحة جديدة مِن صفحات هؤلاء الأقوام, {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ}, قبيلة عربية كانت تسكن في الحِجْرِ أي أرسلنا إلى ثمود, {أَخَاهُمْ صَالِحًا}, أرسل الله -تبارك وتعالى- النبي صالح إلى قبيلته ثمود, قال نَفْسِ المقالة التي يقولها كل نبي إلى قومه :{يَا قَوْمِ}, هذا نداءكم على هذا النحو, وأنهم قومه جماعته ومنهم, وهذا لبيان قربه إليهم وحرصه عليهم ورحمته بهم؛ فإنه مِن القوم, {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, {اعْبُدُوا اللَّهَ}, صَلُّوا له, أطيعوه بكل أصناف العبادة والطاعة التي يحبها الله -تبارك وتعالى- مِن عباده, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, لا إله يُعْبَدُ على الحقيقة, يستحق العبادة إلا هو, فالله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى- وما سواه لا يمكن أنْ يكون إلهًا, لا يمكن أنْ يكون إلهًا حقًا؛ لأنه عبد مربوب لا يملك لِمَن يعبده نفعًا ولا ضر, ماذا يملك؟ ماذا تملك الملائكة؟ ماذا يملك البشر؟ ماذا تملك الشمس؟ ماذا يملك القمر لِمن يعبدها؟ لا تملك هذه الآلهة لِمن يعبدها نفعًا ولا ضرًا, أما الرب, الإله -سبحانه وتعالى- فهو الإله, الحق الله -سبحانه وتعالى- ملك السماوات والأرض ومالكها وخالق البشر, هو المتصرف فيهم, هو رازقهم, هو الذي بيده كل خير لهم, وكذلك بيده يضرهم -سبحانه وتعالى- فهو القاهر فوق عباده, ولا منافس له, ولا نِدَّ له, ولا شريك له, ولا ظهير له, فليس إلا الله -سبحانه وتعالي-, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, في كل الوجود, لا إله إلا الله -سبحانه وتعالى-, ثم تعريفهم بالرب : {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}, {هُوَ}, هذا الرَّب, الإله الذي يستحق العبادة, {أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}, والإنشاء مِن الأرض أنشأ أباهم آدم -عليه السلام- فإنه قد خلقه الله -تبارك وتعالى- مِن طين هذه الأرض, وكذلك الذرية تتناسل هي في النهاية إنشاء مِن هذه الأرض لأنَّ الإنسان يعيش على هذا النبات الذي يخرجه الله -تبارك وتعالى- مِن الأرض, وما يعيش على النبات مِن حيوان, والإنسان بهذا يتغذى وغذاؤه بعد ذلك يتحول إلى نُطَفٍ في الأصلاب, وبالتالي هو نشأ ونشأته كذلك مِن هذه الأرض, {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}, أعمركم إياها, جعلكم تعمرونها بالبناء, تعمرونها بالزرع, تعمرونها بهذا النسل, فعمارة الأرض هي إشغالها وإنتاج ما فيها وشغلها, {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ}, اطلبوا مغفرته -سبحانه وتعالى- لما سلف مِن معاصيكم, ومِن بُعْدِكُم عنه, ومِن كفركم ومِن شرككم, اطلبوا مغفرته -سبحانه وتعالى-, {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}, ارجعوا إليه -سبحانه وتعالى-, التوبة هي الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, أي التزموا طريقه, خذوا صراطه -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}, {إِنَّ رَبِّي}, الذي أرسلني إليكم, { قَرِيبٌ}, مِن عباده -سبحانه وتعالي-, {مُجِيبٌ}, لِمَن دعاه, وقرب الله -تبارك وتعالى- مِن عباده؛ لأنه لا يخفى عليه -سبحانه وتعالى -شيء مِن خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7], دعوة ناصعة, واضحة عليها الدليل والبرهان, وهي دعوة إلى الخير, كل الخير والبر, كل البر إلى الصلاح إلى التقوى وإلى الفوز كل الفوز برضوان هذا الرب, الإله, خالق هذه السماوات, خالقنا هو الذي أوجدنا في هذه الأرض, فهذا دعوةٌ كاملةٌ, لكن انظر ماذا كان الرد قال - جلَّ وعلا- : {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا........ }[هود:62], أسقطوا قيمته بالكلية, جعلوه بهذه الدعوة لا يساوي شيئًا, {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}, كنت عندنا شخص نرجو خيره, رجاحة عقل, نفع لقومه, قيادة, سياسة, فقد كانوا يرجون له مستقبلًا في قومه وخيرًا في قومه بعد أنْ أتيت بهذه الرسالة سقطت مِن عيننا, {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ}, ثم بَيَّنُوا سبب سقوط صالح مِن أعينهم, قالوا : {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}, انظر هذه الدعوة {أَتَنْهَانَا}, عن شيء أنْ نعبد هذه الآلهة التي كان يعبدها آباؤنا, وماذا في هذا مما يخالف العقل والمنطق, أرأيتم لوكان آباؤكم يعبدون ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يغني عنهم مِن الله شيئًا, وأنا قد جئت أدعوكم ببينة مِن ربي -سبحانه وتعالى-, وأدعوكم إلى الهداية إلى الله الذي لا إله إلا هو, هو خالقكم وبارئكم, وهو أنشأكم مِن هذه الأرض واستعمركم فيها, {........وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[هود:62], متشكك فيما تقول وهذا التشكك هذا على أي شيء مبني؟ لما بناه؟ على أي شيء بناه هذا؟ نحن متشككون في هذا الأمر, {........وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[هود:62], شك يريبنا في كل ما تقول, وما تدعونا إليه وهذا فيه كلام مُبَطَّن بأنه ربما يريد مِن وراء هذه الدعوة شيئًا لنفسه, {........وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[هود:62], {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}[هود:63], {قَالَ يَا قَوْمِ}, ناداهم أيضًا بهذا النداء القريب لهم : {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ}, أخبروني, {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}, أنا على بينة مِن ربي, البينة الأمر البَيِّن, الواضح الدليل, البرهان أني رسول الله حقًا وصدقًا, فقد أرسلني, آتاني وحي الله -تبارك وتعالى-, أنا رسول وأنا على هذه البينة, {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}, هذه النبوة, هذه الرسالة التي أعطاني إياها, اختصني واختارني مِن بينكم بأنْ يُرْسِلَ إليّ هذه الرسالة؛ لأدعوكم إليه -سبحانه وتعالى-, {وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}, إنْ كنت كما تقولون, كنت مرجوًا عندكم لِتُأَمِّرُونِي أو تجعلوني سيدكم ونحو ذلك مما كانوا يشاهدونه مِن رجاحة عقلة, مما كانوا يرجونه في القبيلة, قال : {فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}, مَن يستطيع منكم أنْ يؤيدني ويقف معي إنْ عصيت ربي, وتركت هذه البينة وهذه الرحمة, هذه الرسالة التي أرسلني إياها, وأصبحت معكم على الدين والعقيدة؟ وإنْ كنت مرجوًا عندكم, وسيكون لي شأن فيكم, {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}, لا تزيدونني بدعوتي أنْ أترك ما أنا عليه إلا الخسارة, {فَمَا تَزِيدُونَنِي}, بدعوتكم هذه, {غَيْرَ تَخْسِيرٍ}, {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً........}[هود:64], {وَيَا قَوْمِ}, تريدون آية, {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}, وذلك أنهم أرادوا آيةً مبصرة, قاهرة, فقال لهم : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ}, ناقة منسوبة إلى الله -تبارك وتعالى-, أوجدها الله -تبارك وتعالى- على غير مثال ما يوجد مِن النُّوقِ مِن النتاج, وإنما أخرجها الله -تبارك وتعالى- لهم مِن سَفْحِ الجبل, فإنهم قالوا لن نؤمن لك حتى تخرج لنا ناقة عُشَرَاء مِن سَفْحِ هذا الجبل فقال لهم : {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً}, دلالة واضحة على أني رسول الله, على أنَّ الله -تبارك وتعالى- هذا أمر مُعْجِز لا يقدر عليه إلا الخالق, الرب, الإله -سبحانه وتعالى-, {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}, اتركوا هذه الناقة, {تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ}, ترعى مما أنبته الله -تبارك وتعالى- مِن الكَلَأ والعُشْب في هذه الأرض, هي أرض الله التي خلقها -سبحانه وتعالى-, وإنَّ كان الناس يسمونها هذه أرضهم بَنِي فلان, وأرض بَنِي فلان لكنها أرض الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ}, يُحَذِّرُهُم هذا شيء منسوب إلى الله -تبارك وتعالى-, والعداون عليها هذا عدوان على الرَّب -جلَّ وعَلا-, {........وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}[هود:64], عند ذلك لابد أنْ يعاجلكم الله -تبارك وتعالى- بعذابٍ قريبٍ, قريب مِن هذا العدوان قال -جلَّ وعَلا- : {فَعَقَرُوهَا}, العقر القتل, وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قام لها رجل أشقى ثمود, شقي, رجل عَالِم, قوي, منيعٌ في قومه, رجل مِن الذين لهم مَنَعَة وقوة في قومه في ثمود, مِن الأبناء والإخوة والعصبة القوية, ولا يهتم أنْ يفعل مثل هذا الأمر في ظنه فقام إليها وعقرها, قال -جلَّ وعَلا : {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ........}[هود:65], المهلة التي جعلها الله -تبارك وتعالى- لاستئصالكم وهلاككم ثلاثة أيام, {........فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ}[هود:65], {ذَلِكَ وَعْدٌ}, مِن الله -تبارك وتعالى-, {غَيْرُ مَكْذُوبٍ}, لا يخلفه الله -عزَّ وجلَّ-, فإنه قد حُمَّ القضاء, وقد صدر الأمر الإلهي -سبحانه وتعالى- بإهلاككم بعد ثلاثة أيام مهلة فقط لكم تعيشون فيها في داركم قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}, أي بإهلاك هؤلاء المجرمين, {نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ}, أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- صالح والقلة التي آمن معه أن تخرج مِن هذه القرية وتجاوز المكان قال -جلَّ وعَلا- : {بِرَحْمَةٍ مِنَّا}, رحمة نالت هؤلاء المؤمنين الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم فأخرجهم, {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ........}[هود:66], أنجاهم الله -تبارك وتعالى- مِن الخزي في هذا اليوم, {يَوْمِئِذٍ}, هذا اليوم, يوم العذاب هذا, وخزي ذلك أنه يخزى أولًا بأنه كان شاكًا, متكبرًا, بَطِرًا, معتديًا على حرمات الله -سبحانه وتعالى -وهو يظن أنه هو القوي, القاهر فلما يأتيه العذاب على هذا النحو؛ فيخزى, يصير حقير, صغير, مهان, فالخزي الذي نال هؤلاء القوم انظر إلى العنجهية والقوة والاستكبار, ثم انظر كيف إذا سَقَطَ عليهم عذاب الله -تبارك وتعالى-, {........وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}[هود:66], {إِنَّ رَبَّكَ}, يا محمد, الذي يُخْبِرُ بهذه الأخبار, {هُوَ الْقَوِيُّ}, الذي لا يوجد في الوجود مَن هو أقوى منه -سبحانه وتعالى-, فهو خالق القوة, والقوة لله -سبحانه وتعالى- جميعًا, وكل مَن له قوة فإنما مِن عطائه ومِن خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى- فالقوة كلها لله, {هُوَ الْقَوِيُّ}, على كل خَلْقِهِ, أقوى مِن كل خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {الْعَزِيزُ}, الغالب الذي لا يغلبه أحد, لا يغلب الله -تبارك وتعالى- أحد, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ........}[هود:67], صيحة مَلَك أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم ملك صرخ فيهم, الصيحة الصرخة, صاح فيهم صحيةً واحدةً بصوته, فكان أنْ صعقتهم جميعًا, الملائكة مِن نور خَلَقَهُم الله مِن نور وهو خَلْقٌ شديد, صيحة واحدة, صرخة واحدة, كأنها تفجير نار, كأنه صعق بهذا الضوء بالكهرباء, {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود:67] , {فَأَصْبَحُوا}, صبحهم كان هذا الأمر ليلًا, {فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}, الجاثم هو الواقع والباقي على حاله, جسم مُلْقَى لا حراك فيه ولا حياة فيه, {جَاثِمِينَ}, ساقطين, باقين على هذه الأرض, قال -جلَّ وعَلا- : {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا}, الغنى بالمكان؛ شغله وملأه, {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا........}[هود:68], كأن لم يشغلوا هذا المكان بحياتهم وأولادهم ودوابهم وحركتهم هذا الغَنَاء, كأنْ يقول غَنَى المكان غَنَى بمعنى أنه امتلأ بما يمتلأ فيه مِن الحركة ومِن الحياة, فهؤلاء عندما صاح فيهم هذه الصيحة فأصبحت أرضهم سكون, وكأنهم لم يكن فيها قبل أحد, كل الحركة, كل العمل, كل البناء, كل الزراعة, كل هذا كأنه لم يكن فيها شيء, {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ........}[هود:68], {أَلا}, اعلموا أيها الناس, {إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ}, إخبارٌ مِن الله -تبارك وتعالى- وتأكيد بأنَّ ثمود هذه القبيلة, العربية, البائدة, {كَفَرُوا رَبَّهُمْ}, كفروا بربهم -سبحانه وتعالى-, {أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ}, هلاكًا لهم وسحقًا لهم يستحقون, أي أنهم جديرون بما عاقبهم الله -تبارك وتعالى- به؛ فإنَّ رَفْض رسالة الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو, والرد على هذا النحو, ومقابلة الآية الناصعة, الواضحة بهذا التكذيب, ثم العدوان على ما يُنْسَبُ إلى الله -تبارك وتعالى-, انظر سوء أخلاقهم الله -تبارك وتعالى- أرسل لهم آية في نفسها, ثم إنها رحمة كذلك ليس آية فقط كبرهان للرسول وتنتهي, كعصا موسى التي تصير حية, ثم يأخذها فتصير عصا, هذه لا ينتفع بها الناس إلا بالآية أنها آية برهان, أما أنْ يأتيك الله بناقة لا تتعب في إطعامها ولا في سقايتها, ثم بعد ذلك تحلب منها القبيلة كلها, تراها فالإبل جمال ورِقَّة ورحمة, ثم إنها نفع عظيم, كانت القبيلة كلها تشرب مِن لبنها, فالله أعطاكم آية في هذه الرحمة, ثم بعد ذلك يكون مقابل يكون لذلك بالعقر والقول نحن أقوى الناس ونحن كذا, ونحن نتحدى الإله, الرب -سبحانه وتعالى-, {........ أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ}[هود:68], هلاكًا لهم, وسحقًا لهم, انتهت صفحتهم.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى -يُبَيِّنُ لنا صفحةً جديدةً مِن صفحات هذه التاريخ للنبوات, وهي صفحة لوط وقومه, ولكن الملائكة الذين جاءوا لإهلاك قرى لوط سَدُوم وعَمُوَرة مروا على نبي الله -تبارك وتعالى- إبراهيم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى........}[هود:69], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ رسل الله -تبارك وتعالى- وهم جبريل وإسرافيل وميكائيل قيل هؤلاء الملائكة الثلاثة, ملائكة ثلاثة أرسلهم الله -تبارك وتعالى- على رأسهم جبريل –عليه السلام-, جاءوا إلى إبراهيم نبي الله, رسول الله, خليل الله وكان هذا في بلاد الشام في الخليل, مروا عليه يبشرونه, {بِالْبُشْرَى}, أنه يولد له غلام مِن زوجته سارة-عليها السلام-, بعد أنْ وُلِدَ له غلام قبل هذا, غلامه البِكْر وهو إسماعيل وُلِدَ له مِن زوجته المصرية هاجر, فهذه جاءت بشرى جديدة أرسله الله -تبارك وتعالى- لعبده إبراهيم عن طريق هؤلاء الملائكة, {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا ........}[هود:69] سلموا عليه تسليمًا, {قَالَ سَلامٌ}, أي سلامٌ عليكم, فرد عليهم, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[هود:69], وذلك أنهم أتوه في صورة بشر, شباب ولم يكن يعلم بأمرهم, وهذا فيه دليل على أنَّ رسل الله لا يعلمون الغيب, فإنه لم يعلم حقيقة هؤلاء, وظنه أنهم غرباء عن المكان ومارون, وجاءوا عليه يسلموا عليه كأنهم أضياف نزلوا به, فعند ذلك بدأ لهم بالسلام ثم : {فَمَا لَبِثَ}, أنه لم يمكث وقتًا طويلًا حتى {جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}, وهذا مِن كرمه العظيم, وعنايته بالضيف بهذه العناية, فإنَّ الله يقول : {........فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ}[هود:69], وفي الآية الأخرى : {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ}[الذاريات:26], فكأنه وقت قصير جدًا وإلا كان الطعام مهيئ لهم بهذا, بأطيب ما يمكن أنْ يوجد مِن الطعام في هذا المكان العجل, وهو الجذع الصغير مِن ولد البقر, {حَنِيذٍ}, أنه مشوي على الرضف وهذا قمة الإنضاج والتجهيز لهذا الطعام قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ........}[هود:70], لما وضعه ووجد أنهم يتظاهرون بالأكل دون أنْ يأكلوا, وأنَّ أيديهم لا تصل إلى الطعام حتى تقطع منه وتأكل, وإنما يتظاهرون كأنهم يُظْهِرُونَ أنهم يأكلون ولا يأكلون, {نَكِرَهُمْ}, خاف منهم, {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}, يقول الله -تبارك وتعالى- : {نَكِرَهُمْ}, استنكر فعلتهم هذه, {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}, خاف منهم وذلك أنَّ الضيف امتنع عن طعام المضيف فإنه يورثه الريبة, عند ذلك كشفوا له عن حقيقتهم, {........قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}[هود:70], ما تخاف منا فلسنا بشرًا, وإنما نحن ملائكة, وقد أُرْسِلْنَا أي أرسلنا الله -تبارك وتعالى-, {إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}, أي لإهلاكهم, ولوط هو نبي ابن أخي إبراهيم -عليه السلام-, وقد أرسله الله, هاجر مع ابراهيم مِن أُورالكلدانيين في العراق هاجروا إلى بلاد الشام, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى - أرسل لوطًا إلى وادي الأردن؛ ليدعو قومها إلى التوحيد, {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}, أي الذين ذهب إليهم لوط يدعوهم إلى يعني عبادة الرَّب -تبارك وتعالى-, وكانوا قوم سوء انتشرت فيهم فاحشة لم تنتشر في أحد مِن الأُمَم قبلهم وهي إتيان الذكور مِن العالمين, والله يقول : {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[هود:71], {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ}, كانت قائمة خلف ظهره بينهم سِتْر, فضحكت عندما جاءت هذه الرسل تُبَشِّرُ إبراهيم بما بشرته به, {فَضَحِكَتْ}, تعجًبا مِن هذا الأمر وهي أنها كانت في الأمر كان ابراهيم قد جاوز الثمانين مِن عمره وأصبح رجلًا شيخًا كبيرًا, وامراته كذلك سارة قد شاخت وكبرت, هالها هذا الأمر وضحكت مِن هذا الأمر, قال -جلَّ وعَلا- {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ}, بشرها الملائكة بأنه سيولد لزوجها منها إسحاق, {وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}, وأنَّ إسحاق هذا إنما سيكون عبدًا, نبيًا, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- سيرزقه كذلك غلام صالح يكون نبيًا كذلك وهو يعقوب -عليه السلام-, عند ذلك قالت سارة -عليها السلام- : {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}[هود:72], {يَا وَيْلَتَا}, ويلتاه تَفَجُّع وتُعَجُّب مِن هذا الأمر, صرخت بهذا تعجبًا مِن هذا الأمر, {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ}, مستغربة هذا الأمر, والعجوز هي التي طعنت في السِّن, كبرت في السِّن ولا تقال عجوزة؛ لأنَّ عجوز خاص بالنساء, والوصف الخاص بالنساء لا تلحقه تاء التأنيث, {........ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}[هود:72], وهذا زوجي قد أصبح شيخًا كبيرًا, {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}, إنَّ هذا الذي تبشرني به الملائكة, قالوا : {لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}, أمر متعجب منه مستغرب, فردوا عليها الملائكة قالوا : {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}[هود:73], قالوا لها مجيبين : {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}, في أمر الله عجب فإنَّ أمر الله -تبارك وتعالى- لا يتعجب منه, فإنَّ الله يخلق ما يشاء, مما يشاء, كيف يشاء, لا حاجز يحجز إرادة الرَّب -تبارك وتعالى-, {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ........}[هود:73], اعلموا أنَّ رحمة الله وبركاته رحمته بمثل هذا, بإعطاء الولد في غير وقته بما آتاهم الله -تبارك وتعالى- مِن النبوة والرسالة مِن هؤلاء الأولاد الذين يكونون أولياء, {وَبَرَكَاتُهُ}, زيادته ونماؤه, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد بارك لإبراهيم بركة عظيمة جدًا, فإنَّ كل الأنبياء مِن بعده إنما كانوا مِن نسله, مِن نسل إسحاق ومِن نسل إسماعيل, إسماعيل بِكْرُهُ واسحق بعده, {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْت}, أي يا أهل هذا البيت إبراهيم وزوجه, {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ}, {إِنَّهُ}, الرَّب -سبحانه وتعالى -, {حَمِيدٌ}, محمود -سبحانه وتعالى-, محمود, حميد هنا مِن اسم المفعول أنه محمود -سبحانه وتعالى- بكل لسان, محمود بلسان المقال وبلسان الحال تحمده كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-, يحمده الحامدون, {مَجِيدٌ}, ممجد مِن المجد والعزة والعظمة -سبحانه وتعالى-.
نقف عند هذا -إنْ شاء الله- ونكمل في الحلقة الآتية, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله محمد.