الجمعة 20 رمضان 1445 . 29 مارس 2024

الحلقة (28) - سورة البقرة 86-91

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله –تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله –تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}[البقرة:87]، هنا يحتج الله –تبارك وتعالى- على بني إسرائيل، فيخبر –جل وعلا- أنه قد آتى موسى الكتاب، قال {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ}، أي التوراة الكتاب الذي أنزل على موسى، {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ}، أرسل الله –تبارك وتعالى- بعد ذهاب موسى مجموعة من الرسل الكثيرين من بني إسرائيل، آخرهم عيسى –صلوات الله وسلامه عليه-، هؤلاء الأنبياء والرسل الذين جاءوا يحكمون بحكم التوراة، آخر هؤلاء قال –جل وعلا- {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}، البينات؛ الأدلة الواضحة على أنه رسولٌ من الله –تبارك وتعالى-، فقد أيده الله –تبارك وتعالى- بأنه كان يحي الموتى، يخلق من الطين كهيئة الطير، يصوره بيديه طيرًا، ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله، يبرئ الأكمه الذي ولد أعمى، يبرئ الأبرص بإذن الله، يخبر القوم بما يدخرونه في بيوتهم، يخبرهم بما يُرزقونه غدًا، فهذا من الغيب الإضافي، ومن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله –تبارك وتعالى- يطلعه الله عليه، فيخبر به، كل هذه أدلة واضحة على أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأنه مؤيد بهذه المعجزات من الله، {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}، جبريل –عليه السلام-، قد كان معه روح القدس هو جبريل، سمي بالروح لأنه ينزل بالروح، بحياة القلوب، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، نزله روح القدس جبريل –عليه السلام-، والقدس المقدس؛ والتقديس هو التنزيه والإبعاد عن السوء، أي البعيد عن السوء، فهو أمينٌ على وحي الله –تبارك وتعالى-، منزَّه عن الكذب، مطهَّر من كل الأدناس والأرجاس، فهو الروح المقدسة، روح الله –تبارك وتعالى-، وتأييده معه أنه يكون معه في دعوته، في ما كان يلاقيه من الشدة والمحنة، فكان مؤيدًا لعيسى –عليه السلام-، وأيدناه أي قوينا عيسى بروح القدس، وذلك أنه عيسى أرسل في قومٍ هم في الأساس تحت الكفار، بنو إسرائيل قد كانوا تحت قهر الرومان، ثم أن كان عامة بني إسرائيل مكذبين لعيسى، قائمين ضده، فقد كان أعداؤه من كل جانب، أعداؤه من بني قومه من بني إسرائيل، ثم أعداؤه بعد ذلك من الرومان، ولذلك كان يتنقل سرًا من بلدةٍ إلى بلدة في فلسطين، يدعو إلى الله –تبارك وتعالى-، وطلبوا القتل في إثرهِ، أيده الله –تبارك وتعالى- بروح القدس.

قال –جل وعلا- {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ}، أنتم يا معشر يهود، {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمُ}، بما لا تهواه أنفسكم، فأمر الدين على خلاف الهوى، وقد كانوا يريدون أن يفصلوا دينهم بأهوائهم، {اسْتَكْبَرْتُمْ} أي عن قبل الحق، {َفَفَرِيقًا} من هؤلاء الرسل الذين أرسلوا إليهم كذبوهم، {َفَفَرِيقًا} أي من هؤلاء الرسل والأنبياء كذَّبتم، آخر تكذيبهم لعيسى الذي قالوا فيه المقالات الشنيعة، فاتهموه بأنه ابنٌ لزنا، أنه كاذب، وأنه مفترٍ وأنه وأنه ...، {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ}، فريق من هؤلاء الرسل تقتلونهم، آخر من قتلوه يحي بن زكريا؛ وزكريا كذلك –عليهما السلام-، فقد قتلوهما وسعوا بكل سبيل أن يقتلوا عيسى –صلوات الله وسلامه عليه-.

كذلك هذه الجرائم وموقفهم مع الأنبياء؛ جرائم مضافة مع الجرائم السابقة، من أنهم كانوا يعملون ببعض أحكام التوراة، ويكفرون بالبعض الآخر، فالذي يفعل هذه الجرائم والذنوب العظيمة كيف يدَّعي بعد ذلك أنه لن تمسه النار إلى أيامًا معدودة! كل هذا جاء في سياق قولهم {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[البقرة:80]، {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81]، وهؤلاء كسبوا سيئة الكفر بالله –تبارك وتعالى-، وأحاطت بهم هذه الخطيئة، وذلك بأنهم كانوا مقرين لهذه الجرائم، يرون أن أهلها كلهم مغفور لهم مهما فعلوا لأنهم بنو إسرائيل، وبنو إسرائيل شعب الله المختار، وأمته الفريدة المفضلة على كل العالمين، وكلهم مبارك لبركة الله لإبراهيم ولإسرائيل، ولا يدخل أحدًا منهم النار إلا أيامًا قليلة، ولم يأخذوا بحكم الله –تبارك وتعالى- في أن الكافر مهما كان؛ ولو كان ابن لنبي، فإنه من كفر فإنه مخلدٌ في النار، ولا ينفعه نسبته إلى ما ينسب إليه من الأنبياء الصالحين المباركين.

لما احتج عليهم بكل هذا، عند ذلك بدأوا يلقون اللائمة على الله –تبارك وتعالى- في أنه خلقهم هكذا، وليس على أنفسهم أنهم اختاروا الكفر عن الإيمان، قال –جل وعلا- {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}، غلف أي أنها مغلفة؛ مغلفة بمعنى أنها مغطاة لا تنفذ إليها الهداية، قد خلقنا الله هكذا بقلوب مغلفةٍ بغلاف لا تنفذ الهداية إليها، قال –جل وعلا- {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ}، طردهم من رحمته، أصمهم على هذا النحو، أعمى أبصارهم على هذا النحو، بكفرهم أي بسبب كفرهم، باء السببية هنا بسبب كفرهم، فإن الله –تبارك وتعالى- لعنهم بذلك، واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمته، وطرده وإبعاده عن رحمته حرمانهم من هدايته –جل وعلا-، كما قال –جل وعلا- {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، لما زاغوا عن الحق أزاغ الله –تبارك وتعالى- قلوبهم، جعل الزيغ في قلوبهم، فلا تنفذ إليهم الهداية، ولا تأتي الهداية إليهم، {فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ}، قليلًا منهم الذين يؤمنون بالله –تبارك وتعالى-.

هذا في أنبياء بني إسرائيل، ثم جاء النبي الخاتم محمدٌ –صلوات الله وسلامه عليه-، فانظر كيف كان موقفهم معه؟ قال –جل وعلا-  {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}، هذا الكتاب هو القرآن، لما جاءهم أي بني إسرائيل، كتاب من عند الله القرآن، مصدق لما معهم؛ يصدق ما معهم من التوراة، ومن الإنجيل، ومن الرسالات التي أنزلها الله –تبارك وتعالى- على رسلهم، كالزبور المنزل على داود، وهو من أنبياء بني إسرائيل، يصدقها في أنه يدعو إلى ما دعت إليه، من توحيد الله –تبارك وتعالى- وعبادته، يصدقها في أخبار الإيمان، أخبار الغيب التي تخبر بها هذه الكتب، هي نفس الأخبار التي يخبر بها القرآن عن الله –تبارك وتعالى-، وعن رسالاته، وعن غيبه، وعن جنته، وعن ناره، وعن يوم القيامة، فهي تدعو إلى أمر واحد، تخبر بأخبار واحدة، فالدين أصله واحد، ثم الأخلاق والفضائل التي جاء بها التوراة، هي الأخلاق والفضائل التي جاء بها القرآن، لا تسرق، لا تزن، لا تغش، لا تحسد، كل هذا هي الفضائل التي جاء بها القرآن، ثم أخبار الأنبياء، بدء الخليقة، خلق آدم، ثم خطيئته، إبليس، الخروج من الجنة، الرسالات السابقة، ما في التوراة جاء القرآن يصدق ما في التوراة، فهو مصدق لما معهم في أخباره، في عدل، في أمره بالعدل، وفي بيان الشرعة التي يحبها الله –تبارك وتعالى-.

{وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا}، كانوا من قبل نزول هذا القرآن، وبعثة هذا النبي الكريم –صلوات الله وسلامه عليه- الذي أنزل عليه القرآن، يستفتحون على الذين كفروا، كان بنو إسرائيل يستفتحون على الذين كفروا، يستفتحون يطلبون الفتح، ومعنى يطلبون الفتح أي يطلبون أن يفتح الله –تبارك وتعالى- عليهم، بالنصر والتمكين على أعدائهم ببعثة هذا النبي، فقد كان اليهود في المدينة إذا قاتلوا العرب، وانتصر عليهم العرب، يقولون أنه يوشك أنه يبعث فينا نبي نقتلكم معه، ونهزمكم معه، فكانوا ينتظرون هذا النبي، ويعلمون أنه يفتح لهم وينصرون عندما يبعث فيهم هذا النبي، وينتظرونه بفارغ الصبر، ويعلمون صفته، وصفة النبي موجودةً عندهم في كتابهم، قال –جل وعلا- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، جاءهم ما عرفوا؛ جاءهم الكتاب الذي يعرفون القرآن، وجاءهم النبي الذي يعرفون، بل يعرفونه معرفة أكثر من معرفة أبنائهم، كما قال –تبارك وتعالى-  {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وقد قال عبد الله بن سلام؛ حبر اليهود وعالمهم، الذي آمن بالنبي –صلوات الله وسلامه عليه-، قال والله يا رسول الله إني لأعرفك أكثر من ابني، فقد كان عالمًا من علمائهم، ولما رأى النبي –صل الله عليه وسلم- أول ما رآه، يقول أولًا علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، ثم قال له اسمع إني سائلك عن ثلاث لا يعلموهن إلى نبي، وسأله وأجاب النبي –صل الله عليه وسلم- على هذه الثلاث، فقال له أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ثم في قصته الطويلة قال له يا رسول الله إن اليهود قومٌ بُهت، وأنهم إن علموا إسلامي بهتوني عندك، فخبئني وإذا جاءوا فاسألهم عني، فلما جاء اليهود إلى النبي –صل الله عليه وسلم-، وكان هذا في أول مجيئه إلى المدينة، ونزل قباء –صلوات الله وسلامه عليه-، ثم لما جاءوا عرض النبي عليهم الإسلام، وأنه رسول الله وبيَّن لهم، وقرأ عليهم القرآن، وقالوا: لا لا، نحن لا نؤمن إلى ما أنزل علينا بحكم القرآن، وأبوا أن يؤمنوا بالنبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-.

وعند ذلك قال لهم النبي –صل الله عليه وسلم- ما عبد الله بن سلام فيكم؟ فقالوا هو حبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وان عالمنا، وسيدنا وابن سيدنا، فشهدوا له بالسيادة عليهم، والسيد أي الرئيس المطاع، وأنه حبرهم وأنه عالمهم، وكذلك ورث العلم عن أبيه، فهو عالمهم وابن عالمهم، فقال لهم ما رأيكم لو أسلم؟ يعن إذا كان هذا عالمكم وحبركم، فقالوا أعاذه الله من ذلك، أي أعاذه الله أن يسلم، فخرج عبد الله بن سلام من خلف النبي، وقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فقالوا هو شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه، فقال عبد الله للنبي بعد ذلك، قال يا رسول الله هذا الذي كنت أخافه، كنت أخاف أن يقولوا هذا، والآن شهدوا بهذا، ثم كذَّبوا أنفسهم في الحال، فهم قومٌ بهت كما قال عبد الله بن سلام، أن اليهود قومٌ بهت، أي أهل كذب.

الله يقول {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا}، جاءهم النبي الذي يعرفون صفته على الحقيقة، كفروا به، قالوا ليس هو هذا النبي، كما جاء في الحديث أيضًا أن صفية بنت حُيَّي بن أخطب –رضي الله تبارك وتعالى عنها- أم المؤمنين، أبوها حُيَّي بن أخطب رأس الكفر، رأس اليهود في بني النضير، وقد أجلي من بني النضير ثم ذهب خيبر، ثم كانت مقتله هناك، تقول صفية كنت محببة عند أبي حُيَّي وعند عمي، تقول وفي يوم من الأيام، تقول كنت إذا أتيتهما هشَّا لي، وبشَّا بي وحملاني، كما هو الشأن في الأب عندما يلقى ابنته الصغيرة، والعم عندما يلقى ابنة أخيه، تقول وفي يوم جاء عمي فقال لأبي ألا تنظر إلى هؤلاء بني قيلة، قد اجتمعوا عند رجلٍ قالوا إنه نبيهم، ألا تذهب لننظر، تقول فذهبا أول النهار، تقول ثم عادا آخر النهار فاستقبلتهما، تقول عادا منكسرين، تقول فوالله ما أبهى لي، أي لم ينشطا للاحتفاء بي، وحملي والترحيب بي كما كانت عادتهم، تقول رأيتها منكسرين، تقول والله ما أبهى لي، تقول سمعت عمي يقول لأبي أهو هو؟ المراد هل هو النبي الذي أنتظره؟ أهو هو؟ قال إي والله إنه هو، قال هو، قال فما صنيعك به؟ أي ما الذي سنصنع به؟ فقال عداوته والله ما بقيت، عداوته والله ما بقيت، هذا كلام حُيَّي بن أخطب ترويه ابنته، صفية –رضي الله تبارك وتعالى عنها- أكرمها الله –تبارك وتعالى- فأصبحت بعد ذلك زوجة للنبي –صلوات الله وسلامه عليه- بعد خيبر، هذا الكلام قبل سبع سنوات من زواجها بالنبي، عندما نزل النبي في قباء، فيقول حُيَّي أنا أعلم أن هذا هو النبي، لكن عداوته والله ما بقيت.

فيقول الله –تبارك وتعالى- {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، لما جاءهم النبي الذي يعرفون؛ ويعرفون من صفته في توراتهم كفروا به، جحدوه، قال –جل وعلا- {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، هذا حكم من الله –تبارك وتعالى- لازم لهم، بأن لعنهم الله –تبارك وتعالى- وطردهم عن رحمته، بسبب هذا الكفر.

ثم بيَّن –سبحانه وتعالى- السبب في هذا، ما السبب الذي حملهم على الكفر؟ قال –جل وعلا- {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ}، أي بئس شيئًا؛ بئس هذا الأمر الذي اشتروا به أنفسهم، {اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، أخذوا الحسد وباعوا أنفسهم للشيطان، اشتروا به أنفسهم باعوهها للشيطان، واستبدلوا بها، ما الذي أخذوه بها، أن يكفروا اختاروا الكفر؛ { أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ }، البغي العدوان، الحسد، فحملهم على الكفر بالنبي –صلوات الله عليه وسلم-، حسدهم للنبي وقد كانوا يرجون ويأملون أن تكون وأن تبقى النبوءة فيهم، ولا تخرج من أولاد يعقوب من بني إسرائيل إلى غيرهم، فلما خرجت النبوة إلى أبناء إسماعيل، محمد من أبناء إسماعيل، عند ذلك حسدوه، وأبغضوه وأبغضوا قومه العرب أن تنتقل إليهم النبوة والملك.

فقال –جل وعلا- {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، حسدًا أن ينزل الله هذا القرآن وهذا الدين وهذا الفضل، وهذا الملك العظيم من فضله من إحسانه –سبحانه وتعالى-، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}، باءوا استحقوا، باءوا رجعوا، باء يأتي بمعنى رجع، وباء يأتي بمعنى استحق أو تمكَّن، بوأك الله منصبًا بمعنى أنه مكنك فيه وملكك إياه، {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ}، استحقوا غضب من الله –تبارك وتعالى- بعد غضب، الغضب السابق بكفرهم بالأنبياء، وقولهم في عيسى ما قالوا، ومشاركتهم أبائهم ولو بالاعتقاد فيما فعلوه في الأنبياء السابقين، فهذا الغضب القديم استحقوه، لما ارتكبوا بهذه الجرائم في التاريخ الطويل، ثم جاء كفرهم بمحمد –صلوات الله وسلامه عليه-، فاستحقوا غضبًا من الله –تبارك وتعالى- على الغضب الذي غضبه الله –عز وجل- عليهم سابقًا، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}، تهديد من الله –تبارك وتعالى- ووعيد، أن لهم عذابًا مهينًا، عذاب مؤلم وهو يهين، مهين؛ وذلك الإهانة في هذا العذاب إهانة حس، إهانة حسية وإهانة معنوية.

وقد صور الله –تبارك وتعالى- صور هائلة جدًا من الإهانة الحسية لعذاب يوم القيامة والإهانة المعنوية، فمن الإهانة الحسية أخذهم إلى النار بالنواصي والأقدام، جرهم إليها بالنواصي أو بأقدامهم، أو دعُّهم ودزُّهم إليها، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13]، ضرب المقامع من الحديد على رؤوسهم، صب الماء المغلي الحار فوق رؤوسهم، {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}[الدخان:49]، هذا من الإهانة المعنوية، تبكيتهم تأنيبهم تقريعهم الدائم، إذا استصرخوا واستغاثوا؛ يغاثوا لكن بشدة العذاب،  { ............ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}[الكهف:29]، إن هذا من الرفق لهم فيه إهانة؛ إهانةٌ إثر إهانة، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

ثم قال –تبارك وتعالى- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:91]، وإذا قيل لهم؛ إذا قيل لليهود، آمنوا بما أنزل الله دعوا إلى الإيمان بالله –تبارك وتعالى-، وقيل لهم؛ القائل الله –تبارك وتعالى-، كما نزل هذا القرآن يخاطبهم الله –تبارك وتعالى- فيه، ويناديهم إلى الإيمان، مئة آية في البقرة وحدها، تدعوا بني إسرائيل إلى الإيمان بالله –تبارك وتعالى- بدءًا من {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، ثم دعوة من الله –تبارك وتعالى- إلى الإيمان به، مباشرة منه –جل وعلا- إلى خطاب مباشر إلى بني إسرائيل، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}، ثم دعوة النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، كان يغشاهم عندهم، يذهب إليهم في بيت مدراسهم؛ في مدارسهم، يدعوهم يا فلان يا فلان، ويعرض عليهم الإسلام، وكانوا يعطونه ظهورهم، ويقولون له يا أبا القاسم قد بلَّغت، يا أبا القاسم قد بلًّغت، أي وصلت الرسالة، لست مرسلًا إلينا.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا}، أي نحن لا نؤمن إلا بالذي أنزل علينا فقط، أنزل علينا يقصد أُنزل على موسى، أي أنزل على أنبيائنا فقط مما يؤمنون به، قال –جل وعلا- {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}، كيف تكون مؤمن بالتوراة ثم تكفر بالقرآن، والقرآن هو أخو التوراة، هذا كتابٌ وهذا كتاب كلهما من مصدرٍ واحد، وهو الله؛ الرب الإله –سبحانه وتعالى-، الرب الذي تكلم بالتوراة هو الذي تكلم بالقرآن –سبحانه وتعالى-، هو أنزل هذا وأنزل هذا، فإن كفرت بالقرآن كفرت بالتوراة كذلك، لأنك كفرت بالله المنزِل، لأن الإيمان قضية واحدة، فإن آمنت بالله –تبارك وتعالى- يأمن أن تؤمن بكل ما أنزل، إن آمنت بالله –تبارك وتعالى- يجب أن تؤمن بكل من أرسل، وإلا كنت إذا كفرت بواحد من الرسل، كفرت بهم جميعًا، وإذا كفرت بكتاب من عند الله –تبارك وتعالى- كفرت بالكتب كلها، قال –جل وعلا- {وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ}، بما وراء الذي أنزل عليهم، {وَهُوَ الْحَقُّ}، وهو هذا الذي كفروا به هو الحق الثابت، {مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ}، يصدقه في العقائد التي دعا إليها، في الشرعة التي دعا إليها.

{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، أي إن كنتم مؤمنين كما تدَّعون، وأنكم مؤمنون بما أنزل عليكم، لماذا كان موقفكم مع الأنبياء الذين أرسلوا فيكم قد قتلتموهم؟ قتلتم يحيى، قتلتم زكريا، حاولتم قتل عيسى بكل سبيل، أنبياء أخر قبل يحيى وعيسى من أنبيائكم كما جاء في الحديث، أنهم كانوا يقتلون سبعين نبيًا، ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار، في أول النهار يقتلون هؤلاء، وحتى لا يجعلون يوم حداد عليهم، وإنما سوق البقل؛ والبقل من أخس وأقل الأمور بضاعةً واهتمامًا، يقوم سوقهم فيها، لا يؤخرون سوق بقلهم ليوم أخر، فقد كان قتل الأنبياء سنةً جاريةً فيهم، فكيف يكون هؤلاء! طبعً المخاطبون بهذا القرآن لم يشاركوا في القتل، ولكنهم اشتركوا في الاعتقاد، فإنهم يدافعون عن هؤلاء القتلة، ويعتقدون أنهم مؤمنون، وأنه لن تمسهم النار –كلهم كل بني إسرائيل- إلا أيام معدودة، لأنهم شعب الله المختار، ومهما صنعوا من جريمة فإنهم لا يخلَّدون في النار ولا يعذَّبون، حتى لو كان كفرًا وقتلًا للأنبياء، {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، كنتم حقًا كما تزعمون، {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:92]، أيضًا يا من تدَّعون الإيمان، قد جاءكم موسى بالبينات؛ بالدلائل الواضحة على أنه رسول الله –صلوات الله وسلامه عليه-، البينات التي جاء بها موسى كثيرة، عصاه، يده السمراء التي يضعها في جيبه ويخرجها فتكون بيضاء، هذه معجزته ليثبت لفرعون أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وهي كذلك معجزةٌ لبني إسرائيل، بأنه رسولٌ من الله –تبارك وتعالى-، جاءهم بهذا العصا هي التي فلق الله –تبارك وتعالى- بها البحر، طبعًا بقدرة الله، فقولنا { ............. اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ}[الشعراء:63]، هي التي لقفت وبلعت ما أفكه السحرة، ليبطلوا به المعجزة، على كل حال، لهذا تفصلٌ وبيان في حلقةٍ آتية –إن شاء الله-.

نكتفي الآن بهذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.