الإثنين 24 جمادى الأولى 1446 . 25 نوفمبر 2024

الحلقة (286) - سورة يوسف 43-53

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}[يوسف:43], {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ}[يوسف:44], {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}[يوسف:45], {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}[يوسف:46], {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}[يوسف:47], {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}[يوسف:48], {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:49], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ المَلِكَ؛ مَلِك مصر قال للملأ مِن قومه : {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}, وقال الملك وهو ملك مصر : {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ}, هذه رؤيا منامية رآها في النوم, {يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ}, أنَّ سبع بقرات عِجَاف مفرد عجفاء, بقرة عَجْفَاء وهي قليلة اللحم, ضعيفة تخرج, رأى في النوم أنَّ سبع بقرات عجاف يخرجن مِن نهر النيل فيأكلن سبع بقرات سِمَان يرتعن على الشاطئ, ورأى كذلك سبع سنبلات خضر, قال : {وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ}, أي رأيت سبع سنبلات جمع سنبلة, والسنبلة لتكون للقمح وتكون للأرز وهي المكان في آخر أعواد القمح التي يجمع الله -تبارك وتعالى- فيها الحَبّ, فهذه سنبلة, رأى سبع سنبلات خضر, {وَأُخَرَ}, سبع سنبلات أخر يابسات, وقد جاء في التوراة أنه تكرر هذه الرؤية تكررت له رآها أكثر مِن مرة, ينام ثم يراها, ثم يقوم مِن نومه مرة ثانية, ثم ينام ثم يراها, فالرؤية ترمز إلى أمر أفزعته, فعرضها على وزرائه وكبرائه, قال : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ}, الملأ الجماعة, جماعته التي تملأ المكان, جماعته وزرائه وكبراؤه, أفتوني في أمري, أفتوني يطلب منهم, يستفتيهم في هذا الأمر, أفتوني في أمري هذا, {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}, في هذه الرؤية التي رأيتها, {........إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ}[يوسف:43], {إِنْ كُنتُمْ}, أي مِن أهل تعبير الرؤيا, وتعبيرها كأنه العبور بها إلى ما تكون, فتعبير الرؤيا هي تفسيرها بالأمر الذي تتحقق به, فما كان مِن جماعته : {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ}, {أَضْغَاثُ}, جمع ضغث, والضغث الأخلاط, أي هذه أخلاط مِن الأحلام التي يراها النائم في منامه, فكان هذا تفسيرهم نابع عن جهل بالأمر ففسروا كذلك لأنَّ هذه أخلاط ما فهموا معناها لأنْ يكون هناك بقرة تأكل بقرة, وسبعة لم يوشي لهم هذا العدد بأي أمر وسبع سنبلات خضر وآخري يابسات ماذا في هذا, لم يعرفوا أنها ترمز إلى أمر أو توحي بأمر, قال : {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ}[يوسف:44], لَسْنَا ممن يُؤَوِلُ الأحلام, وتأويلها معرفة ما يَؤُولُ إليه أمر هذه الرؤيا, وكان في الحضور ساقي القوم صاحب السجن, صاحب يوسف في السجن هو الذي يسقيهم فتذكر الأمر, قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا}, الذي نجا منهما مِن القتل, مِن صاحبي السجن, فصاحبه الذي رأي أنه يحمل فوقه رأسه خبزًا تأكل الطير منه هذا الذي صُلِبَ وقُتِلَ, وأما الآخر الذي قال : {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}, فهذا هو الذي نجا جاءته البراءة, ورجع إلى عمله السابق يسقي ربه خمًرا, فهو في محضر هؤلاء ويسمع الملك ليقول لوزرائه هذا الكلام ويقول له وزرائه أضغاث, فقال هذا قال الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ........}[يوسف:45], {وَادَّكَرَ}, تَذَكَّرَ, {بَعْدَ أُمَّةٍ}, أي هل الفترة الطويلة مِن الزمن فإنه قد مضى على خروجه مِن السجن مدة طويلة, كما قال -تبارك وتعالى- عن يوسف : {........فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[يوسف:42], قيل سبع سنوات, {بَعْدَ أُمَّةٍ}, والأُمة هذه العدد مِن السنين يسمى أُمَّة؛ لأنها جماعة مِن السنين, {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}, عندي تأويل هذه الرؤيا, ثم بَيَّنَ أنه ليس عنده هو الذي يفسرها, ولكن قال أَرْسِلُونِ, أَرْسِلونِ في مهمة إلى شخص الذي يُؤَوِلُ هذه الرؤيا فقد تذكر ما يوسف -عليه السلام-, وكيف أنه أَوَّلَ رؤياه وتحققت رؤياه تمامًا كالذي أخبر عنها يوسف, {فَأَرْسِلُونِ}, إلى يوسف , ذهب أرسلوه إلى السجن وذهب مباشرة ولم يبحث في قضية يوسف, ولا اعتذر له مِن نسيانه كل هذه المدة, وعدم تذكير سيده بشأنه, فإنَّ يوسف قد حَمَّلَهُ أمانه, وقال له : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, لكنه نسي هذا الأمر, والشاهد أنه دخل في موضوعه مباشرة بدءًا لأنه متلهف أنْ يعرف رؤيا الملك, وتُفَسَّرُ له فدخل مباشرة, وقال : {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ........}[يوسف:46], قَدَّمَ بهذه المقدمة فقط, {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ}, أي يا يوسف, يا أيها الصديق, الصَدِّيق الصادق, كثير الصدق فإنهم لم يعرفوا عليه كذبًا وهذا شأن الأنبياء, وأيضًا الصدق في أنه ما حَدَّثَهُم به كله حتى مِن الأمور المستقبلة ومِن الأمور الغيبية وقع كما حَدَّثَهُم به, {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا}, طلب الفتية؛ طلب أنْ يُفَسِّرَ لهم, ويُبَيِّن لهم ما في والحكم فيما هم فيه, {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ}, وهنا يتجلى عظمة يوسف -عليه السلام- وإخلاصه, ونقاوة قلبه, وصدق نَفْسِهِ, فمباشرة يُفَسِّرُ لهم الرؤية, ويرشدهم إلى الذي يجب عليهم أنْ يصنعونه في مقابلة المحنة القادمة, فيقول لهم : {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}, قال أولًا ذلك قال : افتنا في هذه, {........لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}[يوسف:46], {لَعَلِّي}, عندما تُخْبِرُنِي بتفسيرك للرؤيا أرجع إلى الناس وسماهم الناس؛ لأنهم رؤوس الناس, المَلِك وزراؤه, {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}, هذا الأمر الذي باتوا يَدُوكُونَ فيه, ويشتغلون به ورؤيا الملك, وهذه الرؤية الرمزية تحمل رمز عظيم لابد أنَّ ورائها أمر عظيم, يوسف دخل في الموضوع رأسًا بَيَّنَ لهم الذي يجب عليهم أنْ يفعلوه فقال : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا}, أي عليكم أنْ تزرعوا سبع دأبًا, {دَأَبًا}, حال كونكم دائبين والدأب هو مواصلة الأمر بدون كلل باستمرار, أي لابد أنْ تزرعوا ليلًا ونهارًا, تشتغلوا في الزراعة ليلًا ونهارًا, {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ ........}[يوسف:47], أي مِن هذا الزرع الذي استوي ونضج, {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}, ما حصدتم مِن هذه الحبوب؛ مِن الأرز, مِن القمح, مِن العدس, مِن غير ذلك مِن هذه القوت, {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}, اتركوه في سنابله, وهذا أيضاً خبرة فنية بالأمر فإنَّ الحبوب إذا بقيت في سنابلها, فإنه لا يصيبها السوس, أما إذا أخرج الحب مِن السنابل, وخُزِّنَ في المخازن, فإنه إذا مَرَّ عليه حَوْل غزاه سوس هذه الحبوب وأكله, وأصبح بعد عام لا يستفاد منه إلا في أنواع من الحماية الخاصة وتحصيل الخاص, {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}, لابد مِن تقنين الأكل هنا وتأكلوا قليل فقط مِن هذا الذي تخزنوه تأكلوا منه قليل, {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ........}[يوسف:48], أي تفعلوا هذا الفعل سبع سنين, سيفيض فيها ماء النيل وتزرعون, سيأتي سبع سنوات قحط يهبط, مستوى النيل, لا تأتيكم مياه, فعند ذلك ستأكلوا مِن هذا المخزون, سيكون هذا سبع سنوات تأكلوا مِن هذا المخزون, ولا يبقي في نهاية السبع سنوات, {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ}, يبقى شيء قليل فقط مِن الذي وضعتموه في الحصون وحفظتموه, {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}, أي مِن بعد السبع الأخرى, {........عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:49], عند ذلك يأتي {عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ}, بالمطر, الغوث والغياث هو نزول المطر؛ لأنه يغيث الناس كأن الناس في حال شدة, وحال كرب, وحال استغاثة؛ فيأتيهم هذا الغوث, {.......فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[يوسف:49], ما شاءوا, العصر للفواكه وغيرها, يعصرون العنب, ويعصرون البرتقال, ويعصرون غيره, أي أنه ليس فقط تنضج الحبوب, بل أيضًا كل الثمار, وقال : {يَعْصِرُونَ}, مطلقًا, هنا أصبحت هذه الرؤية كانت ترمز إلى أمر طويل إلى مرحلة مِن المراحل تستمر أربعة عشر سنة وأنَّ عليهم في السنين القادمة أنْ يعملوا خطة عمل كبيرة زراعة متواصلة, تحصين وحفظ لما يجمعونه, تقنين بعد ذلك لطعام القوم في القطر كله, لِيُوَزَّع هذا المحصول المخزون على سبع سنوات, لابد مِن خطة كاملة لتفادي هذه الكارثة, ففيها فرصة في أول سبع سنوات لابد مِن استغلالها, ثم بعد ذلك لابد مِن تنظيم عملية الاستفادة مِن المخزون لسبع سنوات أخرى, فالناس أمام محنة وفتنة واختبار عظيم, ولابد أنْ يكون هناك استعداد كامل لهذا الأمر في السبع سنوات الأولى, وفي السبع سنوات الثانية, لما رجع هذا الذي ادَّكَرَ بعد أُمَّة, صاحب يوسف في السجن ما رجع فقط بتفسير رؤيا, رجع بتفسير رؤيا, ورجع كذلك بخطة كاملة لتفادي الكارثة التي هي المتوقعة والقادمة, فلما طُرِحَ هذا على المَلِكِ, {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}, هذا الذي فَسَّرَ هذا الأمر بالشكل هذا ائتوني به؛ لأراه وأسمع منه, أي ليسمع منه الأمر بِنَفْسِهِ, {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}, أمر مَلَكِي لِمن حوله أنْ يأتوا له بهذا السجين الذي في السجن, والذي فَسَّرَ الأمر على هذا النحو, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[يوسف:50], {فَلَمَّا جَاءَهُ}, أي جاء يوسف, {الرَّسُولُ}, رسول المَلِك الذي جاء لإخراجه مِن السجن, وليوصله إلى المَلِك, فقال له : {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ}, قال له لا أخرج, ارجع أولًا, {إِلَى رَبِّكَ}, المَلِك الذي أرسلك, {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[يوسف:50], قال له يوجد مجموعة مِن النسوة كن في بيت صاحبة القصر الذي كنت فيه, امرأة العزيز, وقد حصل منهن تقطيع لأيديهن, وذلك عندما دعتهم امرأة العزيز, وأعددت لهن هذا المتكأ, وقطعن أيديهن عندما رأين يوسف بهذا البهاء والجمال فسبيت عقولهن, وما قال يوسف ما الذي قالته هذه النسوة, وما اتهمته به, قال لا اسأل هؤلاء النسوة عن شأني, وذلك أنَّ هؤلاء النسوة هم الذين شهدن عليه مع امرأة العزيز بأنه هو الذي راود امرأة العزيز عن نفسها, وكان هم السبب في دخوله السجن مع امرأة العزيز, قال له اسأل هؤلاء خبري عند هؤلاء, قل لِلمَلِك ليسأل هؤلاء النسوة عن الخبر وقال :  {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}, وذلك كيدهن أنهن أظهرن ليوسف الذي قلنه ليوسف, عرضن عليه الفتنة, عرضن عليه أنفسهن حَثَثْنَهُ على أنْ يطيع امرأة العزيز كل منهن اشتهت هذا الأمر لنفسها, وقد راودنه عن نَفْسِهِ, ثم بعد ذلك كانت شهادتهن التي دخل بها السجن غير هذا ,فهذا كيد شهدن عليه بأنه هو وهو وهو الذي يستحق العقوبة, ويستحق السجن وسُجِنَ مِن أجل ذلك, قال :  {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}, عند ذلك المَلَك اضطر أنْ يفتح ملفات هذه القضية, ودعا النسوة اللاتي كن في هذا المجلس المشهود في بيت امرأة العزيز, {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ}, {قَالَ}, أي لهن المَلِك : {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ........}[يوسف:51], فاجأهن بالتهمة الموجهة لهن اللاتي نفينها سابقًا, وظهرن بغير هذا المنظر, {مَا خَطْبُكُنَّ}, الخطب الخبر العظيم, ما الخطب؟ {إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}, حين راودتن يوسف عن نَفْسِهِ, {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ}, {قُلْنَ}, أي النسوة كلهن شهادة منهن, {حَاشَ لِلَّهِ}, نَفْي كامل ونشهد لله -سبحانه وتعالى,- {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}, ما علمنا عن يوسف أي سوء, ولا أي ميل عن جادة الحق, {مِنْ سُوءٍ}, أقل سوء, في أنه أغرانا أو دعانا إلى فاحشة, كانت معهن امرأة العزيز وهي الداعية, وهي صاحبة هذا الأمر, وهى المُدَبِّرَة, {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}, {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}, صاحبة هذه الفتنة كلها, {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}, لا تستطيع أنْ تلف يمينًا أو شمالًا, وتُظْهِرُ خلاف الحقيقة, {حَصْحَصَ الْحَقُّ}, أي أنه ظهر وبين وأصبح أمام الجميع, {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ}, فاعترفت أمام الجميع بأنَّ هذا الفعل هي التي راودت يوسف عن نَفْسِهِ, {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}, فيما أخبر به أنني أنا التي راودته عن نَفْسِهِ, وأنا الذي ركضت وراءه, وأنا الذي شققت قميصه مِن دُبُرٍ, وأنه قد كان صاحب الشرف لم يَمِلْ معي في شيء ما دعوته إليه, قالت : {........أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:51], قول امرأة العزيز : {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ},وذلك أنَّ هؤلاء قد شهدن عليها, هي قد شهدت في السابق أمام هؤلاء النسوة أنها هي التي تريده, {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}[يوسف:32], فقد أفضت بمكنون قلبها أمام هؤلاء النسوة سابقًا, وقالت نعم أنا أريد هذا وسأجعله يفعله وإلا ألقيته في السجن, وجعلته مع الصاغرين, فلما جيء بهؤلاء النسوة شهدن بهذه الشهادة, وأظهرن هذا الإقرار الذي قالته امرأة العزيز يومًا ما لهن, فعند ذلك لما جاءوا وشهدوا بهذا الإقرار وقالوا هذا قالت امرأة العزيز : {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ}, ظهر الحق وبان وأصبح مكشوف, وقد وصلتم إلى عين الحقيقية, قال -جلَّ وعَلا- : {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52], {ذَلِكَ}, مِن قول يوسف -عليه السلام-, {ذَلِكَ}, أي ذلك بقائي في السجن وانتظاري فيه حتى يُعْلَمَ الحق في هذه القضية, ويُؤْتَى بهؤلاء النسوة, ويُخْبِرْنَ هذا الخبر أمام المَلِك؛ {لِيَعْلَمَ}, زوج هذه المرأة الذي أمر بسجني, ووضعني في هذا السجن زورًا وبهتانًا, {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}, أني ما خنته في زوجته, وذلك أنه لعله قد بقيت ريبة مِن يوسف -عليه السلام- في قلب عزيز مصر, علمًا أنه قد اطلع على صدقه وبشهادة مِن رجل المرأة, {........إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[يوسف:26], {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:27], {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ}[يوسف:28], فهذه الشهادة, لكن هذا على كل حال حكم بالقرائن, حكم بالقرينة وبقيت الدعوة قائمة والدعوة مِن امرأة العزيز أنه هو الذي راودها, والدعوة مِن يوسف أنها هي التي راودتني, وهذه قرينة فقط, لكن لا يوجد أحد منهم اعترف في ذلك الوقت بأنه هو الذي راود الآخر عن نَفْسِهِ, وبقي بالتالي لعله بقي شيء مِن الشك في قلب عزيز مصر, ثم هو الذي أمر بسجنه, هو الذي أدخله عندما قالت له : {........مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[يوسف:25], فهو سُجِنَ على كل حال بأمره, ولعله بقي في نَفْسِهِ شيء أنه ربما أنْ يكون يوسف قد مال أو صنع شيئًا, فكان بقاء يوسف هنا, وشهادة هؤلاء النسوة هنا أمام الملك, وفتح القضية على هذا النحو, ثم اعتراف الزوجة أمام الجميع على هذا النحو؛ لتبقى البراءة, ويظهر لعزيز مصر نصاعة ثوب يوسف -عليه السلام- قال ذلك, {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}, أنني ما خنته في زوجته بالغيب عندما كان غائبًا, {........وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52], الله -سبحانه وتعالى-, {لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}, الخائن لا بد أنْ يُظْهِرَ الله -تبارك وتعالى- خيانته في الدنيا أو في الآخرة, خيانة الخائن لابد, لكل غادر لواءً تحت استه يوم القيامة, وكذلك لا يهدي الله -تبارك وتعالى- الخائن في الدنيا الخائن يفضحه هنا, فيقول أنا لو كنت خائن يفضحني الله -تبارك وتعالى-, أما هذه الخائنة التي خانت زوجها على هذا النحو, وخانت يوسف -عليه السلام- كذلك على هذا النحو, وبقي في السجن ألقته في السجن على هذا النحو, وبقي كل هذه المدة في السجن لم تطرف لها عين, ولم يهتز لها قلب, ولم تذكر يومًا أنها ألقت بهذا البريء في السجن فسعت في إخراجه ولو حتى أخرجته بعيدًا عنها, لكن بقي حقدها عليه, وإصرارها فيما أصرت فيه إلى أنْ أُجْبِرَت إجبارًا على أنْ تعترف وأمام الجميع أنها هي الخائنة وهي التي راودته, قالت نعم, {........أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[يوسف:51], فقال يوسف : {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52].

ثم قال عن نَفْسِهِ تواضعًا وخلوصًا لله : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[يوسف:53], {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}, وذلك قال أهل العلم أنه لهذا الشيء الذي جاء في نَفْسِهِ مِن الهم الذي لم يحصل قال : {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ........}[يوسف:53], حديث النَّفْس هو ما جاءه حديث النَّفْس أنها لأمارة بالسوء, {........إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}, وهذا مِن يوسف قمة في الخلق وفي التواضع وفي الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى-, وإنَّ الأمر إنما هو إنقاذ وحماية الله مِن الرب, الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}, قال أهل العلم قال إنَّ هذا الكلام : {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52], أنَّ هذا الكلام مِن امرأة العزيز, وهذا أمر بعيد جدًا فإنَّ هذا مِن كلام يوسف -عليه السلام-, {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ........}[يوسف:52],  قد خانت زوجها, وخانت يوسف كل هذه المدة فكيف لم تخنه بالغيب؟ بل خانته بالغيب, وبقيت في هذا الخيانة شهدت هذه الشهادة اعترفت أمام النساء بأنها هي التي أردته لنفسها, وقالت : {........وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ}[يوسف:32], وسعت بعد ذلك في سجنه ومكث في السجن بضع سنين, ولم يتحرك لها قلب في كل هذه المدة, وبقي زوجها مخدوعًا على هذا النحو أنَّ يوسف الصديق -عليه السلام- هو الذي راود زوجته, وأنَّ زوجته هي صاحبة الطهر؛ ولذلك أمر بسجنه, فقد خانت يوسف بهذا خانت زوجها على هذا النحو, لم تعترف إلا تحت وطء شهادة هؤلاء النسوة أنها بالفعل هي صاحبة هذه الفتنة, فهذا الكلام : {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ........}[يوسف:52], لا يمكن أنْ يكون مِن كلامها, {........وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52], كلام شريف, ومِن أين لها أنْ تعلم الأمر وهي الخائنة التي سارت في هذه الخيانة كل هذه المدة, {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[يوسف:53], هذه الآية هي التي جعلت مَن يقول مِن المفسرين بأنها مِن كلام امرأة العزيز, لكن الصحيح أنه مِن كلام يوسف, وهذا تواضعًا منه, ورجوعًا منه إلى الله -تبارك وتعالى-, وبيان أنَّ كل نَفْس تأمر صاحبها بالسوء, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد عصمه, {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}[يوسف:53], لما اتضح الأمر على هذا النحو, وظهرت الحقيقة وكان هذا أمام الملك, وأمام الكل, وهذا الأمر انظر كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- رتبه ليوسف دون سعي منه فإنَّ الله هو الذي أرى المَلِك ما رأى مِن هذه الرؤية, ثم جعل الناس يتحيرون فيها على هذا النحو, ثم مَهَّدَ السبيل؛ ليظهر علم يوسف, ولتظهر براءته, فهنا ظهر عِلْمه بهذا وفقهه وفهمه, وأعطاه الله مِن تأويل الأحاديث ظهر كذلك براءته ونصاعة ثوبه, وهذا يظهر أمام الجميع وفيه أعلى مستوى مِن الدولة في هذا الوقت أمام المَلِك, عند ذلك قال المَلِك : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي........}[يوسف:54],هذا مجيئه لي على هذا النحو, {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}, ليكون خاصًا لي, {........فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف:54].

وسنأتي إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-, أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد.