الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- في ختام سورة يوسف {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:109-111].
يخبر -سبحانه وتعالى- أن شأن رسوله -صلى الله عليه وسلم- محمد كشأن إخوانه الذين سبقوه من الرسل، فإن الله -تبارك وتعالى- قد اختار إلى أهل الأرض رسلًا من نفس الأقوام، رجالا يرسلهم الله -تبارك وتعالى- إليهم، فالنبي ليس بدعًا من ذلك هذه سنة الله -تبارك وتعالى- الجارية، ولم ينزل ملكًا لهداية الناس كما يقترح هؤلاء الكفار، فإنهم طلبوا أن يكون ملك أو يكون مع النبي مُلك أو يغنيه الله -تبارك وتعالى- عن أن يمارس الحياة كما يمارسون، من البيع والشراء والصفق في الأسواق فينزل عليه كنزًا ينفق منه... لا، قال –جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا}، كالنبي، {نُوحِي إِلَيْهِمْ}، فهذه هي ما فضلهم الله -تبارك وتعالى- وميزهم به، أنهم يأتيهم الوحي من الله –تبارك وتعالى- وهو ما يبلغونه إلى الناس، {مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}، وأن الله -تبارك وتعالى- يختارهم من أهل القرى؛ المدن، وليس من أهل البادية، بل في أم القرى، في كل رسول كان يأتي عاصمة البلاد التي يرسله الله -تبارك وتعالى- فيها.
قال -جل وعلا- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}، يعني قد ساروا في الأرض، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، لكن لم يحصل لهم هذا النظر؛ النظر للعظة والإعتبار، فقد رأوا كيف أهلك الله -تبارك وتعالى- عاد، وكيف أهلك ثمود، وكيف أهلك قرى لوط، وهذا أمر كانوا يمرون عليه في تجارتهم ويشاهدونه، {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138]، فينظروا هذه العاقبة السيئة التي قد نالت المكذبين من العذاب والاستئصال وبقايا اللعنة خلفهم تلاحقهم، {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ}، وهذه هي خلاصة دعوة الرسل أنهم يدعون إلى الجنة؛ إلى الدار الآخرة، دار الأمن والراحة والاستقرار والسرور والحبور والبقاء السرمدي الذي لا انقطاع له، هذا هو الفوز المبين، فهذا خير من هذه الدنيا، وأكثر الناس يتركون دين الرسل فقط إيثارًا ومحبة لهذه الدنيا، لا بقاء فيها، { أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207]، ما قيمة هذا؟ ماذا يغني عنه أن يمكث في هذه الأرض ألف سنة، يمتع فيها بصنوف المتاع ثم يكون مآله إلى النار، إذا جاءك ما توعد من النار ماذا يغني عنك هذا المتاع الطويل الذي تمتعته، أما دار الآخرة فخير؛ خير من هذه الدنيا، لأن الدنيا متعة قليلة ثم تنتهي وتضمحل، ثم إذا كانت هناك المسئولية بعد ذلك وبالفعل هناك والخلود في النار فإن هذا النعيم لا معنى له ولا محل له ولا يغني عن صاحبه شيء، (يؤتى بأنعم أهل الأرض من أهل النار فيغمسه الله -تبارك وتعالى- في النار غمسة، ثم يقول له أي عبدي هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول لا وعزتك ما رأيت نعيمًا قط)، يقسم بالله أنه لم يرى نعيمًا قط، علمًا بأنه كان هذا أكثر أهل الدنيا تمتعًا وترفًا فيها، لأنه انتهى ما يغني عنه شيء، إذا شاف هذا العذاب نسي كل هذا، كل الذي كان هذا من النعيم ينساه ولابد، وكذلك يؤتى بأشقى أهل الأرض لكنه من أهل الجنة، فيغمسه الله -تبارك وتعالى- في الجنة غمسة، هذا من أهل الإيمان، لكن من أشقى أهل الأرض من حيث شقوة الحياة وشظفها ومشقاتها وبؤسها وفتنها، كان من الذين تجتمع عليهم الفقر والفتن والبؤس في هذه الدنيا لكنه مؤمن بالله، فيغمس الله -تبارك وتعالى- في الجنة غمسة، يدخل في الجنة غمسة، يدخله الله -تبارك وتعالى- في الجنة لحظات، ثم يقول له أي عبدي هل رأيت شقاءً قط؟ فيقول لا وعزتك، ما رأيت شقاءً قط، هذه الغمسة تمسح كل الآلام وتنسيه كل الأحزان وكل الشقوة التي كانت، فدار الآخرة خير، الله يقول {وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا}، هذا أفضل، هذه أحسن من هذه الدنيا مهما كانت، {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، ألا عقل لكم لتميزوا هذا وتعرفوا هذا الحديث؛ حديث الرب -سبحانه وتعالى-، عن هذه الحقائق وعن هذه العواقب.
ثم قال -جل وعلا- {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[يوسف:110]، سنة الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ}، استيأس الرسل؛ استيأسوا يعني يئسوا، وصلهم الحد يعني أنه تجرى عليهم الفتن والابتلاءات حتى يظنوا أن اليأس من مجيء النصر، {اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ}، واستيأس أكثر من يئسوا، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}، بالبناء لما لم يسمى فاعله، ظنوا هنا بمعنى اعتقدوا، أنهم قد كذبوا؛ كذبوا, جاء في القراءة الثانية كذِّبوا من الرسل، يعني من الأتباع، من الأمم التي أرسلوا إليها، أنه لا مجال لأن يصدق بهم الناس وأن يأتيهم أحد، وأن يرتد الناس إلى دينهم، بل استيأسوا من إيمان الناس يأسًا كاملًا، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ........}[يوسف:110]، في هذا الحال يأتيهم نصر الله -تبارك وتعالى-، فسر مجموعة من السلف {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا}، يعني الخبر الذي أتاهم بالنصر والتمكين لم يكن صادقًا، وذلك تصوير لحالة انقطاع يعني أصبح إنقطاع الرجاء، واليأس تمامًا من أن يأتيهم النصر، ولا شك أن الرسل لا يصلون حد الشك بالله -تبارك وتعالى- والعلم بهذا، ولكن كما قال ابن عباس وغيره قالوا كانوا بشرًا، يعني كانوا بشرا ممكن أن تصلهم إلى هذا الحد، والله -تبارك وتعالى- يصور المرحلة التي يمكن أن يصلها الرسل من يأسهم في أن يأتيهم النصر، وأن هذا لا يأتي إلا في نهاية المطاف، بعد أن يكاد الرجاء أن ينقطع في النصر والتمكين، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ........}[يوسف:110]، جاءهم نصر الله -تبارك وتعالى-.
{فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ}، وفي القراءة الثانية فننجي من نشاء، ينجي الله -تبارك وتعالى- من يشاء، {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، لننظر حال لوط -عليه السلام- متى أتاه النصر، أتاه النصر في حالة من هذه الحالات، حالة يقول فيها للملائكة الذين ظنهم ضيوفه، {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}[هود:80]، فقط في هذا الحال يأتيه نصر الله -تبارك وتعالى-، ولننظر إلى نوح أول رسول كيف ومتى أتاه نصر الله -تبارك وتعالى-؟ أتاه بعد اليأس من إيمان الناس، وأنه قد قيل له {........ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36]، وبعد أن يقول له قومه {........ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116]، ويصور الله –تبارك وتعالى- حاله فيقول لربه {........ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10]، أنا غلبت، قد غلبت، غلبني قومي، فينادي الرب -جل وعلا- {........ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}[القمر:10]، قال -جل وعلا- {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ}[القمر:11]، {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ}[القمر:12]، وكذلك كل الرسل الذين كتب الله -تبارك وتعالى- نجاتهم في نهاية المطاف واهلاك خصومهم، إنما كانت تأتيهم لحظة النصر بعد أيام العسر والشدة والوصول إلى حال الإشفاق، وقد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وقف أحيانًا عند حالات ما بقي إلا أن يأتي نصر الله -تبارك وتعالى- كحصار النبي في الخندق، فإن النبي لما حصر في الخندق -صلوات الله والسلام عليه- وصل المسلمون إلى حافة شديدة، خطوة واحدة للكفار ويستأصل المسلمون، كما قال -جل وعلا- {إِذْ جَاءُوكُمْ}، الذي هم الأعداء، {........ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10]، تظنون أيها المسلمون بالله الظنونا، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، فلم يأتهم نصر الله -تبارك وتعالى- إلا بهذا؛ إلا لما وقع لهم هذا الأمر، ولكن ثبتهم الله -تبارك وتعالى- لنهاية المطاف، { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا }[الأحزاب:21-23].
فالله يبين لنا أن نصره -سبحانه وتعالى- لا يأتي إلا بعد أن يقارب الرسل إلى حالة اليأس من أن يأتي نصر الله -تبارك وتعالى- فيأتي نصر الله، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ........}[يوسف:110]، ينجي الله -تبارك وتعالى- من يشاء من عباده وهم أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، لا يرد الله، لا أحد يقدر يرد بأس الله، بأسه؛ شدته وعقوبته التي ينزلها على أعدائه، {عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}، فاعلي الإجرام.
كذلك هنا في هذه السورة بيان متى جاء الفرج بالنسبة ليعقوب -عليه السلام-؟ فيعقوب نبي من أنبياء الله -تبارك وتعالى- امتحن وابتلي، لكن متى أتاه الفرج؟ بعد المدة الطويلة وبعد اليأس وانقطاع الرجاء في مجيء يوسف، وبعد أن قال {........ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}[يوسف:84]، بقي معلق القلب والأمل بأنه سينفذ وعد الله -تبارك وتعالى- فيه، وموعوده والرؤيا التي رأها يوسف لابد أن تتحقق، جاء هذا النصر بعد هذه المدة الطويلة من الصبر وانتظار فرج الله -تبارك وتعالى-، وكأن هذا تعليم وتوجيه من الله -تبارك وتعالى- لرسوله والمؤمنين؛ انتظروا الفرج، لا تتعجلوا نصر الله -تبارك وتعالى-، ستبتلون وتبتلون وتبتلون ...، وسيأتي نصر الله -تبارك وتعالى- في النهاية، وقد نزلت هذه السورة؛ سورة يوسف، إنما هي من القرآن المكي والمسلمون مازالوا في بداية الطريق، يعانون الأمرين من ظلم الكفار وعنادهم والتضييق عليهم، وكأن الله -تبارك وتعالى- يقول لهم الطريق مازال طويلًا، وإن النصر لن يأتي إلا بعد المعاناة الشديدة حتى يأتي النصر بعد ذلك، لأن هذه هي سنة الله -تبارك وتعالى- الجارية في عباده، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}[يوسف:110].
ثم قال -جل وعلا- {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ}، قصص هؤلاء الأنبياء، قصص هؤلاء الرسل، {عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}، العبرة والاعتبار هو النظر الذي يعبر عن ظاهر الحوادث إلى ما وراء هذه الحوادث، والاعتبار هو أخذ العظة والإتعاظ والفائدة والثمرة من الخبر، ليس مجرد استمتاع لخبر ما وقصة ما وإنما ماذا وارء هذه القصة؟ ما الذي تؤدي إليه؟ ما الفوائد التي نستفيدها من ذلك؟ ماذا نستخلص من النتائج من هذا؟ هذا كله بمعنى العبرة، لقد كان في قصصهم عبرة ولكن لأولي الألباب؛ أهل العقول، اللب؛ العقل، القلب، وذلك أنه وسط الإنسان، القلب في وسط الإنسان وهو محل الفقه والفهم، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46].
الدروس المستفادة من ما قصه الله -تبارك وتعالى- علينا من قصة يوسف دروس كثيرة، وقد ذكرنا بعض هذه العبر في ثنايا التفسير لهذه السورة، والله -تبارك وتعالى- ذكر في كل موضع كذلك محل العبرة التي يستفاد منها، نلخص بعض هذه العبر في ختام هذه السورة، من العبر العظيمة التي نستخلصها:
أولًا: أن الله -تبارك وتعالى- غالب على أمره، في أمر معين، اخبار معين من الله -تبارك وتعالى- مهما كانت الأحداث الأولى بضد هذا الخبر لابد أن يصدق خبر الله -تبارك وتعالى، وأن يتحقق موعوده، فمهما كاد البشر ليحولوا بين هذه الإرادة الإلهية وبين تحقيقها لابد تتحقق، الله غالب على أمره، هذا يوسف -عليه السلام- رأى رؤيا من الله -سبحانه وتعالى- وهو غلام صغير، بأن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا يسجدون له، وفهم يعقوب -عليه السلام- من رؤيا ابنه هذه أنه سيكون نبي وسيكون له هذا الشأن العظيم، وأن الذي سيسجد له الشمس والقمر هي أمه وأبوه والأحد عشر كوكبا هم إخوانه الأحد عشر، وأنه سيسجدون له تعظيمًا وتشريفًا، يعقوب نبي، يوسف سيكون نبي، ويعقوب عرف هذه الرؤيا وقال لابنه {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}، بالنبوة، {........ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف:6]، هذا اخبار، هذا خبر من الله -تبارك وتعالى- جاء عن طريق هذه الرؤيا، التي أراها الله -تبارك وتعالى- لهذا الغلام يوسف -عليه السلام-، وهذا يعقوب -عليه السلام- قد فقه هذه الرؤيا وعلمها.
ثم انظر الطريق الطويل الذي سارت فيه الأحداث إلى وقوع هذه الرؤيا وإلى تحققها، انظر من قام بالعوائق لمنع هذا وكيف أن الله -تبارك وتعالى- أزال كل هذه العقبات، وحقق الله -تبارك وتعالى- مراده في نهاية المطاف، أول من قاموا لمنع ذلك إخوة يوسف، الذين حسدوه وأرادوا أن يحولوا بينه وبين أبيه وأن يغيبوه ويلقوه، لكن الله -تبارك وتعالى- جعلهم في النهاية ...، أولًا صرفهم عن قتله، لأن لو قتلوه لما تحقق مراد الله -تبارك وتعالى-، لو كانوا أجمعوا على القتل وراحوا أخذوه وقتلوه بالفعل ما تحققت الرؤيا، ولا تحقق مراد الله -تبارك وتعالى-، فالله جعلهم في النهاية يغيبوه عن أبيه بهذه الطريقة؛ يلقوه في البئر.
انظر الذين التقطوه؛ التقطوا يوسف من الجب، جماعة من السيارة؛ حرامية، لصوص، لم يوفقوا للخير، كان ممكن أن يوفقوا للخير وأن يقولوا والله هذا ولد وهذا ملقى هنا، طائح في هذه البئر، ولا شك أنه من أبناء هذا المكان، فلنحاول أن نرجعه إلى أهله ولو أعطونا فدية، نأخذ لنا خروفا خروفين في مقابله، نقول لهم والله أنقذنا ابنكم، كان ابنكم طايح هاهنا، كان من الممكن أن يوفقوا إلى شيء من هذا الخير، لكن ما يتم مراد الرب -تبارك وتعالى- من هذا يكون يوسف في هذا المكان، فيأخذوه ويسروا له، يقول {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً}، ثم كان ممكن يخلوه عندهم ويخلوه عبد عندهم ويستعبدوه في الغنم ويظل في الغنم هذه، لكن لا يتحقق مراد الرب، الله -تبارك وتعالى- كتب له شيء لابد يتحقق يفزهدوا فيه، غلام بهذه النجابة وبهذا الفضل وبهذا الجمال والناس أصبحوا الآن هو في مكنتهم، ولكن الله يعميهم عن كل هذا الفضل الذي له، يروح يبيعوه سرًا ويبيعوه كذلك بدراهم معدودة، الله يقول {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}[يوسف:20]، كل هذا ليتم مراد الله -تبارك وتعالى-، ثم ييسر له الله -تبارك وتعالى- بأن يباع في مكان يجد فيه الراحة والعز والتمكين، الله يقول {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}، الله يقول {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ}، كذلك؛ بهذا، هذا الطريق، ما جعله الله -تبارك وتعالى- يباع عند رجل من عامة الناس، أو يأخذه هؤلاء الأعراب الذين سرقوه فيسترقوه... لا، الله مكن له هنا في الأرض؛ أرض مصر ويكون بعيدا، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}، الله غالب على أمره؛ أمر الله –عز وجل-، لا أحد يقدر يغلب ربنا، فإخوة يوسف لم يستطيعوا أن يحولوا بين أمر الله -تبارك وتعالى- ومراده ولا هؤلاء الذين سرقوا يوسف.
وكذلك بعد ذلك الفتن المتعددة التي يبتلى بها يوسف ليظهر الله -تبارك وتعالى- شرفه، فتنة المرأة يقف أمامها كالطود، ثم يظهر بعد ذلك يعني في هذه الفتنة عفة يوسف وكرمه ونبله وحفظه لجميل من آواه في بيته، يقول {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}[يوسف:52]، أخنه؛ يعني أخن زوج المرأة، ثم ثم ثم ...، ما تتوالى هذه الأحداث لتكون في النهاية لنعلم أن الله غالب على أمره، نستفيد من هذا أمورا عظيمة جدًا، وهو أنه إذا أخبر الله -تبارك وتعالى- بخبر لابد يتحقق، مهما كانت كل الظروف وكل الأحوال غير مواتيه للوصول إلى هذا الخبر لابد يكون، أخبر الله رسوله بأنه سيكون النبي والرسول لهذه الأمم كلها وأنه نذير للعالمين، أرادوا قريش ان يقفوا أمام هذا وأن يزيحوا النبي عن هذا الأمر وأن يغيبوه وأن ينتهوا منه، ماذا كان؟ هم الذين غيبوا، الله -تبارك وتعالى- غلب على أمره وأصبح هذا الرسول هو رسول الله -تبارك وتعالى- وذكره في العالمين؛ في كل مكان، وإلى اليوم وإلى نهاية الدنيا، وما يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأخبار إلى آخر الدنيا لابد أن يكون، إلى نزول المسيح عيسى ابن مريم، إلى كسر الصليب، إلى أن يدخل الإسلام في كل بيت من البيوت، موعود الله لابد أن يتحقق، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}، لا حد يقدر يغلب ربنا -سبحانه وتعالى-، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
من الفوائد العظيمة كذلك {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}، هو أن الرسل يبتلون والأنبياء يبتلون بل هم أشد الناس ابتلاءً، كما قال النبي «أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإذا كان في دينه شدة زيد له في البلاء»، انظر هذه طائفة من الأنبياء، هذا يعقوب انظر ابتلاءه، ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر، بأمر فقد ابنه الذي أحبه والذي توسم فيه هذا الخير، جاءه هذا الخبر من الله أنه سيكون له هكذا، انظر تاريخ طويل، ثلاثين سنة وهو في العذاب لفقده وفي النهاية، انظر في الابتلاءات التي ابتلي فيها يوسف، يخرج من بلاء إلى بلاء ومن محنة إلى محنة، ثم لما يستقر له الأمر ويستتب له يجمع الله -تبارك وتعالى- شمله مع أبيه وأمه وإخوانه ويمكن في الأرض، بعدها ماذا؟ يبقى الرحيل عن هذه الدنيا، {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف:101]، ابتلاء، حياة الأنبياء إنما هي سلسلة من الابتلاءات المتصلة، ولما يصل حال الأمن والنهاية يقول له الله استعد للرحيل.
أيضًا من الفوائد أن الصبر والتقوى والإحسان عاقبته الخير، {........ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90]، هذه هي سنة الله في عباده المؤمنين، {........ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف:90]، انظر كل من كان عنده تقوى وصبر فإن الله جعل عاقبته طيبة، وكذلك كل من كان عنده بضد ذلك من الحسد واللف والدوران والحرص على هذه الدنيا والكيد والمكر لابد أن تكون عاقبته سيئة، انظر امرأة العزيز ودورها الطويل في الفتنة، لكن في النهاية لم تنل مرادها ونالت فضيحتها كذلك، ثم بعد ذلك غطت غطت غطت ...، لكن لابد وأن يظهر الله -تبارك وتعالى- الحق، وكذلك النسوة اللاتي فعلن ما فعلن، كل الذين عملوا شرا كانت عاقبتهم شرا، وكل الذين قاموا بالخير جعل الله -تبارك وتعالى- عاقبتهم خير.
الفوائد من هذه السورة والعبر فيها عبر عظيمة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ}، قال -جل وعلا- {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى}، ليست قصة من خيال يفترى ويكون... لا، وإنما كلها أمر حق واقع، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ}، يعني هذه القصة، {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}، جعلها الله -تبارك وتعالى- حتى تصدق ما بين يديه، مما قصه الله -تبارك وتعالى- ومما وقع عند أهل الكتاب القصص هذه نفسها، جاء القرآن يصدق هذا، {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ}، فصل الله -تبارك وتعالى- كل شيء في هذا القرآن الكريم الذي أنزله، أنزل فيه هذه القصص وفصل الله -تبارك وتعالى- كل ما يريده الله -تبارك وتعالى- من عباده ليكون منهم العباد الصالحون، فالله -تبارك وتعالى- علمنا حتى كيف نتطهر، كيف نتوضأ، كيف نحكم فيما بيننا، كل علاقات هذه الأمة بغيرها، كل الشريعة والدين قد أتى به تفصيلًا، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، قال {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً}، هداية إلى طريق الحق والرشاد، وبيان طرق كذلك الضلال حتى يتجنبها العبد، {وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، رحمة لأن العبد المؤمن لما يهتدى هذا الهداية، لما يقرأ هذا، لما يفهم هذا، لما يرى من سبقه من الرسل والأنبياء وما ابتلوا به ويتأسى بذلك؛ كل هذا رحمة، ورحمة لكن لقوم يؤمنون.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا من هؤلاء القوم الذين يؤمنون به، وبهذا يكون قد تم تفسير سورة يوسف -عليه السلام-، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل ما علمنا حافزًا لنا على العمل بما علمنا، وأن يجعل هذا القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وأحزاننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.