الحمد لله ربِّ العالمين, وأُصَلِّي وأُسِلِّم على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى- : {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87], {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88], {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}[هود:89], {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود:90], قال قوم شعيب رادين على دعوته الكريمة التي دعاهم فيها إلى الله -تبارك وتعالى- بأنْ يعبدوا الله, وأنه لا إله لهم إلا هو -سبحانه وتعالى-, وألا ينقصوا المكيال والميزان, وأنْ يوفوا للناس إذا كالوهم أو وزنوهم, يوفوا لهم حقهم, ولا يبخسوا الناس أشياءهم, ولا يسيروا في هذه الأرض بالفساد في هذه الأرض, فإنَّ النقص والسرقة في الكيل والميزان هذا يؤدي فساد الذمم, وفساد الأخلاق, وحصول النفرة والعداوة بين الناس, وذَكّرَهُم بأنَّ العمل الصالح الذي يبقوه إذا كانوا ِمن أهل الإيمان فإنه خير لهم مِن التكالب على هذه الدنيا, والسير على هذا النحو, قال: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ........}[هود:86], ما تبقونه مِن العمل الصالح عند الله -عزَّ وجلَّ- هذا هو الذي خير, {........وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف:46], ثم قال لهم : {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ}, أنا لست حفيظًا عليكم, لست مستحفظًا عليكم بأنْ أقهركم وأحصي عليكم على الأمر, ومحاسب لكم, ما أنا صاحب حكومة وقوة وآخِذ كل إنسان بهذا, أنا فقط أدعوك إلى الله -تبارك وتعالى-, فانظر ماذا قالوا, قالوا : {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا........}[هود:87], استهزاء بما هو عليه مِن الإيمان لله -تبارك وتعالى- والصلاة, فجعلوا الصلاة كأنها جريمة, {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}, هذا استنكار, استنكروا الأمر هذا أنهم أنْ يتركوا ما الذي يعبده آباؤهم, وما هو الذي يعبده آباؤهم؟ اتخذوا آلهة مِن دون الله, وإذا كان هؤلاء الآباء عميان, ضلوا عن الحق يجب أنْ يبقى الابن على سير أبيه الباطل؟ لكن هؤلاء لا تراثنا وتعظيمنا لآبائنا هذه جريمة أنْ يتركوا ما عليه الآباء, {........أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ}[البقرة:170], {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}, قالوا له هذه أموالنا نفعل فيها ما نشاء, وهذا كذب, هذا أموالكم تتخذونها وسيلة لظلم الآخرين ولسلب أموالهم, فقالوا هذا اختيارنا, وهذه أموال فنفعل فيها ما نشاء, هذا تبجح بالإجرام, واستكبار بالمعصية وكذب, {........أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87], أنْ كل كلامهم هنا على وجهه, {........إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87], أنت حليم, وهذا اعتراف منهم بأنه ذو حلم وأنه ذو رشد, الحلم صفة نفس أنه لا يجازي السيئة بالسيئة, وهو رشيد ذو عقل, إنْ كان هذا الأمر منهم على وجه التقرير, فكأنهم يستنكرون مَن هذا الحليم الرشيد أنْ يأمر بهذه الأمور المخالفة للعقل, ومخالفة للرشد, هذا مِن أعظم الضلال الذي أمرهم به مِن عبادة الرَّب وحده لا شريك له, ومِن العدل مع الناس وعدم ظلمهم لا ينافي الرشد, ولا ينافي الحلم, ولا ينافي العقل, أو أنْ يكونوا قالوا هذا للاستهزاء به للاستهزاء بحاله, {........إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود:87], أنت ويكون هذا استهزاء بالحلم نفسه واستهزاء بالرشد نفسه, وأنَّ هذا الأمر الذي يأمرهم به يخالف ما هو الحلم والرشد, فإما أنْ يقولوا عليه التقرير, وأنه لا ينبغي أنْ يصدر هذا منك, وأنت رجل عاقل ورشيد وحليم, لا ينبغي أنْ يصدر هذا منك لنا, وإما أنْ يقولوا على الاستهزاء, {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}, فلماذا تأمرنا بمثل ذلك؟ {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي.........}[هود:88], { أَرَأَيْتُمْ}, أخبروني, {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}, أني رسول الله حقًا وصدقًا, أنا على بَيِّنَة مما أوحى الله -تبارك وتعالى- به إليّ واختارني رسولًا إليكم أنذركم, وكل ما أخبركم به حق لابد أنْ يكون هذه الرسالات مِن قبل, فهو على يقين وعلى بَيِّنَة مما يدعو إليه, {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}, لا أقول لكم هذا لأستدرج منكم وآخذ منكم شيء وأجر على هذا الأمر, أو لتعدلوا معي لأني أريد منكم العدل بي, والإحسان بي؛ لأني محتاج إلى هذا لا, أنا قد رزقني الله -تبارك وتعالى- مِن الرزق, أنا مستغنٍ عنكم, وعندما أمركم بالعدل مع الآخرين إنما هو؛ لأنه عدل وهذا هو الحق, وهذا هو الموافق لكمال الخلق وصلاح الحال, وليس لمنفعة مِن منافعي الخاصة آمركم بها, {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}, {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}, في أنْ أكون أي أنهاكم عن التطفيف وعن هذا, أكون مِن أهل التطفيف, ومِن أهل البخس لا, وإنما الذي آمركم به أرى أنه الحق والعدل, وأنَّ هذا يجب أنْ يسير به الجميع, {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}, وإنما وِجْهَتِي ومنيتي وغايتي, {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ}, في قومي, {مَا اسْتَطَعْتُ}, إلى ذلك سبيل ونصحت لكم بما نصحت لكم به, {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}, توفيقي في نفسي وعلى الخير, وفي الطريق, التوفيق هو أنْ يُوَفَّقَ الإنسان أنْ يُهْدَى وأنْ يُلْزَمَ بطريق الحق, {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}, ما هو ليس مِن حظ ونصيب, أي أنا جديرٌ به أخذته بحظي ونصيبي خَلْقِي لا, إنما كل ما أنا عليه مِن التوفيق إنما هو بالله, ما يوفقني الله -تبارك وتعالى- إلى خير فمنه وحده -سبحانه وتعالى-, أي أنَّ الله هو الإحسان إليه, والأمر كله بيديه, وهو ما توفيق إلى الأمر وُفِّقْتُ فيه مِن النبوة والرسالة ودعوتي إلى الخير, وهدايتكم إلى هذا, {إِلَّا بِاللَّهِ}, -سبحانه وتعالى-, فالنعمة كلها, والفضل كله لله -تبارك وتعالى-, {........عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88], سَلَّمْتُ أمري كله, التوكل هو تسليم الأمر لله -تبارك وتعالى- بعد الاجتهاد في بذل السبب, {وَإِلَيْهِ أُنِيب}, إلى الله -تبارك وتعالى- لا لغيره أرجع في كل أموري.
ثم حَذَّرَهُم فقال : {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}[هود:89], قال لهم : {لا يَجْرِمَنَّكُمْ}, يحملنكم, {شِقَاقِي}, الخصومة والعداوة, وأنهم الآن اتخذوه بدعوته, أي بدعوة شُعَيْب قومه إلى الله -تبارك وتعالى-, أصبح عدو عندهم بعدما كان يعتبرونه هو الحليم الرشيد, وهو ابن القبيلة البار, فالآن أصبح هو عدو وبدأوا يعادونه عندما دعاهم إلى هذا خالفهم في أنه أمرهم إلى التوحيد, كيف تريد أنْ تصرفنا عن دين آباءنا وأجدادنا؟ كيف تنهانا عن أمر نحن نعمله في أموالنا؟ نحن أحرار في أموالنا, نظلم, نبخس, فأصبح عدو لهم, هذه العداوة والشقاق التي أصبحت في قلوبكم لي لا تحملنكم أنْ تكفروا وتعاندوا؛ فعند ذلك تأتيكم عقوبة الله -تبارك وتعالى-, {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ}, ليحملنكم شقاقي, السعي في العداوة والكفر والتمسك به أنكم تريدوا أنْ تنتصروا عليّ, هذا رسول الله, فيصيبكم {مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ}, مِن الغرق أهلكهم الله تبارك وتعالى- بالغرق, {أَوْ قَوْمَ هُودٍ}, أهلكهم الله بالريح العقيم, {أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ}, ثمود فإنَّ الله -تبارك وتعالى- أهلكهم بالصيحة, قال لهم : {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}, زمانًا ومكانًا, فهؤلاء في غور الأردن, وهؤلاء في بادية الشام, فقال لهم قوم لوط : هؤلاء بجواركم مكانًا وكذلك زمانًا, الزمان بيننا وبينهم متقارب, فانظروا مَصَارِع الغابرين, واتعظوا واعتبروا لا تكونوا مثل هؤلاء الذين كفروا مِن قومكم فيصيبكم مثل ما أصابهم, {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود:90], استغفروا الله, اطلبوا مغفرته مِن هذه الجرائم التي وقعت منكم مِن هذا التكذيب, ومِن هذا العناد, {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ........}[هود:90], ارجعوا إليه استغفرتم عن الذنوب السابقة, ارجعوا إلى الله -تبارك وتعالى-, والتزموا طريق الرَّب -جلَّ وعَلا-, {........إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود:90], {رَحِيمٌ}, بعباده -سبحانه وتعالى- يقيل عثرتكم, تناولكم رحمته بعد ذلك, {رَحِيمٌ وَدُودٌ}, الوِد المحبة, أي أنه يحب -سبحانه وتعالى- ويوالي عباده المؤمنين حتى وإنْ كانوا قبل ذلك مِن أهل الكفر والعناد والمعاصي, إلا أنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا عادوا إلى الله -تبارك وتعالى-, ورجعوا إليه؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يحبهم يكون هناك أمر اختلف, {........إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود:90], -سبحانه وتعالى-, انظر هذه الدعوة مِلْؤُهَا النصح كلها نصح لقومه, إخلاص رغبة في الخير, إرادة أنْ ينقذوا إرادة, أنْ يدخلوا طريق الرب -تبارك وتعالى-؛ ليسعدوا برضوانه ومحبته -سبحانه وتعالى-, لكن الكافر هو الكافر ظلمًا وظلمةً وعنادًا, {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ........}[هود:91], تغابوا, عملوا أنفسهم أغبياء, وأنهم لا يفقهون هذا الكلام, الراقي, العالي الذي يقوله هذا النبي, قالوا : {مَا نَفْقَهُ}, الفقه هو الفهم الدقيق, {كَثِيرًا}, مِن الكلام الذي تقوله لنا لا نفقهه, ثم بعد ذلك العمى الذي أصابهم؛ جعلهم يفتخرون بما عندهم قالوا : {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}, شنت, قالوا نحن نراك {فِينَا}, في القبيلة, {ضَعِيفًا}, ما لك عصب, مالك قوة, ما لك شيء, {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}, لولا أنَّ لك رهط وجماعة نحن نراعي شيء مِن حرمتهم, وهؤلاء أقارب كنا رجمناك, وهذا قَتْل بأسوأ أنواع القتل لتكون عبرة, نأخذك ونصلبك, الرجم هو الضرب بالحجارة حتى الموت, {.........وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91], لست العزيز الممتنع, الغالب, أي لست بممتنع علينا إذا أردنا أنْ نصلك نصلك, نقتلك نقتلك لا تَطُوْل الكلام معنا, فهنا جاء التهديد والوعيد والاحتقار له ولمكانته ولوضعه في القبيلة, وأنهم إنْ أرادوا إهلاكه أهلكوه وبطشوا به, وهذا الكلام الذي يقوله, كلام شعيب منتهى الرقة لا يقول لهم كلمة حتى هي جارحة, وإنما كل كلامه يفيض عطف ورقة وعذوبة ودعوة إلى الله -تبارك وتعالى-, ومحاولة لإنقاذهم, ما حتى وصفهم بكفر وبإجرام, فكان كلامه كله في منتهى الرقة معهم, والترغيب لهم إلى أنْ يكونوا في طريق الرب -سبحانه وتعالى-, لما تبجحوا هذا التبجح, واستكبروا بما عندهم مِن القوة؛ ذَكَّرَهُم أيضًا بقي شعيب على رقته وعذوبته وتذكيره وإشفاقه على قومه, فقال : {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ........ }[هود:92], أنتم الآن عملتم مراعاة وشيمة كما يقال لرهطي, جماعتي, قال لهم : هؤلاء تراعون حرمتهم, أو مكانتهم عندكم وتنسون الرَّب -سبحانه وتعالى-, حرمة الرب بعدوانكم علي, إنكم تعتدون على الرَّب, الإله الذي أرسلني -سبحانه وتعالى-, قال : {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}, ما تذكروا هذا, ما تعلموا هذا, تمتنعون عن قتلي, فقط يقولون : {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ}, أنَّ لهم مكانة عندنا, وشيمة عندنا, ونحترمهم وكذا وكذا, ولولا هؤلاء الذين نجعل لهم خاطر ورجاء كنا نحن رجمناك, قال لهم : {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ}, ذَكَّرَهُم بالأمر الذي نسوه, وهو جناب الرب -سبحانه وتعالى- تريدون أنْ تعتدوا على جناب الرَّب -جلَّ وعَلا-, ولا تطرف لكم عين في هذا, وتجعلوا خاطر وكيان وكذا كذا لجماعتي, {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا ........}[هود:92] اتخذتم الرَّب, {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}, أي كأنكم ألقيتم جناب الرب -سبحانه وتعالى- خلف ظهركم, ما تعيرونه بال, وأنكم إنْ اعتديتم على رسول الله الإله -سبحانه وتعالى-, {........إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[هود:92], {إِنَّ رَبِّي}, إلهي ومولاي -سبحانه وتعالى-, {رَبِّي}, سيدي الذي يتولى أموري, {بِمَا تَعْمَلُونَ}, بهذا الذي تعملونه, {مُحِيطٌ}, عِلمًا به, لا يخفى عليه مِن شيء قد أحاط علمًا -سبحانه وتعالى- بكل ما تقولون وما تفعلون, {وَيَا قَوْمِ}, في النهاية, الأمر بعدما قفلوا الباب عليه, تنتهي وإلا يكون مِن شأنك هذا الشأن, قال لهم : {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ........}[هود:93], أنتم ارتضيتم طريق الكفر هذا والعناد الذي تمكنتم فيه, وسرتم فيه, ابقوا على طريقكم, {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ}, على ما أنتم متمكنون عليه مِن هذا العمل مِن الكفر والعناد, {إِنِّي عَامِلٌ}, سأعمل على طريقتي, على مكانتي كذلك في أني عبد الله ورسوله حقًا وصدقًا سأسير في هذا الطريق, أنا متمسك به, {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}, أتى وعيد قال : ستروا مَن الذي سيأتيه العذاب الذي يخزيه, أنتم أم أنا؟ {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ}, أنا أو أنتم, مَن الذي يكذب ويقول غير الحق؟ {وَارْتَقِبُوا}, انتظروا المستقبل ما الذي يحمله؟ {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}, أنا مراقب وجالس, أنتظر كذلك حُكْم الله -تبارك وتعالى- في وفيكم, هذا هو فَاصَل نهائيًا؛ لأنه قد استنفذ الرسول كل الوسائل التي فيها نصحهم, وفي تذكيرهم ووعظهم, وهم كذلك قفلوا الطريق على أنفسهم لا يوجد خلاص, قالوا تسكت, {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود:91], فإما أنْ تسكت وإلا فعلنا بك وفعلنا, لما فاضلهم على هذا النحو لم يبق إلا أنْ يأتي عذاب الرَّب -جلَّ وعَلا-.
قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود:94], {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}[هود:95], {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا}, بهلاك هؤلاء المجرمين, جاء أمر الله -تبارك وتعالى-, صدر الأمر الإلهي وجاء الوقت الذي حدده الله -تبارك وتعالى- لهلاكهم, قال -جل وعلا- : {نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا}, نجاهم, أخرجهم الله -تبارك وتعالى- مِن هذا المكان الذي سيعذب أهله, وقال -جلَّ وعَلا- : {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}, صيحة ملك, صرخة ملك صرخ فيهم, {........فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}[هود:94], أصبحوا الصبح وهم {فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ}, وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه قد أخذهم, قال : {........ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}[الشعراء:189], أنَّ الله -تبارك وتعالى- قبل الصيحة خنقهم بظلة مِن العذاب أظلتهم؛ فاختنقوا كأنهم اختنقوا فيها, ثم صرخ فيهم المَلَك صيحة؛ فأهلكهم الله -تبارك وتعالى-, وبقوا في ديارهم جاثمين, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا}, أصبحت الأرض خرابًا يَبابًا لا حِس ولا خبر, {........هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}[مريم:98], لا توجد حركة, وكأن هذه الأرض التي كانت عامرة قبل ذلك, غنت بالمباني والخيام والإبل والمواشي والزرع والرجال والنساء واللعب, كل هذا أبدًا هؤلاء الذين عاشوا في هذا المكان وملئوا المكان أصبح بعد هذه الصيحة, لا حِس ولا خبر, {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ........}[هود:95], {أَلا}, إعلام مِن الله -تبارك وتعالى- له, {بُعْدًا لِمَدْيَنَ}, هلاكًا لهم, وسحقًا لهم, {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ}, كما أبعد الله -تبارك وتعالى- ثمود وأهلكها, أبعد مَدْيَن وأهلكها -سبحانه وتعالى-, وانطوت صفحة جديدة مِن صفحات الغابرين, والقصة واحدة, المشاهد واحدة فقط الذي يتغير هو الشخوص, الوجوه هي التي تتغير, أما الرسل دعواهم واحدة, الذين آمنوا بهم حالهم واحد الكفار, مقالتهم واحدة فمقالة قوم نوح, قوم هود, قوم صالح, قوم لوط, قوم شُعَيْب كلهم مقالتهم واحدة, وهم واحد وعنادهم واحد, ثم السُّنَة الإلهية واحدة, السُّنَة الإلهية في معاملة الرسل, {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ}[يونس:103], ثم الاستئصال بالعذاب الماحق لهؤلاء الكافرين.
ثم ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الصفحات العظيمة في هذه السورة بصفحة قوم فرعون, وقد طواها الله -تبارك وتعالى- في آيات قليلة, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- بأنه -سبحانه وتعالى- قد أَرْسَلَ موسى النبي, نبي بني إسرائيل, {بِآيَاتِنَا}, آيات الله -تبارك وتعالى- الكثيرة عصاه, يده السمراء التي يضعها في جيبه, ثم يخرجها فإذا هي بيضاء, ثم الآيات التي ضَرَبَ الله -تبارك وتعالى- بها قوم فرعون على موسى كالطوفان, والجراد, والقُمَّلَ, والضفادع, والدم, آيات مفصلات, ثم بعد ذلك شَقّ البحر هذه الآية العظمى التي قامت مِن أعظم آيات الله -تبارك وتعالى- التي جرت في هذه الأرض أنْ ضرب موسى البحر فجعل الله -تبارك وتعالى- البحر فرقتين, مَرَّ فيه موسى ومَن معه, فالله أرسل {........مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], سلطان قوة قاهرة مبينة, مِن هذه القوة أنه أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أكبر جبار في الأرض في وقته, فرعون صاحب القوة والبطش وموسى ما عنده شيء مِن قوم هم عبيد تحت يد الفراعنة, وما عنده مكانة ملك, ما عنده مُكْنَة في أي شئ موسى لا حرس ولا قوة, ومع ذلك لم يسمح فرعون أنْ يصيبه بسوء, أنْ يسجنه, وأنْ يسلبه, أنْ يقتله وأنْ يفعل فيه وحاول سلطان بَيِّن, واضح, هلك سلطانه, قوة قاهرة في الحجة والبيان, وكذلك منع وحماية له مِن الرب -تبارك وتعالى- أنْ يصل له, كما قال الله -تبارك وتعالى- لموسى وهارون : {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15], قال لهم لا تخافوا مِن فرعون سيكون الله -تبارك وتعالى- معكم, قال : {........بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[القصص:35], فمعه هذا السلطان المبين, القوة القاهرة ,والحجة الباهرة التي كانت معه, {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}, أرسله الله -تبارك وتعالى- بهذا إلى فرعون وملئه حجة بيان, وحجة كذلك بآيات قاهرة, , {إِلَى فِرْعَوْنَ}, مَلِك مصر في زمانه, {وَمَلَئِهِ}, جماعته العظماء يخاطبهم, قال -جلَّ وعلَا- : {........ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود:97], {بِرَشِيدٍ},أي الملأ هؤلاء القوم العميان, اتبعوا أمر فرعون, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}, انظر يأتيهم طريق الهدى والنور الذي فيه النجاة والفوز يتركونه, ويأتيهم طريق الضلال والغي الذي فيه الهلاك فيتبعونه, {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}, الذي اتبعه هؤلاء العميان, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- ما هو الأمر هذا قال : {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98], {يَقْدُمُ قَوْمَهُ }, فرعون يأتي على رأس قومه يوم القيامة؛ لأنه هو الإمام المتبع, {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}, الوِرْد هو الإتيان إلى الماء للشرب, لكن هذا ما أوردهم ماءً للشرب, أوردهم للنار -عياذًا بالله-, أي أوصلهم إلى النار -عياذًا بالله-, {.........فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98], بئس وِرْدًا هذا, لما يأتي قائد, القائد يقودنا إلى الخير إلى كان في سفر يقودنا إلى الماء العذب, إلى المرعى, إلى المكان الطيب ولكن هذا قاد قومه إلى النار -عياذا بالله-, فقادهم إلى هذا المكان, -, {.........فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98], بئس وردًا أنْ يكون إلى النار -عياذا بالله-, إنَّ الإنسان يؤخذ ويوصل إلى هذا المكان, يتمنى الوصول إلى الخير فيصل إلى الشر, فهم ساروا خلف فرعون طلبًا للخير, وطلبًا للعز والتمكين لما قال لهم : {........يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}[الزخرف:51], {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}[الزخرف:52], واختاروا طريق فرعون؛ لأنهم رأوا أنه طريق العزة والتمكين, {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون:47], انظروا كيف كانت النهاية؟ أوصلهم إلى هذا المكان قال -جلَّ وعَلا- : {........فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98], {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}[هود:99], {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً}, جعل الله -تبارك وتعالى- بعد هلاكهم اللعنة تلاحقهم على ألسنة الرسل بعد ذلك, وآخرهم محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وإلى اليوم نلعن نحن المؤمنون فرعون ومَن كان على دينه وشاكلته, {........وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}[هود:99], {الرِّفْدُ} ما يُحَضَّرُ للضيف كرم ضيافة, أي يوم القيامة الضيافة التي يُرْفَدُونَ بها, وتُقَدَّم لهم هي النار -عياذا بالله-.
نقف عند هذا, ونكمل -إنْ شاء الله في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب.