الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[يوسف:67], {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:68], {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يوسف:69], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ يعقوب -عليه السلام- لما وافق أخيرًا أبناءه أنْ يُرْسِلَ ابنه, شقيق يوسف, بنيامين معهم؛ وذلك لطلب الميرة مِن مصر بعد أنْ راوده وفاوضه أبناءه في أنَّ ذهاب أخيهم معهم هذا إنهم سيزدادوا, به كيل بعير وأنَّ الذي استقبلهم في مصر ممن يبيع لهم القمح قد أكرم وفادتهم, وأكرم نزولهم ورَدَّ إليهم بضاعتهم, {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا}, لابد أن نذهب لمصر, {........وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}[يوسف:65], فقال لهم : {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ........}[يوسف:66], عهد مُؤَكَّد, تُقْسِمُوا بالله أنكم ستحافظوا على أخيكم وتردوه معكم, {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}[يوسف:66], ثم وصاهم بعد ذلك بهذه الوصية وهي ألا يدخلوا في أي مجلس أو أي مكان عام يدخلون فيه أنْ يدخلوا جملةً واحدة, وإنما يدخلوا متفرقين, وذلك أنهم أصبحوا إحدى عشر, وكلهم أبناء رجل واحد, وهم متشابهون يأخذون العين, وقد تقع فيهم العين عندما يرى الحاسد دخول إحدى عشر مِن الرجال, وكلهم إخوة وأبناء رجل واحد, فإنه قد تحصدهم العين, فقال لهم موصيًا لهم : {وَقَالَ يَا بَنِيَ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ........}[يوسف:67], ثم قال لهم : {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, أي أنه إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يصيبكم بقضاء فإنَّ هذا مهما أنا أوصيتكم, ومهما اتخذتم مِن سبب فإنَّ إرادة الله وحكم الله -تبارك وتعالى- نافذ, {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ}, في أنْ أحفظكم أو أمنعكم مِن شيء فيه قضاء الله -تبارك وتعالى-, {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, أي شيء, {أُغْنِي}, أفيدكم, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, في كل الأمر, كلمة جامعة, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, الحُكْم الكوني القَدَرِي, فكل ما يقع في هذا الكون إنما هو بقضاء الله -تبارك وتعالى- وقَدَرِهِ, هو حُكْمُهُ -سبحانه وتعالى- فالعز والذُّل, والغنى والفقر, والهدى والضلال, والصحة والمرض, والموت والحياة وكل هذا بيد الله والغنى والفقر, وكل تصريف أمور العباد بيد الله -تبارك وتعالى-, والحكم له وحده -سبحانه وتعالى-, {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى}[النجم:48], {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى}[النجم:49], {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى}[النجم:50],{وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى}[النجم:51], قبلها : {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى}[النجم:42], {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى}[النجم:43],{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا}[النجم:44], فهذا كله لله -سبحانه وتعالى-, {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26], {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27], {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ........}[القصص:56], {........فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الإنسان:29], {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الإنسان:30], {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31], فكل أمر هدى وضلال, وغنى وفقر, وصحة ومرض كله إنما الحكم فيه لله -سبحانه وتعالى-, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, في كونه -سبحانه وتعالى-, فكله بقضائه وقدره -سبحانه وتعالى-, فما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, وكذلك : {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, في أمره تشريع -سبحانه وتعالى-, فإنَّ التشريع كله حقٌ لله -تبارك وتعالى- والله لا ينازعه شيء في هذا الحق, والرسل إنما هم حاكمون بأمر الله, وكذلك العلماء والمجتهدون إنما يجتهدون؛ ليصلوا إلى ظن بحكم شرعي, بأنَّ هذا الذي يظنوه هو حكم الله -سبحانه وتعالى-, فالحكم في كل أمر وكل شأن لله, {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}, بالحصر {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}, توكلت على الله, والتوكل هو تسليم الأمر لله -تبارك وتعالى-, وجعله هو الوكيل المتوكل بكل الأشياء -سبحانه وتعالى-, اعتقاد هذا, فتسليم الأمر لله, والعلم بأنه مهما اتخذ الإنسان مِن سبب فإنَّ كل نتيجة لله -تبارك وتعالى-, بل اتخاذ الأسباب كذلك إنما هي لله -تبارك وتعالى- فهو الذي يوفق مَن شاء إلى ما يشاء -سبحانه وتعالى-, {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}, دعوة إلى أنْ يتوكل كل مَن أراد أن يسلم أموره, ويستند إلى الذي بيده الأمر كله, فليتوكل على الله -تبارك وتعالى-, لا ملجأ, ولا مناص, ولا وكيل على الحقيقة إلا الرب -تبارك وتعالى-, فالله -تبارك وتعالى- هو المتوكل بكل شؤون عباده -سبحانه وتعالى- وكل من أراد أن يتوكل فليتوكل عليه لأنه هو الذي بيده الأمر كله, وأنه هو الذي يرجع إليه الأمر كله -سبحانه وتعالى-, {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}, وذلك أنه الآن سيرسل أولاده إلى هذا الأمر, وهذا أمر غيبي هل يعودون أو لا يعودون يقتطعون, هذا ابنه الذي حريص عليه, والضنين به, شقيق يوسف, يُرْسِلُهُ وهذا في أمر مجهول لا يدري هل سيعود إليه؟ هل إخوانه سيوفون بعهدهم مع أبيهم أم لا؟ أي سلمت أموري كلها لله -تبارك وتعالى-, {........عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[يوسف:67], في كل هذا الأمر .
قال -جلَّ وعَلا- : {ولَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ........}[يوسف:68], نفذوا وصية أبيهم في أنهم عندما ذهبوا على أرض مصر, ودخلوا مثلًا في المكان الذي يباع فيه وفي غيره كانوا لا يدخلون جملةً واحدة, مِن باب واحد, وإنما يدخلوا مِن أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم, {ولَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ........}[يوسف:68], قال -جلَّ وعَلا- : {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, دخولهم مِن باب واحد, أو دخلوهم مِن هذه الأبواب المتفرقة؛ لتفريق العين, ولإظهار أمام الناس أنهم ليسوا إخوة, الله يقول : {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}, فإنَّ الله -تبارك وتعالى- إذا أراد أنْ يصيبهم أصابهم بهذا السبب أو بغيره, قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}, لكن يعقوب عندما وَصَّى أبناؤه بهذه الوصية, كان هناك حاجة مِن حرصه عليهم أنْ يتخذوا سبب مِن الأسباب؛ ليشتتوا العين عنهم, {إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}, قضاها بأنْ وَصَّى أبناؤه بهذه الوصاة, قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}, أثنى الله -تبارك وتعالى- على إسرائيل, يعقوب -عليه السلام-, وقال له : {وَإِنَّهُ}, أي يعقوب {لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}, أنه مِن تعليم الله -تبارك وتعالى-, وأنه صاحب علم بالعلم الذي عَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى- إياه, {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:68], أكثر الناس لا يعلمون هذه العلوم معرفته بالله -تبارك وتعالى-, والإيمان به, والتوكل عليه, يعقوب نبي مِن أنبياء الله -تبارك وتعالى- الصالحين, وسيرته هنا المذكورة تدل على مدى إيمانه بالله -تبارك وتعالى-, وإخلاصه له, وتوكله عليه, وحَدَبِهِ على أبناءه, وحرصه عليهم, ومحبته ليوسف الذي رأى هذه الرؤية, وعلم أبوه أن هذه الرؤيا أمرًا عظيمًا أنه بعد ذلك في النهاية أنَّ أباه وأمه وإخوانه يسجدون له تعظيمًا؛ لما يُظْهِرَهُ الله -تبارك وتعالى- على يديه مِن الكرامة, ومِن الخير, ومِن الفضل, فالثناء هنا مِن الله -تبارك وتعالى- على يعقوب -عليه السلام-, قال الله -عزَّ وجلَّ- : {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}, للذي علمناه, {........وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:68], قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يوسف:68], لما دخلوا على يوسف الله يقول : {وَلَمَّا},لليس فلمَّا, هنا الواو تدل على أنَّ هذا العطف والجمع, {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ}, أنه ليس أمامهم أخذه مباشرة وعانقه, وإنما لما دخلوا واستقروا بطريقةٍ أو بأخرى, {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}, أي أخرج أخاه منهم واختصر معه في مكان بعيد عن أعينهم ثم أظهر له نفسه وأعلمه بحقيقته فقال له : {........إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} أي يوسف وهو أخوه شقيقه من أُمٍ واحدة, {........فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يوسف:68], قال له : لا تبتئس, البأساء هو الحزن والألم, {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}, بما عملوه معك, فإنهم كانت فيهم هذا الأمر مِن أمور الغيرة, ورؤيتهم تقديم يوسف, وتقديم بنيامين عليهم فكان في نفوسهم ما كان مما صنعوه مع يوسف -عليه السلام-, وما صنعوه مع أخيه, قال له : {........فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يوسف:68], فكان هذا أول الأمر مِن يوسف بالنسبة إليهم أنْ أعلم أخاه شقيقه به, وبَيَّنَ له ما يرتبه ليستبقيه عنده, وليرجع إخوته وحدهم إلى أبيهم, فقال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}[يوسف:70], {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}, جهازهم الذي سيعودن به مِن القمح والميرة التي اشتروها, وهذا يدل على العناية, الخدمة التي يقوم بها يوسف فيمن يأتون للشراء هذه الحبوب مِن الآفاق, {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ........}[يوسف:70], السقاية وعاء الملك ويبدو أنه كان وعاءً خاصًا, وسِقاية يشرب فيها, وكذلك هي كيل وهذا صواع الملك كأنها كيل ملكي إما أنها نموذج تبقى محفوظة الكيل, وأحيانًا يشترط في هذه, فهي إناء ثمين وجاء يوسف -عليه السلام- وأمر بأنْ تخبئ في رَحْلِ أخيه, والرحل ما يرتحل به الإنسان معه مِن زاده وطعامه أي أنه دسها في أخبيته التي سيرتحل بها, ثم لما خرجوا, وخرج أخوهم معهم ورجعوا كأنهم راجعين إلى أرض الشام, أرض فلسطين ذهب مُنَادِي مِن قِبَل يوسف -عليه السلام- يؤذن يا أيتها العير وهم هذه القافلة, {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}, هكذا باتهامهم تعالوا, {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}, فعند ذلك هذه الحكومة جاء مناديها, وجاء هؤلاء ناس آتيين مِن بلدان أخرى, ثم يقول لهم : قفوا يوجد سرقة وأنت سارقون وارجعوا, {قَالُوا}, أي أخوة يوسف, {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ}, فإنكم لسارقون لازم ترجعوا, فأقبلوا عليه راجعين, {مَاذَا تَفْقِدُونَ}, وهذا أيضًا ما الذي فقدتموه؟ ما قالوا إنا سارقون ولا نحن سارقون, وقالوا ما الذي تفقدونه وتبحثون عنه, {مَاذَا تَفْقِدُونَ}, {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ}, { نَفْقِدُ صُوَاعَ}, وهو الذي للكيل, {الْمَلِكِ}, مَلِكُ مصر فهذا كما نقول كيل خاص, {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}[يوسف:72], قال لهم المنادِي : مَن جاء به فله حمل بعير, أي مَن استطاع أنْ يستخرجه ويستدل عليه مِن أي مكان, فهذا له حمل بعير إضافي, نعطيه إياه مجانًا, {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}, أنا زعيم به أي عند هذه الكلمة مُنَفِّذٌ لها, أصل الزعم هو القول, والزعيم الذي يقول هذا القول وهو عند كلمته وسينفذها, {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ}, هذا متعهد تعهد بأنْ يعطيه حمل بعير بلا ثمن لمن يأتي به, {قَالُوا}, أي إخوة يوسف : {........تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}[يوسف:73], {قَالُوا تَاللَّهِ}, أقسموا بالله, {لَقَدْ عَلِمْتُمْ}, أي مِن حالنا, ومِن سلوكنا معكم, {مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ}, ما جئنا مِن بلادنا هنا إلى هذه لنفسد في الأرض, والسرقة هي مِن أعظم الفساد في الأرض, بالسرقة أو بأي نوع من الإفساد, {........مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}[يوسف:73], قالوا ما جئنا لنرتكب أي جريمة في أرض مصر, {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}, ما ليس هذا مِن أخلاقنا, ولا مِن شيمتنا أنْ نفعل هذا الفعل الخبيث, {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}, والسرقة هي أخذ مال الغير مِن حِرْزٍ بخفية هذه هي السرقة, {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ}[يوسف:74], {قَالُوا}, لهم فتيان يوسف -عليه السلام- : {........فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ}[يوسف:74], ما جزاء مَن كان سارق منكم, {إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ}, فيما ادعيتموه بأنكم لستم بسارقين, وأنَّ هذا ليس معكم؟ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ........}[يوسف:75], ما جزاؤه عندكم, في شريعتكم حتى نطبق عليكم, أحكامكم أنتم في السرقة, {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ........}[يوسف:75], أنَّ مَن وُجِدَ هذا الصواع في رحله, وكان هو السارق فإنه يُسْتَرَقّ لصاحب المتاع يصبح رقيقًا عنده, {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ........}[يوسف:75], أي فهذا السارق هو يُسْتَرَقّ لصاحب المتاع, {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}, {كَذَلِكَ}, أي بهذا الجزاء, {نَجْزِي الظَّالِمِينَ}, أي عندنا في شريعتنا, كان في شريعة بني إسرائيل أنَّ السارق يُسْتَرَقّ.
قال -جلَّ وعَلا- : {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ........}[يوسف:76], بدأ يوسف -عليه السلام- يفتش أوعيتهم لكن قبل وعاء أخيه, ما ذهب رأسًا إلى وعاء أخيه؛ لأنه لو ذهب رأسًا إلى متاع أخيه, ثم استخرج مِن متاع أخيه لقيل له إنَّ هذا الأمر مُدَبَّر, وحيلة فعلتموها على هذا النحو, لكن بدأ بأوعيتهم حتى لِيُعَمِّي هذا الأمر, وهذه السقاية هي في وعاء أخيه, {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ........}[يوسف:76], قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}, هذا نوع مِن الكيد, هذا كيد وتدبير هذا الأمر على هذا النحو, والهدف منه هو أنْ يستبقي يوسف -عليه السلام- أخاه عنده في أرض مصر؛ فصنع هذه الصنيعة ودَبَّرَ هذه المكيدة أولًا ليختبر إخوانه كذلك في أخيه, ثم كذلك ليستبقي أخوه عنده, مقدمة لما سيكون, قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ}, نسب الله -تبارك وتعالى- هذا التدبير الذي قام به يوسف إليه -جلَّ وعَلا-؛ وذلك أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو الذي عَلَّمَهُ, وهو الذي هداه إلى هذا الأمر, {كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}, أي أنه لو نَفَّذَ شريعة مَلِك مصر في السارق لما وصل إلى أنْ يأخذ أخاه عنده؛ لأنَّ شريعة مَلِك مصر ليست بالاسترقاق, وإنما قد تكون بالسجن أو بنحو ذلك, أو بالنفي أو بالضرب؛ فلذلك لم يُطَبِّق عليهم حكم السرقة في دين مَلِكِ وشريعته, ولكن نَفَّذَ أو أمر بتطبيق شريعتهم هم عليهم أو لم يكون أكثر قبول لهذا لأن هذه شريعتكم, ثم ليحصل مراده في استخلاص أخيه واستبقائه معه, {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ}, {دِينِ الْمَلِكِ}, شريعة مَلِك مصر؛ لأنَّ شريعته كانت بغير ذلك, {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}, إلا أنْ يشاء الله -تبارك وتعالى- فيما لو طبق هذه الشريعة أنْ يكون هناك باب آخر؛ ليستبقي أخاه عنده, عَلَّقَ الله -تبارك وتعالى- كل الأمور بمشيئته -جلَّ وعَلا-, قال : {........إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76], يرفع الله -تبارك وتعالى- مِن عباده درجات مَن يشاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يرفعه رَفَعَهُ,ِ وهذا مِن رِفْعَةِ يوسف -عليه السلام-, فإنَّ كل أموره التي سار بها سارت وفق الحكمة والعقل والمنطق والدين والتقوى, فرفعه الله -تبارك وتعالى- بهذه الدرجات مِن هذه طريقة تدبير هذا الأمر ليستخلص أخاه عنده, {........نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}[يوسف:76], {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ}, مِن أي علم, {عَلِيمٌ}, وهو الله -سبحانه وتعالى- فالله هو فوق عباده -سبحانه وتعالى-, وهو العليم بكل أمر -جلَّ وعَلا-, لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى-, {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}, وكانت المفاجأة أنَّ إخوة يوسف توجهوا باللوم إلى أخيهم, {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[يوسف:77], لمَّا فوجئوا بهذا الأمر على هذا النحو, واسْتُخْرِجَت صواع المَلِك مِن متاع بنيامين شقيق يوسف, وتفاجأ إخوانه على هذا النحو, فقالوا : {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ........ }[يوسف:77], يعنون يوسف -عليه السلام-, فوقع منهم اتهام أنَّ هذا كونه أنه أخ مِن الأب فقط وليس شقيق أنهم يختلفون عنه, وأنه هذا إذا سرق فأخوه كذلك قد سرق مِن قبل, فاتهموا يوسف -عليه السلام- بأنه كانت له سرقة قبل ذلك, فأصبح هنا ظَهَرَ شيء مِن الفرق عندهم, ونوع مِن الاتهام بالباطل, فسارعوا إلى اتهام أخيهم على هذا النحو, وإنْ كان الأمر هو في ظاهره تَلَبُّس بالجريمة, لكن سارعوا بأنْ إنْ يكن هذا سرق, فقد سرق يوسف قبل ذلك, {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ}, هذا الاتهام الذي اتهموه به, والحال أنه كان عندما أخرجوه وألقوه في غيابة الجُبّ, كان غلامًا صغيرًا لم يتأتى مِن مثله سرقة, ولم يبلغ الحلم بعد, وهذا اتهام ما أحب أنْ يدافع عن نَفْسِهِ في هذا المقام, وإلا فإنه سَيُظْهِرُ نَفْسَهُ لهم, فأسرها في نَفْسِهِ, أسر هذا الاتهام الذي اتهموه به في نَفْسِهِ, {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}, لم يبد هذه الإساءة لهم, وأنه هو الذي عنوه بهذه الإساءة, ولكن قال لهم : {........أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[يوسف:77], { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}, كلام عام, {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}, مِن اتهامكم لأخيكم هذا, {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا}, إما لأنهم سارعوا لإلصاق التهمة بأخيهم على هذا النحو, ثم كذلك هي كلمة مُبَطَّنَة فهم قد فعلوا أمور عظيمة جدًا مِن إخراج يوسف مِن كنف أبيه, وإلقاءه في غيابة الجُبّ, والتآمر ضده على هذا النحو ,لكن لم يفصل هذا قال لهم: {........قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}[يوسف:77], أي في اتهامكم لأخيكم, فعند ذلك عادوا إلى الاستعطاف فقالوا : {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:78], {قَالُوا}, قالوا أي هؤلاء الإخوة, {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ}, خاطبوه بهذا الخطاب تكريمًا وتعظيمًا له, وهو بالفعل هو عزيز مصر, وهو صاحب الأمر الآن فيها, {إِنَّ لَهُ}, إنَّ لبنيامين هذا, {أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا}, له أب موجود, أبوه حي, وهو قد أصبح شيخ كبير فاني, {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}, أي إنه لا يطيق أنْ يفارق ابنه هذا, وهو أصغر الأبناء, {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ}, خذ واحد منا مكان أخيه واسترقه بدل مِن هذا, {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:78], {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}, إنا نراك بأفعالك وتصرفاتك معنا ومع غيرنا مِن أهل الإحسان, وذلك شهادة منهم, شهادة حق فإنه قد أكرمهم في المرة الأولى, وأنزلهم منزلًا طيبًا, ورَدَّ إليهم بضاعتهم, وكذلك في هذه المرة أكرم وفادتهم, وعاملهم المعاملة الحسنة, فقالوا : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}, فاسْتَبْدِل, سنعطيك اختر واحد منا, ودع هذا الغلام أخانا هذا الصغير؛ ليعود إلى أبيه الذي هو رجل كبير شيخ ولا يستطيع فراقه, فقال لهم يوسف -عليه السلام- : {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ}[يوسف:79].
ونعود -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية إلى استكمال هذه السورة العظيمة فيما قصه الله -تبارك وتعالى- علينا مِن قصة يوسف -عليه السلام-, وأُصَلِّي وأُسَلِّم على عبد الله ورسوله محمد, والحمد لله رب العالمين.