الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (282) - سورة يوسف 3-13

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:4], {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:6], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ يوسف -عليه السلام- وهو غلام صغير, قال لأبيه : {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ}, أذكر إذ قال يوسف النبي, الكريم ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم, إذ قال لأبيه أي يعقوب وهو إسرائيل, {يَا أَبَتِ}, خاطبه بهذا الخطاب الكريم, {........يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:4], الكواكب التي في السماء, والشمس هو بالنسبة لأهل الأرض أشرف وأعلى هذه الكواكب, والقمر دون الشمس فهما أكبر آيتين مِن الآيات لأهل الأرض, الشمس والقمر والكواكب التي أصغر منها, يقول : {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا}, مِن كواكب السماء, والشمس والقمر رأيتهم في حال سجود له, {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}, ويعقوب النبي فَهِمَ وعَلِمَ تأويل هذه الرؤيا, وأنها رؤيا عظيمة وأنَّ معناها في النهاية أنَّ هذا الغلام ابنه سيكون له مِن الشأن العظيم أمرًا بعيدًا, وشأوًا كبيرًا, وأنه سينتهي به الأمر والمطاف إلى أنْ يصبح أبوه وأمه وإخوانه مُعَظِّمِينَ له ساجدين له, فلما رأى هذه الرؤيا عَلِمَ مِن ابنه, وأنه رأى هذه الرؤيا العظيمة, قال له : {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ........}[يوسف:5], لا تخبر إخوتك بالذي رأيته في منامك, {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}, ربما يكيدوا لك لما يعلمون مِن الشرف العظيم الذي تناله كيدًا, كيدا ما أي كيد, {........إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], وهذا مِن يعقوب -عليه السلام-؛ لأنه عليم بالنَّفْسِ البشرية, بل بنفوس الخلائق, فإنَّ الحسد هو أبو الشرور, كل الشرور التي وقعت في هذا الوجود إنما كانت بسبب الحسد, هذا بدء الشر, فأول معصية أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عنها, وهي امتناع إبليس عن السجود لآدم كانت بسبب الحسد, فإنَّ إبليس عَظُمُ عليه, وكَبُرَ عليه أنْ يأمر الله -تبارك وتعالى- كل ملائكته أنْ يسجدوا لهذا المخلوق الجديد, الحديث, آدم -عليه السلام-, وذلك أنَّ الله قال لهم : {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}, أي آدم, {........وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29], قال -جلَّ وعَلا- : {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر:30], وإبليس حسده, وهذا الحسد حَمَلَهُ على معصية الرب, عدم السجود, حسده إذ كيف ينال هذا الشرف العظيم وهذا ليس له شيء في الخدمة, وهو يرى نَفْسَهُ أنه أعظم منه, وأكمل عنصرًا منه, هو مِن النار, وهذا مِن الطين, فقال : ما كنت لأسجد لما خلقت طينًا, وقال : {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ........}[الإسراء:62], لماذا كرمته علي؟ { أَرَأَيْتَكَ}, أخبرني كرمت علي, {........لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62], لو أخرتني يوم القيامة, لم تحكم عليَّ بالموت فإني أستطيع أنْ أقود ذريته خلفي, {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}, أنه ليس أهلًا لكرامتك أنا خير منه, فكان الحسد هو دافع إبليس إلى الكفر والعناد والإصرار على الإضلال, {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص:82], {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[ص:83], كل ما أتي مِن الشر بعد ذلك, مِن إبليس وكفره وعداوته وشركه وسعيه بالإفساد في الأرض, وإضلال بني آدم جاء مِن هذه الخصلة التي تَخَلَّقَ بها, والخصلة التي دخلت قلبه وهي الحسد, فكان مِن وراءها ما كان, أول  معصية وقعت مِن الناس بعد ذلك في الأرض, أي وقع مِن آدم -عليه السلام- معصية في السماء وهي أنه أكل مِن الشجرة التي نهاه الله -تبارك وتعالى- عنها, أخذ هذا بغفلة لكن بسبب إبليس, وإبليس بسبب الحسد, أول معصية وقعت في الأرض بعد ذلك؛ قتل أحد أبناء آدم, قتل أحدهما للآخر لما وقع هذا؟ وقع بسبب الحسد, هذان أخوان ليس في الأرض غيرهما, الأرض كلها خالية بشر إلا منهما, جاءت تسميتهما في التوراة هابيل وقابيل, هذان أحد الإخوة يقتل أخاه بلا داعي, وبلا سبب منه؛ مِن هذا الأخ, وإنما كان السبب فقط هو الحسد لما يتقبل منك قربانك الذي تقربت به إليه ولا يتقبله مني؟ وهذا أمر غير داخل في فعل أخيه, كما قال -تبارك وتعالى- : {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا........}[المائدة:27], كل واحد قَرَّبَ قربانًا,{فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا}, تَقَبَّلَ الله قربان واحد منهم, {........وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}[المائدة:27], ثم امتنع هذا الأخ عن أنْ يدافع عن نَفْسِهِ, وأنْ يستسلم للقتل حتى لا يشارك أخاه في شيء أي إثمه ومعصيته, قال : {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[المائدة:28], {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ}[المائدة:29], {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ........}[المائدة:30], هذا القتل الذي هو أعظم جريمة وقعت في الأرض مِن حيث الجرائم الكبرى قبل الشِّرك, الشرك وقع بعد ذلك كله كان بسبب الحسد, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «ما مِن نفسٍ تُقْتَلُ ظلمًا إلا كان لابن آدم الأول كِفْلٌ منها؛ لأنه أول مَن سَنَّ القتل», كان بسبب الحسد اليهود, الأمة العظيمة, وارثة لكتاب التي كانت هي أولى الأمم باتِّبَاعِ هذا النبي؛ لأنها كانت تنتظره هو المُخَلِّص الذي بَشَّرَ به موسى, بَشَّرَ به عيسى أنه هو المخلص الذي يخلصهم مِن الفرقة والشتات والضياع وتسلط الأمم عليه فإنَّ الله -تبارك وتعالى- قد مَزَّقَهُم في الأرض بكفرهم, قال : {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ........}[الأعراف:168], وكانوا يهانون في كل مكان, وكانوا في الجزيرة العربية يهانون وعندما يُذَلُّونَ ويُهْزَمُونَ, كانوا يقولون للعرب : (يوشك أنْ يُبْعَثَ فينا نبي نقاتلكم معه, وننتصر عليكم), هذا مُخَلِّصَهُم الذي ينتظرونه, لكن لما جاء ورأوا أنه عربي وأنه مِن نسل إسماعيل وهم مِن نسل إسحاق حسدوه, وقال -جلَّ وعَلا- : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ........}[البقرة:90], والحالة أنَّ إسماعيل هو ابن إبراهيم, وإسحاق الذين هم مِن نسله هو ابن إبراهيم , فهم تابعون لأبٍ واحد هو إبراهيم -عليه السلام- وماذا أنْ ينزل الله -تبارك وتعالى- مِن فضله في النبوة على مَن يشاء مِن عباده, وهم أبناء عمومة كذلك إخوة, إذا نزل هذا الوحي والقرآن والرسالة الخاتمة علي أحد مِن أبناء عمومتنا, وهذا فضل الله لما الحسد؟ لكن اختاروا الكفر بالله -تبارك وتعالى-, وحرب هذا الرسول ما بقي, ولم يؤمن بالنبي منهم عشرة, وأكثر ناس خاطبهم الله -تبارك وتعالى- في القرآن حتى يرجعوا إليه هم اليهود ,بدءًا مِن قوله -سبحانه وتعالى-في سورة البقرة : {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40], {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41], وخطاب الله لهم خطاب عظيم جدًا يُذَكِّرُهُم الله ويناديهم, ويُبَيِّنُ لهم تعالوا هذا هو الطريق الخلاص, وهذا طريق النجاة ,وهذا طريق السعادة, لكن قالوا لا , رسالة تنزل على مَن ليس منا لا نقبله, ليس منا وإنْ كان هو مِن أبناء العمومة حسد, الحسد أبو الشرور وهو أساسها, وكل الشر الذي يأتي بعد ذلك كله نتيجة هذا, يعقوب -عليه السلام- عَلِمَ مِن ابنه هذا الذي كان يحبه حبًا عظيمًا ما سيكون مِن شأنه بعد أنْ رأى هذه الرؤيا التي تنم على أنَّ شيئًا عظيمًا جدًا سيكون لهذا الغلام, وخشي أنَّ يوسف إنْ قَصَّ رؤياه على إخوته أنْ يبدؤا في الكيد له يحملهم الحسد, أبو الشرور وأنَّ الإنسان ممكن يحسد أقرب الناس إليه حتى أخيه, وإخوته هنا كانوا فيهم إخوة غير أَشِقَّاء, وكان له أخو شقيق وهو بنيامين, وأيضًا الإخوة مِن الأب والأم غير الإخوة مِن الأب فقط, والذي أمهاتهم مختلفة قد يكون فيه شيء مِن الاختلاف والتنازع, فالشاهد أنَّ يعقوب -عليه السلام- وهو إسرائيل قال ليوسف -عليه السلام- : {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا........}[يوسف:5], الكيد هو إيصال الضر بطريق خفي, فهذا الكيد كل مَن أراد أنْ يوصل ضرًا وشرًا إلى الغير بطريق خفي تسميه العرب كاد له, ويكون دائمًا الكيد عن تخطيط, وعن تدبير, {........إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], وذلك أنه الداعي إلى كل شر, الشيطان هو محرك كل شر وهو الداعي إلى كل شيء, والشيطان ممكن أنْ يُحَرِّكَ إخوانك فيكيدوا لك كيدًا, {عَدُوٌّ مُبِينٌ}, {عَدُوّ}, بَيِّن العداوة, واضح العداوة.

ثم قال له : {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:6], {وَكَذَلِكَ}, كهذه العناية والاجتباء والاصطفاء, {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}, أي كما أراك الله -تبارك وتعالى- هذه الرؤية العظيمة, {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}, والاجتباء هو الاختيار, أي أنه قد رأى أنَّ هذا باب لأنْ يجعله الله -تبارك وتعالى- نبيًا, {يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ}, بالنبوة وبالقرب والمحبة, {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}, إتمام النعمة بالنبوة والرسالة والخلق العظيم, {وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ}, آل الشخص ذريته وأزواجه, ويعقوب إسرائيل قيل إنه سُمِّيَ بيعقوب؛ لأنه ولدته أمه جاء بعد أخيه, توأمه وهو عيسى وأنه نزل قد ماسكًا بعقب أخيه كان قابض على عقب أخيه عند نزوله مِن بطن أمه؛ فسمي يعقوب لذلك, {كَمَا أَتَمَّهَا}, الله -تبارك وتعالى-, {عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ}, أبويه وهم جده إسحاق, والجد الأعلى إبراهيم, {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ}, ذَكَرَ إبراهيم أولًا؛ لأنه الأعلى والأشرف, {وَإِسْحَاقَ}, ابنه, وإسحاق هو أبو يعقوب, {........إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:6], كما أتم الله -تبارك وتعالى- نعمته على أبويك جدك الأعلى إبراهيم, ومَن بعده وهو إسحاق, يعقوب لم يذكر نَفْسَهُ؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد مَنَّ على هؤلاء بالنبوة فكذلك يختارك الله -تبارك وتعالى- لهذا الأمر, هذه الرؤيا تنم عن هذا الأمر, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- سيختارك لأمر عظيم, ويتم عليك نعمته بالنبوة, {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ}, بشؤون خَلْقه -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, في أي أمر فاجعل هذا هنا وصف الله -تبارك وتعالى- بهاتين الصفتين مما يبين أنه يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-, وأنَّ هذا توسمًا منه الخير أنَّ الله -تبارك وتعالى- يضع النبوة في هذا المكان الطيب الطاهر.

لقد انتهى الأمر, وأصبح الأمر هنا أمام بداية للقصة وهذا قصة فيها نوع مِن العقدة أو اللغز؟ ما هذه الرؤيا؟ كيف ستنتهي؟ كيف سَتَؤَوَّل؟ ما هو الأمر؟ ثم لا تفك هذه الرؤيا إلا في نهاية القصة, قال -جلَّ وعَلا- : {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}[يوسف:7], {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:8], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- بأنه كان في يوسف وإخوته آيات عظيمة, كثيرة على أي شيء الإخوة يحصل بينهم حسد تنازع, كيف ممكن أنْ يكيد الإخوة لمن يحسدونه, لا يأمنهم, صور هذا الكيد, صور الكذب, كيف ينكشف هذا الأمر, كيف مَن شرفه الله -تبارك وتعالى- يقابل الإساءة بالإحسان, كيف ممكن أنَّ الكيد الصالح في أنْ يُظْهِرَ الإنسان حقيقة مَن أراد به شرًا {........ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76], انظر الكيد الحسن, وانظر الكيد السيئ, وترى الكيد الحسن, أمر عظيم جدًا كيف يقع هذا مِن الشرير؟ وكيف يقع هذا مِن المُحْسِن؟ ففيها آيات عظيمة جدًا, كثيرة, {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}[يوسف:7], لمن يسأل عن حقيقة هذا الأمر فيها آيات, وهذه القصة جاءت لبيان هذه الآيات, {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ........}[يوسف:7], عظيمة, {لِلسَّائِلِينَ}, {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ........}[يوسف:8], {إِذْ قَالُوا}, وهم إخوة يوسف, {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ}, لام التأكيد, يوسف وأخوه بنيامين, شقيقة مِن أُمٍ واحدة, وهؤلاء الإخوة كانوا غير أَشِقَّاء, {........أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:8], كيف يحب هؤلاء وكانوا هم ابن الزوجة الثانية, وهم صغار وأولئك الأَشِقَّاء كبار هم الذين يقومون بالعمل وبالرعي, وهم جماعة كبيرة, عشرة أشخاص, وهم القائمون بشأن المعاش والحياة, وهذا غلام صغير, وغلام صغير, {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا}, هؤلاء الصغار, {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}, جماعة قوية, {........إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:8],  أنْ يُؤْثِرَ هؤلاء الصغار عنا, ويكونوا هم أكثر قرب إلى قلبه, وإلى مجلسه وفي وجهه, ونحن أبعد منهم في ذلك, {........إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:8], جعلوا هذا مِن جملة الضلال الذي في أبيهم, إذ كيف غلامين صغيرين مِن إخوانه, ولدين صغيرين على الأولاد الكبار القائمون بأمر الحياة والمعاش, {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[يوسف:9], زَيَّنَ لهم الشيطان ووسوس لهم أنه الطريق للخروج مِن هذه المشكلة, وهي أن يكونوا لهم وجه عظيم عند أبيهم, إنْ يوسف يقتلوه أو يطرحوه أرضًا, أي يطرحوه أرضًا بعيدة أي خذوه وغَوُّوهُ, قووه في مكان بعيد, فيأخذه بعض السَّيَارة المارة ويذهب إلى مكان بعيد يُغَرَّبُ لا يعرفه بعد ذلك كيف يعود يباع عبد مِن العبيد وبالتالي إذا خلا وجه أبيه وذهب هذا الابن الذي أصبح حائل بيننا وبين أبينا؛ فنكون بعد ذلك نرتاح منه, {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ........}[يوسف:9], {يَخْلُ لَكُمْ}, تصبحوا أنتم الأقرب إليه وما في هذه حائل الذي يحول بينكم وبينه, {........وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[يوسف:9], قيل المعنى {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ}, مِن بعد تغييبه, {قَوْمًا صَالِحِينَ}, تتوبوا إلى الله -تبارك وتعالى-, ممكن أنْ نتوب إلى الله, ونرجع عن العمل وبالتالي نكون صالحين عند الله, أو {........وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[يوسف:9], أي في الدنيا؛ لأنه إذا غُيِّبَ هذا الأسرة كأنه يلتم شملها, ونصبح مع أبينا يسمع لنا, ونجلس معه, ونكون عند قلبه, ويصبح هذا الذي أخذ قلب أبينا منا يُصْبِحُ مُغَيَّب فينتهي, {........وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ}[يوسف:9], في هذه الدنيا, {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ........}[يوسف:10], {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ}, قيل أكبرهم سنًا, وأكثرهم رشدًا وعقلًا بالنسبة إليهم, {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}[يوسف:10], إذا كان هذان أمرين سيئين يختار مَن هو أقل سوءًا, القتل جريمة كبرى, وفيها معصية عظمي, لا يزال المسلمون في فسحة مِن دينهم ما يصب دمًا حرمًا, كون أخوه يعمد إلى قتله, وهو لم يصنع لهم شيء, جريمة كبرى لكن الأولى أننا نحن قال : {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ........}[يوسف:10], الجُبّ البئر, والغيابة هي أحيانًا إذا حُفِرَ البئر يكون تحته شيء مِن السعة حوله لا يستطيع مَن ألقي فيه أنْ يصعد بمفرده لابد أنْ يصعد بمعاونة أحد يُدْلِي له حبل ونحو ذلك ,أما إذا ألقي فيه وحده بقي على شاطئ البئر في المكان المحفور فإنه لا يستطيع الخروج, وهذا البئر يمر عليه المارة يستقون منه, فلما يأتي واحد يستقي الماء هو يصرخ أنقذوني؛ فيأخذوه معهم وهو ولد يصبح كأنه يُلْتَقَطُ هنا ويؤخذ لا معرفة له فيأخذونه معهم يستخدمونه يأخذوه معهم ليبيعوه فبالتالي يُبْعَدُ عنهم بطريق أهون مَن قَتْلِهِ, {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ........}[يوسف:10], والجُبّ هنا معروف لهم إنه جُبّ بئر معروف, وسمي جُبّ؛ لأنَّ جب الأرض هو القطع, {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}, وهم مَن يسيرون هو الطُّرُقِيَّة الذين في هذه البادية, وطرق مطروقة, {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ}, ولابد مِن أنْ تُغَيِّبُوا يوسف عن أبيه ويبدو قَرَّ قرارهم على هذا, فبدأوا في مشروعهم هذا في تغييب أخيهم عن أبيهم, {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[يوسف:11], {مَا لَكَ}, ما شأنك, {لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ}, لا تحب أنْ يخرج يوسف معنا عندما نخرج بالأغنام للرعي أبدًا, وتبقيه عندك دائمًا, أي يبقيه عنده في مكانه, في خيمته وفي منزله, ولا يسمح له بالخروج مع إخوانه, {مَا لَكَ}, أي ما شأنك, {........لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[يوسف:11], نحن إخوانه وناصحون له, ناصحون لا يوجد في قلوبنا غش له, ولا مكر ولا خديعة, نحن نحب أخانا وننصح له, الناصح لغيره هو الذي لا يحمل له غشًا ولا خداعًا, ويحب له الخير كله, {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:12], قالوا : {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا}, أي عندما نخرج بأغنامنا للرعي, {يَرْتَعْ}, والرَّتع هو الأكل والشرب والاستمتاع بأنواع المتع؛ في البر مِن الجري وراء الغنم ومع الصغار وشرب اللبن, ورؤية المناظر البديعة وهو شأن الرعاة الذين في هذه البادية, {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ}, وهذا أنسب شيء للصغير فهو صغير يحب هذا, اجعله يذهب بدل ما هو جلس في البيت, اجعله يخرج معنا إلى البر ليستمتع بحياة الرعاة, {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}, {وَإِنَّا}, بالتأكيد له ليوسف, {لَحَافِظُونَ}, سنحفظه مِن أي شيء شر يمكن أنْ يصل إليه, فقال لهم يعقوب -عليه السلام- : {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[يوسف:13], فقال لهم الأمر الذي هو يوجعهم في الأساس, {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ........}[يوسف:13], أي لا أحب فراقه, لا أطيق فراقه, فيحزنني, أصيب بالحزن إذا كان هذا الغلام بعيدًا عني, {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي}, في نَفْسِهِ, {أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}, بعيدًا عني, {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}, أخاف عليه كذلك, هو لا يصبر إلى فقده ولبعده عنه, وهو كذلك يخاف أنَّ إخوانه ينشغلوا في ما هم منشغلون فيه مِن لهوهم, مِن لعبهم, مِن غنائهم, ساقيهم أي شيء في خدمة غنمهم, {........ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[يوسف:13], تكونون في حال غفلة عنه, وهو غلامٌ صغير لا يستطيع أنْ يدفع عن نَفْسِهِ فيأتي الذئب إذا تركتوه في مكان غفا في مكان فيأكله الذئب, وكان هذا مِن يعقوب -عليه السلام- أفصح لهم بحقيقة يوسف مِن قلبه, وبيان خشيته, وقد التقطوا هذا الأمر أنْ يأكله الذئب؛ لتكون هي الحُّجَة التي يحتجوا بها عندما يُنَفِّذُوا ما عزموه عليه في شأن يوسف.

نقف عند هذا, ونكمل -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.