الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (278) - سورة هود 99-108

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}[هود:97], {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[هود:98], {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}[هود:99], {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}[هود:100], {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}[هود:101], في ختام سياق الله -تبارك وتعالى- لِمَصَارِعِ الغابرين, وللنهاية المؤلمة للأُمَم التي كَذَّبَت رسلها, قوم نوح, وقوم هود, وقوم صالح هم ثمود, وعاد قبيلتان عربيتان أبادهما الله -تبارك وتعالى-, واستأصلهما عن آخرهم, {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51], وبعد ذلك قُرَى لوط في وادي الأردن, ومَدْيَن قوم شعيب -عليه السلام-, ثم في النهاية ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- قوم فرعون, فقال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], {مُوسَى}, النبي مِن أولي العزم مِن الرسل, نبي بني إسرائيل المُخَلِّص الذي خَلَّصَهُم مِن ذُلِّ الفراعنة بأمر الله -تبارك وتعالى-, {بِآيَاتِنَا}, العظيمة, تسع آيات, كما قال -تبارك وتعالى- : {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِه}, مِن هذه عصاه ويده السمراء التي يضعها في جيبه, ثم يخرجها فتكون بيضاء, الطوفان, الجراد, القُمَّل, الضفادع, الدم, الرجز, قتل أبكارهم, ثم بعد ذلك هذه الآية العظيمة, الباهرة انشقاق البحر له ليخرج هو وقومه, يخرج موسى وقومه, ثم يُغْرِقُ الله -تبارك وتعالى- فرعون وقومه, فيخبر -سبحانه وتعالى- أنه أرسل موسى بآياته البَيِّنَات, الواضحات, {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}, قوة قاهرة أولًا منعته أنْ يصل إليه فرعون مع بطشه وَقُوَّتِهِ, قال الله -تبارك وتعالى- له ولأخيه هارون : {........بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}[القصص:35], فكان معه سلطان بَيِّن, ودليل واضح على أنه رسول الله حقًا وصدقًا, كما قال لفرعون : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}[الشعراء:30], {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31], {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}[الشعراء:32],{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}[الشعراء:33], لَكنَّ القوم نسبوا هذا إلى السحر, {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[هود:96], {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ}, وزرائه وكبراؤه, الملأ هم الجماعة التي تملأ المكان, وتملأ العين, كبار القوم, قال -جلَّ وعَلا- : {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}, طاغية, ادَّعَى أنه الإله, قال : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, مفسد في الأرض يقتل بالظنة, يقتل الأطفال خوف مِن أنْ يكبروا في يوم مِن الأيام, ثم يستولوا على مُلْكِهِ, مُفْسِد كل معاني الإفساد في الأرض شركاً بالله -تبارك وتعالى-, وادِّعَاءً للألوهية, وأنه الرَّب, الإله الذي لا إله للبشر غيره, وإفساد, {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4], فاتبعوا هذا الأمر, اتبعوا أمر فرعون, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- الرشيد هو المعتدل المستقيم الذي يوصل إلى المقصد والمطلوب, الفوز ولكن أين أوصلهم اتِّبَاعهم لفرعون؟ قال -جلَّ وعَلا : {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ........}[هود:98], {يَقْدُمُ قَوْمَهُ}, لأنه مقدمهم ورئيسهم, {قَوْمَهُ}, الذين أطاعوه يوم القيامة, {فَأَوْرَدَهُمُ النَّار}, وهذه صورة ومشهد بائس, واستهزاء مِن الرب -تبارك تعالى- به فإنه دائمًا القائد يقود قومه المفروض الناصح لقومه, يقود قومه إلى الخير, فهذا قاد قومه إلى النار, ولا يقول أوردهم والورد دائمًا هو إتيان الماء للشرب والنهل, لكن هذا أوردهم, أتى بهم السقيا التي قادهم إليها هي النار -عياذًا بالله-, {فَأَوْرَدَهُمُ النَّار}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}, {وَبِئْسَ}, للذم لا أسوأ مِن هذا الوِرْد أنْ يَرِدَ الإنسان إلى النار -عياذًا بالله-, {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَة........}[هود:99], أتبعهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا لعنة على ألسنة رسله وأوليائه, وإلى يوم القيامة يُلْعَنُ فرعون ومَن سار على طريقه, {........وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}[هود:99], يوم القيامة الذي يقدم لهم الرفد هو ما يقدم لضيف أي الضيافة ضيافتهم أسوأ ضيافة, فَنُزُلُهُم عند الله -تبارك وتعالى- هو النار -عياذًا بالله-.

 ثم قال -تبارك وتعالى- بعد أنْ قَصَّ هذا قال لرسوله -صلى الله عليه وسلم- الخطاب هنا إلى الرسول : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}[هود:100], {ذَلِكَ}, الذي قصصناه عليك مِن تاريخ هؤلاء الأقوام وسيرتهم بدءًا بأول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض, وهو نوح -عليه السلام- إلى موسى -عليه السلام- مرورا بكل هؤلاء الرسل وبأقوامهم, قال : {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى........}[هود:100], هذه القرى الكافرة التي كذبت رسل الله -تبارك وتعالى-, {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}, الله هو الذي يَقُصُّهُ -سبحانه وتعالى- ليس تزييفًا ولا تزيينًا ولا مبالغة بل القصص الحق, {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ}, الله هو الذي يَقُصُّهُ -سبحانه وتعالى-, وهذا التأكيد أنَّ القرآن مِن عنده -سبحانه وتعالى-, {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}, أي وقت أنْ كانت هذه القرى قائمة, مليئة بأهلها, قائمون فيها لكن قيامهم إنما كان بالكفر والعناد للرسل, {وَحَصِيدٌ}, عندما حصدها الله -تبارك وتعالى-, {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ}, {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}, عندما حصدهم الله -تبارك وتعالى- وأفناهم وأزالهم عن هذه الأرض, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ}, لم يكن هذا تعديًا ولا ظلمًا عليهم, {وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}, {وَلَكِنْ}, هؤلاء {ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}, بكفرهم, بعنادهم ونواتهم لأمر ربهم -تبارك وتعالى-, معاداتهم للرسل, تكذيبهم للرسل مع علمهم بأنهم رسل الله حقًا وصدقًا, وهذه الجرائم المتراكبة لهم, هذا ظلمهم ظلموا أنفسهم وبالتالي أوردوا أنفسهم هذا الوِرْد, {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ........}[هود:101], قال -جلَّ وعَلا- : {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ}, أين الآلهة التي دعوها مِن دون الله؟ آلهة معبودات عبدوا هذه الأقوام, عبدوا معبودات شتى, فقوم نوح عبدوا بعض الصالحين, وقالوا : {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ........}[نوح:23], على الخصوص, {........وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا}[نوح:23], وكذلك قال قوم عاد : {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ.........}[هود:54], يهددون رسولهم على هذا النحو, وهكذا سائر هذه الأُمَم, وكذلك آلهة الفراعنة مِن الشمس, ومِن الحيَّة, ومِن الكبش, ومِن هذا الإله الأعظم عندهم فرعون, هذه الآلهة المُدَّعَاة التي ادُّعِيَت لها الألوهية, وليست بآلهة على الحقيقة, وإنما ادعوا أنها آلهة؛ لأنَّ الإله لا يكون إلا ربًا, خالقًا, رازقًا, يملك عابده, يتفضل عليه, أما إذا لم يكن له تفضل على عابده فكيف يكون إلها؟ وهذه الآلهة لما حان وقت بأس الله بهم, وجاءهم العذاب ما أغنت عنهم مِن شيء, أي لم تدفع عنهم هذا العذاب, ولم تمنعهم, ولم تحمهم مِن عقوبة الرَّب -تبارك وتعالى-؛ وذلك أنها ليست آلهة على الحقيقة, فإنَّ الإله يَحْمِي عابده, يكون معه وَلِيُّهُ فلا ولاية لهؤلاء, {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:41], فهذه الآلهة المُدَّعَاة لم تُغْنِ عنهم شيئًا, تدفع عنهم عذاب الله -تبارك وتعالى- وتنجيهم, {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّك},  أي بالعذاب, {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}, لم تزدهم هذه الآلهة {غَيْرَ تَتْبِيبٍ}, التتبيب الهلاك, أي لم تزدهم إلا هلاكًا فاستصراخهم بها, ولجوئهم إليها بل هذا شركهم بها كان هو السبب لإهلاك الله -تبارك وتعالى- لهم, {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيب}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى........}[هود:102],  {كَذَلِكَ}, أي الأخذ, انظر قوم نوح فإنما أغرقهم الله -تبارك وتعالى- بإغراق وإهلاك مستأصل, وعاد التي استأصلها الله -تبارك وتعالى-, وثمود على هذا النحو, وقُرَى ولوط في الأردن التي أَفَكَهَا الله -تبارك وتعالى- على رؤوس أصحابها, ومَدْيَن قوم شُعَيْب الذين أخذهم الله -تبارك وتعالى- بعذاب الظُّلَة وبالصحية التي أهلكتهم, وفي الختام قوم فرعون الذين أخرجهم الله -تبارك وتعالى- مِن ديارهم وكنوزهم وبيوتهم, {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الدخان:25], {وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الدخان:26], {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27], أخرجهم الله هكذا مِن هذه يتركوها, ثم يأتي بهم الله -تبارك وتعالى-, ويسقطهم جميعًا في البحر, يلقيهم جميعًا في البحر, يخرجهم بأرجلهم إلى هلاكهم, ثم يغرقهم الله -تبارك وتعالى- عن بَكْرَةِ أبيهم الجيش كله يغرقه الله -تبارك وتعالى-, فهذا الله -تبارك وتعالى-, يقول : {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ}, كذلك الأخذ أخذ الكفار على هذا النحو, {أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ}, وذلك أنه لا يأخذها ولا يهلكها إلا حال كونها ظالمة, {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}, {إِنَّ أَخْذَهُ}, إهلاكه لهؤلاء المعاندين له, {أَلِيمٌ}, مؤلم, {شَدِيدٌ}, قوي فهو قوي, وذلك أنه الرب, الإله, القوي, القاهر الذي لا يقهره شيء, العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً}, {إِنَّ فِي ذَلِكَ}, هذه مَصَارِع الغابرين على هذا النحو, {لَآيَةً}, علامة, علامة على ماذا؟ على أنَّ أخذ الله أليم شديد, وعلى أنه الرَّب, الإله, القوي, القاهر الذي لا يقهره أحد, ولا يفوته أحد -سبحانه وتعالى-, ولا يعجزه أحد, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ........}[هود:103],  تذكير له إذا كان الله يأخذ في الدنيا أعداؤه على هذا النحو, فكيف بالآخرة ؟ كيف في المستقر والمآل؟ فهذا الذي يخاف عذاب الآخرة يتذكر هذا, يتعظ ويرى, هذه مقدمةٌ العذاب هذا العذاب الواقع في الدنيا إنما مقدمه لعذاب الرب في يوم القيامة, { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ........}[هود:103],  ثم عَقَّبَ على ذلك العذاب عذاب الآخرة بأنه أكبر, قال : {........ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103], وبالتالي يكون الخزي والندامة والخسارة فيه أعظم, {ذَلِكَ}, أي هذا اليوم, {يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}, يجمع الله -تبارك وتعالى-, ويحشر له كل الناس بدءًا بأول نَسَمَة إلى آخر نَسَمَة وُجِدَت في الأرض, فوربك لنحشرنهم أجمعين, {........وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}[الكهف:47], ما يغادر الله -تبارك وتعالى- أحد ممن خلقه وذرأه في هذه الأرض, ولا ما دام نفخت فيه الروح, ولو كان سِقْط وسَقَطَ مِن بطن أمه لم يكتمل خَلْقهُ ونموه, كل نَفْسٍ منفوسة وُجِدَت في هذه الأرض لابد أنْ يحشرهم الله -تبارك وتعالى-, {........ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103], {يَوْمٌ مَشْهُودٌ}, الله -تبارك وتعالى- هو القاهر فوق عباده, والشاهد عليهم, والملائكة كلهم يشهدون فإنه الله -تبارك وتعالى- يطوي كل سماء, {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104], تُطْوَى كل سماء, ينزل ملائكتها ويحصرون ويكونون طوقًا ودائرةً على أهل المحشر كلهم, ثم الثانية, ثم الثالثة, ثم الرابعة إلى السابعة, فالملائكة كلهم موجودون, الناس كلهم محشورون على صعيدٍ واحدٍ, مستوي ليس فيه عَلَم لأحد, أرض بيضاء ما فيها عَلَمٌ لأحد, ليس فيها علم لأحد, خيمة مظلة, بيت, قصر, شجرة لا يوجد شيء, لا يوجد أحد له شيء, يوم لا ظِلَّ إلا ظله, فالناس محشورون فالله يقول : هذا اليوم الذي يحشر فيه الناس كما قال النبي : «يُسْمِعُهُم الداعي وينفذهم البصر», البصر ينفذهم كل واحد يسير إلى آخر الناس, ويُسْمِعُهُم الداعي عندما يدعوهم داعي واحد فإنهم يسمع الكل, الكل يسمعون سمع مجموعة واحدة في مكان واحد, وبالتالي الخزي لمن كتب شقاؤه في هذا اليوم سيكون خزي على رؤوس الأشهاد, على رؤوس الخلائق كلها, الكل يعرف إنَّ هذا الشخص وهذا فلان وهذا فلان اقتيد إلى النار فهذا الخزي فيه والعذاب فيه, ثم العذاب الذي بعد هذا عذاب لا يقاس بعذاب هذه الدنيا, فإنَّ الاستئصال في هذه الدنيا موت وينتهي, لكن عذاب الآخرة أكبر وأشد مِن هذا, {........ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103], قال -جلَّ وعَلا- عن هذا اليوم : {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}[هود:104], لا يؤخره الله -تبارك وتعالى- {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}, يُعَدّ ويحصى, وذلك أنه قد حُدِّدَ هذا اليوم بالساعة بل باللحظة التي يكون فيها, وعِلْمُهُ إلى الله -تبارك وتعالى- لم يكشف الله -تبارك وتعالى- ولم يُطْلِع أحدًا مِن خَلْقِهِ قط على ميعاده المحدد حتى الملائكة الذي ينفخ في الصور ليكون هذا النفخ إيذانًا ببدء هذا اليوم لا يعلم هذا, يقول النبي : «كيف أنَّ عم صاحب القرن قد التقم القرن وأصاخ السمع, ينتظر أمر الله -تبارك وتعالى- له بالنفخ في الصور», فهذا أمر {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ........}[الأعراف:187] فالله يقول : {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}[هود:103], {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}[هود:104], أي هذا اليوم, {إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ}, يَعُدُّهُ كما قال -جلَّ وعَلا- : {........إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}[مريم:84], فهذا الأمر يُعَدُّ لهم بالساعات وبالتاريخ حتى يأتي الأجل الذي أَجَّلَهُ الله -تبارك وتعالى-, {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ........}[هود:105], {يَوْمَ يَأْتِ}, عندما يأتي هذا اليوم, لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ}, لا يستطيع أحد أنْ ينطق كما يقال : ببنت شَفَة بكلمة إلا بإذنه بإذن الرب, الإله -سبحانه وتعالى-, فالصمت يلف الجميع رهبة الموقف وانتظار ما سيسفر عنه الحساب, أمر كرب عظيم يوم هذا يوم رهيب, صعب, شديد, يوم عَسِر كما قال الله -تبارك وتعالى- : {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}[المدثر:10], {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10], فهو يوم عَبُوس والعبوس هو تقطيب الوجه, فهذا اليوم كله اكفرار وكرب وهم وغم شديد, وسواد وجه للكافر وللمنافق يَسْوَدُّ وجهه, كما قال -تبارك وتعالى- :{ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا},  كأن قطعًا مِن الليل المظلم جاءت وغطت وجوهم, وقال : {........ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102], {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا}[طه:103], {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ........}[هود:105], لا يستطيع أحد, نَفْس, أي نَفْس حتى الملائكة, لا يستطيع مَلَك يتكلم إلا أنْ يأذن الله -تبارك وتعالى- له, كما قال -جلَّ وعَلا- : {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ........}[النبأ:38], { الرُّوحُ}, روح الله جبريل, الروح المقدسة, فهذا المخلوق الذي خَلَقَهُ -تبارك وتعالى- بهذا الخلق العظيم, وهو أمين الله على وحيه والممدوح عند الرب -تبارك وتعالى-, كما قال في شأنه الرَّب -جلَّ وعَلا- : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194], وقال : {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:5], {عَلَّمَهُ}, عَلَّمَ محمد -صلى الله عليه وسلم-, {شَدِيدُ الْقُوَى}, جبريل {ذُو مِرَّةٍ}, ذو قوة, {فَاسْتَوَى}, {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى}[النجم:7], فهذا الروح الأمين, القوي, العظيم هذا يقف صامتًا في هذا اليوم, {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}[النبأ:38], فقط مَن أَذِنَ له الرحمن أنْ يتكلم هو الذي يتكلم, {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:105], {فَمِنْهُمْ}, البشر, الخَلْق, أولاد آدم, {شَقِيٌّ}, الشقوة المتناهية التي ليست بعدها شقوة, {وَسَعِيدٌ}, السعادة كذلك التي لا نهاية لها متناهية الفرح والسرور والحبور والفوز العظيم, {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}, قَدَّمَ الله -تبارك وتعالى- الشقي؛ لأنَّ السياق سياق تحذير وترهيب, أي احذروا أيها الناس فأنكم ستتفرقون يوم القيامة إلى هاتين الفرقتين, شقي وسعيد.

بعد هذا الإجمال بدأ الله -تبارك وتعالى- يُفَصِّلُ معاني الشقوة, ومعاني السعادة قال : {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}[هود:106], -عياذا بالله تبارك وتعالى- مِن حالهم, {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا}, وقال الله -تبارك وتعالى- : {شَقُوا}, ونسب الفعل إلى أنفسهم, الشقوة إلى أنفسهم؛ وذلك أنهم هم الذين اتخذوا طريق الشقوة, أخذوا طريق الشقوة واختاروه وساروا فيه, {فَفِي النَّارِ}, أصبحت النار لهم ظرف, في داخل النار, {فَفِي النَّارِ}, وذلك أنها ليست نار ظاهرة وحولها فضاء يُعَذَّبُ فيها عن بعد لا, وإنما يدخلها -عياذا بالله-, فالنار لها جدران, وهي بئر عميقة ولكن عندما نقول بئر نتصور شيء محدود مِن آبار الأرض, ولكن هذه بئر تَسَع كل هؤلاء المجرمين منذ أولهم وإلى آخرهم, والشمس فيها والقمر حَجَرَان صغيران, ثوران عقيران الشمس على كبرها مقعد الكافر في النار كقدر ما بين مكة والمدينة أربعمائة كيلو يأخذ الكافر الواحد, وضرسه في النار كجبل أُحُد, وما بين منكبيه في النار مسيرة ثلاثة أيام, وسماكة جلدة ثلاثة أيام للمسافر, فهذا أمرٌ عظيم أمرٌ مهول, ويقول الله -عز وجل- عن هذه البئر العظيمة : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30], فأمرها خطير, عظيم جدًا, قول الله : {فَفِي النَّارِ}, نار الآخرة التي أحاط بهم سرادقها, سرادق النار جدران النار مِن النار كذلك أحاط بهم مِن كل مكان وغطاء فوقهم, وأبواب مؤصدة مقفلة, {........فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}[هود:106], الزفير هو إخراج الهواء مِن الجوف, والشهيق هو إدخال هذا, ففي النار يَزْفُرُ فيها فَيَزْفُرُ نارًا, ويشهق فيها -عياذا بالله- فيشهق نارًا فالنار كذلك هي مترددة إلى جوفه -عياذا بالله-, {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ}, {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ........}[هود:107], {خَالِدِينَ}, الخلود هو المكث الدائم -عياذا بالله-, {خَالِدِينَ}, باقين فيها بقاءً لا ينقطع, {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}, هل مُدَّت دوام السموات والأرض منذ أنْ خلقها الله -تبارك وتعالى- إلى يوم القيامة, فيكون هذا وقت أو {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}, ما دام أنَّ هناك أرض وسماء والأرض والسماء باقية أرضنا وسماؤنا في الدنيا هذه, ولكنها يوم القيامة تُبَدَّل, كما قال -تبارك وتعالى- : {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48], فيكون على المعنى الثاني, {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ}, مادام هناك أرض وسماء, وهذا بقاء لا انقطاع له, أي أنها باقية بقاءً لا انقطاع لها, ثم علق الرب -تبارك وتعالى- هذا بالمشيئة, فقال : {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}, أنْ يقطع عنهم هذا العذاب, فالأمر كله راجع إلى مشيئته -سبحانه وتعالى-, وقد بَيَّنَ -سبحانه وتعالى- أنَّ مشيئته نافذة في بقائهم بقاءً سرمديًا لا ينقطع, {........إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}[هود:107], {فَعَّالٌ}, صيغة مبالغة مِن الفعل, {لِمَا يُرِيدُ}, ما يريده الله -تبارك وتعالى- يُنْفِذُهُ, وليس هناك مَن يمنع الرب -سبحانه وتعالى- أنْ ينفذ ما يريد, فجمع هؤلاء وحشرهم على هذا النحو, وتبديل السموات والأرض وإلجاؤهم إلى أنْ يدخلوا النار على هذا النحو, كل هذا فعل والرب -تبارك وتعالى- قادر عليه, وما يريده يفعله -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود:108], القسم الثاني : {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}, وجاء هنا سَعِدُوا بالبناء لما لم يُسَمَّ فاعله وذلك أنه ليس بأنفسهم اختاروا السعادة, وإنما بعناية الرب بهم, وهدايته لهم, وإنقاذه لهم, اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا, {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}, هذه السعادة وهي بلوغ الفوز والمطلوب الأكبر, {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا}, أي أسعدهم الله -تبارك وتعالى- باتخاذ طريقه, قال -جلَّ وعَلا- : {فَفِي الْجَنَّةِ}, فيها كذلك, وكذلك إنَّ الجنة بستان عظيم له أبوابه أي أسواره, {فَفِي الْجَنَّةِ}, بستان الرب العظيم, الذي لا يعرف ويحد سعته إلا الله -تبارك وتعالى-, كما قال -تبارك وتعالى- : {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ........}[آل عمران:133], فهذه جنة واسعة تَسَعُ السموات والأرض, {خَالِدِينَ فِيهَا}, باقين فيها بقاءً لا انقطاع له, { مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ}, فالأمر كله عائدٌ إلى مشيئته, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {عَطَاءً}, أي مِن الله؛ وذلك أنها ليست ثمن لعبادته, وإنما هذه عطية مِن الله -تبارك وتعالى- يعطيهم إياها, {غَيْرَ مَجْذُوذٍ}, الجَذّ هو القطع, أي أنها لا تقطع ما ينقطع هذا العطاء, وإنما هو عطاء متصل ونعمةٌ سابغةٌ عليهم أبدًا نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ نكون وإخواننا المؤمنين مِن هؤلاء.

أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده وسوله محمد.