الحمد لله ربَّ العالمين, و الصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف:1], {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2], {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3], {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:4], {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:6], هذا مَطْلَع هذه السورة؛ سورة يوسف -عليه السلام-, يوسف -عليه السلام- هو ابن يعقوب بن اسحق بن إبراهيم, وتبدأ قصة يوسف -عليه السلام- مِن حيث هاجر إبراهيم نبي الله وخليل الله مِن أورالكالدنايين في العراق بعد أنْ طرده قومه, وقَصَّ الله -تبارك وتعالى- مِن شأنه ما كان, حيث دعا قومه إلى توحيد الله -تبارك وتعالى-, كانوا صابئة مِن عُبَّادِ النجوم والكواكب, ولم يسمعوا له, وكان أبوه مِمَن تصدى له وقال له : {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46], وجابه النمروذ أشر وأعتى الملوك في وقته والذي ادعى الألوهية, حيث قال لما أوتي بإبراهيم -عليه السلام- أمامه وسأله عن ربه قال : {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}, قيل عَمَدَ إلى رجل مظلوم لم يصنع جريرة فقتله, وعمد إلى رجل ممن حكموا عليه بالقتل فعفا عنه, فجعل تصرفه هذا الظالم هو الإحياء والموت, فعدل إبراهيم عن مجادلته في هذا الأمر وقال له : {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:258], كان مِن شأنهم بعد ذلك, بعد أنْ جمعوا له نيرانًا؛ ليحرقوه وأنجاه الله -تبارك وتعالى- مِن هذه النار, وهاجر إبراهيم بعد ذلك, رأى قومه كل هذه الآيات؛ ولم يؤمنوا فهاجر, قال : إني مهاجر إلى ربي, فهاجر وسكن في أرض الشام, أرض فلسطين نزل في المدينة المعروفة باسمه الآن مدينة الخليل حبرون, وعاش فيها وتزوج مِن قريباته سارة -عليها السلام-, وبقي عمرًا طويلًا لم يولد له, ثم أنه نزل إلى أرض مصر وكان مِن شأنه قصة طويلة, المهم أنه أُهْدِيَ لزوجته سارة هاجر المصرية, أهدتها لزوجها, تزوجها إبراهيم وولد له منها ابنه البِكْر إسماعيل -عليه السلام-, ثم أمر الله -تبارك وتعالى- إبراهيم أنْ يُسْكِنَ, هاجر وأمه بلاد العرب في أرض فران, أرض مكة فأخذ إبراهيم زوجته هاجر وابنها إسماعيل, وأنزلهما في مكان الحَرَم الآن, مكان زمزم وقصته مشهورة, وسيأتي تفصيل ذلك في مكانه -إنْ شاء الله-, ,وعاد إبراهيم فعاش في الشام وكان أحيانًا ينزل كل مدة يرى ما تركه فيه, يرى ابنه إسماعيل, وشَبَّ إسماعيل وتزوج والله -تبارك وتعالى -بارك فيه, وبنى إبراهيم وإسماعيل البيت الحرام, وبارك الله -تبارك وتعالى- في إسماعيل؛ فأصبح كان بعد ذلك مِن نسله العرب كلهم قحطانين وعدنانيين, إبراهيم -عليه السلام- سكن فلسطين أرض الشام, ثم أنه بعد ذلك بَشَّرَهُ الله -تبارك وتعالى -بولد يولد له مِن زوجته سارة, وذلك بعد أنْ شاخ وكبر حتى إنَّ الملائكة لما جاءوا يبشرونه قال : {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}[الحجر:54], {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}[الحجر:55], {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}[الحجر:56], جعل الله -تبارك وتعالى- إنجاب سارة وإبراهيم وهما شيخان كبيران, إبراهيم شيخٌ كبيرٌ, وزوجته امرأةٌ كبيرةٌ, عجوز وفي هذا السن المتقدمة, يُوَلُد لهما إسحاق -عليه السلام-, وقد بشرهما الله -تبارك وتعالى -بإسحاق أنْ يكون نبيًا, ومِن وراء إسحاق يعقوب فولد له إسحاق, وإسحاق بعد ذلك شَبَّ وكبر أصبح نبي, تزوج وولد له يعقوب -عليه السلام- في قصة طويلة مِن أبناء يعقوب وهو إسرائيل ابن إسحاق سكن كذلك في بلاد الشام, ولم يكونوا يسكنوا الحواضر مِن بلاد الشام, وإنما كانوا أهل بدو , وعاشوا رعاة إبل, ورعاة أغنام في بادية الشام, هذه وقائع هذه القصة الطويلة, فإنَّ هذه السورة انتظمت قصة يوسف مِن بدايتها, مِن رؤيته الرؤية التي كانت السبب فيما حَدَثَ له بعد ذلك, وما تدرج به حتى وصل إلى الشرف العظيم الذي وصله, بأنْ يسجد له أبوه وأمه وإخوته تشريفًا وتعظيمًا له, وأنْ يظهر بعد ذلك في مظهر النبي الكريم, والابن البار, المطيع, والأخ الصالح الذي يقابل السيئة بالإحسان, والعبد الصالح, والنبي الصالح الذي يفعل الخير أينما كان, ويبذله وينشره أينما كان, مثلًا كريمًا, مثال عظيم يوسف وهو كما سُئِلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- مَن أكرم الناس قال : (يوسف ابن يعقوب بن إسحاق ان إبراهيم), فَمِن حيث الكرم النفاذة وذلك أنه مِن سلالة أنبياء على هذا النحو, هو يوسف ابن يعقوب نبي, ابن إسحاق نبي, ابن إبراهيم نبي, رسول, وخليل الرحمن -سبحانه وتعالى-, يوسف -عليه السلام -وإخوانه وأبوه يعقوب ومِن قبلهم إسحاق عاشوا في بادية الشام بدو, وكان أول سكناهم الحواضر بعد ذلك عندما هاجروا إلى مصر, وكان السبب في ذلك ما قصه الله -تبارك وتعالى -في هذه القصة مِن كيد إخوانه له, ثم بيعه عبدًا رقيقًا في مصر, ثم ما كان له مِن شأن زوجة العزيز الذي اشتراه مِن مصر, وما حصل له بعد ذلك مِن السجن الطويل, والخروج بعد ذلك بأمر عظيمٍ بارعٍ منه, الشاهد أنَّ يوسف بعد ذلك سكن مصر, ثم استقدم بعد ذلك إخوانه إلى مصر فسكنوها ما شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يسكنوها نحو خمسمائة عام, ثم كانت رحلتهم بعد ذلك خروجًا مِن مصر كما سيأتي بالتفصيل في قصة موسى -عليه السلام-, هذه لمحة عن وقائع هذه القصة لنكون على شيء مِن التصور عندما نأتي إلى إخبار الله -تبارك وتعالى- بهذه القصة مع سياقة القرآن, والعبر التي ضَمَّنَهَا الله -تبارك وتعالى- بعد أنْ يقص الله -تبارك وتعالى- كل فاصل منها, وكل خطوة فيها, بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة العظيمة بالحروف المُقَطَّعَة, {الر}, وقد مضى كثيرًا بيان المعاني التي قالها أهل العلم في هذه الحروف, قال -جلَّ وعَلا- : {........تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف:1], {تِلْكَ}, إشارة يشير الله -تبارك وتعالى- إلى هذا الكتاب الكريم, فقال: {........تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف:1], آياته, الآيات هي الدلالات الواضحات, وكل جملة في القرآن آية فيها دلالة واضحة على أنَّ هذا الكلام كلام الله -تبارك وتعالى-, وذلك بهذه الصياغة المعجزة التي يستحيل على العرب الفصحاء الذي نزل القرآن بلغتهم أنْ يأتوا بكلام يشابهه أو يقاربه, {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}, سماه الله -تبارك وتعالى- كتابًا؛ فإنه قد كُتِبَ في السماء ونزل شفاهًا مِن الله -تبارك وتعالى- إلى جبريل ومِن جبريل إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- نزل على قلبه ليحفظه بمجرد ما يسمعه يحفظه, {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17], ثم إنه كُتِبَ بعد ذلك في الأرض, وهو أعظم كتاب يكتب في الأرض, ويقرأ في الأرض, {الْمُبِينِ}, البَيِّن الواضح أنه مِن الله, وكذلك المُبْيِن, المُبِينِ بالفعل المتعدي, المُبِينِ لكل ما نزل له من العقائد والأحكام وأصول الإيمان والأخلاق وهو موضوع القرآن فهو مبين بيانًا كاملاً ومفصل مفصلاً كاملاً لكل معنىً جاء هذا القرآن لإيضاحه وإظهاره, {........تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[يوسف:1], {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2], {إِنَّا}, الرَّب, الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, والله -تبارك وتعالى- يؤكد أنَّ هذا القرآن منه, وهذا كثير في القرآن تأكيد الله -تبارك وتعالى- دائمًا على أنَّ هذا الكلام نازلٌ مِن عنده -سبحانه وتعالى-, {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2], حال كونه قرآنًا مقروءًا عربيًا بلغة العرب, {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}, أيها المخاطبون, وهذا مِن تفضل الله -تبارك وتعالى- للعرب الذي نزل القرآن بلسانهم, فإنه إذا نزل بلسانهم, ولا شك أنهم يعرفوا معاني العربية ومراداتها والتصريف فيها, فيكون هذا أدعى إلى أنْ يعقلون ولو أنزله الله -تبارك وتعالى -بلغة أخرى, ولغة أعجمية وجاء مِن يقرأ عليهم هذا الكتاب الأعجمي, فإنهم لا شك أنهم لن يعقلوه كما قال -تبارك وتعالى- : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ........}[فصلت:44], أي لولا فُصِّلَت لنا آياته حتى نعرفها, فيقول لهم : كان ممكن تعتذروا هذا لو أنَّ الله -تبارك وتعالى- أنزل القرآن على نبي مِن غير العرب, ثم جاء ليقال عليكم فاذكروا نعمة الله -تبارك وتعالى- أيها العرب عليكم, ولو أنزل الله -تبارك وتعالى- قرآنا أعجمي على النبي العربي ثم يترجمه لهم, لكذلك قالوا : {لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}, أي بلغتنا حتى نفهمها, {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}, {أَأَعْجَمِيٌّ}, كتاب, {وَعَرَبِيٌّ}, رسول, رسول عربي؛ ولذلك جعل الله -تبارك وتعالى-رسوله عربيًا, وقرآنه عربيًا, وهذه مِنَّة عظيمة على مَن كان يتكلم بهذا اللسان وقت نزل الوحي, فإنَّ هذا أسهل وأيسر جدًا لأنْ يصل إلى مراد الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2], وكذلك هذا الخطاب للعالم كله, وذلك أنَّ اللغة العربية هي أشرف اللغات, وأحسنها مِن حيث إظهار المعنى المراد, فإنَّ هذه اللغة هُيِّئَ لها قوم صناعتهم الأساسية, وعنايتهم الكبرى بالكلام, الحديث ولذلك مثلًا ممكن ذات واحدة يطلقون عليه عشرات ومئات الأسماء, وكل اسم يدل دلالة معينة على هذه الذات, فالناقة والسيف والأسد هذه تجد لكل واحد منها أكثر مِن مائة اسم في لغة العرب, وهو يُبَيِّن أوصاف فهو سيف ومهند وصارم, وهذا أسد وليث وهزبر وغضنفر وقسورة, وكل اسم مِن هذه الأسماء إنما يُعْطِي معنى مِن معاني أوصاف هذه المسمى, فكثرة المترادفات وسعة المفردات, وسعة تنويع المعنى, فالسرقة غير الاختلاس, غير النهبة كل أخذ للمال مِن الغير لكن صور كل صورة مِن صور أخذ هذا المال العرب يضعون لها مسمى خاص؛ حتى لا يختلط معنى بمعنى, ثم تصريفهم في كلامهم بالتشبيهات والاستعارات والكنايات, جعل هذه اللغة لا نقول مِن أغنى ما تكلم الإنسان في كل عصوره, بل أغنى لغة, وأفصح وأبين لغة وُجِدَت وتوجد على ظهر هذه الأرض, هذه اللغة التي ينزل القرآن بها على هذا النحو, عندما يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- بها كتابه الخاتم, آخر كلمة لله -تبارك وتعالى- منه -سبحانه وتعالى- إلى الناس في الأرض هذه آخر كلام؛ لأنه الله -سبحانه وتعالى- لا يُرْسِلُ رسولًا بعد رسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ولا يُنْزِلُ كتابًا بعد ذلك هذا كلمة الله -تبارك وتعالى- الأخيرة إلى أهل الأرض, وتبقى هذه الكلمة هي الحجة لله -تبارك وتعالى- على عباده إلى أنْ تقوم الساعة, وهو هذا الكتاب للعالمين للناس أجمعين, فكون هذا الكتاب على هذا النحو, ينزل بهذه اللغة الشريفة, العظيمة, الغنية, البَيِّنَة, الواضحة يبقى كتاب الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك سهل التناول, يسير على كل الأمم والشعوب التي تتعلم هذه اللغة, وبالتالي نفهم عن الله -تبارك وتعالى-, ولو أنزله الله -تبارك وتعالى- بلغةٍ أخرى منها هذه اللغات الضعيفة, الركيكة التي فيها خلط هائل جدًا, وفيها لَبْس وكل مَن يقرأ بها لابد أنْ يختلط عليه الأمر؛ مِن قلة المفردات فيها, ومِن إنَّ الكلمة الواحدة قد تأتي لها معاني كثيرة, وبالتالي يتعب الإنسان في تحويل هذه الكلمة, وأين تذهب إلى المعنى الذي يراد بها, ومِن كونها جامدة, الكلمات كلها فيها مبينة, ليست معربة, اللغة العربية معربة, الكلمة الاسم يأتي مرفوعًا فيأخذ صوت معين كتابٌ, ويأتي مجرورًا فيأخذ صوت معين كتابٍ, ويأتي منصوبًا فيأخذ صوت كتابًا, هذا التصويت هو مباشرة يعطي وضع هذه الكلمة, هل هي جاءت فاعل, ولا جاءت مفعول, ولا جاءت مجرورة قبلها حرف جر, أما لو كان كتاب ولا تتحرك ولا تعرض بهذا؛ فإنَّ هذا يحتاج إلى جهد آخر لمعرفة وضع هذه الكلمة في سياقها, والمعنى المقصود بها, فهذا الإعراب الذي تمتاز به أيضًا هذه اللغة العربية يجعل مِن اليسير الوصول إلى المعنى وبيانه, على كل حال المقصود هو أنَّ قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[يوسف:2], هو خطابٌ للعرب أنَّ الكتاب نزل بلغتهم, وهو كذلك خطاب للعالمين أنه نزل بأشرف اللغات وأحسنها, والتي تُظْهِرُ وتُبَيِّنُ المعنى على أتمه, فكيف ثم إذا خاطب الرب عباده بهذه اللغة الشريفة لا شك أنَّ هذا يكون أدعى لتمام البيان, وبالتالي تمام إقامة الحُجَّة على العباد وإظهارها, {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}, أي عن الله -تبارك وتعالى- ماذا يريد منكم؟ وماذا يريد لكم؟.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3], {نَحْنُ}, الله هذا أيضًا تأكيد منه -سبحانه وتعالى- بأنَّ هذا القرآن وهذه القصة وقَصص الله -تبارك وتعالى- على نبيه القصص في القرآن إنما هي منه -سبحانه وتعالى- وليس مِن غيره, فليس هذا تأليفًا مِن غيره, أو عبارة عما يريده الرب -تبارك وتعالى- بل الله هو الذي يقص -سبحانه وتعالى-, {نَحْنُ}, الله -جلَّ وعَلا-, {نَقُصُّ}, كذلك الله -جلَّ وعَلا- هو الذي يقص, {عَلَيْك}, أيها النبي, {أَحْسَنَ الْقَصَصِ}, بإطلاق مِن كل نواعي الحُسْن أولاً حسن القصة مِن حيث هي قصة القصة للإمتاع وللتشويق وللإثارة, ولانتظار النتائج منها, عقدة تكون في أول العقدة, ثم يسير الإنسان معها لا تُحَلّ هذه العقدة إلا في نهاية القصة, كثرة المشاهد, تنازع المشاعر, الصراع بين الحق والباطل, الخير والشر, نهاية سعيدة لهذه القصة, فَمِن حيث هي قصة فيها الإمتاع والإثارة والتشويق, وكل المشاعر الإنسانية الموجودة؛ مشاعر الخير والشر كلها تأتي بعد ذلك صفات العالية الحميدة مِن المثل العالية جدًا مِن البشر خُلَقًا واستقامة وديناً, كذلك ما في البشر مِن الشر, مِن الكيد والتآمر والحقد مِن الإنسان الذي تصنع له جميلًا فيوليك ظهره بعد ذلك, ومِن إنسان تصنع له جميلًا, فيحمل هذا الجميل, والانتقال مِن كل بيئات الناس, مِن السوقة السائرين في الطريق إلى الملوك في قصورهم وعروشهم, إلى الحواشي التي تعيش معهم, إلى الشعوب والعقل الجمعي, إلى مجالس علية الناس, وكذلك مجالس سوقتهم, إلى القصور, إلى السجون, فشمول القصة لكل درجات الناس, وأماكن المجتمع كله, فتعيش حياة كاملة بكل معاني الحياة مِن أشرف وأعلى الناس إلى الناس أوضع الناس, وسفلة الناس في الكل, هذا مِن معنى, كذلك ما تؤدي إليه هذه القصة مِن العواقب الجميلة لأهل الإحسان, والعواقب السيئة لأهل الإساءة, انظر مَن يُحْسِنَ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يضيعه, {........إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة:120], وأنَّ المسيء مهما مكر وبالغ وكاد ألا أنْ تكون عقوبته سيئة, فهذا بيان أيضًا لسنن الله -تبارك وتعالى- في الخلق, انظر المحسن قد يبدأ حياته, ويبدأ مشواره الطويل في الإحسان فيلقى العنت, ويلقى الخصومة, ويلقى المعاندة, ولكن في النهاية ينفعه إحسانه والمسيء صاحب الشر, صاحب الحسد ممكن يلقى في أول الأمر بعض النجاحات في ظنه, ولكن تكون عاقبته بعد ذلك سيئة, بيان العواقب وأنَّ العواقب للمتقين, إبراز النموذج العظيم والخُلُقِ القويم والصفات الإنسان الكامل الراشد تحتذي وتُتَّخَذ, فهذه فيكون هذا مِن مغازي ومعاني القصة, فهذه قصة إنما ترشد وتسير أولاً حسب سُنَن الله -تبارك وتعالى- في الخَلْقِ والناس لا كما يفتريه مَن يفتريه, وقد يُمَجِّد العناصر السيئة, الشريرة, البغيضة, ويهين النماذج الكريمة الكبيرة, وهذا خلاف سُنَنِ الرب -تبارك وتعالى-, خلاف سنن الله -تبارك وتعالى- في خَلْقِهِ فهذا حديث يُفْتَرَى, وهذا حديث صحيح واقعي يُبَيِّنُ سُنَن الله -تبارك وتعالى-, ثم أنه أحسن القصص؛ لأنه كذلك حق, واقع وليس خيالًا يتخيل ولا كذبًا يُفَتَرى, وهو فارق بين هذا وهذا, بين قصة مكذوبة مفتراة ليست لها حقيقة, وبين قَصَص حق قد وقع كل حدث مِن هذه القصة كان أمرًا حقيقًا واقعًا, فهذا لا شك أنه أحسن القصص ما يقصه الله -تبارك وتعالى- على عباده أحسن القصص, لا قصص خير ِمن هذا بكل معاني الوجود, بكل معاني وجوه الحُسْن, فإنَّ هذه قصص الله -تبارك وتعالى- يحمل كل هذا الحسب, وفي هذه السورة العظيمة التي انتظمت كلها قصة واحدة تسير معها في مشاهد متعددة ينقلها الله -تبارك وتعالى- مِن مشهد إلى مشهد, ومِن موقف إلى موقف بأمر مِن الأمور العجيبة, المعجزة في صياغة قصة بلغت الغاية في الإحسان والإتمام, فهي مِن حيث البلاغة, ومِن حيث موضوع القصة لا قصة أجمل منها, ولا أحسن منها, ولا أكمل منها, وأما مِن حيث ما تضمنته بعد ذلك مِن المعاني العظيمة, فهذا أمر يفوق الوصف, {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3], {........وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3], بوحينا لك هذا القرآن فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد ضَمَّنَ هذا القرآن أحسن القصص إمتاعًا وتعليمًا وتأديبًا ونظرة, ثم كذلك برهانًا وبيانًا, فإنَّ مِن حِكَم وغايات هذه القصة إثبات نبوة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-, وأنه رسول الله حقًا وصدقًا, وذلك أنه مِن أين للنبي أنْ يعلم هذه الأخبار التفصيلية التي جاءت في هذه القصة, رؤية يوسف -عليه السلام-, إلى رؤيا يقصها على أبيه, يتآمر إخوته عليه, يلقونه في هذا المكان, يأخذه مَن يأخذه, ثم هذا سياق كله بهذه التفصيلات الدقيقة, مِن أين للنبي أنْ يعلم هذا, ولم يقرأ هذا في كتاب, ولم يكن قارئًا -صلوات الله والسلام عليه-, ثم إنه ليس تأليفًا إنها قصة وقعت وهي كذلك بأيدي وبعلم أهل الكتاب الذين لم يلتقِ بهم النبي, ولم يعرف ما عندهم, وبالتالي عندما يأتي النبي بهذه القصة بهذه التفصيلات, فإنَّ أهل الكتاب إما أنْ يُصَدِّقُوهُ, وإما أنْ يكذبوه والأمر عندهم, فإذا صَدَّقُوهُ على هذا وقالوا نعم هذا حق, هذا دليل على صدقه -صلى الله عليه وسلم-, وإذا كَذَّبُوهُ ظهر كذبهم كذلك وذلك أنَّ هذه القصة مدونة ومكتوبة عندهم في الكتاب؛ ولذلك أهل الكتاب مِن اليهود والنصارى الحريصين, الذين كانوا في غاية الحرص على إبطال دين النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستطيعوا أنْ يردوا شيئًا مِن ذلك, ولا أنْ يقولوا بأنَّ هذه القصة مفتراة, ولم يكن يوسف هنا, ولم يسكن هذا المكان, ولم ينتقل هنا, وإنَّ بعض الذي ذكرته عن يوسف ليس بصحيح بل إقرارهم بهذا دليل على صِدْقِ النبي محمد -صلوات الله عليه وسلم-, وهذا مِن كذلك حِكَم قَصُّ الله -تبارك وتعالى- علينا لهذه القصة, {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ........}[يوسف:3], أي ليكون كذلك دليلًا على أنك رسول الله حقًا وصدقًا, وأنَّ هذا القرآن هو نازل مِن عند الله -سبحانه وتعالى-, {........وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3], مِن الغافلين عن هذه الأمور, ألم يكن للنبي علم بها, فالغفلة عن الشيء هي البعد عنه والجهل به, فالنبي كان لم يكن عنده علم بشيءٍ مِن ذلك بتاتًا, ولا كان يعرف يوسف ولا يعقوب ومَن هؤلاء, ولا كيف سكنوا, ولا أين انتقلوا, لم يكن عند النبي علم بهذا, {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا........}[الشورى:52], فهذا مِن مراد الله -تبارك وتعالى- في القصة كذلك أنه أنزلها؛ لتكون شاهدًا للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-.
سنقف عند هذا -إنْ شاء الله-, ونكمل في الحلقة الآتية, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.