إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنه محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن خير الكلام؛ كلام الله –تعالى-، وخير الهدي؛
هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ
ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله –تبارك وتعالى- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا
يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}[البقرة:93]، هذه الآية جاءت في كلام الله
–تبارك وتعالى-، في معرض الرد على بني إسرائيل، الذين قيل لهم آمنوا بما أنزل الله
على النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- هذا القرآن، وهذا النبي الخاتم –صلوات
الله وسلامه عليه-، ادَّعوا بأنهم مؤمنون بما أنزل عليهم، أي التوراة وما جاء به
موسى، وأنهم ملزمون بهذا دون غيره، فأخبر –سبحانه وتعالى- أن مقالتهم هذه هي عين
الكفر، لأن كفرهم بما أنزل على محمد هو كفرٌ بالتوراة كذلك، فإن الذي أنزل التوراة
هو الذي أنزل الفرقان، والذي أرسل موسى –عليه السلام- هو الذي بعث عيسى، هو الذي
أرسل محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، فكفرهم بالقرآن كفرهم بالتوراة، وكفرهم بمحمد
–صلى الله عليه وسلم- هو كفرٌ كذلك بموسى.
قال –جل وعلا- {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا
نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ}،
أي هذا الذي أنزل على النبي محمد اللي هو القرآن؛ هو الحق مصدقًا لما معهم، ثم
بيَّن –سبحانه وتعالى- أنا مقالتهم التي قالوها، بأن نؤمن بما أنزل علينا، أنهم لا
يؤمنون كذلك بالذي أنزل عليهم، قال –جل وعلا- {قُلْ
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}،
فقد قتلتم الأنبياء الذين أرسلوا إليكم، وهم من بني إسرائيل، الذين قلنا بأن
المخاطبين من اليهود في وقت نزول الوحي على النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه-
لم يشاركوا في القتل بالفعل، قتل الأنبياء السابقين، ولكن آبائهم قتلوا، ثم جاء
هؤلاء الأبناء فأقروا الآباء، واعتقدوا أن كل إسرائيلي لن يدخل النار إلى أيامًا
معدودة، وأنهم كلهم مباركون، سواء أن كان منهم من قتل الأنبياء، ومن لم يقتل فعل
الكبائر، ومن لم يفعل كل بني إسرائيل عندهم مباركون، خلقت لهم الجنة؛ الجنة خالصة
لهم من دون الناس، فإقرارهم لقتلة الأنبياء، وعدم إخراجهم من الدين، هو مشاكةٌ، أي
كأنهم شاركوا في هذا القتل.
{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}، {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ
مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ
ظَالِمُونَ}[البقرة:92]،
هذه كذلك جريمة وقعت من بعضهم، وإقرار من جاء بعد لمنفعة لذلك، هو اشتراكٌ في هذه
الجريمة، {اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} أي إلهًا، ثم قال
–تبارك وتعالى- {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}،
أي العهد المؤكد لتعبدوا الله –تبارك وتعالى-، {وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، وهذا الميثاق جاء
موضحًا في قول الله –تبارك وتعالى- {لَقَدْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ
رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ}[المائدة:70]، {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}، العهد المؤكد على أن
يعبدوا الله –تبارك وتعالى- قال لهم الله {وَقَالَ
اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ}[المائدة:12]، {وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ}، على هذه الأمور، {وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ}، حال أخذ الميثاق، وذلك أنهم لما جاءهم موسى
بالتوراة، وما كتب الله –تبارك وتعالى- عليهم فيها من الفرائض، رفضوها؛ رفضوا الالتزام،
فعند ذلك أمر الله –تبارك وتعالى- جبريل أن ينتق جبلًا، وأن يضعه على رءوسهم،
لقروا بهذا الميثاق، فأخذ عليهم الميثاق وهم في هذي الحالة، كانوا ساجدين خوفًا من
وقوع الجبل عليهم، عينٌ في الأرض، وعينٌ تنظر إلى الجبل.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ
الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، بجد وهمة ونشاط وتنفيذ لما
فيه، {وَاسْمَعُوا}، اسمعوا كلام الله –تبارك
وتعالى- أي أزعنوا له، {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}،
سمعوا وعصوا؛ سمعوا أمر الله –تبارك وتعالى- ولكنهم أعلنوا العصيان، {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ}،
أُشربوا في قلوبهم العجل أي دخلت محبة العجل في قلوبهم، دخول الشراب في الجسد،
فتخللت محبة هذا العجل الذي صنعوه تخللت قلوبهم، قال –جل وعلا- {بِكُفْرِهِمْ}، أي أن الله –تبارك وتعالى- قد عاقبهم
هذه العقوبة بمحبة الكفر والشرك على هذا النحو، لكفرهم بالله –تبارك وتعالى-، {قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ
مُؤْمِنِينَ}، أي إن كان هذا هو الإيمان الذي تدَّعون نؤمن بما أنزل علينا،
فبئس هذا الإيمان الذي يأمركم بارتكاب كل هذه القبائح، وكل هذا الكفر.
ثم قال –تبارك
وتعالى- {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ
عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:94]، هذا الرد الحاسم على أنهم هم شعب الله المختار، وأن كل بني
إسرائيل ناجٍ، مهما وقع منه من الإثم والخطيئة والكفر والشرك، وأن الدار الآخرة
الجنة هي خالصة لهم من دون الناس، {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الآخِرَةُ}، هي الجنة وسميت الدارة الآخرة لأنها الدار التي ينتهي
فيها ويستقر فيها كلٌ، {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً}، لا يشاركهم أحدٌ فيها، كما
جاء في قول الله –تبارك وتعالى- عنهم {وَقَالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى}، من كان
هودًا؛ قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا يهودي، وكذلك قالت النصارى لن يدخل الجنة
إلا نصراني، فهذا احتجاج عليهم، {قُلْ إِنْ كَانَتْ
لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ}،
خالصة أي لا يشركهم فيها غيرهم، من دون الناس جميعًا، {فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، إذن لما تنتظرون! مَن ضمن أن الجنة له
فلما ينتظر البقاء في هذه الحياة! وفيها ما فيها من الشقاء والمقاساة والكدح
والآلام، وثمرتها وزهرتها مشوبة بكل هذا النكد والشقاء، فهي ليست خالصة في المتعة
والخير، فمن ضمن أنه له الجنة، وأن الجنة هي له حتمًا، لا شك أن بقاءه في هذه
الدنيا أي تمني أن يبقى في هذه الدنيا، وأن يطول عمره فيها هذا من قلة عقله، وقلة
فهمه، إذن {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ
صَادِقِينَ}، هذا على المعنى، أو تمنوا الموت هذا نوع من المباهلة، أي إذا
كنتم تعتقدون حقًا بأن الله –تبارك وتعالى- قد كتب لكم الدار الآخرة عنده خالصة من
دون الناس، وتدَّعون هذا؛ فباهلوني، أي تمنوا أن تموتوا وإن فعلتم أهلككم الله –تبارك
وتعالى-، فيكون هذا تحدي لهم، كالقول إن لم يكن هذا حقًا يا رب فأقتلنا، فإنا
نتمنى الموت، فإذن أنزل فينا حكمك، ولو تمنوا الموت لهلكوا، إذا كانت هذه مباهلة.
فالآية فيها ذكر أهل
العلم بالتفسير فيها القولين، فتمنوا الموت ما دام أن لكم الدار الآخرة عند الله
خالصة، أو فتمنوا الموت تحقيقًا وتصديقًا لما تدَّعون، وإن فعلوا هذا أهلكهم الله –تبارك
وتعالى- فيكون هذه مباهلة، كما أمر الله –تبارك وتعالى- رسوله، أن يباهل النصارى
بأن يقول لهم {.............. فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ
فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}[آل عمران:61]، أنتم تدَّعون بأن عيسى هو
ابن الله، أو هو الله، وأنا أقول بأنه عبد الله ورسوله؛ أرسله، فلنبتهل إلى الله –تبارك
وتعالى- والبهلة طلب الهلاك، لأن البهلة هي الهلاك، أن يهلك الله –تبارك وتعالى-
الكاذب فينا، فمن كان كاذبًا أهلكه الله –تبارك وتعالى-، فيكون المعنى هنا إن كنتم
كاذبين في دعواكم أهلككم الله –تبارك وتعالى-، أو فتمنوا الموت إن كنتم صادقين؛
تمنوا الموت مباهلةً إن كنتم صادقين في قولكم، إن لكم الدار الآخرة عند الله خالصة
من دون الناس.
قال –جل وعلا- {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}[البقرة:95]، ولن يتمنوه أبدًا على المعنى
الأول أنهم متمسكون بهذه الحياة الدنيا، وأنهم لا يرجون أن يخرجوا منها بأي سبيل،
بل هم متشبسون بها ولا يتمنوا الموت، لما يعلمون ما وراء هذا الموت من العذاب
والنكال بسبب كفرهم، وعلى المعنى الثاني ولن يتمنوه أبدًا لن يباهلوا، لن يباهلوا
على ما يدَّعوه لأنهم يعلمون أنهم إن باهلوا، جاءهم الهلاك من الله –تبارك
وتعالى-، قال –جل وعلا- {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَدًا}، وهذا أيضًا من الدليل على أن القرآن هذا من عند الله –تبارك
وتعالى-، فإن هذا إخبارٌ بأمرٍ مغيب في المستقبل، ولا يعلمه إلا الله –تبارك
وتعالى- ولا يعلم أن يهودي باهل مسلمًا على هذا الأمر قط، فأخبر الله –تبارك
وتعالى- أنه إلى مستقبل الزمان لن يحصل هذا من اليهودي قط، {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}، قال –جل وعلا- {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، أي بسبب ما قدمت أيديهم
من المعاصي والذنوب والكفر، فإنهم يعلمون بأنهم سيؤاخذون عند الرب –تبارك وتعالى-
بهذا، وبالتالي هم يخافون ويعلمون ما ينتظرهم بعد الموت من العذاب، قال –جل وعلا -
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، طبعًا هذا
إخبار، أما في مكنون قلوبهم عقب الله –تبارك وتعالى- أنه الله عليم بمكنون صدورهم،
ولذلك هذا حالهم، والله عليم؛ عليم هذه صيغة مبالغة فعيل بمعنى فاعل، عالم؛ أي
عالمٌ أعظم العلم بهؤلاء الظالمين، ووصفهم هنا بالظلم وذلك لكذبهم وافترائهم على
الله –تبارك وتعالى-، والظلم في لغة العرب هو وضع الشيء في غير محله، التعدي؛ وهذا
من تعديهم على الله –تبارك وتعالى- ونسبتهم ما لم يقله الله –تبارك وتعالى-،
وجزمهم بأن الله –تبارك وتعالى- قاله.
ثم بيَّن –سبحانه
وتعالى- بأن هؤلاء الذين يدَّعون أن الآخرة هي لهم، هي خالصة لهم من دون الله،
أنهم متشبسون متمسكون بهذه الحياة إلى أبعد حدود التمسك، قال –جل وعلا- {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}،
ولتجدنهم أي إذا اختبرتهم ونظرت إليهم وعاشرتهم وعرفت أحوالهم، تجد أنهم أحرص
الناس على حياة، الحرص هو الضنُّ بالشيء والبخل به والتمسك به، فيقول هذا حريصٌ
بماله بمعنى أنه يضنُّ به ولا ينفق شيئًا منه، هولاء أحرص الناس عموم الناس، {عَلَى حَيَاةٍ}، ما قال الله –تبارك وتعالى- على
الحياة، وإنما قال على حياة، وحياة بالتنكير تدل على أي حياة، أي مهما كانت حياته
ولو كان فقيرًا مدقعًا شقيًا في هذه الحياة، فإنه مع ذلك متسكٌ بالبقاء في هذه
الدنيا غاية التمسك، {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}،
أي أنهم أحرص الناس على الحياة حتى من أهل الشرك، الذين لا يتوقعون ولا يؤمنون
بحياةٍ أخرى بعد الموت، ويعتقدون بأن فرصتهم إنما هي في هذه الحياة الدنيا فقط، فالمشرك
يقول مملكتي في هذا العالم وحده، لا أعيش إلا مرةً واحدة، كما قال مثلًا طرفة ابن
العبد في شعره مبيِّنًا لما ينفق ماله، ويتمتع بكل الملذات التي تطالها يده، يقول ((ومازال
تشرابي الخمور ولذتي، وإنفاقي طريفي ومتلدي، إلى أن تحامتني العشيرة كلها، وأفردت
إفراد البعير المعبَّد، فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي، فدعني أبادرها بما ملكت
يدي))، إن كنت لا تستطيع أن تدفع منيتي موتي، فدعني أبادرها؛ أبادر المنية بما
ملكت يدي، فيتمتع بما ملكت يداي في هذه الدنيا فإني أعيش مرةً واحدة، فإني أحيا
مرةً واحدة ولا حياة بعد ذلك، فهذا المشرك الذي لا يؤمن إلا بحياة واحدة، ولا يؤمن
بحياة ثانية يمكن أن يحياها، تجد أنه ليس حريصًا على الحياة والبقاء حرص اليهودي،
الذي يقول إن الدار الآخرة وجنة الله –تبارك وتعالى- هي الدار التي خلقها الله
لنا، خاصة من دون الناس، وكان ينبغي أن يكون هذا الذي يعتقد جازمًا بأن الجنة
خالصة له من دون الناس، وأن كل يهودي إنما هو مآله إلى الجنة، ألا يحرص على
الحياة، وأنه إن جاءه الموت رحب به، بل عليه أن يتمنى الموت، لينتقل إلى داره وإلى
مسكنه، فإن من يؤمن بأن له الجنة لا يتمنى ولا يحرص على البقاء في الحياة.
انظر إلى عمير بن
الحُمام –رضي الله تبارك وتعالى عنه- الصحابي لما خطب النبي –صلوات الله وسلامه
عليه- في الناس يوم بدر، فقال ((والله لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل مقبلًا غير مدبر
إلا دخل الجنة))، فالنبي أقسم للمؤمنين يوم بدر بالله في صبيحة هذا اليوم، وقبل
المعركة، قال لا يقاتل المشركين اليوم رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويقتل مقبل
غير مدبر، إلا دخل الجنة، فقال عمير يا رسول الله، ليس بيني وبين أن أدخل الجنة
إلا أن يقتلني هؤلاء، قال الحاجز الذي بيني أنا وبين دخولي الجنة أن يقتلني هؤلاء؛
أي المشركون، فأخبر النبي أن نعم، عند ذلك على طول أخذ قرنه الذي يضع فيه تمرات
يأكلها، هذا كل زاد المقاتل، فأدخل يده في القرن، جراب فيه تمر فأخذ تمراته
ونثرها، وقال لئن بقيت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة، قال إذا بقيت في
الدنيا حتى انتهي من أكل هذه التمرات حياةٌ طويلة، ثم لما نشب القتال دخل في
المشركين، وقاتلهم حتى قُتل، فمن يؤمن بأن الجنة له، لا شك أنه لا ينتظر البقاء في
هذه الحياة.
فقال –جل وعلا-
ولتجدنهم أي مع دعواهم هذا أنهم أهل الجنة وحدهم، {أَحْرَصَ
النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}، أي أحرص من الذين
أشركوا، {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ
سَنَةٍ}، يود أحدهم؛ أحد هؤلاء، {لَوْ يُعَمَّرُ
أَلْفَ سَنَةٍ}، يعمر أي يبقى يطول عمره في حياته في هذه الدنيا ألف سنة
كاملة، قال –جل وعلا- {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}، وما هو أي بقاؤه في هذه الدنيا هذا البقاء
الطويل لن يزحزحه من العذاب أن يعمر، وذلك أنه بهذا الاعتقاد الذي اعتقده، وبكفره
بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، وبكفره بالدين الخاتم، لا شك أنه مهما عُمِّر فإن
مآله إلى الخلود في النار بكفره، {وَمَا هُوَ
بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا
يَعْمَلُونَ}، والله –سبحانه وتعالى- بصير، أنه لا يخفى أن كل عملهم إنما
هو تحت بصر الله –تبارك وتعالى-، فلا يخفى عليه –سبحانه وتعالى- من أعمالهم شيء،
بصيرٌ بما يعملون بالذي يعملونه،
ثم قال –جل وعلا- {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:97]، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا
لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ
عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:98]، هذه صورة أخرى من صور كفر هؤلاء اليهود، فقد سألوا النبي –صلوات
الله وسلامه عليه- من الذي يأتيك بالوحي؟ فقال لهم جبريل، فقالوا هذا عدونا من
الملائكة، أعلن هؤلاء بأن جبريل الذي يأتي النبي –صلى الله عليه وسلم- بالوحي، هو
عدوهم من الملائكة، وجبريل الملك هو روح الله، وأمينه على الوحي، وهو الذي يرسله
الله –تبارك وتعالى- بوحيه على كل الأنبياء، فهو الذي نزل على موسى، ونزل على
عيسى، ونزل على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، وهو الذي حمل رسالة الله –تبارك
وتعالى- إلى الأنبياء والمرسلين، فهو أمين الله، وإذا وجد من يدَّعي الإيمان، ثم
يعادي رسول الله فهذا عداوته لله، فتكون العداوة هنا لله –سبحانه وتعالى- كذلك،
لأن من عادى رسول الله فقد عادى الله –تبارك وتعالى-، فإن الله هو الذي يختاره،
وهو الذي يرسله، وهو أمينه على هذا الوحي، فقل لهؤلاء أي الكذابين المتهوكين في
إيمانهم، الذين يدَّعون الإيمان ويعملون بنقيضه.
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ
عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}، فإن جبريل هذا الذي نزل بالوحي بهذا
القرآن، نزَّله على قلبك؛ أنزله على قلب النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، وذلك بأن
القرآن جاء لفظة من جبريل يسمعها النبي، فيقر في قلب النبي –صلوات الله وسلامه
عليه-، فلم ينزل ورقات مكتوبة، ولا رسالة مكتوبة يناولها النبي –صلى الله عليه
وسلم-، وإنما يأتيه الوحي يقرأه جبريل كما سمعه من رب العزة –سبحانه وتعالى-، ثم
إن النبي يسمعه فيُقَر في قلبه، كما قال له الله –تبارك وتعالى- {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[القيامة:16]، {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}، أي في قلبك، {وَقُرْآنَهُ}، أي بلسانك، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة:19]، فإذا انفصل؛ أي ينفصل الوحي
بعد أن يقرأ جبريل الآيات على النبي –صلوات الله عليه وسلم- يستفيق النبي من ثقل
الوحي، وقد وعى ما قال، حفظ الذي قاله، فالنبي لا يردد بلسانه عند الوحي، ولا يعطى
ورق أو صحائف يقرأها من القرآن، وإنما نزَّل القرآن على قلب النبي –صلوات الله
وسلامه عليه-، قال {فَإِنَّهُ} أي جبريل، {نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ}، قراءة تقر في قلب النبي –صلوات الله
والسلام عليه- بإذن الله، أي أن جبريل لم يأتي بهذا القرآن من عنده، ولا كان هذا
القرآن لرجل من بني إسرائيل مثلًا، ثم إن جبريل حوله إلى النبي، إلى رجل من العرب،
أو تصرف في هذا الأمر، بل هو مرسل من الله –تبارك وتعالى- بهذا القرآن، ليبلغه إلى
محمد بن عبد الله –صلوات الله والسلام عليه- النبي الذي اختاره الله –تبارك
وتعالى-، فإنه نزَّله؛ نزل القرآن، على قلبك يا محمد بإذن الله، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، نزل هذا القرآن مصدق لما بين يديه، أي
من التوراة ومن الإنجيل ومن الكتب المنزلة على الأنبياء، {وَهُدًى} هداية، {وَبُشْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ}، هدًى أخبر الله –تبارك وتعالى- بأن القرآن هدًى للناس كلهم، وهداية خاصة
لأهل الإيمان، كما قال {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2]، وقال {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِلنَّاسِ}، فهو
هداية عامة للناس جميعًا، وهو كذلك هدى خاص؛ يهدي به الله –تبارك وتعالى- عباده
المؤمنين، هداية خاصة للمتقين، {وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، بشارة، القرآن جاء يحمل البشارة بالجنة
بالمغفرة ، بالحياة الطيبة، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، وبشرى لأهل الإيمان هذه خاصة
للمؤمنين، فإن القرآن جاء يبشرهم برحمة الله –تبارك وتعالى- وفضله وإحسانه في
الدنيا والآخرة، نقف عند هذا، ونكمل في الحلقة الآتية –إن شاء الله-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.