الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (285) - سورة يوسف 36-42

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:36], {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[يوسف:37], {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عن الفصل الثالث مِن محنة يوسف -عليه السلام- وابتلائه أنه أُدْخِلَ السجن في غير جريمة, وبهذه التهمة الجائرة التي اتهمته بها امرأة العزيز؛ عزيز مصر الفاجرة, وساعدها مَن ساعدها مَن حولها مِن هؤلاء الفاجرات, قال -جلَّ وعَلا- : {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ........}[يوسف:36], الفتي الذي في مقتبل العمر الشباب, ورآيا كل منهما بعد مدة رأي في منامه قال : {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي}, أي في النوم, {قَالَ أَعْصِرُ خَمْرًا}, أعصر عصير مِن الذي يُتَّخِذُ الخمر, {وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} أخبرنا بتأويل هذه الرؤية, {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}, ذكرنا علاقة آية يوسف -عليه السلام- هي الرؤى رؤياه الأولى رؤية السجن هنا, رؤية الملك والذي سيأتي بعد هذا ويكون فيها خلاصه, فهذه الرؤيا في السجن كانت لها شأن مهدت, تفسيره للرؤيا العظمى التي كان بها ظهوره وعلوه, وعلا كل الناس وصوله إلى حظوة مَلِك مصر نِفْسِهِ وإظهار براءته, فقدم يوسف نَفْسَهُ إلى هذين السجينين أولًا قال لهما : {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}, فقال لهم هذا أمر فيه أمور مِن أمور الغيب, أطلاع يطلعني الله عليها فيبين أنه نبي مِن الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ الله يطلعه على بعض شئون الغيب مِن هذا منها أنه قال لهم : أي طعام ترزقانه يأتيكما به في السجن أخبركم إنَّ غدًا ستأكلون كذا, بعد غد ستأكلون كذا, اليوم سيأتيكم طعام كذا, {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا}, فهذا مِن الغيب الإضافي والله -تبارك وتعالى- يطلعه عليه, قال لهم : {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي}, إنَّ الله -تبارك وتعالى- علمني هذا العلم, فهذا إخبار مِن الله وهذا مِن النبوة, ثم بَيَّنَ لهم إيمانه واعتقاده, قال : {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}, الأقوام الذين يؤمنون بالله تركنا مِلَل هؤلاء الناس, {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}, يبدو كشأن الفراعنة وغيرهم لا يؤمنون بالآخرة, بل هم كافرون بها ما كان عند عقائد المصريين في أنهم إذا انتقلوا إلى الآخرة ينتقل الأمر إلى نَفْسِ الحياة الدنيا, المَلِك مَلِك, والوزير وزير, والسوقة سوقة, فهي حياة عندهم يتمتع بها حياة روحية؛ ولذلك يسجنون مع الميت ما كان يحوزه في هذه الدنيا حتى إذا بُعِثَ وجد نَفْس الأمر, وجد القمح ويدفنون قمحه طعامه والعسل والذهب وحاجياته, ويظنون أنَّ الإنسان إذا عاد سيعود الأمر إلى الحياة الثانية تتجدد لكنها كالحياة الأولى, لكن الآخرة التي هي عند الله -تبارك وتعالى- التي يقوم فيها الناس لرب العباد؛ ليحاسبهم على أعمالهم لا, {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}, وكذلك الشعوب التي كان يوسف -عليه السلام- وأهله مِن أولاد يعقوب هم الذين كانوا على التوحيد, وأما بقية الشعوب المحيطين بهم كلهم شعوب كانت على الكفر بالله -تبارك وتعالى-, وعبادة الأوثان, {........إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[يوسف:37], تأكيد أنهم كافرون, {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ........}[يوسف:38], قال لهم نحن ناس على دين وعلى ملة نحن وآبائي اتبعت{ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيم}, أبو الأنبياء -عليه السلام-, {وَإِسْحَاقَ}, ابنه, {وَيَعْقُوبَ}, هو الأب, أي يعقوب الأب المباشر و هو إسرائيل -عليه السلام- {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, أي هذه عصمة, عصمة مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ نَقَعَ في الشِّرك, {مَا كَانَ لَنَا}, ما ينبغي لنا ولا يكون لنا, {أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, أي شيء, {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا}, هذا مِن فضل الله علينا أنْ اختار لنا الدين, وعلمنا التوحيد, وجعلنا على الإيمان به وحده لا شريك له, {وَعَلَى النَّاسِ}, كذلك وعلى الناس بدعوتنا الناس إلى الله -تبارك وتعالى-, {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38], قال لهم أكثر الناس لا يشكرون نعمة الله -تبارك وتعالى- في أنْ يعلموا أنَّ إرسال الرسل, وجود الرسل بينهم إنما هو مِن نعم الله -تبارك وتعالى- العظمى التي يجب عليهم شكرهم لهذا, ومِن شكرهم لهذا اتِّبَاع هؤلاء الرسل, {.......وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}[يوسف:38], لا يعرفون أنَّ هذه نعمة أصلاً بل يُعَامَلُ الرسل بكل أنواع المعاملة السيئة فيكفرون بهم ولا يشكروا الله -تبارك وتعالى- على أنْ أرسل لهم مَن يدلهم على الخير, ثم بدأ بعد أنْ عَرَّفَ نَفْسَهُ ودعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- يقول لهم : {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:39], هذا دعوة مِن توحيد الله -تبارك وتعالى- بالنظر العقلي, أي حَكِّم عقلك في هذا الأمر, {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}, أم يكون لك أرباب, أسياد كثيرون تعبدهم وتطلب مِن هذا, وتطلب مِن هذا, وتخاف  هذا وهذا, {خَيْرٌ}, أم هذا الرب, الإله, الواحد, القهار{أَمِ اللَّهُ}, الله؟ هذا الله الاسم الأعظم على ذات الرب -تبارك وتعالى-, المعروف عند كل الأمم والشعوب في كل العصور بأنه الله خالق السموات والأرض, {الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}, لكل مَن سواه -سبحانه وتعالى- فهو الله الواحد الذي ليس له شبيه ولا كفء ولا ولد ولا زوجة ولا صاحبة, فالله هو الواحد الأحد -سبحانه وتعالى- {الْقَهَّارُ}, القهر هو الغَلَبَة والجبر وتسيير أمره, وإجراء حُكْمِهِ على كل مَن سواه -سبحانه وتعالى-, يقهرهم بذلك فهو { الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}, الذي لا راد لحكمه ولا مانع لقضائه, فهو الذي قهر كل شيء, وذَلَّ له كل شيء -سبحانه وتعالى- هو الواحد فتذهب لأرباب تدعيهم أنهم أرباب وليسوا بأرباب قال لهم : {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ}, وكيف يكون أصلاً رب وهناك رب مثله! لا يمكن أنْ يكون, فلو كان يوجد رب ورب, وكلهم يجتمعوا على واحد؛ كيف يكون؟ عبد واحد وله أكثر مِن رب, لا يصح؛ لأنَّ الذي خَلَقَ هذا العبد وسَوَّاهُ وعدله ورزقه, لابد أنْ يكون واحد, فأما أنْ يكون في عدة أرباب على شخص واحد يستحيل هذا, هذا أمر مستحيل ولا يكون فإذن ليسوا أرباب, إذن هذا كذب, {........أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:39], الذي قَهَرَ كل شيء, وغلب كل شيء, وكل هذه المخلوقات هي تحت أمره, وفي قبضته وفي مُكْنَتِهِ -سبحانه وتعالى-, ثم أخبر أنًّ هذه الأرباب ما هي أرباب, لا يمكن أن تكون أرباب, قال : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:40], قال لهم : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ}, مِن اتخاذكم لهذه الأرباب المختلفة, وكل مِن سِوَى أهل التوحيد بالله -تبارك وتعالى- لا شك أنهم يرجعون إلى آلهة متعددة, أرباب مختلفة ,فقال : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ}, هؤلاء الأرباب الذين اتخذتموهم هؤلاء الآلهة, { إِلَّا أَسْمَاءً}, أنت أضفيت عليه, سميته رب, سميته إله لكنه في الحقيقة ليس ربًا, وليس إلهًا, الرب لا يكون إلا واحد؛ لأنَّ هذا الخَلْق كله خَلَقَهُ خالق واحد, ولم يشترك خالقان فيه؛ لأنه لو كان هناك خالقان لهذا الوجود لابد أنْ يحصل تنازع فيه, يكون هذا الخلق غير هذا الخلق, كيف تكون أرض وسماء واحدة, ونظام شمسي واحد يسير في نسق واحد, كيف يشتغل هذا اثنان؟ كيف يصنع هذا اثنان؟ لو كان هناك إلهان لصنع هذا وصنع هذا, ولتضارب هذا وهذا, ولا يمكن أن يصنعوا آلة واحدة على هذا النحو لها نسق واحد, هذه المخلوقات كلها وحدة الخلق دليل على وحدة الخالق, فلو كان إله يخلق وإله يخلق لذهب هذا بما خلق ولذهب هذا بما خلق ولعلا بعضهم على بعض, ولضارب هذا هذا, لرأينا هذه الشمس تضرب تلك الشمس, وهذا القمر يضرب قمر هذا ,وهذا يفعل هذا, يعلو بعضهم على بعض, يفسد الكون, أما نحن نعيش في كون متلاحم, متناسق كل جزئية فيه مرتبطة مع الآخر تمامًا, تمام الارتباط أبدًا كالجسد الواحد, الجسد الواحد هذا, اليد في عضو, والعين في عضو, كل في تناسق واحد, دليل على أن خلقه واحد لا يمكن أن يكون هذا الجسد خالقان, فبالتالي ادِّعَاء الألوهية, وادعاء الربوبية إلى غير الله -تبارك وتعالى- كذب, اسم أضفيت عليه اسم, ولكنه ليس لهذا الاسم حقيقة فإذا سميت الشمس إله, والكبش يعبده المصريون إله, ويعبدون الحية إله, ويعبدون النيل إله, ويعبدون الملك إله يسمونه إله, هذه الآلهة المتعددة التي تعبدونها هذه أسماء أنت سميت هذا إله, الكبش هذا الذي سميته إله وهو كبش سيظل كبش مهما خلعت عليه مِن صفات الألوهية والربوبية يظل مكانه, تسميتك له بأنه إله لا تجعله إله, والشمس جعلتها هي الإله؛ مهما ألقيت على هذه الشمس مِن الصفات وسميتها مِن الأسماء تبقى هي الشمس, مخلوق, مربوب, قائم سائر في فلكه بأمر موجده, وأمر صانعه -سبحانه وتعالى- تبقى هي هكذا شمس ليست هي إلهه, وإنما هي مخلوق, {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37], فيقول لهم يوسف -عليه السلام- : {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ........}[يوسف:40], ما أنزل الله -تبارك وتعالى- مِن سلطان مِن عنده بدليل قائم يُخْبِرُ بأنَّ هذه آلهة تُعْبَد معه, ولا أنها خلقت شيء وليس لها مِن عند نفسها ذِكْر ووحي تُخْبِرُ أنها هي نِدّ لله, وأنها صنعت مع الله, وأنها خَلَقَتْ مع الله, ثم قال لهم : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, الحكم بالألف واللام القول القَدَرِي, والحُكْم الشرعي الديني كله لله, {إِنِ الْحُكْمُ}, في كل هذه المخلوقات التي يحكم فيها, ويتحكم فيها ويأمرها فتطيع, يأمر الشمس فتطيع, والقمر فيطيع, والنهر فيطيع, والبحر فيطيع, والأرحام فتطيع كل هذه المخلوقات الحكم فيها لله وحده -سبحانه وتعالى-, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}, أمر الله -تبارك وتعالى- أمر مِن عنده لكل الخلائق وللناس, ألا تعبدوا إلا الله, لا يعبد إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ لأنه لا رب للعالمين سواه؛ وبالتالي لا إله للعالمين إلا هو -سبحانه وتعالى-, فلا تألهوا إلا إياه, ولا تعبدوا ولا تذلوا إلا له -سبحانه وتعالى-, وفي هذا تعريض وذِكْر لكل هذه الآلهة الباطلة مِن الفرعون إلى كل هذه الأصنام والأوثان والآلهة التي اتخذوها مِن دون الله, {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}, قالهم هذا الدين قوي, الدين المنهج والطريقة, دان الناس بهذا الأمر بمعنى أنهم ساروا فيه والتزموه, {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}, قال لهم : هذا الصراط المستقيم, هذه هي الصبغة العامة القويمة الصحيحة أنْ تسير بهذا ألا تعبدوا إلا الله -سبحانه وتعالى-, {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:40], قال لهم أكثر الناس في هذا الوجود لا يعلمون هذا, وهم مشركون يركضون وراء شمس, وراء نجوم, وراء كذا, وراء كبش, وراء حَيَّة, وراء كذا مِن هذه الآلهة الباطلة التي ادَّعُوَها مِن دون الله -سبحانه وتعالى-.

 ثم بعد أنْ دعاهم إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعلى توحيده -تبارك وتعالى-, وهذا أمر عظيم مِن يوسف, فلم يشغله ظلمة السجن, ومرارة الظلم الذي وقع عليه, وإهمال الذين أصبحوا أقربين له, هذا الرجل عزيز مصر, وكيد هذه المرأة به, وكونه غريب, طريد وحده كونه, أنه لا يجد في هنا أي ناصر له ولا أي مَن يدافع عنه بل مَن يسأل عنه, مَن يطرق باب السجن للسؤال عنه, والسلام عليه, لم يفت كل هذا في عضده ويشغله ظنًا وحزنًا وهَمًا أنْ يدعو إلى الله لا, بل  كان طيب النُّفْسِ, منشرح الصدر, مقبلًا على هؤلاء السجناء معه, يسمع حديثهم, يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى- بهذه النَّفْس المشرقة, الواضحة, الواثقة مِن الرب -تبارك وتعالى-, الداعية إليه هذا أمر عظيم, انظر الجو المحيط بيوسف, وانظر كيف أنه كالضوء الساطع, اللامع في هذه الظلمة التي تحيط به مِن كل مكان.

ثم بدأ بعد ذلك بعد أنْ دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- هو الأهم يدعوهم بعد ذلك أمر المهم وهو الذي سألوا عنه, فقال : {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}, ناداهم بهذا الأمر أنه أصحابه في السجن وهذا فيه كذلك نوع مِن الرقة واللطف أنه يناديهم بصحبتهم بالسجن وكأنَّ مَن صحبك ساعة يصبح له حق عليك, وهذا السجن أصبح صحبة قهرية, فقال لهم : {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ}, الذي جمعني وإياكم السجن, {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}, قال لهم هذا الذي رأى أنه يعصر خمر في نومه فهذا ستأتيه براءة, هذا سيخرج مِن السجن, ويعود إلى عمله الذي كان يعمل, {فَيَسْقِي رَبَّهُ}, سَيِّدهُ الذي كان يعمل عنده, {خَمْرًا}, سيتحقق ما رأى, {وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}, قال له الثاني فهذا سيصلب أي يقتل, والصلب هو أنْ يشبح على صليب الخشب وهو الخشبة التي يكون واحدة قائمة واحدة أفقية فيصلب عليها يديه ويصلب رأسه على الثانية, فيصلب على صليب, {فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}, وكان يُعْمَد إلى هذا الأمر؛ للتحذير والتخويف لا يكتفوا بقتله وتغييبه في الأرض, ولكن يقتل ويشبح على هذا النحو بالقيود ونحو ذلك؛ حتى يراه الناس, يرعبوا لذلك وينزجروا مِن مثل عمله, قال : {فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ}, أي أنه يُقْتَل, يموت على الصليب ثم كعادة الطير إذا رأت جثة مِن الجثث تأتي وتأكل مِن لحمها؛ فتأتي الطيور وتأكل مِن رأسه, {........قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[يوسف:41], {قُضِيَ الأَمْرُ}, وهنا بالبناء للمجهول, {الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}, أي أنْ هذا التأويل أمرٌ مقضي عند الله -تبارك وتعالى-, أمر قد انتهى, الذي يخبركم به أمر أصبح مِن الغيب الحتمي الذي لابد أنْ يقع, {........قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[يوسف:41], ممكن تفسر قضي الأمر الذي فيه تستفيان لقد أنهيت كلامي لكن يكون هذا تحصيل حاصل لا وإنما , {قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ........}[يوسف:41], {قُضِيَ الأَمْرُ}, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر الذي تستفيان فيه وهو تفسير هذه الرؤيا ستقع كما حدثتكم تمامًا, هذا سَيُقْتَلُ, وهذا سينجو ويرجع إلى عمله, هذا أمر صعب جدًا إخبار بغيب وهذا أمر صعب, كمن يُخْبَرُ الذي حُكِمَ عليه بالإعدام بأنه أنت قد حُكِمَ عليك, الحكم صدر وسينفذ, والآخر سيأتيك البراءة مشاعر انظر في هذه القصة المشاعر التي فيها مشاعر الحزن والألم مشاعر الفرح وارتقاب هذا ويوسف -عليه السلام- هنا وهو يحدث الناس بهذا الأمر وهو في السجن.

ثم يذكر نَفْسَهُ وحاله فيقول للذي ظن أنه ناج : {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ........}[يوسف:42], قال -جلَّ وعَلا- : {........فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42], {وَقَالَ}, أي يوسف -عليه السلام-, {لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا}, لمن ظن أنه ناج مِن الاثنين وهو هذا الذي رأى أنه يسقي ربه خمراً, وأنه سينجو وسيخرج, قال له : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, أي أنا رجل سُجِنْت في هذا السجن بغير تهمة, وبتهمة باطلة, وبغير جريرة, وبغير ذنب, وليس لي أحد هنا, وأنت عندما تذهب إلى ربك الذي تخدم عنده, وهو مِن علية القوم, فاذكرني عنده قل والله هذا حديث الماضي في السجن وحتى لو كان كبيرًا ممكن يسمع هذا أنا والله عندما كنت في السجن يا طويل العمر, كان معي واحد عبراني مِن أهل مصر كان مسجون معي وكذا وكذا, وترى هو فسر لي الرؤيا, وأخبرني بأني سأخرج, وأنه ستأتيني البراءة وأخبر صاحبي كذلك ما سيكون له ووقع الأمر تمامًا كما وقع, وهذا رجل ذو خُلُق فاضل, وذو سيرة حميدة في السجن, ويبدو أنه سُجِنَ انظروا في أمره وارفقوا به ونحو ذلك, قال له : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, أي انقل هذا الحديث, واذكر حالي وكذا وكذا, {عِنْدَ رَبِّكَ}, هذه كانت تقريبًا يمكن هي الوسيلة الوحيدة المتاحة في يد يوسف -عليه السلام-؛ لِيُسْمِعَ صوته لِمَن خارج السجن وإلا لا يوجد أحد أهل أبوه لا يدري أين هو, وإخوانه قد غَيَّبُوهُ وألقوه وظنوا أنهم قد تخلصوا منه, وهو في هذه الأرض الغريب ليس له فيها أي أحد مِمَن يعرفه, ولا يعرف مِن أين أتى, والذين عرفوه واشتروه وأكرموه, ويعرفون حاله وصِدْقه وأمانته هم الذين سجنوه على هذا النحو وهم المتنفذون, فحاله حال شديد جدًا, فحاول يوسف عن طريق هذا أنه يُخْرِجُ صوته إلى خارج السجن, {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}, {فَأَنسَاهُ}, هذا الصاحب السيئ الذي أحسن إليه يوسف, وفَسَّرَ له حلمه, ودعاه إلى الله -تبارك وتعالى-, وبَيَّنَ له الحق كان ينبغي أنْ يحمل قضيته, ويجتهد في أمر إخراجه بما يستطيع على قدر حاله, لكنه على عادة كثير مِمَن يُحْسَن إليهم ينسون الإحسان ونسي صحبه السجن, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}, أنسى هذا الصاحب الخمر هذا الشيطان خرج من اِلسجن, ونسي {ذِكْرَ رَبِّهِ}, أنْ يُذَكِّرَ ربه بحال يوسف -عليه السلام- بداخل السجن, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42], أي أن يسجن لبث في السجن بضع سنين البضع من الثلاثة إلى يعني التسع سنوات هذه دون العشرة لبثها يوسف في السجن؛ لأنه لم ينتبه إليه أحد, ولم يسأل عنه أحد, ويشعر الإنسان بأنَّ مثل هذه الدول الظالمة الجائرة ملفات سجين ما له أحد يهمل ويترك, ولا هناك مَن يسأل عنه ولا شيء فيترك فإنه أُهْمِلَ وتُرِكَ في الأمر هذا, والذي تعلق بيوسف ليخبر بخبره في الخارج لم يذكر شيء, عمد بعض المفسرين مَن تأثر بالفكر الصوفي وجعلوا الضمير هنا, {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}, أنه يعود على يوسف, وأنَّ يوسف أنساه الشيطان أنْ يَذْكُرَ ربه وحده, بمعنى أنه لا يتوسل ولا يسأل إلا الله, وأنه سأل هذا العبد ولما سأل العبد عند ذلك الله عاقبه بأنْ جعله في السجن بضع سنين, وهذا مِن التفسير السيئ والقول على الله -تبارك وتعالى- بلا علم؛ فإنَّ يوسف -عليه السلام - أولًا لم ينسَ ذِكْر ربه, أين نسى ذكر ربه؟ والله -تبارك وتعالى- يَذكُر بأنه في حديثه هنا لأهل السجن كله حديث في الله -تبارك وتعالى- يدعوهم إلى الله وحده لا شريك له مِن أول الأمر, قال لهم : {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[يوسف:39],{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ........}[يوسف:40], فأين نسي يوسف ذِكْر ربه, وأما أنه حَمَّلَ هذا الذي ظن أنه ناج حمله أمانة, وهو أنْ يُخْبِرَ ربه بحال يوسف, فهذا لا شيء فيه, هذا مِن السبب الواجب أنْ يأخذه؛ أنْ يأخذ المسلم بسبب واجب, وهو أنْ يعلن عن نَفْسِهِ أنه مظلوم, مثل قال لما اتهمته زوجة العزيز : {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي........}[يوسف:26], فلم يقل الله يعلم بحالي وهو يدفع عني, لابد مِن اتخاذ الأسباب فهو أراد أنْ يتخذ السبب ليخرج مِن السجن؛ فقال لهذا الرجل الذي علم أنه سينجو, وقد نجا بالفعل قال : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, فهذا الذي فعله يوسف ليس عدولًا عن سؤال الله -تبارك وتعالى- إلى غيره, بل اتخاذ الأسباب المشروعة, ويوسف اتخذ هذا السبب المشروع؛ ليخرج مِن السجن, ولكن هذا الذي اتخذه كما ذكرنا, أنَّ صاحبه في السجن بمجرد ما خرج مِن الورطة نسي صُحْبة مَن صَحِبَهُ, وإحسان مَن أحسن إليه, وكان يجب على الأقل يزوره, يخبر بخبره لكن هذا انتهى, هي مرة واحدة فقط هي بمجرد ما خرج مِن السجن ما عاد إليه, ونسى أنه كان معه في هذا السجن رجل صالح فَسَّرَ له حلمه وصحبه بإحسان مدة بقائه فيه, فالذي نسي ذكر ربه يذكر هذا لربه وهو سيده, إنما هو ذلك السجين الذي نسي هذه الصحبة, {........فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42 وهذا لما يشاءه الله -تبارك وتعالى- مِن الكرامة ليوسف فيما بعد ذلك, ثم بعد ذلك يَقُصُّ الله -تبارك وتعالى- السبب الذي بعده يكون فيه السبيل إلى خروج يوسف مِن هذا السجن.

وهذا نأتي إليه في الحلقة الآتية, في الآيات التي تليها, أستغفر الله لي ولكم, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد.