الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (283) - سورة يوسف 13-24

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- مِن سورة يوسف : {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}[يوسف:11], {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:12], {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[يوسف:13], {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}[يوسف:14], {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف:15], في سياق هذه القصة العظيمة التي يقصها الله -تبارك وتعالى- بَنَفْسِهِ في هذا القرآن, بيانًا منه -سبحانه وتعالى- أنَّ هذا محمد بن عبد الله رسول الله حقًا وصدقًا, وإلا فمن أين له أنْ يَعْلَمَ بهذه الأمور, وبهذه القصة التي وقعت قبل ذلك, وليس عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وسيلة ما ليعلم أحداثها وتفاصيلها بأشخاصها وقارئها, ولا يُعْلَمُ هذا إلا بالوحي, فهي دليل على صدق النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ثم مع ما في هذه القصة مِن الأدب الرفيع, والسلوك العظيم مقابلة الإساءة بالحسنة, وسيأتي تفصيل ما في هذه السورة مِن الحِكَم البليغة, والدروس العظيمة المستفادة, وقد وصلنا في السياق في الحلقة الماضية إلى أنَّ إخوة يوسف حسدوه, ورأوا أنَّ استئثار الأب به بعد أنْ اطَّلَعَ الأب على الرؤية التي رآها يوسف -عليه السلام-, وقصها على أبيه, وعَلِمَ أبوه منها, يعقوب -عليه السلام- ما سيكون مِن شأن هذا الغلام في مستقبل الأيام, فقال له : {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], وحرص يعقوب -عليه السلام- على ابنه يوسف بعد ذلك حرصًا عظيمًا, فكان يحبه لا يحب أنْ يفارقه, ولما رأى إخوانه هذا مِن أبيهم أرادوا أنْ يُغَيِّبُوا هذا الابن, أخوهم هذا عن أبيهم بأي صورة مِن الصور؛ بالقتل أو الإلقاء في أرض بعيدة, ثم قَرَّ قرارهم واجتمع أمرهم على أنْ يُغَيِّبُوهُ عن أبيه, فتحايلوا, بدأوا التحايل على الأب؛ ليأخذوا يوسف فطلبوا منه أنْ يسمح لهم باصطحابه إلى البَرّ, هم رعاة أغنام, {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ........}[يوسف:11],  لماذا لا تجعله يخرج معنا؟ {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ}, نحن ليس في قلوبنا غشٌ له, نحن مخلصون في حبنا لأخينا, ونحب له الخير, ونحب أنْ يخرج معنا ويلعب معنا, {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:12], {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ........}[يوسف:13], أي يَشُقّ عليَّ فراقه وبُعْدُهُ عني, {........ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ}[يوسف:13], {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ........}[يوسف:14], كيف يعتلي الذئب على أخينا فيقتله, ونحن جماعة قوية؟ إنهم عشرة مِن الإخوة الكبار, {........وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ}[يوسف:14], إذا كان الذئب يعتدي علينا, ويأكل أخانا ولا نستطيع أنْ نمنعه نكون نحن مِن أهل الخسار لا خير فينا, ولا قيمة لنا.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ........}[يوسف:15], أي أنَّ أباهم قد وافق لهم على أنْ يأخذوه وذهبوا به, وذهبوا ويوسف معهم في يوم مِن الأيام أخذوه بعد ذلك لينفذوا ما قَرَّ قرارهم عليه, قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}, {وَأَجْمَعُوا}, أي جميعهم اجتمع أمرهم على هذا الأمر, العشرة هؤلاء الإخوة, {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ}, أنهم يتركوه يلقوه في غيابة الجُبّ, أي هذا المكان الذي يكون يابس حول الماء والأرض بعيدة عنه, وهو غلام وحده لا يستطيع أنْ يرقى هذه البئر وحده, ولا يستطيع أنْ يخرج مِن هذه الغَيَابَة إلا بمساعدة مِن يساعد, فإذن سيبقى وسيأتي مَن يمر في هذا الطريق مِن المسافرين فيكتشفوه فيأخذوه, يكون هذا كنز لهم, هدية لهم, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف:15],  {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ}, أوحى الله -تبارك وتعالى- إلى يوسف بأنْ تبنئنهم, لتخبرن إخوتك هؤلاء الذين صنعوا بك هذا الصنيع في يوم ما, {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا}, أمرهم هذا, تآمرهم عليك, وإلقاؤهم إياك في هذه الغيابة, وتركهم لك لِتُغَيَّبَ بعيدًا, {........لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف:15], في الوقت الذي لا يشعرون بأنك أنت يوسف عندما تخاطبهم هذا الخطاب, وهذا تطمينٌ مِن الله -تبارك وتعالى- لعبده يوسف, وإخبار له أنه اصبر فإنه سيأتي اليوم الذي تخبرهم بهذا الخبر, وهم لا يشعرون, ويكون هذا كذلك أدعى إلى كسب نفوسهم وتذكيرهم بأمر مِن أمور الشر قد وقع منهم في أخيهم الذي لم يرتكب شرًا تجاههم, ولم يفعل ما يوجب أنْ يجازوه ويعاقبوه بهذه العقوبة.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[يوسف:16], {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}[يوسف:17], {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ........}[يوسف:18], {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[يوسف:16], وقت العشاء وهو يبدأ مِن غروب الشمس, المغرب هو العشاء الأولى, ووقت العشاء الثاني, العشاء الثاني العتمة, جاءوا على عادة الرعية عندما ينتهي يوم الرعي فإنهم يعودون مع غروب الشمس إلى مساكنهم ومنازلهم, {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ}[يوسف:16],  بكاء الكذب؛ لِيُدْخِلُوا الحيلة على أبيهم, وليحاولوا إقناع أباهم بما قَرَّ قرارهم عليه, {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ}[يوسف:17], {نَسْتَبِقُ}, نتسابق كما عادة غلمان الرعي فإنهم يشغلون أوقاتهم بالسباق, يسابق بعضهم بعضًا, {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا}, لأنه صغير لا يقوى على المسابقة فتركناه عند متاعنا, عند متاع الذي لهم؛ كطعامهم وشرابهم وما يأخذونه عادة في يومهم للرعي, {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}, لما ذهبنا نستبق بعيدًا, وانتهز الذئب غفلتنا عن أخينا, وبعدنا عنه؛ فافترسه الذئب, ثم قالوا : {........وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين}[يوسف:17], {وَمَا أَنْتَ}, أي الأب, {بِمُؤْمِنٍ لَنَا}, أي بِمُصَدِّقٍ لنا, والإيمان هنا بمعنى التصديق, وأصل الإيمان هو التصديق بأمر غيبي لأنَّ لا يقال لإنسان إذا على الأمر الحاضر, لا يقول أنا مؤمن بوجود هذا الكتاب ولا بوجودك لا, وإنما إذا أُخْبْرتُ عن خبر هو بعيد عني فقل نعم أنا أؤمن بهذا, فالإيمان هو التصديق بأمر غيبي؛ لأنَّ هذا الأمر غيبي بالنسبة ليعقوب لم يره, فقالوا : {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}, أي بِمُصَدِّقٍ لنا هذا الأمر الذي حصل في غيبةٍ عنك, {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين}, في هذا القول فإنك لا تصدقنا, هذا شعور الكاذب بأنه لا يصدق, دائمًا يشعر الكذاب بأنه مهما بالغ في إثبات حديثه, وإثبات صدقه فلا يصدقه الآخر, يشعر بأنْ الآخر لا يصدقه, {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا}, أي بِمُصَدِّقٍ لنا, {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِين}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ........}[يوسف:18], {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ}, علي قميص يوسف, {بِدَمٍ كَذِبٍ}, ذبحوا لهم شاة ونحو ذلك ولَطَّخُوا بدمائها قميص يوسف بعد أنْ نزعوا القميص عنه وتركوه بلا قميص في الجُبِّ, وأخذوا القميص هذا لَطَّخُوهُ بالدم وأتوا به, ومِن حِكْمة يعقوب -عليه السلام- أنه نشر القميص, وجد أنَّ هذا القميص؛ نعم هو قميص يوسف لكن ليس فيه خدش ولا شق فقال لهم : متى كان الذئب عليمًا حكيمًا يقتل يوسف, أو يأكل يوسف, ولا يَشُق قميصه؟ قال لهم : إنَّ هذا الذئب لابد أنْ يكون عليم حكيم, أي فصخ أو خلع قميص يوسف أولاً ثم أكله, {........ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:18], {قَالَ}, أي يعقوب لهم بل الحق الواقع أنه سولت لكم أنفسكم أمرًا, سولت النفس بمعنى وسوست لكم, وأوحت لكم بأمرٍ ما لم تذكروه هنا, {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}, الصبر حبس النَّفْس عن المكروه دون تضجر وتألم, وإظهار للجزع, وقالهم : {جَمِيلٌ}, أي بدون سب, بلا سب ولا شتم ولا إهانة لهم, اصبروا صبرًا جميلًا واعلم أنكم قد صنعتم أمرًا ما, {........وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:18], الله - سبحانه وتعالى- هو عوني, {الْمُسْتَعَانُ}, الذي أستعين به, {عَلَى مَا تَصِفُونَ}, مِن هذا الأمر الكاذب, أي الذي كذبتم فيه, هنا وقف الأمر عند هذا.

ثم ينقلنا الله -تبارك وتعالى- في المشهد إلى يوسف -عليه السلام- نرجع مرة ثانية إلى يوسف, قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ........}[يوسف:19], {سَيَّارَةٌ}, مجموعة تسير, {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ}, واردهم هو الشخص الذي يرسلونه ليأتي لهم بالماء, بئر معروف وهو في طريق المسافرين, أرسلوا مَن يستقي لهم مِن البئر, {فَأَدْلَى دَلْوَهُ}, لما أدلى الدلو وإذا بهناك مَن يتعلق في الدلو, ومَن يصرخ عليه مِن داخل البئر, {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ}, {يَا بُشْرَى}, كلمة للفرح والسرور نداء يُقْصَدُ به هنا الفرح والسرور, أي يا بشراي, هذه بشرى عظيمة لي, {هَذَا غُلامٌ}, غلام في البئر هذه لُقَطَةٌ عظيمة جدًا ما ليس له أحد هنا فقال : {قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ}, ثم لما أخذه أخرجه مِن البئر, وأخذه إلى جماعته, فقالوا : اكتموا الأمر ولا تذكروا هنا لمن حولكم مِن الناس ولا تُعَرِّفُوهُ وتنادوا عليه وتقولوا يا جماعة مَن الذي فُقِدَ لهم غلام, لا خبوه, فمجموعة مِن اللصوص وجدوا هذا وليس عنده أحد, وأنهم لو أرادوا أنْ يرجعوه إلى أبيه لكان هذا, فإنَّ هذه البئر ليست ببعيدة عن منازل يعقوب -عليه السلام-, فلو أنه عَرَّفُوا به لرجع إلى أهله, ولكن بالطبع مَن في هذا الوقت يجد مثل هذه اللُّقَطَة ويردها إلى أهلها لا, فقال -جل َّوعَلا- : {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}, {وَأَسَرُّوهُ},كتموا أمره وجعلوه سرًا, {بِضَاعَةً}, أي ليكون بضاعة تباع, ما أسروه ليكون عبدًا لهم لا, قالوا نبيعه, نازلين إلى مصر فنبيعه هناك بعيدًا عن هذا المكان عن أرض الشام, فإذا باعوه لأرض مصر يجدوا الثمن ويأخذوه, {........وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[يوسف:19], أي أنَّ الله -تبارك وتعالى -عليم أنهم لصوص, هؤلاء لصوص قُطَّاع طرق مجرمون هذه ليست لُقَطَة هذا إنسان له أهل وله كذا, ولو أنهم عَرَّفُوهُ لردوه, ولكن الله -تبارك وتعالى- يريد أمرًا, {........وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21], لابد أنْ يذهب يوسف إلى مصر ليكون مِن شأنه ما يكون, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[يوسف:20], هم لصوص كذلك وأغبياء, ويوجد عندهم أعظم الكنوز في هذا الوقت, نبي الله -تبارك وتعالى- الكريم لكنهم عموا عنه, {وَشَرَوْهُ}, باعوه بثمن بخس, قال الله : {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ}, أي ما بلغ دينار ما يلغ الثمن دينار وإنما دراهم معدودة ثلاث أربع خمس ست دراهم معدود, فقط تُعَدّ على أصابع على اليد, {........وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[يوسف:20], يتخلصوا منه أي هم زاهدين فيه لا يرودون أنْ يستبقوه عندهم, ليكون في خدمتهم ويأخذوه عبد مِن عبيدهم, وإنما يريدون أنْ يتخلصوا منه بأي شيء فَدُفِعَ مبلغ زهيد فباعوه به, فهذه الدُّرَة والدانة العظيمة نبي الله -تبارك وتعالى- الكريم ابن الكريم ابن الكريم يباع في السوق بهذه الدراهم المعدودة, ويكون الذي عنده لا يعرف قيمته.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21], {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ.......}[يوسف:21], جاء حظ يوسف -عليه السلام- في أنَّ الذي اشتراه مِن مصر هو عزيز مصر, الذي تحت أيديه الكنائز كوزير المالية, وجاء هذا الرجل الذي اشتراه مِن مصر قال لامرأته : {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}, وَصَّى امرأته به, وأنْ تعامله ليس معاملة عبد مُشْتَرَى ورقيق, وإنما تعامله معاملة ولد مِن الأولاد, قال : {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ}, {مَثْوَاهُ}, بقاءه عنده, {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا}, قد أَنِسَ فيه الفراسة والنجابة والخُلُق, فقال : {عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}, أي إذا شَبَّ وكبر ورأينا منه النجابة والحُسْن فيتبنوه, يجعلوه لهم ولدًا, قال -جلَّ وعَلا- : {وَكَذَلِكَ لِيُوسُفَ}, {مَكَّنَّا}, هذا التمكين إنه يخرج فيرزقه الله -تبارك وتعالى- بيت يستقر فيه, رجل يكرمه ويعامله معاملة الابن, يُوْصِي زوجته عليه فيجد البيت والمأوى الحسن والمكان الذي يكرم فيه فهذا نوع مِن التمكن, مَكَّنَهُ الله -تبارك وتعالى-, وإلا كان يمكن أنْ يباع عند ناس سفلة مجرمين يعاملونه عبد, فيعامل معاملة العبد ويهان أو نحو ذلك, أو عند بعض رعاة الأغنام, أو بعض غيرهم لكن الله -تبارك وتعالى- هَيَّأَ له بيتًا مِن بيوت العز والشرف في مصر؛ ليستقر فيه, {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}, أي أنَّ مِن فضل الله -تبارك وتعالى- عليه أنْ يُعَلِّمَهُ مِن تأويل الأحاديث, {تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}, تأويل الرؤى, وهذه صفة عظيمة والمنحة العظيمة التي عَلَّمَهَا الله -تبارك وتعالى- ليوسف, وكل حياته تدور حول الرؤية فهو بِنَفْسِهِ رأى الرؤية هذه العظيمة التي كبر بها في عين أبيه, والتي كانت حياته كلها دورة لتحقيق هذا الرؤية التي رآها صغيرًا, فهي رؤية رآها وهو غلام صغير, ثم تسير الأحداث في حياته كلها حتى تتحقق رؤياه كما رآها في هذه السِّن, وبالرؤية كذلك تكون نجاته, وخروجه مِن السجن, فالرؤيا هي العنصر الأساس في حياة يوسف -عليه السلام-, {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}, تأويل الرؤى, {الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}, الله -سبحانه وتعالى-, {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}, إذا قَضَى الله أمرًا وأراد شيئًا ما يستطيع أحد أنْ يَحُولَ بين الله -تبارك وتعالى-, وبين ما يريد لابد أنْ يتحقق, فهذا انظر إخوة يوسف أرادوا الكيد به وإذهابه وإتلافه, فانظر كيف يبدأ الله -تبارك وتعالى-, الأمر فيسير الأمر على خلاف ما يريدون هم, وعلى وفق ما يريد الرب -تبارك وتعالى- لهم, {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21],  لا يعلمون أنَّ الله -تبارك وتعالى- غالب على أمره.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:22], {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ}, {أَشُدَّهُ}, هو كمال القوة وهي تكون في سِنِّ الثانية والعشرين الرابعة والعشرين, يبلغ الإنسان كمال الشباب والقوة, {آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا}, حُكْم على الأمور بأنْ يعرف الحق في كل هذه الأمور, وعِلْم مما عَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى- له, عِلْمُ بالله, عِلْمٌ برسالاته, عِلْمٌ بدينه, هذا عن طريق الوحي, وكذلك هذا الخُلُقِ العظيم فآتاه الله -تبارك وتعالى- الحكم يعرف أين الحق, وأين يضع هذا الأمر في نصابه ويجمعه, {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}, كهذا الجزاء مِن العناية والتعهد والتربية والتعليم الله يجزي العبد المحسن لأنه كان عبدًا محسنًا, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يجزيه هذا الجزاء.

ثم بدأت الفتنة الثانية هذه الفتنة الأولى فتنة إخوانه وتغيب في الجب وكيف أنجاه الله -تبارك وتعالى- مِن ذلك وأوصله إلى بر أمان, ومثوى كريم يعيش فيه بدأت الفتنة الثانية في حياة يوسف -عليه السلام-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:23], {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا}, عَبَّرَ الله -تبارك وتعالى- عن زوجة هذا الرجل العزيز, قال : {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا}, وهذا بيان شدة هذه الفتنة, أنَّ هذه المرأة التي هو في بيتها, وهو خادم عندها, وموجود في هذا البيت, ويجمعهم سقف واحد, {عَنْ نَفْسِهِ}, وهذه قمة الفتنة, قمة الفتنة أنَّ المرأة التي تراوده ليست مرأة خلف الجدران, وخلف الأسوار لا, إنه هو في بيتها, ثم هو في بيتها وليست هي في بيته فإنها كونها تكون في بيتها لها سلطة وسلطان عليه, وبالتالي تصبح الفتنة أكبر, نواها ربما يجد نَفْسَهُ خارج هذا البيت فالأمر بالنسبة إليه مِن كل الجوه, ثم هي تراوده هي التي تركض وراءه, هي التي تريده, راودته عن نفسه, {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ}, جاء الوقت الذي أعدت العدة, وهيأت التهيئة لما أرادته واشتهته مِن يوسف, {الأَبْوَابَ}, أبواب قصرها, {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ}, كل شيء مُهَيَّئ لك ليس أمامك, فهيت لك كلمة هتاف الأنثى لمن تحبه, ومَن تعشقه ومَن تركض خَلْفَهُ, فإذا بيوسف -عليه السلام- قال : {مَعَاذَ اللَّهِ}, قال جلَّ وعَلا- : {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}, ذَكَّرَهَا بهذا الرجل الذي أسكنه في بيته وأحسن مثواه هنا, وأحسن مقامه في البيت, قال لها : {إِنَّهُ رَبِّي}, {إِنَّهُ}, الشأن الحال, {رَبِّي}, سيدي وهو زوجها, {أَحْسَنَ مَثْوَايَ}, كيف أخونه في أهله؟ فهذه خيانة, {........إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:23], {إِنَّهُ}, الشأن والحال أنَّ الظالم لا يفلح, ثلاث أمور اعتصم بها يوسف -عليه السلام- وذكرها, وهذه الأمور كلها مِن أعظم العاصم مِن هذه الفتنة أول شيء أنَّ الأمر لاذ بالله -تبارك وتعالى- وعاذ به, الأمر الآخر تَذَكَّرَ حق مَن له حق عليه وأنَّ عدوانه على امرأته, عدوان على هذا الرجل وخيانة لهذا الرجل الذي أكرم مثواه, ثم بيان أنَّ هذا الزنا سبيل المفسدين, وسبيل مَن لا يصلحهم الله -تبارك وتعالى-, {........إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:23], كل ظالم لا يفلح, فهذا قانون, نظام أنَّ الظالم لا يفلح لا يمكن أنْ يرى الفلاح والنجح مَن يسير في هذا الطريق.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24],  {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}, يُخْبِرُ-سبحانه وتعالى- أنَّ لولا عناية الرب -سبحانه وتعالى-, ولطفه بعبده, وحمايته لعبده يوسف لكان قد همت به وهَمَّ بها, لكن الله -تبارك وتعالى -أدركه بأنْ رأى برهان ربه, {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}, البرهان هو الدليل القاطع, القوة القاهرة, ما هذا البرهان لم يذكره القرآن هنا, قيل أنه رأى أباه عاضًا على إصبعه, تَذَكَّرَ والده, تَذَكَّرَ رأي جبريل -عليه السلام-, المهم أنه رأى أمر مِن شأن الله -تبارك وتعالى- زاجرًا له, وواعظ له أنْ يقدم مثل هذا الفعل, {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- أراده هذا البرهان ليثبته وليحميه مِن الوقوع في هذه الفاحشة, {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ}, لنبعد عنه, {السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ}, الصرف الإبعاد والتحويل, {السُّوءَ}, الأمر السيئ, {وَالْفَحْشَاءَ}, والزنا أمر فاحش لأنه ذنب غليظ, عظيم, الفحشاء الأمر الفاحش الغليظ, {إِنَّهُ}, أي يوسف -عليه السلام-, {مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}, الذين يُخَلِّصُهُم الله -تبارك وتعالى-, ويصرف عنهم السوء وبالتالي هو في حماية الرب -تبارك وتعالى-, {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:25].

وهذا -إنْ شاء الله- نعود إليه في الحلقة الآتية, وأُصَلِّى وأُسَلِّم على عبدالله ورسوله محمد.