الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى-
بسم الله الرحمن الرحيم
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:1-4].
هذه الآيات هي بداية سورة الرعد، وسورة الرعد مكية بكمالها، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الحروف المقطعة {المر}، وقد مضى أقوال أهل العلم في معاني هذه الحروف، ثم أشار الله -تبارك وتعالى- إلى هذا الكتاب؛ القرآن، فقال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}، إشارة منه -سبحانه وتعالى- إلى آيات الكتاب، الكتاب هو القرآن، هو كتاب وهو قرآن، هو كتاب لأن الله –تبارك وتعالى- كتبه في السماء؛ في اللوح المحفوظ، وهو كتاب أنزله الله -تبارك وتعالى- ليكتب في هذه الأرض وليحفظ، وهو أعظم كتاب كتب وقرئ، يقرأه القارئون ويحفظه الحافظون، فهو مكتوب في السماء، مكتوب في الأرض، مقروء في السماء بأيدي سفرة كرام بررة، مقروء في الأرض هذه, بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم، {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}، الكتاب؛ إما الكتاب إشارة إليه بالأف واللام، التي هي بمعنى الاختصاص والعهد، هذا الكتاب المعهود الذي دلنا الله -تبارك وتعالى- عليه، أخبرنا الله -تبارك وتعالى- به، فهذا هو الكتاب المعهود الذي كتبه الله في السماء، وتكلم الله -تبارك وتعالى- به وأنزله على عبده، كما قال -جل وعلا- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، أو الكتاب الذي يستحق أن يسمى كتابا جمع كل الحسن الذي يمكن أن يحويه كتاب؛ هو كتاب الله -تبارك وتعالى-، وفضل كلام الله -تبارك وتعالى- على كلام البشر كفضل الله -تبارك وتعالى- على سائر خلقه، فهو الكتاب على الحقيقة، فالكتاب الذي يجب أن يسمى كتابًا على الحقيقة هو هذا الكتاب، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}، حقيقة.
{وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، هذا الذي أنزل إليك من ربك، وهو ما تضمنه، وهو هذا الكتاب، آيات هذا الكتاب هو الحق، الحق هو الثابت المستقر الذي ضده الباطل الذي هو الزائل، فكل أخباره صدق وكل أحكامه عدل؛ فهو حق بهذا، حق أنه قد تمت كلماته صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}، فكل ما أخبر الله -تبارك وتعالى- به في هذا الكتاب فهو صدق، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، وكل ما حكم الله -تبارك وتعالى- به فهو عدل، {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، ثم قال -جل وعلا- {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}، أي ومع هذا مع أن هذا هو الكتاب؛ الكتاب، الذي ينبغي أن يسمى كتابا، والذي لا يدخل في هذه الصفة الحقيقية إلا هو لأنه كتاب الرب -سبحانه وتعالى-، المكتوب في السماء الذي لا يسقط منه حرف والمنزل على عبده، وهو كلام الله المتضمن لكلام الله -تبارك وتعالى- والمتضمن للحق، ومع هذا فكثير من الناس لا يؤمنون به، مع ما في هذا الكتاب من الأمور العظيمة الهائلة، فإن الإيمان به يتوقف عليه فلاح الدنيا والآخرة، والتكذيب به يستلزم ويؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}، فمع هذا، مع أن الكتاب على هذا النحو؛ كتاب صدق، كتاب عدل، كتاب رحمة، كتاب الله، رسالته، كلامه إلى الناس؛ إلى خلقه، وهو الغني -سبحانه وتعالى- عنهم، الذي يدعوهم إلى مغفرته ورضوانه ورحمته -سبحانه وتعالى- ومع هذا {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}، به، فهذا تعجيب من الله -تبارك وتعالى-، أن يكون كلامه للناس ورسالته للناس على هذا النحو مشتملة، نزلت بهذا الكتاب الحق ومع ذلك ينصرف الناس عنه ويبتعد الناس عنه ولا يؤمن الناس به.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يعرف العباد بنفسه -سبحانه وتعالى- منزل هذا الكتاب، قال {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، الله أكبر، {........ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}[الرعد:2]، يعني يا أيها الناس اعلموا أن منزل هذا الكتاب إنه الله المتصف بهذه الصفات، {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، انظر هذه القوة الكبيرة العظيمة، رفع السماوات وبغير عمد نراها، سموات سبع والذي وصل إليه نظرنا وعلم نظر إليه نظرنا وحواسنا جزء قليل من هذه السماوات، وما بعد عنا وما خفي عنا منها أعظم، والذي وصلنا أمر هائل جدًا، نحن الذين نسكن هذه الأرض الصغيرة في مجموعة تسمى المجموعة الشمسية التي ترتبط بهذه الشمس، أمنا التي نرتبط بها؛ بمجموعتها، نحن هذه المجموعة الكواكب نحن جزء صغير الشمس أكبر من مليون مرة، هناك بعض النجوم أكبر منا، بعض الكواكب التي هي من مجموعتنا، كل مجموعتنا بالنسبة إلى ما ورائها من المجموعات في دائرة المجرة الواحدة نقطة صغير في فضاء وفي محيط هائل جدًا، قطرة من بحر، ثم مجرة هذه بعدها آلاف المجرات وكل منها يحتوي على ملايين الملايين من هذه النجوم، التي بالنظر إلينا لا نشكل نحن حبة رمل من صحراء مترامية الأطراف، فهذه السماوات رفعها الله -تبارك وتعالى- ووضعها في مكانها بغير عمد، العمد جمع عمود، ثم قال {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، إما بغير عمد ترونها؛ ترونها تكون هذه صفة بغير عمد يعني أنها بأعمدة لكن لا ترونها، أو بغير عمد ترونها كذلك ترونها وتنظرون فترون أنها ليست بأعمدة قائمة، وسواء كان بأعمدة لا نراها أو أنها بغير أعمدة أصلًا ونراها كذلك أنها بغير أعمدة، فكل هذا أولًا دليل على قدرة الرب -تبارك وتعالى-، ولا شك أن الأكمل في القدرة أنها بغير عمد أصلًا، وإنما أقامها الله -تبارك وتعالى- بما أقامها به، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41]، فالله يمسك السماوات والأرض عن الزوال، فهي ممسوكة بقدرة الله -تبارك وتعالى-، هذه الشمس التي ترفع في هذا المكان وتبقى في هذا المكان وتدور فيه وتنتقل فيه، أرضنا التي نحن عليها وأصبحنا هذا مشاهد نحن فوق هذه الأرض بمحيطاتها، بجبالها، بناسها، بعماراتها، بكل الساكنين عليها، ونحن كرة صغيرة معلقة في هذا الفضاء، ممسكة بدون أن يكون هناك أعمدة توضع عليها هذه الأرض، وهي في مسارها لا تختلف عن هذا المسار ما نقول قيد أنملة، ولا جزء من آلاف الأجزاء من الملليمتر، فهذا القدرة الهائلة التي رفعت هذه السماوات التي فوقنا، بل رفعتنا ونحن جزء من هذا، وكل هذا قائم بغير عمد ترونها.
الرب الذي صنع ذلك ورفع هذه السماوات بغير أعمدة وأقامها -سبحانه وتعالى- في هذا الفضاء، بقدرته وإحكامه لا شك أنه رب عظيم كبير، لا يمكن للعقل أن يحيط بقدرته وأن يحيط بعلمه وأن يحيط به، أي عقل ولا عقل الملائكة ولا عقل أي المخلوقات، كما قال الله -عز وجل- في الملائكة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، لا يحيط أحد علمًا بالله إلا الله -سبحانه وتعالى-، ومهما بلغنا في الفكر لنصل إلى معرفة كنه قدرة الله ومدى هذه القدرة والمدى الذي تنتهي إليه لا يمكن لنا أن نصل إلى هذا، فإن القدرة؛ قدرة الرب -تبارك وتعالى-، وعلمه العظيم أنه لا يمكن لهذا البناء أن يكون قائمًا بدون قدرة هائلة وقوة هائلة، وكذلك بعلم هائل وحكمة هائلة، فإن كل ذرة وكل جرم من هذه الأجرام موضوع في مكانه المناسب تمامًا، ولو اختل أي جزء من هذه الأجزاء عن مكانه لحصل فساد وحصل اصطدام {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ........}[فاطر:41]، ثم أنه يقيم هذا الخلق كله ويسير في هذه السنين الطويلة، العمر الطويل، عمر السماوات والأرض الذي لا نعلم لها بداية، وبالتالي كذلك علمها عند الله -سبحانه وتعالى-، وهي تسير في هذا النسق البديع لا تتعداه، أخبر الله –تبارك وتعالى- أن هذا لا يثقله ولا يكرثه ولا يتعبه، قال {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا}، لا يئوده؛ لا يثقله ولا يكرثه، حفظ السماوات والأرض -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}، الله -تبارك وتعالى- يعرفنا بنفسه أنه الله الذي فعل هذا، وعندما ننظر إلى هذا الفعل وهذا الخلق من الله -تبارك وتعالى- لا شك أن كل ذي لب وكل ذي عقل يقدر قدرة الرب، يقدرها ولكن لا يقدرها، لا يستطيع أن يصل إلى حقيقة قدرة الرب وعلمه وحكمته -سبحانه وتعالى-.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، العرش سقف هذه المخلوقات كلها، فالله خلق سبع سماوات طباقًا وفوق هذه السبع يأتي كرسي الله ويأتي عرش الله -تبارك وتعالى-، العرش قال فيه النبي لا يقدر قدره إلا الله، لا يصل شيء من حواسنا إلى هذا، وصلنا علمنا بالعرش إنما هو من تعليم الله -تبارك وتعالى- لنا وتعليم الرسول، وإلا فبعلومنا نحن وبإمكانياتنا لم نصل بعد إلى أن نعرف العرش، لا نراه، لا نحسه، لا ترصده أجهزتنا، هو فوق هذا، فهو فوق هذه السماوات ويقول النبي لا يقدر قدره إلا الله، يعني لا يستطيع أن يستوعب ويعلم مقدار هذا العرش إلا خالقه فقط؛ إلا الرب -سبحانه وتعالى-، لا يوجد مخلوق في كل هذا الوجود؛ في كل هذا الخلق، يستطيع أن يقدر قدر العرش، وإنما لا يقدر قدره يعني يعلم عظمته وكبره واتساعه إلا خالقه -سبحانه وتعالى-، واستواء الله -تبارك وتعالى- على العرش؛ الاستواء في اللغة معلوم، وهو العلو والارتفاع، استوى على الشيء علا وارتفع عليه، كما في قول الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للمخلوق {........ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}[الزخرف:12]، {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}، تستووا على ظهوره؛ استويت على ظهر الفلك يعني علا عليها، كما قال الله -تبارك وتعالى- لنوح {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:28]، استويت أنت ومن معك على الفلك يعني ركبتم علوتم السفينة وركبتموها، هذا بالنسبة لاستواء المخلوق، وأما استواء الخالق -سبحانه وتعالى- فهذا كسائر صفاته هذا أمر يليق بذاته، نسبه الله -تبارك وتعالى- لنفسه فهو حق، كل ما نسبه الله ووصف به نفسه فحق لكن كيفيته لا تعلم لنا، فالله نسب لنفسه الكلام وأنه يتكلم وأنه ينادي، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10]، نادى ربك موسى، وقال -جل ووعلا- {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، وأخبرنا النبي أن الله كلمه وهو في السماء، فقال «يا محمد إني افترضت عليك وعلى أمتك في اليوم والليلة خمسين صلاة»، فالله يتكلم -سبحانه وتعالى- بما شاء كيف يشاء، لكن كيف يتكلم؟ كيف يسمع؟ كيف يبصر؟ كيف يستوي؟ كيف ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ كل هذه الكيفيات غير معلومة، وذلك أن ذات الله –تبارك وتعالى- غير معلومة لنا، فنثبت الصفة ولكن ننفي الكيفية، ما نعرف كيف هذا، وفي الأثر المشهور عن مالك ابن أنس إمام دار الهجرة -رحمه الله- عندما جاءه رجل فقال له الرحمن على العرش استوى؛ كيف استوى؟ فقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، يعني السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، فالله أخبرنا أنه بعد أن خلق السماوات والأرض وأنه أقامها على هذا النحو بغير عمد نراها، قال {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، الاستواء؛ هذا فعل الله -تبارك وتعالى- صفة، يليق بذاته -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، التسخير؛ التذليل، سخر الشمس والقمر يعني جعل الشمس والقمر كلٌ مسخر، وتسخير هذا لأهل الأرض بالذات، سكانها، عمار هذه الأرض، سخر الشمس جعلها مخلوق مدبر، مسير، نافع النفع العظيم لعباده، من الضوء، من الحرارة، فهذا العنصر الأساس في وجود الحياة على هذه الأرض، وكذلك القمر سخره الله -تبارك وتعالى- هذا تابع من توابع الأرض؛ يدور حولها، وسخره الله -تبارك وتعالى- في مداره، في مساره، بالتحديد الدقيق، بالحسبان، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، أمر دورانهم وسعيهم أمر محسوب بغاية الدقة، بعدًا وقربًا من الأرض، دورة حول الأرض، دورة للأرض حول نفسها، دورة للقمر حول الأرض، هذا أمر محسوب تمامًا، فالله جعل هذا تسخير؛ سخرهم وأقامهم، وبهذا التسخير قامت حياتنا، يعني توقفت حياتنا على هذا السبب من هذه الأسباب العظيمة لخلق الله -تبارك وتعالى-، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، كل منهما يجري، جريان الشمس بمجموعتها تسير والقمر حول الأرض يسير، لأجل مسمى؛ هو يوم القيامة، هذه النهاية التي ينفرط فيها هذا العقد، كما قال -تبارك وتعالى- { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ }[القيامة:7-12]، فهذا هو الوقت الأجل المسمى، وأجل سماه الله مسمى لأنه مذكور، سماه الله أجل محدد؛ حدده الله -تبارك وتعالى- وسماه، في اللحظة المعينة، الساعة المعينة، اليوم المعين.
هذا مكتوب عند الله -تبارك وتعالى- ومعلوم عند الله، لكن الله -سبحانه وتعالى- شاء ألا يطلع عليه أحدًا من خلقه قط، لا ملك مقرب منه ولا رسول ولا ينزله على قلب ولي من أوليائه ولا صفي من أصفيائه... لا، وإنما استأثر الله بعلمه -سبحانه وتعالى-، حتى الملك نفسه الذي ينفخ في الصور ليكون البداية والفعل المؤثر لهذا الأجل، الذي يفرط هذا العقد { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ }[الانفطار:1-4]، هذا الحدث، الذي يفعل هذا وهو النفخ في الصور، { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ }[الحاقة:13-18]، فهذا الأجل الذي سماه الله -تبارك وتعالى- لنهاية بقاء الشمس والقمر في هذا المسار وفي هذا التسخير وفي هذا التذليل.
{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ}، الله -سبحانه وتعالى-، هذا من صفة الرب -تبارك وتعالى-، أنه خلق هذا الخلق وهو الذي يدبر الأمر، الأمر بالألف واللام؛ كل الأمور، استغراقا، كل أمر كوني الله -تبارك وتعالى- هو الذي يدبره وهو كل ما يقع في ملكه، كل ما يقع في ملك الله -تبارك وتعالى- هذا شأن من شئون الله -عز وجل-، مهما كان الذي يوقع هذا الفعل ملك، جن، الإنس، الطير، الحيوان، كل شيء لا يتصرف ويتحرك ويتقلب في أي أمر من الأمور إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، والطير صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الله، فالله هو الذي يمسكها -سبحانه وتعالى-، { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم:42-55]، {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:26-27]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}[الإنسان:31]، {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56].
فالأمر الكوني القدري كله له، لا يقع في ملكه -سبحانه وتعالى- شيء إلا بأمره الكوني القدري، من خير وشر، من رفع وخفض، من عز وذل، من غنى وفقر، من مرض وصحة، كله بأمره -سبحانه وتعالى-، فهو الذي يدبر شئون عباده {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}، يغني فقيرًا، يفك عانيًا، يصح مريضًا، كله بأمره -سبحانه وتعالى-، وكل شئون العباد في يده -سبحانه وتعالى-، هو شأنه -جل وعلا-، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ}، فهذا كذلك من صفته -سبحانه وتعالى- أنه يفصل الآيات، تفصيل الآيات هنا هذه الآيات المنزلة، هذه الآيات المنزلة هو التي يفصلها -سبحانه وتعالى-، بمعنى أنه يبينها هذا البيان ويفصل بين كل معنى وأخر حتى تتضح الأمور ولا تختلط، فهذا من تفصيله -سبحانه وتعالى-، فهذه الآيات؛ آيات الله -تبارك وتعالى- مفصلة، انظر كيف فصل لنا الآيات في هذا الكتاب المبين الواضح المفصل المبيِّن لكل شيء، فهذا كذلك من صفته -سبحانه وتعالى- وهذا من رحمته بعباده أن فصل لهم الآيات على هذا النحو، دعوة لهم، تحذيرًا لهم، ترغيبًا لهم، بيانًا لما ينفعهم، بيانا لما يضرهم، تحذيرا من هذا الأمر، ترغيبا، ترهيبا، كل هذا منه -سبحانه وتعالى-.
{لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}، يفصل الآيات على هذا النحو فيبين آيات قدرته وخلقه -سبحانه وتعالى-، ويبين آيات تشريعه لعلكم أيها الناس بلقاء ربكم توقنون، لعل بحسب العبد، لأن هذه أسباب الله -تبارك وتعالى- بذلها للعباد ليبين لهم، والعبد إذا هداه الله -تبارك وتعالى- ووفقه انتفع بهذه الأسباب، وإذا أضله وأعمى بصره لم تفده هذه الأسباب شيئًا، {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}، يقين، فإن الذي يعلم قدرة الرب على هذا النحو إذن لا يعجزه أن يعيد هذه الناس إلى الحياة مرة أخرى، وهذا يظهر قلة عقل الكافر الذي يحيل أن يعيده الله -تبارك وتعالى-، فانظر إلى خلق الله القائم أليس الذي خلق هذا الخلق القائم قادر على أن يعيده مرة ثانية، كذلك أن الذي خلق هذا الخلق العظيم البديع الذي رفع السماوات بغير عمد نراها وثبت أركان خلقه على هذا النحو، إذن لا يمكن أن يكون خلقه هذا عبثا وسدى لابد أن يكون لحكمة، فأن يترك الناس يكفرون به ويسبونه ويشتمونه ولا يطيعون رسله ولا يتخذون طريق إليه -سبحانه وتعالى- ويفعلون المنكرات والأذى ولا يحاسبهم على ذلك يكون هذا عبثا وسدى، فقول الله {يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}، إذا علمتم هذه الآيات مفصلة على هذا النحو فإن هذا قد يحملكم؛ لعله أن يحملكم على أن توقنوا بلقاء ربكم، إن هذا حتم أن الذي خلق هذه السماوات والأرض لابد أن يجمع عباده، كما فهم هذا المؤمنون فقالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ}، سبحانك أن تكون خلقت هذا باطلًا، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191]، فلا يمكن أن يكون الله قد خلق خلقه هذا سدى وعبثًا.
ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الرعد:3]، سرد الله بعد ذلك إضافة لهذه الآية آيات لبيان عظمته وقدرته وخلقه، تعريفًا منه -سبحانه وتعالى- بنفسه لعباده -جل وعلا-، لعلهم أن يتخذوا الطريق إليه.
نكمل هذه الآية في حلقة آتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.