الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
يقول -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:3-4].
هذه الآيات من سورة الرعد هي في سياق تعريف الرب -سبحانه وتعالى- عباده بنفسه -سبحانه وتعالى-، ليتخذوا الطريق إليه -جل وعلا-، ويحذروا عقوبته ويرجوا رحمته -جل وعلا-، فيصف نفسه -سبحانه وتعالى- قال {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ}، مدها؛ بسطها وأطال فيها -سبحانه وتعالى-، فالأرض ممدودة مبسوطة، {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}، جعل في هذه الأرض رواسي وهي الجبال، جعل الجبال لترسوا هذه الأرض، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه جعل ذلك حتى لا تميد بنا بمعنى أنها تميد، تميل وتنحرف وتنزلق، وهذا يدل على أن الأرض ليست ثابتة وإنما هي معلقة، وبالفعل علم الناس بعد ذلك وبالنظر أن هذه الأرض إنما هي مرفوعة، كوكب صغير يدور حول هذه الشمس، وثباتها يعني تسير في مدارها ثابتة. فالله -تبارك وتعالى- ثبتها بهذه الجبال الذي وضعها في هذه الأماكن، فأصبحت كالثقل الذي يوازن حركتها ويجعلها ثابتة في مسارها وفي مدارها، قد علمنا بأن الأرض الآن لها حركتين، حركة تدور فيها حول محورها؛ نفسها، وفي نفس الوقت حركة أخرى تدور بها حول الشمس، في مدار إهليجي يدور حول الشمس مرة، ينهي هذه الدورة الكاملة مرة في العام، الذي هي العام الشمسي، وأما المرة التي تدور بها حول محورها فإنها تدور دورة كاملة حول المحور في الأربع والعشرين ساعة، اليوم والليلة، فالله -تبارك وتعالى- جعل هذه الجبال أوتاد أرسى الله -تبارك وتعالى- به هذه الأرض، أمنا التي نعيش عليها لتستقر في دورتها هذه حول نفسها وحول الشمس.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا}، جعل في الأرض أنهار، وهي كذلك أنهار متعددة، من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، ومن قمم الجبال إلى السهول والسفوح، ومن أماكن المطر الدائم إلى أماكن أخرى، والأنهار شريان الحياة، هذا شريان حياة البشر، عليها زراعتهم, وزراعتهم يعيشون عليها وحيوانهم يعيشون عليها، والله -تبارك وتعالى- يسوق هذه الأنهار، يسوقها من أماكن المطر يهبط فيها طيلة العام إلى أماكن جرز؛ أرض جافة قليلة الأمطار، كما قال -تبارك وتعالى- {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}[السجدة:27]، ومن أظهر ما ينطبق عليه هذه الآية {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ}، نهر النيل، فإن نهر النيل يساق الماء فيه من جبال الحبشة ومن أوساط أفريقيا؛ خط الإستواء، ثم يساق في وسط أرض جرز؛ صحراء قاحلة في أرض مصر، فإن أرض مصر قليلة الأمطار، ولا ينبت فيها نبات؛ عشب في صحرائها، ثم يشق هذا النيل هذه الصحراء فيقيم الجنان الخضراء، جنة من جنان الله -تبارك وتعالى- في أرضه، الله -تبارك وتعالى- يسوق الماء آلاف أكثر من ألف، آلاف الكيلومترات يمشي حتى يحيي الله -تبارك وتعالى- به هذه الأرض الجرز، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}[السجدة:27]، ألا يبصرون وينظرون قدرة الرب -تبارك وتعالى-، انظر كيف يسوق الماء من هنا؛ من جبال الحبشة، ومن بحيرة فيكتوريا في وسط إفريقيا تجري، من الذي ساق هذا ورتب هذا؟ إنه الله -سبحانه وتعالى-.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، من كل الثمرات، لو جاء المعدد ليعدد ما جعل الله -تبارك وتعالى- من الثمار لأهل الأرض لاحتاج هذا كتاب كامل، فالأعناب والتين والرمان والتفاح وصنوف الفواكه؛ الثمار متعددة، وكذلك متغيرة الأشكال والألوان والطعوم والخصائص، من كل الثمرات على اختلافها، {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، جعل من هذه الثمرات ومن هذه الأشجار زوجين اثنين، قيل زوجين اثنين يعني ذكر وأنثى، فهناك الفحل في النخل وهناك النخلة الأنثى، إما يكون شجر على هذا النحو؛ شجرة مذكر، شجرة مؤنث، وإما أن تكون الزهرة نفسها المذكرة والمؤنثة، وكذلك زوجين اثنين من كل الأنواع، فليس هناك شجرة فردى فقط، وإنما أنواع متعددة، فالبرتقال أزواج والنخل أنواع وأزواج، فالله -تبارك وتعالى- جعل من كل هذه الثمرات قال زوجين اثنين؛ ذكر وأنثى، وهذا كذلك لينظر الناس ويعلم أن هناك خالق، فإن هذا الخلق مختلف وليكون في النهاية متوافق هذا من أدلة أن هناك اختيار، وأن هناك من وراء هذا الاختيار خالق هو الذي خلق هذا وهو الذي دبر هذا -سبحانه وتعالى-، وكذلك دليل على أن هذا الخالق لا يكون إلا واحدًا؛ فردًا -سبحانه وتعالى-، فهو {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ}[الزخرف:12]، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49]، والله هو وحده -سبحانه وتعالى- الفرد الأحد الصمد، الذي لا ند له ولا شبيه له ولا زوجة له ولا شريك له -سبحانه وتعالى- ولا صنو له.
{وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}، ثم قال -جل وعلا- {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}، أن هذا من فعله كذلك -سبحانه وتعالى-، أن هذا من فعله وخلقه، يغشي؛ يغطي، يجعل الليل يغطي النهار، يغطي النهار؛ يغطي مكانه، فالأرض تكون هذا المكان فيه نهار والشمس مشرقة فيه ثم يأتي الليل خلف النهار، تهرب الشمس؛ تغرب الشمس، ويأتي الليل فيغطي مكانها وهكذا، وهذا عمل مستمر، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا}، فالليل راكض في إثر النهار، كأنه جيوش الظلام تتبع فلول الضوء الهاربة؛ والليل يتبعها، وهذه الحركة المستمرة الدائبة على سطح الأرض، {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}، فالذي جعل الليل يغطي المكان الذي فيه النهار هو الرب الإله الخالق -سبحانه وتعالى-، الذي لا إله إلا هو، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، آيات عظيمة كبيرة كثيرة، الآيات جمع آية، والآية هي الدلالة الواضحة البينة، يعني إن في ذلك لآيات في هذا الخلق كله آيات، على قدرة الخالق، على عظمته، على رحمته، فإنه رحمة بعباده الليل يجي مع النهار، النهار رحمة والليل رحمة وكلاهما لابد لنا منه، ولو أن ليلًا وحده انتهينا, ولو نهارًا وحده انتهينا، فمن رحمته -سبحانه وتعالى- كما قال -جل وعلا- {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ........}[القصص:73]، ليل ترتاح فيه والنهار لتشتغل فيه بعملك، فهذا من تمام ومن كمال رحمته بعباده -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، لقدرته، عظمته، علمه، إحسانه -سبحانه وتعالى- بخلقه، رحمته بهم، {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، لكن لمن عندهم فكر، يعملون عقولهم ويفكرون بها في هذه الآيات التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، مفهوم هذا أن من لا فكر له ولا عقل له لا يستخدم هذا، فقد يرى هذه الآيات ويمر عليها وهو لا يأبه لها، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، لا يفكر لماذا هذا مخلوق؟ لماذا خلقه؟ من الذي خلقه؟ ما مصير ذلك؟ هل يمكن أن يكون هذا الخلق عبثا وسدى؟ لا ينظر في هذا ولا يفكر فيه ولا يتكلم فيه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، فهو محصور هذه الآيات كأنها لقوم يتفكرون فقط، إذن من لا يتفكر لا تصبح هذه الآية عنده آية، فيرى الشمس ويرى القمر ويرى هذا ويرى ...، ويرى الجبال رواسي ويرى الأنهار ولا يفكر في شيء من ذلك.
كذلك من آيات الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:4]، {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ}، قطعة ولكن هذه القطع مختلفة، تجد أرض نقية خصبة طيبة، وتجد أرض سبخة مالحة، وتجد أرض صلبة جباء، أرض حصباء، فهي قطع متجاورة ولكن مختلفة، وهذا الاختلاف والتنوع دليل على الاختيار، دليل على أن الرب -سبحانه وتعالى- مختار، ثم فيها أدلة على الحكمة العظيمة، وعلى الابتلاء والاختبار، فإن الذي يوجد في أرض جيدة غير الذي يوجد في أرض غير جيدة، هذا يبتلى بهذا كما قال الله –عز وجل- {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}[الأعراف:58]، {كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ}، ناس في أرض خصبة لعلهم أن يشكروا، وناس في أرض أخرى نكدة ما يخرج زرعها إلا بنكد لعل هذا يصبر، فهذا يبتلى بالصبر وهذا يبتلى ليشكر، والله يصرف أحوال عباده على هذا النحو، كما يغني هذا ويفقر هذا وهكذا، من التصريف هذا والتنويع لتتنوع ألوان ابتلاء الله -تبارك وتعالى- للعباد، فالأرض قطع متجاورات لكنها مختلفة، {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ}، خلق الله -تبارك وتعالى- جنات من أعناب، جمع عنب، مختلف كذلك الأعناب، أعناب فيه ألوان وأشكال، عنب أبيض وعنب أسود وعنب بنفسجي وعنب حبه فيه وعنب ليس فيه بذره وعنب مستطيل وعنب مستدير، ألوان وأشكال يختلف ألوانها وخصائصها وطعومها، وهذا أيضًا دليل على الاختيار وعلى أن هناك رب مختار -سبحانه وتعالى-، وينوع ويصرف في خلقه هذا التصريف، {وَزَرْعٌ}، زرع مختلف، الزرع هذا ما يحصى وهذا ألوان وأشكال، {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}، نخيل صنوان يكون الصنوان الذي هو يعني لهم أصل واحد، فتخرج النخلة ويخرج لها فسائلها وتكون منها، فهي منها أمها هذه، برحية يطلع جنبها فسيلتها تكون منها، هي كأمها تمامًا، وإذا ترك لتثمر هذه وتثمر هذه تجد نفس الثمرة، نفس ثمرة هذه هي ثمرة هذه، {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ}، غير صنوان؛ غير متشابه، أنواع مختلفة، فمئات بل ألوف الأنواع من النخيل، تمور مختلفة.
{يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ}، تكون فيه قطعة أرض واحدة وتسقى بماء واحد، ولكن الله -تبارك وتعالى- يخالف بين خصائصها، قال -جل وعلا- {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ}، نجعل هذا النوع من التمر أفضل من هذا النوع، هذا بارد، هذا حار، هذا حلو كثير الحلاوة، هذا أقل حلاوة، هذا جاف صلب وهذا لين، هذا الاختلاف على هذا النحو والخالق واحد -سبحانه وتعالى- وقد يكون المؤثرات واحدة، هذا نخل وهذا نخل كله نوع واحد وأرض واحدة وماء واحد، ولكن الله –تبارك وتعالى- يخالف هذه النخلة التي جنب هذه النخلة، هؤلاء ليسوا صنوان فيختلف طعوم هذه عن طعوم هذه، {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ}، إن في ذلك؛ هذا المذكور كله، لآيات؛ جمع آية، لكن {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، لقوم عندهم عقل، يستخدمون عقولهم التي أعطاهم الله -تبارك وتعالى- في التفكير في آيات الله هذه، فالذين يستخدمون هذا العقل وينظرون هذا النظر يجدون هذا خلق عظيم يدل على عظمة الخالق، عظمته، قدرته، علمه -سبحانه وتعالى-، كذلك رحمته بعباده، أكثر من الرحمة أنه الإحسان، يستطيع الله -تبارك وتعالى- أن يخلق لعباده نوع من الطعام، نوع لا يتغير ويأكلونه وانتهى الأمر، لكن أن ينوع لهم هكذا من الأمر اختلاف هذا الثمرات على هذا النحو واختلاف تمور، بس نوع واحد لكنه مختلف هذا الاختلاف، الحدائق هذه المبهجة، الثمار المتغيرة، نوع من الإلطاف والإتحاف، يعني كأن الله -تبارك وتعالى- يتحبب لعباده بهذا الخلق، الذي يخلق لهم من هذه الزينة ومن هذا المتاع على هذا النحو، فمع خلقه إحكامه خلق هذه الأرض بالإحكام الذي لا يمكن أن تتم حياتهم إلا به، كأن يكون هناك فيها أنهار، فيها رواسي، فيها الشمس في مكانها، القمر في مداره، هذه أمور لابد لها أن تكون على هذا النحو لتتم الحياة، ثم بعد ذلك الإلطاف والإتحاف، ما يخلقهم ويعطيهم لون واحد من الطعام، لون واحد من كذا، وهذا خلاص بس لمجرد أن يعيشوا على هذا النحو... لا، بل ينوع لهم من هذا الرزق الكثير الأنواع المختلفة، كما قال -جل وعلا- {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ........}[إبراهيم:34]، مما نعلمه ومما لا نعلمه، فهذا التنويع والتبديل والتغيير والإتحاف كله أدلة كذلك على إحسان الرب -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، وإن تعجب؛ يعني من أمر يستحق العجب فإن أعجب الأمر قول الكفار {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، يعني هذا الإنسان الذي خلق هذا الخلق ووجد في هذه الأرض وهو يرى ما فيها من قدرة الرب -سبحانه وتعالى-، أولًا على خلقه هو وكيف أنه مخلوق من هذه النطفة وتدرج في الخلق على هذا النحو حتى أصبح رجل على هذا النحو، ومن هذه الشمس التي فوقه، من هذا القمر الذي يراه، ومن هذه الأرض التي هو عليها بجبالها ومحيطاتها وأنهارها وهذه الآيات المذكورة، وهذا الزرع المختلف المتنوع على هذا النحو الذي يدل على خالق عظيم لطيف بعباده، هو رازقهم، هو مطعمهم -سبحانه وتعالى-، هل من ينظر إلى هذا الخلق وينظر لنفسه يتعجب أن يعيده الله إلى الحياة مرة ثانية إذا مات، فهذا أمر عجب، هذا العجب هو أن يكون هذا الإنسان المخلوق في هذه الأرض بهذا، والذي ينظر إلى هذا الخلق على هذا النحو يحيل على الله -تبارك وتعالى- أن يعيده مرة ثانية، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، هذا قول في الحقيقة يثير أبعد العجب، إذ كيف يحيل الإنسان ويقول بأن الله لا يستطيع أن يعيده مرة ثانية، أو أنه يقول يستطيع أن يعيدنا ولكن لن يعيدنا وأنها هي فقط حياتنا الدنيا، لأنه إذا قال لن يعيدنا حتى وإن كان مؤمن بأن الله قادر على هذا فقد سب الله -تبارك وتعالى- وشتمه، كيف ما تعاد! تكون هذا الله خلق هذا الخلق على هذا النحو، هذا الخلق العظيم، وخلق الإنسان على هذا النحو ثم تركه سدى لا يأمره ولا ينهاه، ثم لا يكون للمحسن جزاء ولا للمسيء جزاء، يبقى المحسن أطاع أمر الله -تبارك وتعالى- وعبده وسار في طريقه وآمن به، ثم يجعل الله -تبارك وتعالى- نهايته كنهاية من سبه وشتمه ونسب له الولد ونسب له ما نسب وعبد غيره وفجر وكفر ولم يطعه، يجعل الله -تبارك وتعالى- نهاية هذا مثل نهاية هذا، يبقى هذا سب لله -تبارك وتعالى-.
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]، لا يبعث أحد ولا يأخذ أحد إلا جزائه، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[الصافات:154]، كيف يكون حكم الله -عز وجل- هكذا، يسوي بين من آمن به ومن كفر به، من سبه وشتمه ومن عظمه وأطاعه، من اتبع طريقه ومن تنكب طريقه، يسوي بين اللص والمجرم والظالم وبين المظلوم، يصير كأن الذي خلق هذا الخلق أراده أن يكون فوضى وعبثا وسدى، فهذا سب لله -تبارك وتعالى-، فالكافر يسب الله ويشتمه -سبحانه وتعالى-، فمن العجب قولهم هذا، هذا من أعجب العجب هو قول الكافر لا يعيدنا الله -تبارك وتعالى-، ليست هناك حكومة في الآخرة، ما في أحد يأخذ جزائه، يكون سب لله -تبارك وتعالى-، سواء اعتقد أن الله قادر على هذا الأمر، يقدر على هذا الفعل أو أنكر القدرة كذلك فيكون هذا جريمة على جريمة، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.
قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}، هذا قول الكافر بربه، إما كافر بربه؛ نسب له –سبحانه وتعالى- الظلم، وأن يصنع لا لغاية ولا لهدف، خلق خلقه سدى وعبثًا فكفر بالله -تبارك وتعالى-، وإما أنه أحال على الله -تبارك وتعالى- أن يعيد الأشياء مرة ثانية، لأن الله ...، يعتقد أن الله عاجز على ذلك كافر بالله -تبارك وتعالى- كافر بقدرته، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}، ثم قال -جل وعلا- {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}، أولئك المجرمون، أولئك؛ بالصورة للبعيد، الأغلال؛ الغل القيد، جمع غل وهو القيد، يعني القيود تكون أعناقهم التي يسحبون منها إلى النار -عياذًا بالله-، {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}، وأخبر الله -تبارك وتعالى- على أن هذا خبر كأنه واقع لأنه واقع، لأنه سيكون يوم القيامة وإن كان سيأتي في المستقبل، لكنه لما كان أمر حتمي ولابد أن يكون فعبر الله -تبارك وتعالى- عنه وكأنه قائم، {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أولئك؛ البعداء هؤلاء أصحاب النار، أصحابها لأن الله يملكهم إياها، كأنه ملكهم إياها، أو أصحابها الصحبة الملازمة، يعني الملازمون للنار ملازمة لا يخرجون منها -عياذًا بالله-، أولئك أصحاب النار هم؛ نفسهم دول، فيها؛ في النار، خالدون؛ باقون بقاء لا انقطاع له.
قال بعض أهل العلم تفسير {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}، على القول الثاني يعني أغلال الضلال، كما شبه الله -تبارك وتعالى- ضلالهم بهذا، فقال {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [يس:8-10]، فكأن الله -تبارك وتعالى- قال {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}، يعني كأنهم مسحبون إلى الطريق الذي هم فيه من الضلال سحب من في غل وقيد في عنقه، وهو يسير في طريق الضلال على هذا النحو، كما يقول الشيطان {........ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء:62]، أسوقهم خلفي إلى النار، أو أقودهم خلفي إلى النار، {وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}، أو الأغلال التي تكون وهي قيودهم التي يقيدون بها -عياذًا بالله- في نار جهنم، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان:4]، سلاسل يسلسلون بها، وأغلال تغل بها أعناقهم وتغل بها كذلك أيديهم وأرجلهم، سعيرًا؛ ونار -عياذًا بالله-.
فهؤلاء الذين كفروا بالله -تبارك وتعالى- وقالوا لا بعث ولا نشور ولا حكم يوم القيامة {........ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الرعد:5]، ثم قال -جل وعلا- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}[الرعد:6]، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، حال هؤلاء الكفار، يستعجلونك؛ يقولون للنبي هات العذاب هذا الذي تعدنا به، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16]، قال {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ........}[العنكبوت:53]، وقال {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}[العنكبوت:54]، {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[العنكبوت:55]، يستعجلونك؛ يطلبون منك أن تأتيهم بهذا العذاب، لا أن يؤمنون بالعذاب ويقولون قدمه ولكن يقولون هذا استهزاءً، وذلك أنهم يكذبون الرسول فيما يتهددهم ويتوعدهم به من العذاب، ويقولون إن كان صحيحًا هذا الذي تتهددنا وتتوعدنا به فأته؛ فهاته، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، يعني المفروض يعني يطلبوا الحسنات، يطلبوا مغفرة الرب -تبارك وتعالى-، يلجأوا إليه، يتوبوا إليه، فهذا هو المطلوب أو يطلبوا الهداية، فبدل ما يقولوا {....... اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، كان المفروض أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ووفقنا إليه وأرشدنا إليه، إذا كان هو الحق من عندك هذا نتبعه، لكن لا، يقولون {....... إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، قال -جل وعلا- {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، العقوبات، المثلات جمع مثلى، وهي ما أنزله الله -تبارك وتعالى- من العقوبة في أعدائه، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}.
سنرجع -إن شاء الله- لهذه الآية في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.