الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (287) - سورة يوسف 53-66

الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعَمِلَ بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف:54], {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55], {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:56], {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يوسف:57], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- هذا في سياق قصة يوسف -عليه السلام- أنَّ المَلِكَ؛ مَلِكُ مصر, {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي}, أي بيوسف وذلك؛ ليكون له تابعًا لأنَّ هذا كان عبد الآن عند عزيز مصر, فنقل هذا الأمر إليه, أعطاه حريته, ويكون خاص بالملك, وقال الملك : {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي........}[يوسف:54], أجعله خالصًا لي وتابعاً للملك نفسه, {فَلَمَّا كَلَّمَهُ}, أي المَلِك كَلَّمَ يوسف, قال له : {........إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ}[يوسف:54], {إِنَّكَ}, أي يا يوسف, {الْيَوْمَ}, في هذا اليوم الذي ظهرت فيه براءته, ظهرت نصاعته, ظَهَرَ علمه, ليس فقط عِلْمه بتأويل الرؤى بل بسياسة الدول وبالخروج مِن كارثة قادمة محققة, {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ}, ذو مكانة عظيمة, {أَمِينٌ}, وهذا لتاريخه الطويل مِن الأمان, فقد ظهرت أمانته على عرض سيده, فقد عاش ما عاش في بيت سيده وتعرض لهذه الفتنة العظيمة مِن امرأته, ولكنه استعصم وكان مِن أهل التقى, وأهل العفاف, وكذلك ظهرت أمانته حتى مع أصحابه في السجن صدقه وأمانته وإخلاصه لهم, وتقديمه النصح لهم دون أنْ يطلب على ذلك أجرًا, كذلك انظروا قوله بالنسبة لصاحبه في السجن الذي ينساه, يُحَمِّلُهُ فقط يأمر يسير عليه, قال : {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}, لم يفعل هذا, ثم جاءه بعد ذلك يستفتيه كان ممكن يقول له أنت الذي قلت لك كلمة لم تذهب, ولم تخبر فاذهب عني يرسل الملأ ولا الملك غيرك ليسألني عن هذا الأمر, أما أنت فلن أعطيك شيئًا, يعامله على الأقل إساءة بإساءة, لكنه لا بل أعطى هذا الشخص كل شيء, كذلك هو في أرض مصر, وقد قابلوه بكل إحسانه سيئات, امرأة العزيز قابلت إحسانه بالسيئة, هذا قابل إحسانه عزيز مصر أصحابه في السجن, الدولة كلها ألقته في السجن بدون ذنب لم يسأل عنه أحد, لم يفتش عنه أحد, لم يبحث أحد عن قضيته, الجو الذي حوله كله كان معاديًا له, ومع ذلك لما قُدِّمَت له هذه الرؤيا نصح للجميع, وأعطى للجميع, وصف مخطط كامل؛ لينقذ الأمة كلها وأعطاه مجانًا وهو : {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ}[يوسف:47], أعطاهم الخطة كاملة؛ ليخرجوا مِن هذه المحنة وهو في السجن, وهو لم يخرج بعد ذلك مِن السجن, فهذا مِن قمة الأمانة, وقمة الخلوص, وتقديم الخير للناس دون طلب منهم لأجر على ذلك, فالملك لما رأى هذا كله مِن يوسف قال له : {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ}, عرف منزلته, {أَمِينٌ}, فعند ذلك قَدَّمَ يوسف نَفْسَهُ له في المكان الذي يعتقد أنه يُصْلِحُ فيه, وينقذ الأمة مِن الضرر مِن خلاله, قال :{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف:55], فعند ذلك أمر المَلِكُ بأن يجعله موظفًا وقائمًا, وَكَّلَ له هذا الأمر, {خَزَائِنِ الأَرْضِ}, خزائن أرض مصر كلها مسئول عن ادخار هذه المحصول الذي سَيُنْتَج ويُدَّخَر في مخازنه, قال له : {اجْعَلْنِي}, أنا مسئول عن هذا, {إِنِّي حَفِيظٌ}, الحفظ بمعنى الإحصاء والعناية والترتيب, {عَلِيمٌ}, عليم بمسائل الحساب, وعليم بمسائل الحفظ, وعليم بالزراعة, عليم كيف يمكن أنْ أُرِتِّب وأُدَبِّر هذا الأمر, وتقديم يوسف نَفْسَهُ على هذا النحو؛ وذلك لأنه رأي مِن نَفْسِهِ الكفاءة لهذا الأمر, ورأى أنَّ هذا إنقاذ للآخرين؛ فلذلك قَدَّمَ نَفْسَهُ ليست مجرد تزكية للنَّفْسِ, وإنما قَدَّمَ نَفْسَهُ؛ لأنه يرى أنه هو الأنسب, وهو الأصلح لهذا المقام, {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}, أي هذا الذي يتمناه ملك مصر, وهذا هو الرجل المناسب في الموقع المناسب.

قال -جلَّ وعَلا- مبينًا أنه هو الذي يَسَّرَ ليوسف كل هذا؛ ليتم مراد الله -تبارك وتعالى- فيه, قال -جلَّ وعَلا - : {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ........}[يوسف:56], {وَكَذَلِكَ}, بهذه الأحداث التي توالت على هذا النحو, ورتبها الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو, {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ}, جعلنا ليوسف تمكين في الأرض, فقد أصبح الآمر, الناهي, المطاع الذي تحت يده هو كل خزائن أرض مصر, {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ}, {يَتَبَوَّأُ}, ينزل ويتمكن في أي مكان يريد مِن أرض مصر كلها, مِن شمالها إلى جنوبها, ومِن شرقها إلى غربها؛ وذلك أنه هو الأمين المُسْتَحْفَظ على كل الخزائن فله أنْ يرى كل الحقول يرى كل الزرع, يرى كل الشون والمخازن التي تنصب لهذا الأمر وتحت يده, كل مَن سيعملون في هذا العمل, {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ........}[يوسف:56], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ}, مَن يشاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يصيبه مِن رحمته, أنْ يناله مِن هذه الرحمة, فإنه يناله ولا يستطيع أحد أنْ يمنع فضل الله -تبارك وتعالى-, {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ}, وهذه رحمة ليوسف, رحمة في الدين وفي الدنيا, رحمة في عصمة الله -تبارك وتعالى- وتثبيته وأمانته وعِلْمِهِ وتعليمه, وكذلك رحمة منه -سبحانه وتعالى- في تمكينه الدنيوي على هذا النحو, {........وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:56], في الآخرة, فكل مَن عمل إحسانًا فإنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يضيع أجره يوم القيامة, وإنْ كان شيء يسير, وإنْ كان كلمة طيبة, صدقة, أَمْر بمعروف, نَهْي عن منكر, أي أمر مِن أمور الخير فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يحفظها لصاحبها, {........وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:56], في الآخرة, {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يوسف:57], وهذا تمكين الله -تبارك وتعالى- أعطى يوسف حسنة في الدنيا, وحسنة في الآخرة, حسنة الدنيا هذه هي أنه أصبح صاحب المكانة في أرض مصر كلها, هو المفوض مِن المَلِكِ في كل هذا الأمر, وهذا منزلة عظيمة مِن منازل الدنيا, ثم كذلك حسنة الآخرة مُدَّخَرَة التي ادخرها الله -تبارك وتعالى- في المنزلة والجنة, وقال -جلَّ وعَلا- : {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}, عندما يكون هذا وهذا فلا شك أنَّ أجر الآخرة خير عند الله -تبارك وتعالى-, {........لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يوسف:57], لأهل الإيمان, وأهل التقوى هذا, فهذا العطاء الأخروي خير مِن عطاء الدنيا مهما كان عطاء الدنيا وهذا الخير أو هذا العطاء الأخروي هو فقط {........لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يوسف:57], لأهل الإيمان ولا تقوى -نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلنا منهم-, {يَتَّقُونَ}, يخافون ربهم -سبحانه وتعالى-, وبالتالي هذه التقوى عمل قلبي تحمل على طاعة الله -تبارك وتعالى- فيما أَمَرَ والانتهاء عما نَهَى عنه -سبحانه وتعالى-, سياق القصة وصل هنا يوسف أخذ هذا التدرج, كنا مع يوسف في تدرجه في هذا الأمر الطويل خروجًا مِن فتنة الإيقاع في الجُبّ, إلى فتنة البيع رقيقًا في أرض مصر, إلى فتنة المرأة, إلى فتنة السجن, إلى بعد ذلك البراءة والتمكين في مُلْكِ مصر على هذا النحو.

ثم يأتي بعد ذلك سياق القصة ينتقل بنا إلى إخوة يوسف قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[يوسف:58], جاء إخوة يوسف لما حَلَّ القحط بالأرض, كذلك كانت فلسطين وأرض الشام فيها قحط, فنزل إخوة يوسف مِن البادية؛ بادية الشام إلى أرض مصر؛ ليمتاروا, ليأخذوا الميرة, ليأخذوا الحبوب فهذه الأماكن ما فيها حَبّ فيأتوا لأخذ الحَبّ مِن أرض مصر, مِن وادي النيل إلى هناك, وهم أهل رعي فيحتاجون إلى الزراعة, والرعي نتاجه معروف الجلود والإقط والسمن والصوف, ومصر فيها الحبوب فجاءوا ليمتاروا مِن الحبوب, قال -جلَّ وعَلا- : {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ}, وذلك أنه كل تصريف الحبوب, وهذا المكنوز مِن القمح وغيره مما يُزْرَع بيدي مصر, هذا أصبح عزيز مصر وهو القائم على هذه الخزائن, {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ}, هذا يدل على أنه كذلك كان يباشر صرف التموين, الميرة بِنَفْسِهِ, {فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ}, عرف إخوانه, وذلك أنهم بالأساس هم يعرفهم كبار في فترة الشباب, وهم عصبة, وكان هو صغير السن والكبير لا يتغير شكله كثيرًا, الكبير في مدة طويلة ما يتغير شكله كثير, أي صورته لا تتغير كثيرًا, أما الصغير فإنه إذا كبر مِن سن التاسعة مثلًا إذا أصبح في سبع وعشرون, في الثلاثين فإنَّ صورته تتغير كثيرًا, وهذا يحتاج إلى أنْ يُعْرَفَ أنَّ هذا الكبير هو ذاك الصغير الذي رأيته في سن السابعة أو الثامنة يحتاج إلى فطنة هائلة, وذكاء كبير, أما مَن رأيته في العشرين, ثم رأيته بعد ذلك في الثلاثين أو الخمس وثلاثين فإنَّ صورته تكون متقاربة, عرف إخوانه الذين دخلوا, هؤلاء إخوانه مِن غير أُمه, إخوانه مِن أبيه, عشر إخوة, جاءوا ليمتاروا, {........فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[يوسف:58], لم يعرفوه, عندما دخلوا عليه لم يعرفوه أولًا لتغير صورته كثيرًا عما ألفوه منه, وقد رأوه قبل نحو عشرين سنة وأكثر , الأمر الآخر المكان غير المكان فعهدهم به أنهم ألقوه في الجُبِّ, وأنَّ الذين ربما الذين أخذوه مِن السيارة لصوص, أو رعاة, أو غير ذلك فلاحين ربما إذا أخذوه فهو يتصور أنه سيبقى في الفلاحة أو في حراسة غنم أو في نحو ذلك, أما أنْ يكون جالس على هذا الكرسي في مُلْكِ مصر, ما تصوروا هذا, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[يوسف:58], {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[يوسف:59], ل{وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}, أعطى كل واحد حصته مِن الميرة؛ وذلك أنه كان يصرف لكل شخص يأتي إنما حصة واحدة فقط, مثلًا كذا أردب أو كذا لكل شخص فإذا أتى إنسان لا يأخذ مثلًا أي كمية يريدها, وإنما كنظام التقنين للتموين, {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}, عمل لكل واحد رحله قال لهم : {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ}, يبدو أنهم سألهم مَن أنتم؟ وكذا يوجد تفصيل لهم, مِن أين أتيتم؟ كذا, ثم أخبروه بحالهم كله يبدو استفصلهم, والتوراة تقول بأنه لكي يستفصلهم, ويعرف ما وراءهم اتهمهم تهمة, وجعلهم يقولون كل ما عندهم, وقال لهم بعد ذلك : إنْ كنتم صادقين في هذا, فهذا الأخ الذي ذكرتموه, أنَّ لكم أخ تركتموه هناك عند أبيكم الكبير إذا جئتم مرة ثانية فإني لن أعطيكم, أي لن أصرف حبة قمح واحدة إلا إذا أتيتم بهذا الأخ معكم لأعرف منه أنكم بالفعل صادقين فيما أخبرتموني به, وكان قد أنزلهم لما أتوا أكرم وفادتهم على أنهم أغراب قادمين مِن بلد أخرى؛ فأكرم وفادتهم وأنزلهم في ضيافة, أكرمهم وكذا ليس كشأن مَن يأتي ليشتري شيء ويرجع, فقال لهم : {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ}, الأخ هذا الذي مِن أبيكم ذكرتموه أحضروه المرة القادمة, {........أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[يوسف:59], أنا أوفي الكيل, ووفيت كيلكم لكم, {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}, قد أنزلتكم المنزل الطيب, وأكرمت وفادتكم, قال : {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ}[يوسف:60], إنْ لم تأتوا بهذا الأخ الذي ذكرتم؛ {........فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ}[يوسف:60], سأعلم أنَّ المعلومات التي أخبرتموني عنها أنها كاذبة, ولن أقبل ولا تأخذوا أي كيل, ولا تقربوني هنا, ولا تأتوا في أرض مصر وتقتربوا, لن تأخذوا أي شيء, لن أصرف لكم أي شيء, فعند ذلك أصبحوا هم أمام الأمر الواقع, {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}[يوسف:61], أي هو عند أبيه وأبيه لا يجعله يفارق, ونحن سنراود عنه أباه, والمراودة هي إلحاح في العرض المرة تلو المرة, والدخول مِن هنا وهناك في الحديث؛ لتليين قلب الأب حتى يسمح لنا بأنْ نأخذه, {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}[يوسف:61], أكدوا على هذا الأمر, وقال يوسف -عليه السلام- : {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[يوسف:62], {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ........}[يوسف:62], التي أتوها؛ وذلك لأنهم كانوا يأتون ببضاعة مِن عندهم يستبدلون بها فيأتون بجلود مثلًا السمن, بالأقط, بالفضة والذهب, النقود, فالبضاعة التي يأتون بها إما بضاعة مِن هذا الاستبدال الصوف وغيره, وإما أنه كذلك ذهبهم وفضتهم, قال الثمن هذا الذي أتوا به ليشتروا به أَخْفُوهُ ضمن غرائر الحبوب التي اشتروها, قال : {اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ}, ورَحْل الإنسان الذي يرحل معه هو متاعه الذي يأخذه, {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ}, لعلهم إذا فتحوا رحالهم وجدوا نَفْس البضاعة؛ ذهبهم, دنانيرهم, صوفهم, بضاعتهم التي أتوا ليستبدلوها, يروها نَفْسهَا أنها رُدَّت إليهم, ويكون هذا تفسيرهم لهذا أنَّ هذا مِن صنيعي, أي أنَّ الذي اشترينا منه أكرمنا ورَدَّ لنا الثمن, لكنه رَدَّهُ بهذه الصورة الكريمة, لم يخجلنا ويقول لا أن لا أقلب سأعطيكم بلا ثمن, وإنما تلطف هذا التلطف, وجعل بضاعتهم تكون في رحالهم؛ فإذا فتحوها في بلدناهم ظهر لهم أنَّ البائع قد تنازل لهم عن الثمن, فقال : {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ}, أي اجعلوها بشيء مِن الخفاء بحيث أنهم مِن الأمر الذي لا يفتحه المسافر إلا عند عودته, مثل الكيس الذي يأخذ فيه الحبوب فإنهم في الطريق لن يحتاجوا أنْ يفتحوا هذه الأكياس مرة ثانية, فوضعوها في داخل هذه بحيث أنه لا يعرف أنه بضاعته رُدَّت إليه إذا رجع إلى أهله, وبالتالي يتعذر عليه مثلًا أنْ يرجع, أما لو كان البضاعة هذه موضوعة في طرف الرَّحْل واحتاجها وهو يحتاجها في الطريق يفتح هذا الكيس, أو هذا الخرج فإنه يفتحه بضاعتنا هنا فنرجع حتى نَرُدَّهَا مرة ثانية, قال :  {........لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[يوسف:62], ويكون هذا سبب كذلك مِن أنهم يرجعوا مرة ثانية لشراء الميرة مرة ثانية, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ........}[يوسف:63], فاجأوا أباهم, الفاء للتعقيب, {فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ}, قالوا أنهم بمجرد رجوعهم وفي أول لقاء مع الأب وقبل أنْ يمضي يوم أو يومين, {قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ}, أي للمرات القادمة, {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ}, إذا أحببت أنْ نكتال, ونأتي بحبوب أخرى بقمح وكذا آخر, {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا}, أخانا وهو بنيامين وهو شقيق يوسف, {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}, نتعهد بأننا سنحفظ أخانا عندما نأخذه ونذهب به إلى أرض مصر, فما كان مِن يعقوب -عليه السلام- إلا أنْ قال : {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ ........}[يوسف:64], أي نَفْس المقالة قد قلتموها عندما أخذتم يوسف ليلعب معكم, وليفرح بالغنم في البادية, في البر قلتم نَفْس الكلام, قلتم : {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:12], وهنا نَفْس الأمر, يقولون : {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[يوسف:63], فقال : {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ........}[يوسف:64], أي نَفْس الأمر أمنتكم أخيه مِن قبل, أمنتكم على يوسف مِن قبل, وخنتم هذه الأمانة وأتيتم بما أتيتم به أنه قد أكله الذئب, قال : {........فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:64], {فَاللَّهُ}, -سبحانه وتعالى- خير حال كونه حافظًا -سبحانه وتعالى- لما استحفظ عنده, ولما يُوَكِّلُهُ العبد فيه, {........فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:64], كل ذي رحمة فالله -سبحانه وتعالى- أرحم مِن كل عباده -سبحانه وتعالى- بعباده, {........فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:64], أي أنه استحفظ الله -تبارك وتعالى-, وخشي كذلك على ابنه بنيامين أنْ يضيع كما فُعِلَ بيوسف -عليه السلام-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ........}[يوسف:65], فوجئوا لما فتحوا متاعهم الذي معهم, {وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ}, وهي الأثمان التي أخذوها ليشتروا بها, {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ}, كل الذي أخذوه يستبدلوه مِن البضائع التي أخذوها معهم لاستبدالها بالقمح, وجدوها أنها ردت إليهم, موجود بنفسها في غرائرهم, فعند ذلك ذهبوا لتبشير أبيهم, وأنَّ هذا الذي لقوه, لقوا إنسان كريم, وله مقصدٌ عظيم في أنْ يعاملهم بهذه  المعاملة الطيبة, قالوا : {........ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}[يوسف:65], {يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي}, أي لا نريد بغيًا وظلمًا على أخينا عندما طلبناه؛ ليخرج معنا في المرة الآتية التي نذهب لنشتري مِن مصر, ثم قالوا : {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}, انظر كيف عوملنا, أي أننا عوملنا معاملة كريمة, {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا}, الثمن الذي أخذناه, وقالوا : {رُدَّتْ إِلَيْنَا}, لأنهم لا يعلمون مَن ردها, ولا شك أنَّ الذي ردها هم هؤلاء العمال والقائمون على إعطاء الميرة في مصر, ثم قالوا : {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}, الميرة هي الطعام والشراب الذي يُحْتَاج, يُمَارُ به الإنسان ويمتار أي يطلب الميرة, {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}, إذا خرجنا لابد لنا مِن الميرة؛ لأننا بدون حبوب لا نستطيع العيش, والبلاد جاء فيها قحط, {وَنَحْفَظُ أَخَانَا}, هذا تعهد منهم أنهم سيحافظوا على أخيهم, {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ}, إذا نحن عشرة أخذنا فنأخذ إحدى عشر حصة؛ لأنه لا يُصْرَفُ لكل إنسان إلا حصة مقرة مقننة, فنزداد كيل بعير بذهاب أخينا معنا, {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}, أنه أي العشرة فبالتالي سنزداد حصة ,وذلك أنَّ كل شخص إنما قد قُنِّنَ له كيل واحد فقط لابد, لا يُزَادُ, هذه الأمور ألانت قلب يعقوب -عليه السلام- وقال لهم : {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ.........}[يوسف:66], فقال لهم : {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ الله}, عهد مؤكد, فوافق على أنْ يرسله معهم لكن بشرط أنْ يعطوه مُؤَكَّد منهم, يُقْسِمُوا له بالله, قال : {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ}, أنكم سترجعوه إليّ, {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}, إلا إذا حصل أمر فوق طاقتكم, أمرٌ أحاط بكم, والإحاطة هنا بمعنى أنْ يلم بهم مِن كل مكان لا يستطيعون الفكاك منه, كأن تأتيهم فتنة كبرى أمر شديد جائحة, أمر فوق إرادتهم فيحاط بهم, ولا يستطيعون أنْ يأتوا به, فهذا يكون فقط خروج لهم مِن هذا العهد والموثق, {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ}, قال -جلَّ وعَلا- : {........فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[يوسف:66], عند ذلك رضوا بهذا الشرط وأعطوه العهد والميثاق, أقسموا له بالله أنْ يجتهدوا كل جهد ويبذلوا كل وسع لأنْ يردوا أخاهم معهم بعد أنْ يشتروا الميرة مِن أرض مصر ويرجعون, {فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ}, أي أعطوه هذا العهد المُؤَكَّد, {........قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[يوسف:66], أنا وأنتم, استشهد ربهم -سبحانه وتعالى- على الذي يقولونه, وأنه هو المُوَكَّل -سبحانه وتعالى- بكل أحد, والله وكيل عليّ وعليكم في هذا الأمر, وفي هذا العهد الذي عاهدتم الله -تبارك وتعالى-, {اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ}, كلانا, {وَكِيلٌ}, وهذا تخويف مِن نقض العهد؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- هو المُطَّلِعُ, وهو المُشَاهِد, وهو المُوَكَّلُ بشؤون عباده فهذا استشهاد مِن المعاهد لربه -سبحانه وتعالى- .

كان هذا كلام يعقوب -عليه السلام-, ورضاه بأنْ يذهب أبناؤه معهم أخوهم بنيامين, وهو شقيق يوسف -عليه السلام- الذي اشترط يوسف أنه لن يكيل لهم مرة ثانية إلا بأنْ يأتوه .

نقف عند هذا -إنْ شاء الله-, ونسير  -إنْ شاء الله- مع بقية قصة يوسف في الحلقات الآتية, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى وسلم الله  على عبده ورسوله محمد.