الحمد لله ربِّ العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92], {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}[يوسف:93], {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94], {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:95], {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يوسف:96], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- أنَّ يوسف -عليه السلام- في هذا المقام العظيم, المقام الذي جاءه فيه إخوته في آخر المطاف مستسلمين, يائسين يبذلون ما عندهم مِن بضاعة مزجاة, ويطلبون منه أنْ يتصدق عليهم, وعند ذلك أفصح لهم عن نَفْسِهِ, وأنه قال : {أَنَا يُوسُفُ}, لما قالوا : {أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ}, أولًا ذَكَّرَهُم بما فعلوه, {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}[يوسف:89], {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90],{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف:91], {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ........}[يوسف:92], قمة الكرامة, وقمة الإحسان مقابلة إساءة إخوانه, هذه الإساءة الطويلة بهذا الإحسان ,وعدم إفساد حتى مقام هذا اللقاء الذي يلتقوا فيه به ويعرفوا بعضهم بعضًا, بأنْ يذكرهم ما كان مِن شأنهم ويلومهم أنهم فعلوا هذا حقدًا وحسدًا, قال : {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ........}[يوسف:92], تنازل عن كل حقوقه, ودعا الله -تبارك وتعالى- ليغفر لهم, {........يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92], ثم قال لهم : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا}, قميص ملبوس, قال لهم : {........فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}[يوسف:93], هو نبي, وقد أعلمه لله -تبارك وتعالى- أنَّ مِثْل هذا القميص وفيه رائحة مِن رائحة يوسف -عليه السلام-؛ إذا علم أبوه أنها بالفعل هذا قميص يوسف, وهذه رائحته التي لم تفارق عقله أبدًا؛ فإنه سيعود إليه بصره, معجزة مِن الله -تبارك وتعالى-, وأنْ يرد الله -تبارك وتعالى- البصر هذا بعد أنْ يجد أنَّ يوسف بالفعل حقيقة واقعة, وأنه موجود, {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا........}[يوسف:93], يرتد بصيَرا ويأتي إلي بصيرًا, {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}, ارتحلوا بكل أهلكم وتعالوا اتركوا هاجروا من بادية الشام, وتعالوا إلى أرض مصر, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94] لما فصلت العير عن أرض مصر, ودخلت في أرض الشام, والمسافة بعيدة جدًا ما بين العير, القافلة وبين أنْ يصلوا إلى منازل يعقوب -عليه السلام- قال يعقوب لِمَن حوله : {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ}, قال لهم إني أشم رائحة يوسف, {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}, أي أنْ تنسبوني إلى الفند, والفند هو ضياع العقل والخرف إني قد خرفت, وقد كبر سني, وشَمَّ يعقوب -عليه السلام- لرائحة ابنه التي ما زالت عنده ما نسيها, وأنْ يشمها وهي على هذا البعد مِن القميص المُرْسَل مِن يوسف -عليه السلام-, وهذا قد يكون مِن مئات الكيلومترات هذا أمر إلهي, الله -تبارك وتعالى- جعله يحس هذا الإحساس, وهو أمر فوق الأسباب وهذا يكون لنبي, وكذلك يكون قد يكون لبعض أولياء الله -تبارك وتعالى- كما الشأن في أنس بن النضر -رضي الله تعالى عنه- فإنه قال لسعد بن معاذ قال له : (الجنة الجنة يا سعد, ورب الكعبة, إني لأجد ريحها مِن دون أُحُد), قال: إني أشم رائحة الجنة وكأن هنا في دون أُحُد, وهم كانوا في هذه الموقعة على في موقعة أُحُد والحرب قائمة قال له: (إني لأجد ريحها مِن دون أُحُد), فهذا الشم مِن وراء الأسباب على هذا النحو, وكذلك الرؤية مِن وراء الأسباب, فهذا قد يكون لنبي كما حدث النبي بهذا, بآلاف هذه الأمور التي رآها, فقد رأى مصرع أصحابه -صلى الله عليه وسلم- مصرع زيد بن حارثة, جعفر بن أبي طالب, عبد الله بن رواحة, الأمراء الثلاثة الذين أمرهم النبي في غزوة مؤتة فقال النبي وهو ينظر كأنه ينظر إليهم : (أخذ الراية زيد فأصيب, وأخذها جعفر فأصيب), وكأن النبي ينظر إلى المعركة مِن أمامه والنبي في المدينة -صلوات الله والسلام عليه-, ومؤتة في أرض الشام أكثر مِن ألف كيلو متر في بين هذا وهذا, والنبي ينظر ويخبرهم -صلوات الله والسلام عليه- ثم قال : (أخذها ابن رواحة وقال فأصيب), وتدمع عيناه -صلى الله عليه وسلم-؛ فيحدثهم بأمر بعيد وبنفس الوقت, ثم أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه أخذها الراية بعد ذلك خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه- ففتح له, وهذا كثير مِن إخبار النبي بأمور تقع عن بُعْد ويخبر عنها, وكذلك بسمع يسمع عن بُعْد, هذا بالنسبة لأنبياء الله -تبارك وتعالى- لا شك أنه يطلعهم مِن غيبه على ما يشاء -سبحانه وتعالى-, فيعقوب نبي مِن أنبياء الله -تبارك وتعالى- وقد شم رائحة ابنه يوسف التي يذكرها جيدًا ويعلمها, وقال لمن حوله : {........ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94], لكنكم تنسبوني إلى كِبَرِ السن والخرف؛ وذلك أنهم متيقنون أنَّ يوسف قد انتهى أمره, وأنه قد أكله الذئب وانتهى, أو أنه قد غُيِّبَ تغيبًا بعيدًا ولا مجال لعودته مرة ثانية, قال لهم : {........ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}[يوسف:94], وبالفعل نسبوه بعد ذلك إلى الفند, {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف:95], {قَالُوا}, أي مَن حوله : {تَاللَّهِ}, والله, {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ}, عن حقيقة يوسف ضلالك عنه الضلال عن الدين إنما الضلال عن حقيقة يوسف؛ وذلك أنك دائمًا تذكر أنه سيعود ويعود, وقالوا أنت ما زلت في هذا الأمر الذي تكرره كثيرًا, وتذكره عن يوسف, {قَالُوا تَاللَّهِ}, مُقْسِمِينَ بالله متأكدين إنه لفي ضلاله القديم -عليه السلام- وحاشاه, وإنما هذا ثقته بالله -تبارك وتعالى-, هو نبي مِن أنبياء الله -تبارك وتعالى- واثق مِن موعود الله -جلَّ وعلا-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ........}[يوسف:96], {فَلَمَّا}, هنا الفاء للتعقيب مباشرة, {أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ}, البشير هو الذي يأتي بالبشارة, والبشارة الخبر بما يسر, وغالبًا ما يكون البشير يقدم قبل القافلة ما ينتظر أنْ يسير بسير القافلة؛ وإنما لأنه آتي بالبشرى العظيمة فيسبقهم, {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ........}[يوسف:96], ألقى القميص على وجه أبيه؛ ليكون هذا أول دلالة مادية, دلالة وجود على أنَّ يوسف حي, قال -جلَّ وعَلا- : {فَارْتَدَّ بَصِيرًا}, أي كأن كانت العينان مُغْمَضَتَان فتحهما, فانفتحا للبصر مباشرة, ارتد مِن العمى الذي كان إلى البصر مرة واحدة؛ بمجرد وضع قميص يوسف على عينيه, {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ........}[يوسف:96], وهذه خارقة للأمر المعتاد؛ وذلك أنَّ الذي يصيبه العمى مِن كثرة الحزن والكبر ويغطي وجهه على هذا النحو, لا يعود إلى البصر, وخاصة بهذه السرعة, والأمر الفجائي هذا بدون إزالة للماء الذي يكون قد غطى هذا البصر مِن ماء أزرق, أو ماء أبيض, أو غير ذلك, أو محو قرنية العين أو ذهاب لشبكيتها, وهذا غير الأسباب المعتادة لمعاجلة البصر, وأنَّ بمجرد وضع القميص أعاد الله -تبارك وتعالى- بصره أمر خارق للعادة يفعله الله -تبارك وتعالى- ويصنعه لأنبيائه وأوليائه -سبحانه وتعالى-, {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}[يوسف:96], ذكَرَّهَمُ بأنَّ ثقته الكاملة, وبقاؤه على موعود الله -تبارك وتعالى- في أنَّ يوسف سيعود إليه, وأنه سيلقاه يومًا ما, أنه كان على يقين مِن هذا, وأنه سيكون, {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ}, فضله وبره وإحسانه ورحمته, {مَا لا تَعْلَمُونَ}, ما لا تعلمونه أنتم, فأنتم تظنون أنَّ الأمر انتهى, وأنَّ هذا لا يمكن أنْ يعود, لكن أنا واثق مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- وموعده, وأعلم من الله من لا تعلمون, مِن فضله وبره وإحسانه -سبحانه وتعالى- ورحمته, وأنه ما شاء كان, وأنَّ يوسف الذي رآه هذه الرؤيا لابد أنْ يحقق الله -تبارك وتعالى-, {قَالُوا}, أي أبناؤه الذين فعلوا هذا الصنيع الطويل : {........يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}[يوسف:97], طلبوا منه أولًا أنْ يستشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى- بأنْ يطلب لهم المغفرة لذنبوهم التي أذنبوها, وقالوا : {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ}, اعترفوا بخطيئتهم متعمدين لما كان منا, وصدر منا, فقال لهم يعقوب -عليه السلام- : {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يوسف:98], والعجب أنَّ يعقوب -عليه السلام- لم يجيبهم إلى الاستغفار في التو واللحظة, وإنما أرجأ الأمر, {قَالَ سَوْفَ}, وسوف لفعل الأمر بعد مدة سأستغفر الآن مباشرة, ولكن سوف أفعل هذا الأمر, فإنما هو لأنَّ هذا الأمر ليس متعجلًا فيه ليبطؤه ويؤخره, فللتأخير, فهذه مواعدة مع تأخير الأمر, {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يوسف:98], قيل إنَّ إرجاءه الاستغفار على هذا النحو إلى ما بعد؛ أنه أراد أنْ يَتَحَيَّنَ ساعة مِن ساعات الإجابة, قالوا أَخَّرَ هذا إلى السَّحَر؛ لأنه مِن الأوقات الفاضلة التي يستجيب الله -تبارك وتعالى- فيها الدعاء وهذا لا دليل عليه, وإنما قال لهم ربما باجتهاده ورأي في هذا لما كان التأخير لما قال الله -تبارك وتعالى- عن يعقوب : {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي........}[يوسف:98], ما قال سأستغفر لك ربي, أو قال يغفر الله لكم لم يرجئ هذا إلى الوقت القريب, ولم يفعله في التو واللحظة مثل ما فعل يوسف فإنه قال يغفر الله لكم الآن, {........ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[يوسف:92], فدعا لهم بالمغفرة في وقته, وأما يعقوب -عليه السلام- فإنما أرجأ هذا الأمر وسَوَّفَهُ بعيدًا, {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي........}[يوسف:98], فقيل لينتظر وقت السَّحَر, وقيل إنَّ هذا مِن وقت الحزن, أي أنه ما زال حزينًا ومتأثرًا بما فعله أبناؤه؛ ولذلك لما يتعجل في طلب المغفرة لهم, وهذا فيه نوع كذلك مِن بيان أنهم فعلوا أمر عظيم, {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[يوسف:98], فوعدهم بهذا, ولكنه أرجأ هذا الأمر وسَوَّفَهُ إلى أمر بعيد, {إِنَّهُ هُوَ}, الرب -سبحانه وتعالى-, {هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[يوسف:99], هنا نقلة مباشرة مِن هذا المشهد العظيم مِن مجيء البشير, إلقاء قميص يوسف على وجهه, اعتذار الإخوة في هذا اللقاء لأبيهم, ثم بعد ذلك ينقلنا المشهد إلى دخولهم أرض مصر في هنا فيه في القصة حلقات تطوى؛ لأنها معلومة وهو أنْ ينادي بعضهم بعضًا بالتجاوز والرحيل وجمع المتاع, وجمع أخذ النساء والأولاد, ومفارقة المكان, والذهاب في الطريق إلى أنْ دخلوا أرض مصر؛ لأنَّ هذا كله هذا إنما هي تفصيلات معلومة مِن السياق لا تحتاج إلى ذكر, ولأنه ليس في ذكرها فائدة ما, فهي مِن باب تحصيل الحاصل؛ لذلك يطويها ويدخل إلى الأحداث التي هي موضع الشاهد والعبرة هي كذلك مترابطة ليس هما خلل في ترك هذه التفصيلات التي لا حاجة إلى ذكرها, قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ........}[يوسف:99], أي جميعهم الأب والأم والإخوة, {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}, أول ما فعله يوسف -عليه السلام- أنه {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}, ما يصنع الابن البار بأبويه, بمعنى أنه ضمهما وأخذهما وأحبها, وحصل هذا لقاء عظيم بعد هذا الفراق الطويل, {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}, أي أمه وأباه, وقال لهم : {........وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[يوسف:99], {ادْخُلُوا مِصْرَ}, أي لتسكنوها وتقيموا فيها, {إِنْ شَاءَ اللَّهُ}, عَلَّقَ الأمر بمشيئة الرب -جلَّ وعَلا-, {آمِنِينَ}, أي لا خوف عليكم -إنْ شاء الله- مِن أحد فيها, وإنما تعيشون فيها في سلام وأمن, {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ........}[يوسف:100], كان قد أعد لهم بعد ذلك سرير عظيم, مُتَّكَأ عظيم؛ فرفع أبويه على العرش, قال يا أبي هذا كرسيك, وهذه يا أمي هذه كرسيك, وهذا سريرك كأنهم ملوك, رفعهم على عرش صنعه لهم, ليس المقصود هنا عرش مصر الذي عليه المَلِك, وإنما على العرش هذا الذي هيأه يوسف لهم, وأجلسهم فيه, {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا........}[يوسف:100], لما كان هذا التكريم الذي قام به يوسف -عليه السلام- لأبيه وأمه ولإخوانه الذين قابلهم بهذا الإحسان برغم إساءتهم, شهد الجميع فضله وإحسانه وبره, وأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد رتب له -سبحانه وتعالى- هذه المنازل العظيمة, ودَرَّجَهُ هذه المدارج العظيمة مِن محنة إلى محنة إلى محنة؛ ليظهر نقاوة عنصره وطيب أخلاقه وفضله, وفضله هنا على الجميع؛ فضله على حتى على أبويه بأنْ كرمهم هذا التكريم, وأتى بهم هذا الأمر يخرجهم مِن حال الشظف وشدة العيش الذي هو فيه إلى سعة العيش, وأنْ يكونوا بهذه المنزلة وبهذا التكريم, ثم كرمه كذلك لإخوانه, {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}, قال -جلَّ وعَلا- : {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}, والخر هو النزول بشدة ما كأنه سجدوا له بإرادة, وإنما جاء الأمر كأنه نوع مِن الفعل التلقائي الذي يقع مِن الإنسان رغمًا عنه, فالكل سقط على وجهه سجودًا لأخيهم, والأب والأم سجودًا لابنهم الذي فَضَّلَهُ الله -تبارك وتعالى- وميزه بهذه الميزة, والسجود تعظيم للبشر كان مباحًا ومشروعًا في شريعتهم أنْ يُعَظِّمَ الإنسان بشرًا بهذا التعظيم؛ بأنْ يصل في التعظيم ليس فقط في القيام أو الركوع, بل كذلك كان في السجود, كان في شريعتهم, ولا ينافي هذا أي شركًا بالله -تبارك وتعالى-, وإنما تعظيم لهذا المخلوق الذي عظمه الله -تبارك وتعالى-, عظم الله -تبارك وتعالى- يوسف لدينه وعلمه وتقواه والنبوة, وما أعطاه الله -تبارك وتعالى- مِن العلوم ومنها تأويل الأحاديث فكل هذه الفضل فالسجود هنا لما فضل الله -تبارك وتعالى- يوسف, وليس سجود شرك عبادة له مِن دون الله, وإنما سجود تعظيم لهذا الفضل, وكان هذا مشروعًا عندهم ولو كان مشروعًا في شريعتنا لعظمنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- هذا التعظيم كما أراد معاذ بن جبل عندما رجع مِن الشام كان في سفر إلى الشام, ثم رأى أَنَّ النصارى يُعَظِّمُونَ قساوستهم على هذا النحو فيسجدون لهم هذا في شريعتهم, فقال في نَفْسِهِ رسولنا أحق بذلك, أحق بأنْ يُسْجَدَ له, فلما جاء ورأى النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد له, فقال له النبي: (مه يا معاذ), فقال : يا رسول الله : (رأيت النصارى هناك يعظمون بطارقتهم وقساوستهم بالسجود, فرأيت أنك أولى بهذا), فقال له النبي: «لو كنت آمرًا أحدًا أنْ يسجد لأحدٍ مِن دون الله لأمرت المرأة أنْ تسجد لزوجها لما له عليها مِن الفضل», قال له لا سجود إلا لله, فلو كان الأمر مشروعًا في شريعتنا لكان أولى مَن يُسْجَد له لا شك نبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, ولكن جاءت شريعتنا بالنهي عن السجود لغير الله, فلا سجود ولا ركوع ولا قيام تعظيم إلا لله -سبحانه وتعالى- وهذا مِن كمال الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- على خاتم رسله محمد بن الله -صلوات الله والسلام عليه-, أما بالنسبة لما صنعه يعقوب وزوجه وإخوة يوسف, أبناء يعقوب لسجودهم ليوسف فإنَّ هذا كان سائغًا في شريعتهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}, {وَقَالَ}, أي بعد أنْ تحقق هذا, {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}, هذا الذي كان مِن سجود الأب, وسجود الأم وسجود هذه الإخوة وقال : {هَذَا}, فقط إشارة إليه؛ لأنه معلوم, {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}, التي رأيتها عندما كنت غلام صغيًرا وقصصتها عليك وقلت لي : {........لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}[يوسف:5], {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}, قد جعل الله -تبارك وتعالى- هذه الرؤيا, {حَقًّا}, بأنْ وقعت في واقع الأمر, {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}, هنا ذَكَرَ فضل الله -تبارك وتعالى- فقال : {قَدْ أَحْسَنَ بِي}, أي أحسن الله -تبارك وتعالى- بي, {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}, فقد ألقيت في السجن, وكان الأمر بغير تهمة ولم يكن هناك ثم أحد مِن أهلي حولي أو ممن يطالب بحقي, وإنما جاء خروجي مِن السجن بفضل مِن الله -تبارك وتعالى-, وبسبب مِن عنده, وقد كان هذا كما جاء في القصة بالرؤية التي رآها المَلِك, ثم اضطرار الناس واحتياجهم إلى تفسير يوسف, ثم بما فسر هذه يوسف بما أظهر مِن عِلْمِهِ وفضله ومكانته فكان أنْ أخرجه الله -تبارك وتعالى- مِن السجن بهذه الوسيلة العظيمة, {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}, ما أكمل هذا النبي الكريم يوسف -عليه السلام-, قال هنا : {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}, فنسب الأمر والفضل إلى الله -تبارك وتعالى-, وأنه هو الذي جاء بهم عِلمًا أنَّ يوسف هو الذي بذل هذا السبب, وهو الذي أمر إخوته بأنْ يأتوا بأبيهم, قال : {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}[يوسف:93], ما ذَكَرَ أنَّ هذا الأمر له, وإنما ذكر الفضل كله في كل ما أصاب لله -تبارك وتعالى-, وقال : {وَجَاءَ بِكُمْ}, أي الرب -سبحانه وتعالى-, {مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}, هذا كذلك مِن قمة الأخلاق, هنا في هذا المشهد؛ مشهد الجمع هذه أسرة, واجتماعها على فضل يوسف -عليه السلام-, ولَمّ شمل الجميع, وكأنهم يأتوا إلى مكان فيه تمكين, وفيه أمن, وفين سعة, وفيه دنيا تحت أيديهم مقام عظيم تحققت فيه واجتمع فيه كل هذا الخير, ما أفسده يوسف؛ بأنْ يدخل على إخوانه شيء مِن الحزن, أو الإساءة, أو التذكير بأمر كان منهم بل يقول مِن أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أحسن لنا هذا الإحسان, {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}, فَيُبَيِّن أنه مِن فضل الله -تبارك وتعالى- عليهم أنْ جمعهم هذا الجمع, وكان هذا الأمر, وقال : {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي}, فَقَدَّمَ نَفْسَهُ وأنَّ هذا كان مِن نزغ الشيطان علمًا أنه لم يكن له أي يد, ولا أي مشاركة في هذه الأحداث, وهذا الإثم على هذا النحو, ولكنه ذَكَرَ بأنَّ هذا مِن نزغ الشيطان وقال : {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}, ولا شك أنَّ إخوانه هم الذين نزغوا الشيطان في قلوبهم وفعلوا ما فعلوا, لكنه تقديم نفسه على هذا النحو حتى بيان أنَّ الفضل لله -سبحانه وتعالى- وحده, وأنه لما فعل لشيطان هذا الأمر فإن الله -تبارك وتعالى- قد جمعهم بعد ذلك, قال : {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}, فجعل كأنه كان هناك خصومة منه, والحال أنه لم يكن منه أي نوع مِن الإساءة لإخوانه, لكنه وضع نَفْسَهُ على هذا النحو؛ ليبين أنه كأنه مشارك لإخوانه في هذا الأمر, وأنَّ هذا كان بسبب الشيطان فكأنه كذلك أبعد إخوانه عن الإثم, قال بعد ذلك : {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}, فالله الذي يشاءه -سبحانه وتعالى- فإنه يُقَدِّرُ المقادير اللطيفة التي تسير بوجه قد لا يرى الناس ظاهره, ويرى الناس حقيقته والحكمة منه, ولكن الله -تبارك وتعالى- يُسَيِّرُ الأمور حتى يحقق الله -تبارك وتعالى- المراد الذي يريد, {........إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[يوسف:100], أنه الرب -سبحانه وتعالى- عليم بكل خلقه -سبحانه وتعالى-, {الْحَكِيمُ}, الذي يضع الأمور في نصابها, ومِن هذا علمه بنا, ولطفه بنا, وحكمته في أنْ وضع كل أمر -سبحانه وتعالى- في نصابه فأكرمه الله -تبارك وتعالى- هذا الإكرام, وأكرم أبويه كذلك هذا الإكرام بصبرهم وباحتسابهم عند الله -تبارك وتعالى-, ثم بهذا الاجتماع الأخير بعد نهاية هذه الأحداث التي امتلأت بالعبرة وبالعظة بهذه النماذج العظيمة مِن البشر الذين أكرمهم الله -تبارك وتعالى- بالصدق والنبوة والصبر.
و-إنْ شاء الله- نعود إلى ما ختم الله به هذه القصة مِن دعاء يوسف بعد ذلك, وتوجهه إلى الله عز وجل- : {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:101], في حلقة آتية -إنْ شاء الله-, وصلى الله على عبده ورسوله محمد.