الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (284) - سورة يوسف 24-36

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- :  {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:25], {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[يوسف:26], {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:27], {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[يوسف:28], {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}[يوسف:29], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- بأنَّ الأمر لمَّا كان مِن شأن يوسف -عليه السلام- أنه لما راودته امرأة العزيز, {........قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}[يوسف:23], وأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد حَمَى عبده ونبيه يوسف -عليه السلام- مِن الوقوع في هذا الأمر, قال : {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}[يوسف:24], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}, أي أنَّ يوسف فَرَّ خارجًا ليخرج مِن المنزل الذي هو فيه, وسابقته امرأة العزيز؛ لتمنعه مِن الخروج, {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ}, هو ليخرج, وهي لتعيده مرة ثانية, {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}, فهو في أثناء هروبه ركضت خَلْفَهُ, ثم جذبته مِن قميصه فشقته مِن خَلْفِ ظهره, {مِنْ دُبُرٍ}, أي مِن ورائه, وعند الباب إذا بالباب يُفْتَحُ ويدخل وإذا السيد, رجلها, سيدها, {لَدَى الْبَابِ}, فاستطاعت بمكرها ودهاءها أنْ تقلب المشهد؛ فتجعل مِن نفسها المطاردة المظلومة, وتجعل مِن يوسف هو المعتدي والمفترس, فقالت لزوجها وسيدها : {........قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:25], قلبت الحقائق, وقالت له : {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا}, وهذا بَعْثٌ لغيرته, {بِأَهْلِكَ}, وهذا الذي يريد بها سوء, ثم اقترحت العقوبة فقالت : {........إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:25], أو يُعَذَّبُ عذاب أليم بالضرب والإهانة, هذا مِن عظيم الكيد فإنَّ قلب المشهد بهذه السرعة, وبحضور هذه البديهة فمجرد يفتح الباب وترى سيدها لا ترتبك ولا كذا, وهي التي ركضت وهي التي جذبته وأرادت أنها تمنعه مِن الخروج وهي التي كان الآن في هذه اللحظات كانت تراوده عن نَفْسِهِ, أمر عجب, فعند ذلك قال يوسف ببراءته : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي........}[يوسف:26], لست أنا الذي كنت أراودها عن نفسها, وأنا الذي هجمت عليها, وإنما هي راودتني عن نفسي, وتدخل الأمر وعرف هذا, وأصبح الزوج أمام هذه المشهد زوجته تَدَّعِي هذه الدعوى, وهذا الغلام الذي كان يتوسم فيه الخير, ويرى فيه كذا وكذا يدافع عن نَفْسِهِ بهذا فبدأ يستعين بعض بالأقربين لها فجاء بأهلها ليكون هذا أدعى للستر عليها, إذا كانت بالفعل فيها, كان عندها هذا الأمر, ما أتى بناس مِن أهله, لكن قال الله -عزَّ وجلَّ- : {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا}, مما يدل على أنَّ الرجل قد عمد إلى ناس مِن أهل المرأة؛ ليكون هذا أولًا شهادة منهم على حال قريبتهم, وكذلك الأمر يكون ستر إذا كان الأمر فيه شيء لا يفضح, وينشر الخبر عند القاصي والداني, وكان هذا الشاهد الذي مِن أهلها فكان مِن أهل العقل قال : {.........إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[يوسف:26], إذا قميص يوسف قد شُقَّ مِن أمام فهذا نعم تكون صادقة؛ لأنَّ معناه هو الذي هجم عليها, و هو الذي يريد اغتصباها وتدفع عن نفسها لابد أنها تدافع عن نفسها ممكن تشق قميصه مِن أمام, {.........إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[يوسف:26], {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:27], أما إذا كان قُدَّ مِن دُبُرٍ فهذا معناه أنه هو الذي كان يفر, وهي التي كانت تريده, هذا كان القرينة التي حَكَمَ بها هذا الحُكْم, القرائن الذي حَكَمَ بها هذا الشخص, الشاهد الذي شهد هذا الأمر, واسْتُشْهِدَ على هذا الفعل, ورأى أنَّ الأمر ينبغي أنْ يحكم بهذه القرار على هذا النحو, وهذه قرينة لا شك أنها ودلالة واضحة, فقال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ.........}[يوسف:28], لما أتوا بالقميص وقالوا : انظر هذا القميص, ورأى أنه قُدَّ مِن دبُرُ قال : {........ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[يوسف:28], أي هذا التدبير, الكيد هو هنا المكر والحيلة, وإيراد إيصال الضر أي هذا الاتهام الذي اتهمتوا يوسف, وهذا مِن الكيد, {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}, أيها النساء أي أنَّ كيد النساء عظيم, فانظر هذا الذي قد قتلها حبًا وتريده, لكنها عندما يتعلق الأمر بها وبالفضيحة تنقل الأمر عليه, وتتهمه هو بهذا الاتهام الشنيع, {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}, بالغ مبلغه في الكيد, الحُكْم بالقرائن هنا, أو هذه القضية فيها حُكْم قرائن, وقبل هذا حكم يعقوب -عليه السلام- بالقرينة فإنه لما رأى قميص يوسف, وأتى به إخوته عليه الدم الكاذب حَكَمَ بالقرينة, قال لهم : متى كان الذئب عاقلًا حكيمًا يأكل يوسف ولا يشق قميصه, فَحَكَم بالقرينة, وأنَّ القرينة قائمة على أنَّ هذا الذئب برئ مِن دم يوسف, وهنا كذلك أيضًا نَفْس الأمر بالنسبة للقميص, وبالنسبة إلى القرينة التي عليه, وقميص يوسف له شأن في كل هذه القصةِ, ثم كان مِن الأمر قال إما أنْ يكون هذا الشاهد {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا........}[يوسف:29], أي لا تذكر هذه الحادثة خلف هذه الأسوار, أعرض عن هذا الأمر لا تذكره, وذلك حتى لا يُفْتَضَح أمر هذه المرأة, {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا........}[يوسف:29], أمر, {........وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}[يوسف:29], { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ}, أنت مخطئة, وأنت التي تريدين هذا, أي اطلبي مغفرة هذا الذنب, {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}, هل هذا استغفار لله -سبحانه وتعالى- هل يؤمنون بالله؟ وبالتالي يرون أنَّ هذه جريمة ويجب أنْ يستغفروا, أو يُسْتَغْفَر لصاحب الحق مِن البشر إذا كانوا هم غير مؤمنين بالله, لا شك أنهم كانوا على شيء مِن الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- وبعقائدهم التي كانوا عليها ,فإن على كل حال عموم الأُمَم والأفراد كانوا يؤمنون بالله بصورة مِن الصور, {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106], وقد يروا أنَّ هذه مِن الذنوب, ولكن تستحق التوبة والإنابة والمغفرة مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ}, اطلبي مغفرة ذنبك ممن أسأت إليهم مِن البشر إذا كان غير مِن المؤمنين بالله كأن يكون الاستغفار, وطلب المغفرة هنا مِن الزوجة ومَن له الحق, {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}, في هذا الأمر, ولكن الأمر مثل هذه الأمور عادة لا يمكن إخفائها تمامًا لابد أنْ يتسرب الخبر مِن هنا أوهناك فتسرب الخبر إلى نواحي المدينة, وخاصةً كما يقال نساء علية القوم, وأشراف القوم.

قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:30], حديث النسوة الثرثارات, المنافقات التي يُظْهِرْنَ خلاف ما يُبْطِنَ؛ فيبدو أنهن حسدن امرأة العزيز على أنْ كان عندها مثل هذا الغلام, الشاب, الوسيم الذي سَرَت بِذِكْرِهِ أو بخبره الأخبار ومخبرون, وقالوا في حديثهم يتحدثون : {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ........}[يوسف:30], {نِسْوَةٌ}, مجموعة مِن النساء, {فِي الْمَدِينَةِ}, التي فيها يوسف -عليه السلام- عاصمة مصر, قالوا : {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}, قالوا هذا بصورة مِن صور الاستنكار, {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}, عزيز مصر, {تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}, {فَتَاهَا}, وهو عبدها, مملوكها, {عَنْ نَفْسِهِ}, كيف امرأة, سيدة, شريفة, كبيرة تراود فتاها عن نفسه! {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}, أنها قد أحبته حبًا عظيمًا, {شَغَفَهَا}, أصل الشغاف وهو الغلاف الذي يُغطي القلب, هذا الغشاء الذي يغطي القلب الذي يسمونه الغشاء البريتوني هذا شغاف شغف القلب, ومعنى شغفها أنَّ الحب قد اخترق غلاف قلبها وسكن فيه, {........قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[يوسف:30], {إِنَّا}, أي هذه النساء تتظاهر بالعفة, وهذه في ضلال مبين إذ كيف لها أنْ تحب عبدها وفتاها هذا الحب.

قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف:31], {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}[يوسف:32], {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ}, أي امرأة العزيز, لما سمعت بكلام هذه النسوة عليها, وعرفت أنَّ هذا مكر, أنهم يقلن هذا مِن باب إظهار ما لا ليس في الحقيقة والقَدَر, فكلهن يتمنين مثل هذا الأمر, ويسعين إليه, ولكنهم يُظْهِرُن َهذا, {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ........}[يوسف:31], أنْ يأتوا في ضيافةٍ عندها, {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً}, {وَأَعْتَدَتْ}, أعدت, وهنا أعدت مع زيادة التاء يدل على العناية الفائقة في مكان, {مُتَّكَأً}, مكان للراحة, مكان يهيئ للطعام والشراب والزينة, فأعدت متكئًا لهن, مكان للراحة فيه على أكمل وجوه الراحة في مثل هذا الوقت والزمن, وكان أهل مصر في هذا الوقت, أهل جنات وعيون ونعمة عظيمة كما وصفها الله -تبارك وتعالى-, {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًاَ}, سكين للفاكهة ونحو ذلك, كما وضعت أنواع مِن الفواكه, وضعت سكاكين حادة, شفرات؛ ليقطعن بها الفواكه, {وَقَاَلت}, أي ليوسف : {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}, يوسف كذلك هذا فتى, عبد, مأمور في البيت, {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ}, ليقدم شيء مِن الطعام والشراب, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}, النسوة في هذا المكان المريح لهم, حالة الجلوس والاسترخاء وأكل وحديث وثرثرة على هذا النحو, وخرج يوسف -عليه السلام- وهو في قمة الحسن والجمال كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «أُعْطِىَ يوسف شطر الحسن», أي أنَّ الله -تبارك وتعالى -وزع الشطر الحسن في كل الخَلْق, كل الجمال الموجود في الرجال والنساء هذا نصف خمسين في المائة مِن الحُسْنِ الذي خَلَقَهُ الله -تبارك وتعالى-, وخص يوسف -عليه السلام- بـخمسين في المائة, أي نصف الحسن عند يوسف, فانظر شخص اجتمع فيه نصف الحُسْن المخلوق في الأرض كلها, {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ}, رأوا أنهم أمام أمر عظيم مهول, قمة في الجمال والفتنة بالنسبة للنساء, وذهلن عن أنفسهن, {أَكْبَرْنَهُ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ}, ذهلن أصبحت كل واحدة منهن في حالة ذهول مثل الذي ذهب بصرها وسبيت ليست مع نفسها فهي تقطع الفاكهة لا تشعر بحركة السكين في يدها فيبدأ السكين يأكل مِن لحمها, ويسيل الدم في يديها, وهي لا تدري, وهذا منظر الله يصور لنا بِنَفْسِهِ -سبحانه وتعالى- هو منزل هذا الكتاب يصور بِنَفْسِهِ هذه الصورة مِن صورة ذهول هؤلاء النسوة مِن جمال يوسف -عليه السلام-, وقلن عندما رأينه : {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا}, {حَاشَ لِلَّهِ}, نفي أنْ يكون الأمر هذا بشرًا, {مَا هَذَا بَشَرًا}, حاشا أنْ يكون هذا بشر, فجزمن جزمًا أنَّ هذا لا يمكن أنْ يكون, أي أنه ينتمي إلى البشر, {........إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف:31], هذه الصورة التي نراها أمامنا ليست هي منتمية للبشر, {........إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ}[يوسف:31], نازل مِن السماء, عند ذلك قالت لهن : {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ........}[يوسف:32], هذا يوسف, ثم بدأ يقول هذا الشخص الذي لمتتني فيه, أي جلستن تتكلمن في مجالسكن, وتقولن : {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ}, فهذا هو  ليس هذا شابًا كسائر الناس, وعبدًا مِن العبيد, {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ........}[يوسف:32], ثم أخرجت لهن مكنون نفسها ما كانت تخفيه أخرجته في حديثها السري لهؤلاء النسوة فقالت : {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ}, فأقرت بالفعل الحديث الذي نُشِرَ هذا عني صدق, أنا بالفعل راودته عن نفسه فجزمت بهذا, {فَاسْتَعْصَمَ}, وهذه شهادة منها في هذا المجلس الخاص عن براءة يوسف -عليه السلام- وعن إيمانه, قالت : {فَاسْتَعْصَمَ}, والاستعصام هو الامتناع, الدخول في أمر يعصم, يمنع, أي امتنع وأبى إباءً شديدًا, ثم بَيَّنَت لهم عزمها في المستقبل الأمر, قال : {........وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}[يوسف:32], هذا المستقبل, {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ}, وهذا الآن أصبح الآن القضية قضية طلب منها, ومراوده له, واستعطاف له لا, أمر أنا سيدته وسألزمه بهذا إلزامًا, {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ}, أصبح هذا العشق وهذا الغرام أصبح بالأمر, {لَيُسْجَنَنَّ}, لأدخلنه السجن, {وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}, أي مِن المهينين الذي أهينه وأذله, فتنة عظيمة يُفَتَنُ بها يوسف -عليه السلام- هذه لا يصبر عليها إلا يوسف ومَن هو مثله مِمَن أخبر عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله», هذا يحتاج إلى أمر عظيم جدًا مِن مخافة الرب -تبارك وتعالى-؛ فهنا يلجأ يوسف إلى الله -تبارك وتعالى-, ما له معصم لا يستطيع أنْ يخرج مما هو فيه, والأمر قد بلغ زوج المرأة, وبلغ الناس وامرأة مصرة على هذا الأمر, وفتنة قائمة, {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ........}[يوسف:33] , {السِّجْنُ},السجن, سيخرجونني مِن هنا بجريمة وتهمة إلى السجن هذا أحب إلي مِن أنْ أعيش في هذا البيت, أكون معزز ومكرم ولكن مع الفاحشة, {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ........}[يوسف:33], مَن فعل الفاحشة والبقاء ومجاراة هذه الفاجرة فيما تريد, {........وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[يوسف:33], قال ربي إلا تصرف عني كيدهن, كيد هؤلاء النساء الفاجرات هذه؛ لأنَّ كل واحدة أصبحت هي كذلك تقول له : أطع سيدتك هذه ليكن بك الحظ, ويكن بك كذا, ماذا عليك لماذا تمتنع منها؟ فكان الأمر كذلك لم يصبح زوج وعزيز وحده هي التي تراود بل بقية الفارغات, النسوة يدفعنه إلى هذا الأمر, {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ}, والصبا هو الرجوع, أي أرجع بعد ذلك, بعد الاستعصام, وبعد الإيمان بالله, والاستمساك بالحق, أرجع إلى هؤلاء الفاجرات, {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}, أصبح مِن مجموع الجاهلين الذين ينتهجون هذا السبيل الذي هو يغاضب الرب -تبارك وتعالى -ويغضبه, وهذا مِن الجهل بالله -تبارك وتعالى-.

 قال -جلَّ وعَلا- : {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:34], استجاب الله -تبارك وتعالى -دعاؤه فصرف عنه كيدهن, أصبح الملاحقة التي كن فيها صرفت عنه, كأنهن يأسن وعلمن أنه هذا جبل أشم لا يمكن ارتقاؤه, ولا يمكن إذلاله, {........إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[يوسف:34], {إِنَّهُ هُوَ}, الرَّب -سبحانه وتعالى-, {السَّمِيعُ}, لدعاء عباده -سبحانه وتعالى-, {الْعَلِيمُ}, بأحواله وهذا دعاء مُخْلِص ليوسف -عليه السلام- إلى ربه فسمع الله -تبارك وتعالى- دعاؤه, وعلم حاله؛ فاستجاب الله -تبارك وتعالى- له فصرف هذا, أي كأنهن قطعن الأمل قطعت امرأة العزيز الأمل فيه, لكن بقي ما في نَفْسِهَا مِن الحقد عليه, وبقيت القالة التي انتشرت في البلد, قال -جلَّ وعَلا- : {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}[يوسف:35], {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ}, بعد مدة, {مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ}, على أنَّ يوسف -عليه السلام- طاهر, نظيف, مؤمن, معتصم وأنه يستحق التكريم, لكن حتى ينفوا عن أنفسهم التهمة؛ فلابد أنْ كذلك يلحقوها بهذا, وأنه ينبغي أنْ يُغَيَّبَ مِن هذا المكان ولكن لا يُغَيَّب إلى حرية بل يُغَيَّب على السجن, {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ........}[يوسف:35], زوجها ومَن حول زوجها مِن المتنفذين, {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}, اجعله يروح السجن وحتى يسكت الناس, وينساه الناس, وتقطع الألسنة, {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}, حين ما بدون تحديد, فانظر هذه الفتنة يدخل بعد ذلك يوسف في البلاء الثالث مِن جملة الابتلاءات التي يُبْتَلَى هذا النبي الكريم, تخلص مِن فتنة المرأة, والتي هي قمة الفتن فتنة السراء هذه تأتي, أيضًا فتنة الضراء فيلقى في السجن بغير تهمة, وبغير ذنب, وبغير جريرة, ثم ليس هناك له مِن قريب, يزوره يعرف حاله, ليس له مِن مناصر يرفع قضيته يدافع عنه هذا غريب ليس له أحد في هذا البلد, والذين عمدوا إلى سجنه هم الذين اشتروه, وكان في بيته ما أصبح له أحد, قال -جلَّ وعَلا- : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ........}[يوسف:36], في دخوله السجن وافق دخول يوسف إلي السجن أنْ دخل معه فتيان إلى السجن, قيل أنَّ هؤلاء الفتيان كانا يعملان واتهما بالتآمر عليه أحدهما كان ساقي فرعون, ساقيه للخمر, والآخر كان خَبَّاز عنده, {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:36], مرة ثانية يعود الأمر إلى الرؤيا, وهذا يوسف آيته هي الرؤى وتفسيرها؛ فالله -تبارك وتعالى- يجعل له هنا مَن يدخل معه السجن فيرى هذه الرؤيا دخلوا فرأوا أحد منهم, قال : {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}, رأيت أنا في النوم, أني أعصر خمرًا, أي يعصر عنبا مثلًا ونحو ذلك؛ ليصبح خمرًا, وأما الآخر فقال : {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ}, أنا رأيت في النوم أحمل خبز فوق رأسي, وأنَّ الطيور تأتي وتأكل منه, ودائمًا السجين يستشف الغيب ما يعرف هل سيحكم عليه بالقتل, بالبراءة بغيرها, متى سيخرج مِن السجن فيستنكه ويستشرف الأمر الغيبي, والأمر الغيبي عن طريق الرؤيا فالرؤيا -سبحانه وتعالى- جعلها أحيانًا تكون لاستكشاف شيء مِن الأمر الغيبي, وتوسم هذان السجينان في يوسف الخير, وظنًا أنَّ هذا الرجل ممكن أنْ يؤول ويفسر لهما رؤياهما, {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ}, نبئنا بتأويل هذه الرؤيا,{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}, فبدأ يوسف -عليه السلام- ليُعَرِّفهُما بِنَفْسِهِ ويدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- هذا شأن عظيم مِن شأن يوسف -عليه السلام-, الداعي إلى الله -تبارك وتعالى- النبي الكريم, فقال لهما : {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[يوسف:37], {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38],

سنأتي إلى هذه الآيات -إنْ شاء الله- بالتفصيل؛ لنعيش في ظلالها مع يوسف عليه السلام- في سجنه, المحنة الثالثة مِن الامتحانات والابتلاءات التي يُدْخَل فيها نبي الله يوسف عليه السلام, نكتفي اليوم بهذا, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.