الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (292) - سورة يوسف 106-109

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- في ختام قصة يوسف؛ في سورة يوسف، قال -جل وعلا- {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:106-111].

 يخبر -سبحانه وتعالى- في ختام قصة يوسف أولًا بأن إيحاء الله –تبارك وتعالى- لرسوله هذه القصة بهذه التفصيلات وبهذا البيان، وهو ما يوافق ما عند أهل الكتاب في كتبهم والنبي لم يسمع ذلك ولم يقرأه، هذا من أعظم الأدلة لكل أهل الكتاب، للعرب المشركين، على أن محمدا ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، فإن هذه الأخبار لا يمكن أن تؤلف ولا أن تفترى، هذه حوادث وقعت ونقلت وعرفت، وهي عند أهلها الذين نقلوها موجود في كتبهم، النبي لم يقرأ شيئًا من ذلك -صلوات الله والسلام عليه-، جاء بالتفصيل بل الحكم الصحيح في كل ذلك فهذا دليل على أن هذا لا يأتيه إلا وحي من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[يوسف:102]، ما كنت لدى إخوة يوسف عندما تشاوروا في أمر يوسف ماذا يصنعون به، ثم أجمعوا أمرهم على أن يلقوه في البئر وهم يمكرون بأخيهم، ثم قال الله لرسوله {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف:103]، مع وضوح الدليل، مع وضوح الدليل هذا القرآن ووحيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله، لكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم-، من هذه الأمم التي أرسل لها النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- قال {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:104]، يعني هذه الهداية العظيمة والنور المبين والصراط المستقيم المؤدي إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، هذا النبي لا يأخذ أجرًا على هذه الدلالة؛ دلالة الناس وإرشادهم، ما طلب من الناس أجر, وهذا أولًا دليل صدقه، مع ما يتحمل في هذا من المشقة والعنت في البيان وتكذيب الناس، ومع ذلك لا يطلب أجرًا على إرشاد الناس إلى هذا الأمر العظيم، {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}[يوسف:104].

ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن هناك غير القرآن آيات كثيرة، بثها الله -تبارك وتعالى- في هذا الكون؛ في السماوات والأرض، قال {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، ثم قال -جل وعلا- {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، أكثرهم؛ أكثر هؤلاء الكفار المعاندين، يؤمنون بالله إيمانًا جزئيًا، يؤمنون بالله لكن حال كونهم مشركين، قال {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، كالعرب، فالعرب الذين دعاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الإيمان كانوا من أهل الإيمان بالله من حيث أن الله هو خالق السماوات والأرض، يعتقدون بأن الله خالق السماوات والأرض وخالقهم والمتصرف فيهم، كل هذا، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ........}[لقمان:25]، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، فهؤلاء كانوا مقرين بأن الله -تبارك وتعالى- ربهم، لكنهم كانوا يعتقدون بأن هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- لا يتقرب إليه بالأعمال الصالحة والعبادات وحده، وإنما يتقرب إلى كذلك من يزعمون أنهم لهم حظوة وقربى عند الله كالملائكة، قالوا الملائكة بناته وأنهم إذا عبدوهم شفعوا عنده -سبحانه وتعالى-، وكذلك من يدعونه من هذه الآلهة؛ آلهة يصنعونها، يتخيلونها، رجال صالحين يموتون يجعلون لها مثل اللات؛ يجعلون لهم نصيبا، ويرون أن هؤلاء الصالحين وهذه الآلهة المتخيلة إذا عبدوها قربتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، يشركون بالله -تبارك وتعالى- في هذه العبادة والتقرب، فهذا شأن العرب المشركين، النصارى المشركون يؤمنون بالله ويسمونه الأب وأنه خالق السماوات والأرض، وأنه إله عظيم هو الذي خلق السماوات والأرض، لكن يعتقدون بأنه أنجب من مريم ابنه البكر عيسى -عليه السلام-، وأنه كان موجودا لكن الله -تبارك وتعالى- رتب هذا الأمر، أن يولد من مريم ثم بعد ذلك يدعوا، ثم يصلب ثم يحيا بعد أن يصلب، ثم يكون بجوار أبيه بعد ذلك، وأنه الله في زعمهم وأن عيسى وروح القدس ثلاثة هم إله واحد وأنها هذه؛ فيشركون. يؤمنون بالله بينما يعتقدون بأن الأب في زعمهم أنه هو الله، إلا أنهم يعتقدون بأن له ابن وأن هذا الابن صنوه وكفؤه ومثله بل ذاته، يصنع ما يصنع الرب، يحيي، يرزق، يدخل الجنة، يخرج من النار، فجعلوا عيسى ابن مريم صنوا وشريكا وشبيها لله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.

وكذلك أنماط كثيرة من المشركين يؤمنون بالله خالق السماوات والأرض، لكنهم يقرونون مع هذا الإيمان الشرك به -سبحانه وتعالى-، إما الشرك في ذاته إن له ذات كما يقول النصارى، أو الشرك في بعض صفاته كما يقوله كثير ممن يدعون لآلهتهم صفات الرب -تبارك وتعالى، أو الشرك في حقوقه أنه لا يعبد وحده، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ ........}[الأنعام:136]، فهؤلاء جعلوا شركائهم شركاء لله في الحقوق، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يخلق الزرع ويخلق الضرع؛ الأنعام، ولكنهم يجعلون بعض الزرع هذا لله وبعض الزرع لآلهتهم، يتقربون فيه لآلهتهم، وبعض هذه الحيوانات والأنعام يجعلونها لله وبعضها يجعلونها لشركائهم، ثم بعد ذلك حتى قسمتهم هذه الجائرة الباطلة, كيف الله هو الذي يخلق ثم يجعل التقرب إلى غيره! ومع هذا يقولون كذلك إذا احتاجوا أن يأخذوا مما جعلوه لله يجعلوه للأصنام يفعلوا هذا، أما إذا خصصوا شيئًا لأصنامهم وآلهتهم فإنه عندهم يستحيل أن يوجهوه فيذبحونه أو يهدونه لله، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}، مشركون شرك نجس؛ نجاسة قلب، {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ}، كما قال الله -عز وجل-، هذه نجاسة؛ نجاسة قلب، أن يجعل لله الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض والذي الكل عبيده؛ كلهم، ملائكته عبيده، رسله عبيده، هؤلاء كلهم عباد لله، يعني {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93]، كلهم، الملائكة {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}، الملائكة، قال –جل وعلا- {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ........}[الأنبياء:27]، ما يتكلموا قبله، {........ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، وهم؛ الملائكة، من خشيته؛ من خوفه مشفقون، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، فالله -سبحانه وتعالى- لا ند له، لا شبيه له، لا شريك له، لا شريك له في أي حق من حقوقه، فهؤلاء يؤمنون بالله, لكن إيمانهم ملتبس بالشرك، قال -جل وعلا- {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، وهم مشركون جملة هنا هذه الجملة اسمية تقع حالية، يعني حال كونهم مؤمنين بالله حال كونهم مشركين، في الوقت الذي يؤمنون بالله في الوقت الذي هم مشركون به -سبحانه وتعالى-، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106].

وهنا يأتيهم تهديد من الله -عز وجل- ووعيد، يقول –جل وعلا- {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ}، هل أمنوا هذا؟! فالرب الإله -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده الملك كله وله الأمر كله، وهؤلاء المجرمون يستحقون العقوبة بشركهم، بعنادهم، بتكذيبهم بالرسل، فهذا يستحق العقوبة, والعقوبة ممكن أن تأتيه في أي وقت، في هذه الدنيا قبل الآخرة، فهل هذا الذي يفعل هذا الإجرام من معاندة الرب ومن تكذيب رسله ومن الشرك به ومن السعي في هذا الشرك بكل سبيل لإثباته، ومن محاولة إزالة هذا الحق من الوجود، إزالة التوحيد من الوجود وتثبيت الشرك، {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ}، يعني عذاب يغطيهم، الغاشية ما يغطي، غشاء، عذاب من فوقهم يلفهم الله -تبارك وتعالى- به ويغطيهم به، {........ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف:107]، يعني هل أمنوا أن  تأتيهم الساعة بغتة، بغتة؛ فجأة، وهم لا يشعرون لأنها تكون الساعة باقي لحظة وتأتي الساعة والناس في لهوهم، يأكلون ويشربون وكأنه لا شيء، يشوفون كل شيء مستقر كما هو، الشمس مازالت تشرق والقمر منير والنهار هو النهار والليل هو الليل والشجر قائم وهكذا، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «تقوم الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه فما يدخلها في فمه»، يعني في أثناء رفع اللقمة تقع الساعة، فهذا ما في أي بوادر تدل على الساعة فتحذر هذا الآكل، «وإن الرجل ليلوط حوضه ليسقي إبله فما يسقي فيه»، فالناس يكون الناس في أعمالهم، أهل الحاضرة في أعمالهم وأهل البادية في أعمالهم، البدوي في صحرائه قاعد يهيئ الحوض من أجل يسقي إبله، وهذا الذي يأكل هنا، وهذا الذي يأخذ غنمه ويذهب بها ليبيعها، كل الناس في أشغالهم وأعمالهم ما في أي انذار، يعني مع ذلك ما في أي انذار إن والله يسمعوا هزة، رجرجة، أصوات في السماء، صوت قرقعة، صوت تحرك، نجم جاي يضرب الأرض... لا، وإنما كل شيء كما هو فتأتيهم فجأة، كما قال -سبحانه وتعالى- {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[الأعراف:187]، فهذه لا تأتي الناس؛ لا تأتيكم إلا فجأة، تأتي تفجأ الناس.

فهنا يقول الرب -تبارك وتعالى- {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً .......}[يوسف:107]، والبغتة؛ فجأة، تباغت الإنسان، تباغته بمعنى تفاجئه دون أن يكون عنده أي حس وأي علم بها قبل أن تأتيه، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}، بمجيئها، وهذا سيقع وهذا سيقع، وفي الأخرين في الذين يهلكهم الله -تبارك وتعالى- ويعاقبهم قبل هذه الساعة تأتيهم العذاب، يأتيهم العذاب، أهل أحد فوجئوا بالعقوبة الإلهية هكذا، وكانوا قبل المعركة يعتقدون أنهم منتصرون، وأن هذا هكذا، ثم آتاهم الله -تبارك وتعالى- بالعذاب وأوقع لهم العذاب، ثم ...، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}، {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا}[الإسراء:58]، كتبه الله -تبارك وتعالى- في الكتاب، أن يهلك الله وأن يعذب الله القرى المكذبة لرسله وهذا سيستمر؛ سيستمر إلى يوم القيامة، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ }[الأنعام:65]، فهذه عقوبات، فالله -تبارك وتعالى- يقول هؤلاء هل أمنوا هذا؟! هل أمن هؤلاء الناس أن يعاجلهم الله -تبارك وتعالى- بعذاب قبل يوم القيامة أو عذاب يوم القيامة الذي يأتيهم على هذا النحو، {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[يوسف:107].

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، هذه مفاصلة، يعني بعد هذه الآيات؛ آيات القرآن الواضحة البينة، التي تبين أن الرسول لا يمكن أن يكون أتى بهذا القرآن من عند نفسه، إذن هو دليل على صدقه، ثم آيات الكون الذي نشرها الله -تبارك وتعالى- في الكون، ثم بعد ذلك جاء هذا التهديد، ما ذا تنتظر؟ بعد تكذيبك هذا، وظهور هذه الآيات، إذن قل لهم للكفار هذه سبيلي، {........ أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف:108]، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، مفاصلة، ما تريدون الحق، أنا لن أدخل في طريقتكم ولا في دينكم ولن أكون معكم، بل هذه سبيلي التي قد رسمها الله لي وقد شرعها الرب -تبارك وتعالى-، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، ونسبها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن النبي هو الداعي إليها وهو الواقف على رأسها وهو القائد في هذه الطريق، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي}، وهذا مفاصلة؛ هذا اختياري، هذا اختياري أن أسير في هذه السبيل التي هي سبيل الله -تبارك وتعالى-، ونسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- لأن الله -تبارك وتعالى- أقامه على هذا الطريق وأمره أن يدعوا إلى هذا، وقال {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ........}[النحل:125]، فهو يدعوا إلى سبيل الله -تبارك وتعالى-، وسميت هنا سبيله لأنه أصبحت  اختيار النبي، وأنه لن ينحرف ولن يذهب إلى هذا الطريق أو ذاك الطريق، بل هذه هي سبيلي التي اخترتها، هذه سبيل الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ}، هذه مهمتي، أدعوا الناس؛ دعاء الناس يعني يقال لهم هلموا وتعالوا إلى الله، اعبدوه، ودعوته إلى الله -تبارك وتعالى- وتوحيده وعبادته وحده لا شريك له والاستجابة له وتنفيذ أمره.

{أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ}، أنا على بصيرة، البصيرة في الأمر الذي هو يعني التبصر والعلم، يعني أنه قد أخذها عن فقه وعن بصر حقيقي، بصر العين وبصر القلب، بصر القلب أنها باليقين والبرهان، فإن هذا الوحي الذي أتاه هو وحي الله حقًا وصدقًا، هذا جبريل الذي أتاه، وأنه قد رآه رأي العين وهو الذي يخاطبه ويكلمه عن الله -تبارك وتعالى-، وهذه الآيات التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يديه؛ آلاف الآيات، هي آيات من الله -تبارك وتعالى-، وأن هذا الذي هو فيه ليس هذا رأي من الجن، وليس تخيلات وليس تشنجات... لا، هذا دين، هذا دين منزل من الله -تبارك وتعالى- خالق السماوات والأرض، لا شك في هذا الأمر، فيقول قل لهم أنا على بصيرة، {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا}، النبي -صلى الله عليه وسلم-، {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، فالنبي لا شك أنه كان مستبصرًا، متأكدًا، موقنًا، بأن هذا الذي أتاه إنما هو من الله -تبارك وتعالى- وأن هذا دينه، وأن هذا الذي أمامه إنما هو الطريق الموصل إلى جنة الرب -تبارك وتعالى-، ومن إتبع النبي -صلوات الله عليه وسلم- هم على هذه البصيرة، فإن الله -تبارك وتعالى- يقيمهم على هذه البصيرة، في أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقا، وفي هذه أدلته القائمة الأدلة العظيمة، القرآن الذي تحدى فيه الله -تبارك وتعالى- به الأولين والآخرين، ما أجراه الله على يدي النبي من هذه الغيوب المستقبلة التي وقت كما هي، الغيوب الماضية التي هي تمامًا كما وقع في الزمن القديم، وكما هو موجود بأيدي أهل الكتاب الذين عندهم علم من الكتاب، {........ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرعد:43]، شاهد، وقد علم وقد شهد أهل الكتاب؛ من عندهم علم الكتاب من اليهود والنصارى، أن هذا تمامًا هو الذي جاء به موسى، كما قال من البداية ورقة ابن نوفل للنبي، قال ((إن هذا والذي جاء به موسى ينبع من مشكاة واحدة))، وقال عبد الله ابن سلام هذا الكلام، قاله ((يا رسول الله والله إني لأعرفك أكثر من ابني))، أكثر ما أعرف ابني أعرفك، لأن تفصيلات النبي خُلقًا وخَلقًا كانت موجودة عندهم، فلذلك كانت منطبقة على هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فمن اتبع النبي هو على يقين من أن هذا دين الله -تبارك وتعالى- وهذه شريعته.

{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ}، تنزيهًا لله -تبارك وتعالى- عن كل ما يأتي، هنا سبحان الله ما جاء نوع التنزيه، سبحان الله عن كل شيء، عن كل شيء نسبه إليه المشركون مما لا يقضي به -سبحانه وتعالى-، من الولد، من الشريك، من النظير، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}[يوسف:106]، من تكذيب النبي -صلى الله عليه وسلم-، من القول أنه لا دين ولا حكومة وأن هذه الحياة إنما هي حياتنا الدنيا فقط؛ ما في بعث بعد ذلك، تنزيهًا لله -تبارك وتعالى- أن يكون هذا دينه، تنزيهًا لله -سبحانه وتعالى- أن يكون الشأن والحال أنه خلق خلقه سدىً وعبثًا، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115]، {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ}، وسبحان الله عن كل ما لا يليق وعن كل ما وصفه به هؤلاء المشركون المجرمون لله -تبارك وتعالى-، من ولد، من شريك، من نظير، من أنه خلق الخلق ولا غاية ولا هدف، وأنها هي الحياة الدنيا، كل هذا ينزه الرب -تبارك وتعالى- عنه، ثم {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، اعلموا أنني لست مشركًا لله -عز وجل-، وإنما أنا نبي الموحدين فلا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى-، وما أنا من المشركين؛ تعريض لهم لأن دينهم الشرك، دين هؤلاء الذين فاصلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وتركهم دينهم كلهم الشرك، دينهم هو الشرك بالله، إما في ذاته وإما في صفاته وإما في أفعاله وإما في حقوقه، هذا دينهم الشرك، والنبي دينه التوحيد أنه لا إله إلا الله، فالله -تبارك وتعالى- لا شبيه له لا في ذاته ولا في صفاته -سبحانه وتعالى-، وبالتالي لا يشاركه أحد في حقوقه فهو الذي يستحق العبادة وحده، لأنه هو خالق الكل ورازقهم ومدبر شئؤونهم ولم يشركه أحد من هؤلاء الذين يدعى لهم الألوهية، لم يشركه أحد في خلق شيء ولا في التصريف لشيء، ما لله شريك، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يوسف:109]، هنا يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن شأن النبي شأن إخوانه السابقين من الرسل، فليس هذا أمر مبتدع، يعني ليس محمد -صلوات الله والسلام عليه- هو الرسول وحده، الذي جاء بأمر لم يسبقه به أحد قبله... لا، إنما الذي جاء به النبي قد جاء به إخوانه الرسل، فهذه سنة الله -تبارك وتعالى- الجارية في عباده منذ القدم، من نوح أول رسول إلى أهل الأرض جاء إبراهيم، جاء بعد ذلك موسى، جاء في الختام عيسى، بين هذا الأنبياء الكثر، رسول إلى عاد هو هود، رسول إلى ثمود هو صالح، فالنبي ليس هو بدعا من الرسل... لا, [قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ], وإنما هو رسول قد سبقه إخوانه من المرسلين الذين دعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، ودعوة النبي لا تختلف عن دعوة هؤلاء، كلهم دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، قال –جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا}، مثلك، {نُوحِي إِلَيْهِمْ}، فليس النبي عجب في هذا فهو رجل اختاره الله -تبارك وتعالى- وأوحى إليه، لم يرسل الله -تبارك وتعالى- ملائكة ليدعوا الناس إلى دينه وإنما أرسل رجالًا كالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، نوحي إليهم؛ ننزل إليهم الوحي من الملائكة، وهم ينقلون هذا الوحي، مراد الله –تبارك وتعالى-، تشريع الرب، إلى الناس، {نُوحِي إِلَيْهِمْ}، ثم {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، يعني قد اختارهم الله -تبارك وتعالى-، اختار كل الرسل من أهل القرى وليسوا من أهل البادية، القرى؛ القرية المدينة العظيمة التي تقري الناس؛ تجمعهم، أو يقرى فيها الضيف؛ يعني يكرم فيها الضيف، فالإنسان إذا ذهب البر ما يجد خيام متناثرة، فإذا نزل بالمدينة يختلف الأمر، فالقرى هذه المدن العظيمة.

 الله -تبارك وتعالى- كان يختار دائمًا الرسول من أهل القرى؛ أهل الحواضر، لأنها تجمع الناس هذه؛ ثم ليس من الحواضر فقط بل أم الحواضر، يعني دائمًا يبعث الرسول في عاصمة في الحاضرة العظيمة؛ قاعدة القطر أو الإقليم، يرسله هنا حتى يكون ليس  في قرية مثلًا نائية أو في بلد نائية أو في ناحية لا يسمع خبره عند الجميع... لا، في مركز القطر والناحية والأمة.

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، طبعًا خرج بهذا إناث، فإن الله -تبارك وتعالى- لم يبعث امرأة رسولًا قط، وإنما كل الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- من الرسل والأنبياء إنما كانوا رجالًا، قال رجالًا ومن أهل القرى، ثم قال -جل وعلا- {........ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ}[يوسف:109]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}، سؤال يراد به التقرير، والآثار التي خلفت من هؤلاء الرسل موجودة، فأرض العرب؛ جزيرة العرب، فيها آثار رسل، فيها هلاك الله -تبارك وتعالى- لعاد في جنوب الجزيرة، وفيها قرى ثمود مازالت موجودة في شمال الجزيرة وبيوتهم مازالت قائمة، منحوتة في الصخر إلى يومنا هذا، ثم إذا تعدى الأمر فهذه آثار قرى لوط التي أرسل فيها لوط؛ البحر الميت، التي خسف الله -تبارك وتعالى- يعني أفك أهلها، أمطر عليهم هذا المطر الخبيث وهي بقاياه موجودة الآن، فقال -جل وعلا- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، ما هو لون العاقبة؟ العاقبة كانت استئصال، استأصل الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكافرين وأنجى الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، ثم قال -جل وعلا- {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، دار الآخرة هي خير من هذه الدنيا، يعني أكثر ما يمنع الناس من الإيمان بالرسل تشبثهم بهذه الحياة الدنيا وإيثارهم لها، وتركهم ما يحدثهم به الرسل في المستقبل عن الجنة، لا يريدون هذا يريدون الحياة الدنيا، فالله يقول {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، الدارة الآخرة؛ العمل لهذه الدارة الآخرة لأنها دار البقاء والاستقرار، خير؛ أي من هذه الدنيا، {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، لأهل التقوى ولأهل مخافة الرب -تبارك وتعالى-، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، ألا عقل عندكم يدرك هذه الحقائق! أدلة الرسل القائمة البينة ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-، والفوز العظيم فيمن اتبع سبيلهم، ثم الخسارة المبينة في الدنيا والآخرة، فيمن لا يتبع هذا الطريق ألا عقل لكم لتدركوا هذا!.

الحمد لله رب العالمين، نكمل -إن شاء الله- آخر السورة في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.