الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
يقول الله -تبارك وتعالى- : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[هود:74], {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75], {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[هود:76], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ إبراهيم والذي أتته ملائكة الرَّب -سبحانه وتعالى- فمروا عليه وهو في الخليل, في بلاد الشام, وهم في طريقهم إلى إهلاك قُرَى لوط في وادي الأردن, بَشَّرُوهُ بأنَّ الله -تبارك وتعالى- سيرزقه غلامًا عليمًا مِن زوجته سارة, والتي كانت عقيمًا بالأصل, ولم تنجب له, أول مَن أنجب له زوجته هاجر التي أهداها له مَلِكُ مصر, أهداها لزوجته سارة, ثم إنَّ سارة أهدتها لإبراهيم -عليه السلام- فولد له منها ابنه البِكْر إسماعيل -عليه السلام-, أبو العرب جميعًا قحطانيين وعدنانيين, ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- أراد أنْ يَمُنَّ على إبراهيم في شيخوخته وكبره, فرزقه الله -تبارك وتعالى- بولد مِن زوجته سارة وهو إسحاق, فبعد أنْ بشروه بهذا, وبشروا زوجته, وأخبروه بعد ذلك عن وجهتهم وأنَّ وجهتهم إنما قالوا : {........إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ}[هود:70], يقول -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ}, {الرَّوْعُ}, وهو الخوف وذلك أنهم أراعوه عندما قَدَّمَ لهم الطعام فلم يأكلوه, {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}, لما ذهب عنه الروع الذي كان مِن الملائكة, وكذلك الروع بهذه البشرى التي جاءت كذلك على غير انتظار؛ فإنه أصبح رجلًا كبيرًا, وزوجته كبرت وشاخت, قالت : {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}[هود:72], {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى........}[هود:74], بأنَّ هذا أمرُ متحقق ولابد, وأنه سيولد له وهذه بشرى عظيمة, فيأتيه ولد وهذا الولد سيكون نبيًا, وأنه مِن ورائه كذلك نبي آخر منه وهو يعقوب, {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}[هود:71], جاء إبراهيم بعد أنْ ارتاح لهذا بدأ يجادل الملائكة في وجهتهم, ويطلب منهم أنْ يُمْهِلُوا هؤلاء القوم لعلهم يتوبون, ولعلهم يرجعون, وأنْ يرجعوا عن إهلاكهم, قال -جلَّ وعَلا- : {........يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[هود:74], وجداله إنما كان للملائكة يقولوا : لا نحن أُرْسِلْنَا بهذا, يقول لهم : هلا انتظرتم, {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}[العنكبوت:32], فأصبح يوجد نقاش, الملائكة تقول شيئًا, وهو يرد عليهم استعطافًا وانتظارًا, والله -تبارك وتعالى- أخبر أنَّ هذا الجدال لله -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّ الرسل إنما قائمون, مُنَفِّذُونَ لأمر الله -تبارك وتعالى-, فقال -جلَّ وعلَا- : {........يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}[هود:74].
ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى-, الله يُبَيِّن وكأنه -سبحانه وتعالى- يعتذر لإبراهيم عن فعله هذا, وعن مجادلته للملائكة في قوم لوط, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ}, -عليه السلام- والحِلْم هو سعة الصدر, وعدم مقابلة الإساءة بإساءة عاجلة, وإنما إعطاء المسيء الفسحة, {لَحَلِيمٌ}, فيه هذه الصفة مِن الحلم؛ ولذلك لم يغضب على قومه قط, ولم يدعو عليهم قط بل قال : {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36], فلم يستعجل لقومه, ولم يطلب لأحد عذابًا, بل ترك الأمر لله -سبحانه وتعالى-, ولم يُرِد أنْ يُنْزِلَ الله -تبارك وتعالى-عقوبته بالظالمين والمجرمين, {لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ}, مِن التَّأَوُه, كثرة التأوه وهي الخوف مِن الله -تبارك وتعالى-, والإنابة إليه, وكثرة التأوه هو الخوف والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, {مُنِيبٌ}, رَجَّاعٌ إلى الله -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[هود:75], هذا وصف عظيم لهذا العبد الصالح -عليه السلام-, فقال له الملائكة : {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[هود:76], وحيٌ مِن الله -تبارك وتعالى- للملائكة أنْ يقولوا هذا القول لإبراهيم : {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا.......}[هود:76], عن هذا الاستشفاع والاستعطاف لهؤلاء المجرمين, {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}, {إِنَّهُ}, الأمر والحال والشأن, {جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}, بهلاكهم, والله -تبارك وتعالى- لا يُرَدُّ أمره, {إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}, صَدَرَ الأمر الإلهي, وقد جاء الأمر الإلهي بإهلاكهم في وقت محدد, الله لا يتراجع عن أمرٍ, وعن حُكْمٍ حَكَمَ به -سبحانه وتعالى-, {وَإِنَّهُمْ}, أي هؤلاء المجرمين, {........آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}[هود:76], سيأتيهم عذاب غير مردود, لا يستطيع أحدٌ أنْ يرد العذاب عنهم بأي حال مِن أحوال الظن أنه يُرَدّ, إذن حُمَّ القضاء خرج الملائكة الذين أتوا إبراهيم بهذه البشرى, وهم في طريقهم, وذهبوا إلى وجهتهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ........ }[هود:77], لما وصلت رسل الله -تبارك وتعالى-, هؤلاء الملائكة الثلاثة إلى لوط, {سِيءَ بِهِمْ}, ساءه مرآهم ومنظرهم إساءة عظيمة جدًا, فقد جاءوه كذلك في صورة شباب جميل, وهم أغراب ما هم معروفون في هذه القرى, وهؤلاء مجرمون يقطعون الطريق, وإذا نزل بأرضهم, ومَرَّ بديارهم رجل غريب وعلى هذا النحو, فإنهم يعتبرون هذا صيدًا ثمينًا, فلما رآهم لوط على هذا النحو, {سِيءَ بِهِمْ}, علم أنَّ قومه مجرمين لم يتركوهم, {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا........}[هود:77], {وَضَاقَ}, مِن ضيق الصدر بهم بهؤلاء, {ذَرْعًا}, الذرع أصل الذرع هو القياس, والإنسان ممكن يقيس بيده, ممكن يقيس بِرِجْلِهِ, فالذرع بدأ عندما نزلوا به سألوا عنه كَرَجُل يضيفهم, فنزلوا عليه, {وَضَاقَ بِهِمْ}, أنَّ قومه لم يتركوهم, وأصبحوا في ضيافته, فصار داخلًا وخارجًا يزرع لمكان مشيًا هنا ومشيًا هنا, كحال المتضايق الذي جاءه هَمٌّ وكرب لا يعرف كيف يصرفه, عنه هذا مِن أعظم الأدلة على أنَّ الرسل رسل الله لا يعلمون الغيب, فإنَّ هؤلاء الملائكة قد جاءوا بإنقاذه وجاءوا بالبشرى له, بشرى لأنْ ينقذه الله -تبارك وتعالى- مِن هؤلاء القوم المجرمين, وجاءوا بهلاك الظالمين, وهذا ما يريده لوط ويتمناه, لكنه لم يكن يعلم هذا بل ضاق ذرعًا, وضاق بمرأى هؤلاء الملائكة, {وَقَالَ}, أي في نَفْسِهِ : {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}, هذا اليوم الذي فيه, {يَوْمٌ عَصِيبٌ}, أي شديد, وقيل أنَّ كلمة عصيب مأخوذ مِن العَصْبِ كالعمامة مثلًا, {يَوْمٌ عَصِيبٌ}, فاليوم الذي يكون فيه شدة, يقول : الناس يعصبون على رؤوسهم عصابة وعمامة استعدادا ليوم الشدة فقال : {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}, كأنه يوم يحمل مِن فيه على أنْ يعصب رأسه, أو يعصب وسطه؛ ليخوض غمار حربٍ, وغمار شدةٍ شديدة, قال : {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}, {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ........}[هود:78], لما تسامع هؤلاء القوم المجرمون بهؤلاء الأضياف, الكرام الذين نزلوا بلوط, وظن هؤلاء الحمقى, المغفلون أنهم أهل طريق ماشيين؛ أتوا مِن كل حدب وصوب, {يُهْرَعُونَ}, الله يقول : {يُهْرَعُونَ}, يسعون وَيْجُرونَ نحو صيد ثمين في ظنهم, يهرعون إلى لوط, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}, أعوذ بالله -عياذا بالله- مِن العمى والضلال, فقاموا مِن معاصيهم وفجورهم ركضًا إلى معصيةٍ أخرى, وجريمة جديدة, {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}, الأعمال الخبيثة, وعملهم الخبيث هذا هو قطعهم الطريق, وهو إيذاؤهم مَن يمر بهم والعدوان عليهم, وإتيان الذكور مِن العالمين, وأمرٌ قد سَرَىَ فيهم وفَحُشَ حتى أنهم يفعلون هذا في أنديتهم أمام بعضهم بعضًا لا يستنكرون, {قَالَ}, أي لوط لهم : {........ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[هود:78], {هَؤُلاءِ بَنَاتِي}, قال أهل العلم أزوجكم إياهم, إذا أردتم نيل الوَطَر فهذا الطريق الصحيح, البنات الذين خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- النساء لكم, للمتعة وللزواج, وليس لهذا الطريق النجس, الحقير الذي تتخذونه أو {هَؤُلاءِ بَنَاتِي}, بنات هذه الأمة, النبي في مقام الأب بالنسبة لأُمَّتِهِ, فتزوجوا النساء هذا خير لكم مِن هذا الطريق العَفِن الذي تسيرون فيه, {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ........}[هود:78], فإنَّ الزواج بالنساء طُهْر ونظافة, وأما إتيان الذكور إنما هو خسة ونَزَالَة وقذارة وخروج عن الفطرة التي فطر الله -تبارك وتعالى- الناس عليها, {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ}, خافوا الله -تبارك وتعالى-, {وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}, بعدوانكم عليهم فإنَّ هذا خزي لي أنْ تستباح حُرْمة أضيافي وهم نازلون في بيتي, {........أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[هود:78], كلمة عظيمة جدًا مِن لوط -عليه السلام-, {رَشِيدٌ}, لا يوجد رجل{رَشِيدٌ}, ذو عقل يستطيع أنْ أكلمه في هذه الأمة كلها في هذه القرى بأكملها ما في رَجُل واحد يقف معي, يدفع عني يمكن أنْ يخاطب بالعقل والمنطق, {........أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[هود:78], فيه رشد, وهذا يدل على الحال التي كان فيها لوط, والكرب الذي كان فيه, فإنه لم يكن هناك رجلٌ قَطّ في هذه القرى كلها إلا هو ,هذا هو الرجل الرشيد الوحيد في كل هذا نبي الله -تبارك وتعالى- لوط, ولم يكن في هذه القرى بأكملها العامرة بالناس والمليئة والأردن بواديها رجل واحد يؤمن بالله -تبارك وتعالى- يستنكر هذه المعصية النجسة, {........أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}[هود:78], فانظر مقالتهم وردهم : {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ........}[هود:79], {قَالُوا}, لرسولهم, {لَقَدْ عَلِمْتَ}, إنك تعلم, {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ}, أي إننا لا نريد هذا الطريق وليس لنا في بناتك مِن حقٍ أنْ نأخذهن, أنْ نغتصبهن فإنهن كن يرون أنه أنه لا يعتدي المرأة, وإنما العدوان الذي يستبيحونه هو العدوان على الذكور, {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ......... }[هود:79], ليس لنا في بناتك حق, {........وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ}[هود:79], أنت تعلم الذي نريد كأنه هنا وهو الأخساس الأنجاس عن فعلتهم النكراء ما ذكروها باللفظ, وإنما قالوا أنت تعرف الذي نريده, والذي يريدونه إنما هم الذكور وليس الإناث, رجع لوط -صلى الله عليه وسلم- إلى ربه -جلَّ وعَلا- رجع يتفجع, {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً........}[هود:80], عاد بهذا الكلام إلى أضيافه, وهو في حال مِن اليأس والقنوط والشعور بأنه ليس معه قوة يستطيع أنْ يدفع عن أضيافه, ليس هناك عصبة له, ولوط ليس مِن هذه الأمة, وليس من هذه القبيلة إنما هو رجل مِن أور الكلدانين مِن العراق, وإنما جاء غريبًا إلى هنا, وأرسله الله -تبارك وتعالى- إليهم يدعوهم, فليست له عصبة, وليس له قوة, وليس له مَنَعَة, ولم يؤمن معه أحد مِن الرجال, فبدأ يُظْهِرُ أضيافه حاله مِن الضعف والمسكنة في هؤلاء القوم, فقال : {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً........}[هود:80], تمنى أنْ يكون له قوة مِن رجال يحمونه, {........أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80], أو أنْ أستطيع أنْ آوي بكم, {إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}, بيت قوي, يمنع هذا الشيء, قصر يمكن أنْ يُقْفَلَ عليه, أي حماية تحميه, يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : «رحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ», ركن الرب -سبحانه وتعالى-, ركن الله الذي لا يُضَام حماه -سبحانه وتعالى-؛ عند ذلك لما وصل الحال إلى هذا الأمر, وبَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- خسة ونجاسة هؤلاء المجرمون وأنهم لا عقل يردعهم, ولا خُلُق ولا شيمة تردعهم عن فعلهم الخبيث, وهم في سكرتهم يعمهون, كما قال تبارك وتعالى- : {........إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الحجر:72], كأنهم سكارى, عمي يسيرون إلى هذا الأمر, فبَيَّنَ الله الخسة على هذا النحو, وأنهم بعدوانهم على هذا لا يرعوا ذِمَّةً ولا عهد ولا جوار, ولم ينظروا إلى هذا الرسول؛ رسول الله -تبارك وتعالى- أنْ يهينوه ويهينوا أضيافه على هذا النحو, وأنْ ينتهكوا حرمته على هذا النحو, عند ذلك لما وصل الحال إلى هذا, {قَالُوا يَا لُوطُ}, أي الملائكة نادته :{إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}, لما رجع إليهم واعتذر لههم ليس لي منعة, {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80], {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ........}[هود:81], عند ذلك كشفوا له عن أنفسهم, فقالوا : { إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ}, ما قالوا رسل الله قالوا : {رُسُلُ رَبِّكَ}, ليبينوا أنَّ الرب, الإله -سبحانه وتعالى- هو قريب مِن عبده لوط -عليه السلام-, ربك هو الذي أرسلنا, {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}, {لَنْ}, التي تنفي الفعل كله مستقبلًا, {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}, بهذا ولبثوا لا يستطيعوا أنْ يدوسوا على طرفك, {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}, أسرِ السرى هو الذهاب ليلًا, {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ}, عندما يدخل الليل المظلم, وبعد ثلث الليل أسرِ, {بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}, إلى الوراء؛ وذلك أنَّ العذاب سينزل عليهم فيأخذ بصرهم, فاذهب ولا تلفت للخلف, {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}, لا تأخذها كافرة؛ كانت تعين هؤلاء وهي على دين قومها, وتعين كذلك قومها, قيل إنها كانت تدل قومها عندما ينزل بلوط مِثْلُ هؤلاء الأضياف وفي طريقهم يحميهم كانت تدل قومها تقول لهم يوجد صيد اليوم, فكانت فاجرة, كما الله -تبارك وتعالى- : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10], {إِلَّا امْرَأَتَكَ}, أي لا تصتحبها, {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}, {إِنَّهُ مُصِيبُهَا}, أي مِن العذاب, {مَا أَصَابَهُمْ}, ما أصاب قومها, {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}, جاء أمر الله -تبارك وتعالى-, وموعد إهلاكهم هو الصبح, {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}, لاشك أنه قريب, هذا الكلام يكلمونه ليلًا فموعدهم الصبح, وكان مكان لوط يستعجل أنْ ينزل عليهم العذاب قبل هذا, فقد كانوا يدوكون, يسعون بكل سبيل إلى هذا فقال له : {........إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}[هود:81], الصبح قريب جدًا.
قال جلَّ وعَلا : {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}, أي بالهلاك افعل أمر الله -تبارك وتعالى- للملائكة بأنْ يأتوه, قال -جلَّ وعَلا- : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}, عالي هذه القُرَى وهي سقوف بنيانهم وأدوارهم العليا, جعلها الله سافلة, وقد أنَّ جاء جبريل -عليه السلام- أتى هذه القرى فحملها, ضربها طرف جناحه تحت هذه القرى, ثم حملها ثم أفكها على رؤوس أصحابها, قال -جلَّ وعَلا- : {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا}, قمم الأشجار, وقمم بيوتهم جعلها الله -تبارك وتعالى- تحت ذلك, {........ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ}[هود:82], أمطر الله -تبارك وتعالى- حجارة تلحق كل شخص, {مِنْ سِجِّيلٍ}, مُسَجَّل كل واحد باسم, كل مجرم منهم بحجر عليه اسمه, {مَنْضُودٍ}, منتضدة, أي كأنها كَطَلَقَات منتضدة بعضها وراء بعض فتأتي كل إنسان تقتله قتلًا, {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}, مُعَلَّمَة, كل واحد له حَجَر مُعَلَّم له خاص, {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ}, وقول الله -تبارك وتعالى- لرسوله هنا : {عِنْدَ رَبِّكَ}, أي يا محمد, انظر الرب, الإله -سبحانه وتعالى- وفي هذا تثبيت لقلب النبي, وتقوية للروح له, وإعلامه أنَّ ربه -سبحانه وتعالى- قادرٌ على عباده, {........وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود:83], واعلم أنَّ هذه الحجارة ليست مِن الظالمين مِن أمة محمد, {بِبَعِيدٍ}, ليست بعيدة سَيُحْتَاجُ وقت طويل حتى تأتي إذا صدر الأمر الإلهي ولو في التو واللحظة, جاءت هذه الأحجار لتهلك مَن أُرْسِلَت له, {........وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هود:83], وطوى الله -تبارك وتعالى- صفحة مِن صفحات هذه الكتاب, طويت أمة ظالمة مجرمة مِن هذه الأُمم المجرمة بعد أنْ أنجى الله -تبارك وتعالى-أهل الإيمان, ولم يكن في قُرَى لوط إلا لوط وابنته فقط, كما قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الذاريات:35], {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}[الذاريات:36], بيت واحد وهو لوط -عليه السلام- وابنتاه, وأما زوجته فإنها كانت مِن الغابرين, هلكت مع الهالكين.
ثم شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- في بيان صفحة جديدة أُمَّة جديدة مِن الأمم تكفر بالله -تبارك وتعالى-, ويكون مصيرها مصير الكفرة منهم مصير أولئك, قال -جلَّ وعلا- : {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا........}[هود:84], أي أرسلنا إلى مَدْيَن, ومَدْيَن في بادية الأردن, جنوب الأردن وديان وهي معروفة ليومنا, قراهم معروفهم, {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}, أرسل الله -تبارك وتعالى- لهم {أَخَاهُمْ}, مِن القبيلة, {شُعَيْبًا}, النبي الصالح -عليه السلام-, {قَالَ}, أي شعيب, {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, نَفْس الدعوة؛ دعوة كل رسول هي دعوة واضحة, {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, ربكم الذي يستحق العبادة -سبحانه وتعالى-, {اعْبُدُوا اللَّهَ}, الله المعلوم عند كل الخَلْق رب السموات والأرض -سبحانه وتعالى-, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}, لا إله لكم غير الله, كل إله غير الله -تبارك وتعالى- فإلهٌ باطل, سماه الناس إلهًا وليس بإله, لا يستحق الألوهية إلا الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه الخالق وحده, والرازق وحده, والمدبر وحده, ومَلِكُ السموات والأرض, لا كفء له, لا منافس له, لا ظهير له, ما له شريك -سبحانه وتعالى- في شيء مِن ملكه, ولا في شيء مِن أمره, ما لكم مِن إله غيره, {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}, ناداهم بعد عبادة الله وحده لا شريك له, يأمرهم بالعدل وينهاهم عن هذا الظلم, وهو ما انتشر فيهم مِن نقص المكيال والميزان, كان الناس أقوام أهل ظلم وخسة, قال : {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}, عندما تكيلون وتزنون لغيركم لا تنقصوه, {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}, الحمد لله خير الدنيا موجود بكثرة ما تحتاجون إلى هذا التطريف والسرقة مِمَن تبيعونه, {........إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}[هود:84], يحيط بكم مِن كل مكان ويهلككم جميعًا, أنا أخاف عليكم هذا, وهذا الخوف خوف عقوبة الرب -تبارك وتعالى- مع التكذيب, وهذا كل نبي لا شك أنه قد أُرْسِلَ نذيرًا, أي يخاف علي قومه الهلاك والعذاب, {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود:85], بعد أنْ نهاهم عن الظلم أمرهم بالإحسان والعدل, قال : {وَيَا قَوْمِ}, ناداهم كذلك بهذا الاسم القريب يحببهم, {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}, لِمَن تكيلوا له وتزنوا له أوفوه, أعطوه وافيًا كاملًا, {بِالْقِسْطِ}, بالعدل, اعدلوا القسط هو العدل, {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}, البخس هو النقص, لا تنقصوا أشياء الناس منها البخس ممكن في السوق يأتي الشيء يساوي عشرة فيقول لا اشتريه بواحد فيبخسه ولا يعطوه أجر مِثْلِهِ, ويظل يسوم على هذا النحو, حتى يأخذ السلعة بناقص عما تساوي في السوق, هذا مِن البخس, أو : {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}, عندما يكون لهذا الذي بعته شيء فتنقصه ولا تعطيه ما اشترطت له كاملًا, {........وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود:85], عثى بمعنى أفسد, أي لا تسيروا في الأرض بالفساد حال كونكم هذا مفسدون, {........وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود:85], حال كونكم مفسدين, {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}[هود:86], {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ........}[هود:86], ما يبقى عند الله -تبارك وتعالى- هو الأفضل لكم؛ مِن الصدقة, مِن الإحسان, مِن الحسنات هذه بقية الله, سميت بقية الله؛ لأنها باقية عند الله -تبارك وتعالى- لا تضيع, كما قال -تبارك وتعالى- : {........وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:46], الباقيات هذا الذي يبقى, أما في الدنيا فإنك كل ما تأخذه مِن الدنيا إنما يفنى ويضيع وينتهي, لا ما تأكلوه ما تشربوه ما تلبسوه مهما كسبت وعملت هذا يفنى, ولكن الذي يبقى هو ما تدخره عند الله -تبارك وتعالي-, {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ........}[هود:86], ما تبقونه, ما تدخرونه عند الله هذا هو الأفضل أفضل مما تأكلونه في هذه الدنيا, {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}, إنْ كنتم أهل إيمان؛ لأن هذا الباقيات الصالحات إنما هي للمؤمنين, {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}, لم يرسلني الله -تبارك وتعالى- مُسْتَحْفِظًا عليكم بمعنى أُحْصِي عليكم, وأمنعكم وأقهركم لا, أنا رجل داعي أدعوكم إلى الله -تبارك وتعالى-, ولست بحفيظ عليكم بمعنى أني حاكم لي القوة والقهر والسلطة احتساب وأنظر مَن يظلم وآخذه قال : {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}, وإنما الله -تبارك وتعالى-هو الحفيظ عليكم, وأنا فقط إنما أنا نبي داعي أدعوكم إلى الله -تبارك وتعالى- مجرد دعوة, وأحذركم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-.
سنقف عند هذا -إنْ شاء الله-, ونكمل سياق هذه الآية, وما ردَّ قوم شعيب على رسولهم بعد هذه الحُجَّة الناصعة, الواضحة, والدعوة الكاملة إلى الإيمان وإلى الخُلُقِ القويم, وصلى الله على عبده ورسوله محمد.