الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (291) - سورة يوسف 101-105

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين } [يوسف:99-101].

 يخبر -سبحانه وتعالى- أن يعقوب -عليه السلام- وأبنائه وزوجه عندما دخلوا على يوسف في أرض مصر، وكان يوسف قد هيأ لهم مقامًا كريمًا، عرشا عظيما يجلس عليه أبوه وتجلس عليه أمه، يقول -جل وعلا- {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ}، كلٌ بكليتهم؛ أبوه وأمه وإخوانه، {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}، بدأ يوسف -عليه السلام- بأن يحتضن أبويه كما هو صنيع ابن بار محب لأبويه، إضطر إلى هذا الفراق الطويل ثم جمعهم الله -تبارك وتعالى- هذا الجمع بعد هذه المحن الطويلة، {آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ}، أي ضمًا وتقبيلًا، {وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}، إعلام بأنهم دخلوا هذه الأرض الجديدة وأنه سيكتب لهم فيها الأمن، آمنين؛ مطمئنين في سلام.

{وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}، يعني في هذا المجلس الذي قد أعده لهم، وعند ذلك بعد هذا التكريم خروا له سجدًا، الأب والأم والإخوة الأحد عشر خروا جميعًا له سجدًا، تعظيمًا وإجلالًا ومعرفة بمنزلته التي أنزله الله -تبارك وتعالى-، من الأخلاق العظيمة والنبوة الكريمة وتأويل الأحاديث وهذا الفضل العظيم وإحسانه لمن أساء إليه من إخوانه، وقلنا في الحلقة الماضية بأن هذا كان مشروعًا؛ السجود لغير الله -تبارك وتعالى-، للبشر تعظيمًا، للمفضل تعظيمًا، أن هذا كان مشروعًا في ملتهم ودينهم، ولكنه بالنسبة لأمة الإسلام فإن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بألا يكون السجود إلا له، كما قال النبي «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد من دون الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لما له عليها من الفضل»، ونهى النبي -صل الله عليه وسلم- معاذ لما جاء وسجد له، قال له مه مه يا معاذ، فقال يا رسول الله رأيت النصارى واليهود كانا قد ذهبا إلى الشام يعظمون بطارقتهم وقساوستهم، فقال له النبي هذه المقالة «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد من دون الله».

 قال يوسف بعد هذا اللقاء العظيم وسجود أبيه وأمه وإخوانه له، {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}، الرؤيا التي رأها وهو غلام صغير، قال {........ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[يوسف:4]، كان هذا هو تطبيق هذه الرؤيا وتأويلها، {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}، رأيتها في الصغر وحققها الله -تبارك وتعالى- في الكبر في هذا الوقت، فنسب الفضل هنا إلى الله -تبارك وتعالى- الذي بشره بهذه الرؤيا وهو غلام صغير، ثم إن الله -تبارك وتعالى- درجه في هذه الفتن وهذه الابتلاءات المتكررة، ليظهر طيبه ونصاعته وعلو مكانته وأخلاقه العظيمة، ثم كانت النهاية كما كانت البشرى بالبداية، ثم ذكر من فضل الله قال {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ}، الذي سجنه في غير ذنب، {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}، فهذه نقلة كذلك أنهم كانوا رعاة فإذا بهم ينتقلوا بعد ذلك إلى أرض زراعة وتمكين وإقامة وحضارة، الحضر هو الإقامة، {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، هذا من أخلاقه السامية أنه جعل ما حصل كله إنما هو من نزغ الشيطان، وقدم نفسه في هذا فقال {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، ثم قال {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}، هذا من لطف الله -تبارك وتعالى- وإحسانه. انظر كيف رتب الله -تبارك وتعالى- الأمور على هذا النحو، أجراها كما يشاء الله -تبارك وتعالى- بهذا الاجراء العظيم، وجعل هذه الفصول تتوالى على هذا النحو، {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}، أراد الله -تبارك وتعالى- كان حكم الله أن يوسف يكون نبيًا كريمًا يعظمه إخوانه يُرى فضله في الجميع، فكان الأمر كما أراد الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.

ثم بعد ذلك توجه يوسف إلى ربه -سبحانه وتعالى- وكأنه انتهت مهمته وانتهت رسالته في الأرض، فتوجه إلى الله -تبارك وتعالى- أن يقبض الله -تبارك وتعالى- روحه وهو على هذا الإسلام، فقال {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ}، آتيتني؛ أعطيتني، من المُلك؛ ملك الدنيا، فأعطاه الله -تبارك وتعالى- مُلك الدنيا بأن جعله سيد مصر بعد ذلك في وقته، أي هو الشخص الثاني بعد المَلِك والذي أعطاه المَلِك كل مفاتيح أرض مصر، خزائنها كلها كانت تحت يده هو الذي يتصرف فيها، وكذلك أرض مصر قال له أسكن في أي مكان تشاء وتصرف كما تشاء، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، تأويل الرؤى، فإنه ما عرضت عليه رؤيا وعرفها إلا وعرف التأويل بمعنى ما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا وكيف تكون في نهاية المطاف، {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ}، فضل الله -تبارك وتعالى-، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، يعني يا فاطر السماوات والأرض، نداء ومدح للرب -تبارك وتعالى-، الله فاطر السماوات والأرض وهو أنه خلقهما قبل أن يخلقهم أحد، فهو الذي شق السماوات والأرض على هذا النحو، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}[الأنبياء:30]، فالله فاطر السماوات والأرض، قيل فاطر؛ الخالق لأول مرة، يعني هو الذي خلقها لأول مرة -سبحانه وتعالى-، لم يخلقها عن مثال سابق، كانت مبنية أولًا ثم أعاد الله بنائها... لا، إن الله -تبارك وتعالى- هو الذي بدأ بنائها -سبحانه وتعالى-، كما روي عن إبن عباس أنه قال ((ما علمت فاطر إلا بعد أن تنازع عندي أعرابيان في بئر، فقال أحدهما أنا الذي فطرتها))، فطرتها يعني أنا الذي شققتها أول مرة، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي شق السماوات والأرض، هو الذي بناها -سبحانه وتعالى- على النحو هذا البديع الهائل، الذي أحكمه الله -تبارك وتعالى- إحكامًا، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، يعني يا فاطر السماوات والأرض، مدح وثناء على الله -تبارك وتعالى-.

{أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}، أنت أيها الرب، وليي؛ الولي المحب والناصر، وولاية الله -تبارك وتعالى- ليوسف قد تجلت في هذا الطريق الطويل من الإنعام، فهو إبن هؤلاء الأنبياء الصالحين، ثم إن الله -تبارك وتعالى- تولاه ورعاه منذ أن حسده إخوته، ألقوه في غيابة البئر، هيأ الله -تبارك وتعالى- له من يأخذه وينقذه، يزهدوا فيه فيباع ويباع في مكان يكون له فيه التمكين والتكريم، {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[يوسف:21]، ثم يبتليه الله -تبارك وتعالى- بصنوف هذه الابتلاءات لتظهر أخلاقه، يبتليه بالمرأة الفتنة ثم يعصمه الله -تبارك وتعالى-، بالنساء الفاجرات اللاتي يحرضنه على المعصية فيستعصم ويقف، يبتليه الله بالسجن فيوضع فيه بدون أن يكون له ناصر إلا الله -تبارك وتعالى-، فيثبته الله -تبارك وتعالى- ويصبره، ثم بعد ذلك يهيء له الله -تبارك وتعالى- الخروج من السجن، يهيء له أن يكون لدى الملك، يهيء له أن يقوم بإصلاح أمة كاملة تتعرض لمجاعة، فيهيئه الله -تبارك وتعالى- كيف يجمع محصولها، كيف يزرعون، كيف، كيف، ...، هذا تهيئة من الله -تبارك وتعالى-، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}، من ولاية الله -تبارك وتعالى- له وفي الآخرة؛ في الآخرة إنه من عباد الله -تبارك وتعالى-، الصالحين الذين يجتبيهم الله -تبارك وتعالى- ويحبهم.

{تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}، أي كأنه يقول أنهيت مهمتي في الأرض، وليس الأمر كما القصص الدنيوية أنه بعد المشقة الطويلة والطريق الطويل تبدأ الحياة بعد ذلك في الدنيا، يرتاح ويبنى قصرًا وهكذا... لا، إذا نتهت مهمة الابتلاءات عند الرسل يكون انتهت حياتهم في الدنيا, وتبدأ النقلة، كما نبينا -صلوات الله والسلام عليه- فإن حياته الرسالية كانت سلسلة من الابتلاءات، منذ بدأ الدعوة ونزل عليه أمر الله -تبارك وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1) قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:1-2]، جاءت الابتلاءات، ابتلاءات بالتكذيب؛ بتكذيب قومه له، بصنوف العذاب الذي وقع على أصحابه، صنوف الأذى الذي وقع عليه –صلى الله عليه وسلم-، من السب والتشهير حتى من القاء القاذورات على ظهره وهو ساجد -صلوات الله والسلام عليه-، هذا في مكة صنوف التضييق العظيم جدًا، التآمر عليه، ثم في المدينة كل سنة نوع من الابتلاء، {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ........}[التوبة:126]، غزوات متلاحقة وحروب وعداوة من كل جانب ممن حوله، إلى أن أتم الله -تبارك وتعالى- له النصر والتمكين، ودخل أهل الجزيرة كلهم أتوا بعد ذلك في عام الوفود يعلنون ولائهم ودخولهم في الإسلام، من عمان في الجنوب إلى بادية الشام في الشمال ومن اليمن إلى الحيرة، كل الجزيرة دخلت كلها في الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ما بقي للنبي  حياة ثانية وأنه يجلس ويرتاح, وستقر له الأمر واستقرت له الأوضاع... لا، ينزل الله -تبارك وتعالى- عليه قوله -جل وعلا- {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}[النصر:1-3]، انتهت، سئل ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- عن معنى هذه السورة، فقال ((نعى الله للنبي نفسه))، نعاه الله -تبارك وتعالى-، الله قال للنبي أنت انتهت مهمتك وقد آذن الرحيل فاستغفر الله -تبارك وتعالى- وتب إليه.

فقول يوسف هنا {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ........}[يوسف:101]، على الإسلام، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، من عبادك، وإلحاق الله -تبارك وتعالى- العبد بالصالحين من عباده في الجنة، هذا هو السكن, هذه هي دار الاستقرار، وكأن الدنيا انتهت هذه الاختبارات الطويلة، بعد أن تنتهي هذه الاختبارات الطويلة ليس الأجر هنا والثواب والبقاء هنا في الدنيا وإنما النقلة إلى الآخرة، {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، وبهذا يختم الله -تبارك وتعالى- هذه السورة العظيمة؛ سورة يوسف، وفيها من هذه الدروس العظيمة والعبر الجليلة، وفيها من هذه الأحداث العظيمة المتداخلة، طبعًا لا شك {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}[يوسف:3].

يختم الله -تبارك وتعالى- ذلك، فيقول لنبيه {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:102-103]، ذلك، يعني هذا الذي قصه الله -تبارك وتعالى- من سورة يوسف طويلًا، {مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ}، أنباء؛ الأخبار العظيمة، والغيب؛ الذي غاب عن النبي، فإن هذه أمورا وقعت قديمًا من أكثر من ثلاث آلاف سنة عن وقت نزولها على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والنبي لم يكن شاهدًا لشيء من ذلك -صلوات الله والسلام عليه-، {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يوحيه إلى رسوله، ثم الله -تبارك وتعالى- ذكر جانب من جوانب القصة، عملية خفية يعني أمر خفي أخفوه، حتى الذين صنعوه أخفوه عن الجميع، يخبر الله -عز وجل- أن النبي لم يكن حاضرًا في هذا، وإنما أخبره الله -تبارك وتعالى- هذه الأخبار بالتفصيل، حتى ما كان خفيًا في وقته، قال {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[يوسف:102]، ما كنت لدى إخوة يوسف عندما أجمعوا أمرهم؛ يعني اجتمعوا على رأي واحد وأمر واحد، وهو أن يلقوا يوسف -عليه السلام- في غيابة الجب، فحصلت مشاورات كثيرة ثم أجمعوا على هذا الأمر؛ هذا اجتماع سري، كان جمعًا سريًا بين هؤلاء لم يفصحوا به ولم يذكروه لأحد، والله -تبارك وتعالى- هنا يذكره لنبيه ويقول له هذه حادثة من حوادث هذه القصة، أنت يا أيها النبي ما كنت حاضرًا عند ذلك، فمن أين للنبي أن يعلم هذا وأن يعلم أن إخوة يوسف اجتمعوا وتشاوروا وقلبوا الأمر فيما بينهم كيف الطريق إلى ابعاد يوسف عن أبيه، وأن منهم من قال نقتله ومنهم من قال نطرحه أرضًا بعيدًا، نأخذه ونسافر به الأرض بعيدًا ونتركه هناك ثم نأتي، ثم استقر قرارهم على أن يجعلوه في غيابة الجب ليأخذه بعض السيارة، بدلًا من أن يسافروا هم بعيدًا عن أبيهم ويكتشف أمرهم, يرموه هنا في هذا الجب القريب، ولا يستطيع أن يخرج من غيابة الجب وحده، وسيأتي المسافرون الذين يسافرون على هذا الطريق فيلتقطونه ويأخذونه بعد ذلك لقطة، ويبتعدون به فيخلصون منه ويتخلصون ويبعدوه عن أبيه، فهذا الأمر الذي تآمروا عليه واجتمعوا عليه لم يكن النبي حاضرًا عند ذلك، ولم يأتيه هذا ولا يمكن أن يأتيه إلا بهذا الطريق؛ طريق الوحي من الله -تبارك وتعالى-.

فهذه آية من الآيات الدالة على صدق النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فلو أن هؤلاء المكذبين من العرب عرفوا ذلك وعلموا هذه الآية، إذن لأيقنوا بصدق النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وأنه رسول الله حقًا وصدقا، فما بقي لهم؟ ما بقي لهم؟ يعني لماذا  يكذبون بعد ذلك هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جل وعلا- {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103]، وما أكثر الناس ولو حرصت أي على دعوتهم إلى الإسلام وليصدقوا هذا، أنك رسول الله حقًا وصدقًا وأن هذا الذي تدلهم عليه إنما هو طريق الله لن يؤمنوا، أكثر الناس الذين بعثت إليهم لن يؤمنوا وإنما سيؤمن بك القلة، كما هي سنة الأنبياء من قبلك؛ من قبل النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ ........}[يوسف:103]، أي ولو حرصت على إيمانهم بمؤمنين، وكان النبي حريصًا أشد الحرص على أن يؤمن الناس؛ كل الناس، بل هذا الحرص كان أحيانًا يصل إلى تحمل الغموم والهموم، الذي يكاد هذا الغم يقتل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والله يقول {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]، يتأسف أسف أسف...، حزن حزن...، لتكذيب الناس له، ليس لأنهم كذبوه هو وآذوه... لا، ولكن لِما ينتظرهم، أَسفٌ عليهم، ولذلك قال الله -تبارك وتعالى- له  {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، ولا تحزن عليهم، هذا أمر الله -تبارك وتعالى- فيهم؛ هم لا يستحقون، لا يستحقون الهداية ما قبلوا وردوها وعاندوا فيها فإذن لهم عذابهم، فالله يقول له {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ .......} على هدايتهم؛ بمؤمنين.

{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:104]، يعني أنك لا تسألهم أجرًا على ذلك، هدية مجانية لا يطلب صاحبها شيء، وهدية ماذا؟ ما نقول هدية العمر... لا، هذه الحياة، يدعوهم الله -تبارك وتعالى- إلى الحياة الحقيقية، إلى الجنة والرضوان والفوز؛ إلى الفوز الحقيقي، إلى النجاة من النار، مجانًا ما لك شيء، ما تدفعوا لي شيء، النبي يقول لهم تعالوا لا تدفعوا لي شيئا، أنا لا أريد أجرًا منكم على هذه الدعوة وهذه الهداية وهذا الإرشاد إلى هذا الطريق، هذا أعظم شيء، أعظم شيء، أنت تستشير مهندس، تستشير طبيب، تستشير كذا في قضية جزئية، في مرض أصابك، في شيء تريد أن تبنيه، يقول لك ادفع ثمن هذه المشورة، ادفع ثمن هذه المشورة كذا وكذا، فكيف بمن يدلك على الله، على الجنة، ويرسم لك الطريق ويوضحه لك ويبينه ويفصله ويقول وهو حريص عليك، من يأتيك بالخير؛ بكل الخير، ويرشدك إلى ذلك، ويقول لك كل هذا لا أريد منك جزاءً عليه، مجانًا خذه، خذه مني مجانًا، فالله يقول لرسوله {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ........}[يوسف:104]، لا تسألهم أنت من أجر على هذه الرسالة، {........ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:104]، إن هو؛ الذي جاء به النبي، هذا الدين، هذه الرسالة، ذكر؛ تذكير للعالمين، ذكر لهم؛ من أخذه فهذا قد استفاد به الفائدة العظمى، ومن رده فهذا قد أوجب الله -تبارك وتعالى- عليه الخسار؛ أقيمت عليه الحجة، وللعالمين؛ ليس للعرب وحدهم، وإنما لكل الأمم والشعوب؛ كل العوالم، قد أرسل الله -تبارك وتعالى- رسوله للجميع، وهذا كذلك دليل على صدق النبي -صلوات الله والسلام عليه- المرسل للعالمين، وقد جعله الله -تبارك وتعالى- ذكر للعالمين، فالنبي في حياته لم يمت إلا وكل من على الأرض وصلهم خبره، وآمن منهم من آمن وكفر منهم من كفر، ثم جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الذكر على مدار التاريخ هذا إلى يومنا هذا ذكر للعالمين، حجة قائمة قاطعة وهو النبي الخاتم وحده -صلوات الله والسلام عليه-، {........ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:104].

ثم قال -جل وعلا- مبينًا أن هذا الكافر مهما أتته من آيات غافل، قال {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، وكأين؛ كثير، من آية؛ آيات كثيرة، في السموات والأرض؛ آيات في الخلق وآيات في الناس والأحداث وفي السموات والأرض، كأين من آية؛ تكثير، يعني آيات كثيرة، وهذه الآيات لا حصر لها، الشمس آية، القمر آية، النجوم آيات، السحاب آيات، كل هذا في السماء، ما علمه البشر بعد ذلك من هذا الخلق البديع العظيم آيات عظيمة، أصبحنا مجموعة شمسية عرفنا مجموعة شمسية مرتبط بعضها ببعض بنظام دقيق، مجموعة شمسية مرتبطة بغيرها من المجموعات الأخرى، مجموعات النجوم مرتبطة بنظام دقيق، مجموعات, والمجموعات ترتبط بمجرة واسعة عظيمة، لا مجال لآخرها؛ تحتاج إلى ملايين السنين الضوئية حتى نخرج منها، وكل هذا بنظام دقيق، ثم وجدنا بعد ذلك غيرنا مجرات أخرى، هذه المجموعات الهائلة من النجوم، آلاف المجرات أخرى وكلها تسير في هذه السماء مرتبط بعضها مع بعض، لا تلتقي، لا تصطك، لا يفجر بعضها بعضًا، بل في نظام ونسق بديع، الأرض وما ذرأ الله -تبارك وتعالى- فيها، هذه دورة الماء على هذه الأرض التي يحيها؛ دورة منتظمة صحيحة، نسبة الماء إلى اليابسة أمر في منتهى الدقة، كيف جعل الله هذا الماء وهذه اليابسة في المحيطات والبحار، دورة الماء، تبخيرًا، صعودًا إلى السماء، ثم نزولًا إلى المطر، ثم هذه الدورة، نسبة التبخير منه في الجو، الزرع وما يقوم عليه.

الإنسان كل جزئية منه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، سواء الكيان كله، العين، الأنف، الأذن، ثم دخولًا بعد ذلك في كل تركيب لكل عضو من هذه الأعضاء، العين آية بهذه الجزئيات المركبة فيها، ثم إلى أن تجد أن كل خلية من خلايا الإنسان آية من آيات الخلق العظيم، ثم الدخول إلى داخل الخلية نجد أنها كالمجرة، أصبحت الخلية الواحدة للإنسان في ستين مليار خلية من الخلايا لكل إنسان، كل خلية من هذه الخلايا هي عبارة عن تجمع من العناصر والمواد والخصائص كأنه تجمع نجمي، كأنها مجرة، أبدًا هي صورة المجرة مصغرة في هذا الإنسان،اكتشف الناس الآن مثلًا في داخل هذه كل جينة من الجينات المكتشفة الآن أكثر من ألف وستمائة جينة، كل جينة من هذه الجينات لها خصائص معينة، كل خاصية من خصائص الإنسان في جينة خاصة بها، حتى الأمراض لها جينات خاصة بهذا المرض الذي تحدثه، أمر هذا هائل جدًا، وكل هذا في نظام بديع.

فالله يقول {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، ما تفكر هذا الخلق لما خلق؟ لما رتب على هذا النحو؟ لماذا كان هكذا؟ من الذي أحكمه هذا الإحكام؟ ماذا يريد من هذا الخلق؟ ما الذي يريده هذا الخالق من هذا الخلق؟ لما خلقه هكذا بهذا الإحكام؟ ماذا يريد منا؟ هل يمكن أن يكون خلقنا هكذا عبثًا وسدى؟ نفعل ما نشاء، نأكل ما نشاء، نشرب ما نشاء، نقتل كما نشاء، نفجر كما نشاء، ثم تكون النتيجة والنهاية واحدة، لا. لو كان الأمر على هذا لكان عبثًا وكان هذا سدى، وكان هذا رب لا يستحق أن يكون باسم الرب، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الدخان:38]، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الدخان:39]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}[الحجر:85]، فهذا الرب الإله الذي خلق هذا ما يفكر الذين ينظرون، ولكن الكافر عندما ينظر إلى هذه الآيات لا تساوي عنده شيء، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ........}[يوسف:105]، وقول الله يمرون؛ المرور فقط هو هكذا العبور، سار ولم يلتفت لهذا الأمر، {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}، عنها؛ عن هذه الآيات معرض، عن التفكر فيها، عن النظر فيها، عن ما وراء ذلك، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106].

سنكمل -إن شاء الله- في معاني هذي الآيات، نعيش في ظلالها -إن شاء الله- الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.