الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (296) - سورة الرعد 6-11

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }[الرعد:6-11].

 هذه الآيات من سورة الرعد وقد مضى أن الله -تبارك وتعالى- بدأها بالحروف المقطعة، {المر}، وأشار إلى هذا الكتاب؛ القرآن، قال {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}، أي الكتاب الحق الذي ينبغي أن يسمى كتاب، أو لا ينبغي أن يسمى كتاب إلا هو؛ فهو الكتاب الحق، الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- في السماء في اللوح المحفوظ، وأنزله على عبده محمد ليكون آخر كلمة له -تبارك وتعالى- من كلمات النبوة والرسالة، كتاب معجز على هذا النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-، {وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، ثم يقول -سبحانه وتعالى- إن أكثر الناس لا يؤمنون، قال {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}، ثم شرع الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك يبين آياته؛ آيات عظمته، الآيات الدالة عليه -سبحانه وتعالى- معرفًا للعباد بنفسه، فقال {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[الرعد:2-].

 هذه الآيات العظيمة في الخلق الدالة على الرب الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ومع هذا فإن الكفار يحيلون على الله -تبارك وتعالى- أن يعيدهم إلى الحياة مرة أخرى ويحاسبهم على أعمالهم، ويجعلون أن حياتهم هي الحياة الدنيا فقط وليس هناك بعثا ولا نشورا ولا حكومة يعطي الله -تبارك وتعالى- فيها كل عامل جزائه من خير أو شر، وبذلك إما أن يصفوا الله -تبارك وتعالى- بالعجز وهم يرون آيات قدرته -سبحانه وتعالى- في الخلق، أو أنه يصف الله -تبارك وتعالى- بالسفه وأنه قد خلق خلقه سدىً وهملًا، لا مجال ليحاسبهم على أعمالهم، قال {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، قال -جل وعلا- {........ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الرعد:5].

والعجب أن هؤلاء الكفار يستعجلون عذاب الله -تبارك وتعالى-، استهزاء بالرسول وتكذيبًا لوعيد الله -تبارك وتعالى- لهم، قال -جل وعلا- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، بدلًا من أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ووفقنا إليه، {........ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32]، فدعوا على نفسهم بالهلاك إن كان هذا هو الحق، وهذا من شدة ظلمهم وعنادهم وأنهم لا يريدون هذا الدين حتى لو كان الهلاك معه، أو أنهم يستبعدون أن يكون هناك بعث ونشور وأن هذا أمر مستحيل، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، قال -جل وعلا- {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، العقوبات الشديدة، جعل الله -تبارك وتعالى- عقوبته لهؤلاء المكذبين مثلى، ليخاف منها كل متعظ ومعتبر ولكن هؤلاء لا يعتبرون، {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، إهلاك الله -تبارك وتعالى- لقوم نوح، وإهلاك الله لعاد ولثمود ولقوم لوط ولأصحاب مدين، هذه مثلات قد خلت من قبل هؤلاء العرب الذين بعث فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذين كذبوا بهذه الرسالة أو ما جاءتهم، قال -جل وعلا- {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}، ثم قال –جل وعلا- {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}، على هذا الظلم؛ ظلمهم لأنفسهم، التكذيب ورد الحق، إلا أن الله -تبارك وتعالى- ذو مغفرة لهم، فهو يمهلهم ويمد لهم في الأجل ولعلهم أن يعودوا إليه -سبحانه وتعالى- وإلى دينه، ومع هذا كذلك {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}، فإمهال الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكذبين من رحمته -جل وعلا- بهم، ثم إذا رجعوا إليه قبلهم وغفر ذنوبهم وجعلهم من عباده الصالحين واجتباهم -سبحانه وتعالى- وهذا من سعة رحمته، وكذلك هو شديد العقاب، فإنه -سبحانه وتعالى- إذا أنزل عقوبته بمن يستحقها من المعاندين المكذبين في الدنيا، وكذلك من الذين يأتونه يوم القيامة كفارًا فعقوبته عقوبة شديدة جدًا، وهذه مثل هذه الآية جمع الله -تبارك وتعالى- بين هاتين الصفتين من صفاته جاءت كثيرة في القرآن، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، وقوله -تبارك وتعالى- {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، فيخبر -سبحانه وتعالى- أنه سريع العقاب وكذلك أنه هو -سبحانه وتعالى- الغفور الرحيم، {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[غافر:3]، فيجمع الله -تبارك وتعالى- بين هاتين الصفتين لبيان أن أهل الطاعة استحقوا من الله -تبارك وتعالى- الرحمة، رحمته -سبحانه وتعالى- وعطفه وبره وإحسانه، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:257]، فهذا فعله بأهل طاعته وكذلك فعله بأهل معصيته أنه سريع العقاب؛ شديد العقاب -سبحانه وتعالى-، {........ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}[الرعد:6].

ثم في هذا السياق؛ في سياق بيان الله -تبارك وتعالى- لهذه الآيات العظيمة، كذلك يعجب الله بعد أن عجبنا من مقولة الكفار في أنه لا بعث بعد الموت، {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}، يعجب الله -تبارك وتعالى- بعجب آخر من قولهم نريد آية، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ........}[الرعد:7]، هلا أنزلت على النبي آية من ربه، وكل هذه الآيات التي بثها الله -تبارك وتعالى- في هذا الكون كله، ألا تكفي هذه الآيات دلالة على ما يدعوا إليه النبي، من أن الله هو الله الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، فخالق هذا الكون إله واحد -جل وعلا-؛ لا يمكن أن يكون اثنين، وهو يدعوهم، هذا رسوله قد قامت الأدلة على صدقه وأمانته، فلم يجربوا عليه كذبًا، أربعين سنة وهو معهم ما جربوا عليه كذبة واحدة، والآن جاء يدلهم ويقول لهم أنا اختارني الله -تبارك وتعالى- لأكون رسولًا لكم، أيترك الكذب على الناس ويأتي ليكذب على الله -تبارك وتعالى-، أدلة الصدق قائمة، فهذا يدلهم على الله وهذه الأدلة شاهدة كلها على الله -تبارك وتعالى-، وهذا صراط الله -تبارك وتعالى-، والعجب أن الكفار بعد ذلك {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ........}[الرعد:7]، عند ذلك يجيبهم الله -تبارك وتعالى- بما يستحقون، قل {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، قل لهم إنما أنت منذر، أنا قد أرسلني الله -تبارك وتعالى- نذيرًا لكم؛ للعذاب الذي ينتظر المكذبين، {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}، ولكل قوم من الأقوام السابقة هادٍ يهديهم طريق الرب -تبارك وتعالى- ويرشدهم إلى طريق الرب، الذي هي هداية البيان والإيضاح، فكل أمة قد أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها نذير، كما قال -جل وعلا- {........ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، فالجواب على هذا الأمر العجيب من قولهم الذي هو {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، أن يقال لهم أنا فقط رسول الله، أنا {نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، فإن هذه الأدلة التي جاء بها النبي أدلة بعضها كافٍ لمن أراد أن يهتدي إلى الله -تبارك وتعالى-، لمن أراد الحق أن يصل إليه، أما المتعنت أما هذا الكلام إنما يقوله على وجه الإعنات وعلى وجه طلب الآيات بما تهواه أنفسهم فقط وليس طلب آية للهداية، فإن الآيات الدالة على هذا الأمر الذي جاء به الرسول قائمة متضافرة كثيرة، قل {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين من آياته -سبحانه وتعالى-؛ آياته في الخلق، لعل من صمت أذنه يسمع، ومن عميت عينه يهتدي، ومن أغلق قلبه ينفتح، لهذه الآيات التي بثها الله -تبارك وتعالى- في هذا الكون، فقال -جل وعلا- معرفًا كذلك بنفسه -جل وعلا-، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى}، هذه آية وتهديد في نفس الوقت، هذه آية ووعيد فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم ما تحمل كل أنثى؛ تحمله في بطنها، وكل أنثى هنا يشمل أنثى الإنسان وأنثى الحيوان وأنثى الطير؛ أي أنثى، ما تحمله في بطنها من ذكورة وأنوثة، من تمام وخداج، بالنسبة للبشر من صلاح وفساد، ما تحمله هذه تحويه أرحام الأنثى, الله –تبارك وتعالى- يعلمه، بل هو خالقه -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ........}[الرعد:8]، الغيض؛ النقص، والازدياد معروف، {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}، قدر الله -تبارك وتعالى- في العادة وفي السنة الجارية مدة محددة لكل أنثى في مدة حملها، ولكن أحيانًا يطول الحمل عن هذه المدة وأحيانًا ينقص عن هذه المدة، فطول الحمل وقصره حتى يدفع الرحم بحمله كل هذا عند الله -تبارك وتعالى-، كل هذا يعلمه الله –تبارك وتعالى-، فهو بخلقه وبسمعه وببصره -سبحانه وتعالى- وبعلمه، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8]، كل شيء مما خلقه -سبحانه وتعالى- عنده بمقدار، مقدار؛ قدر محدد، وقت محدد وكذلك مقدار في كل الخصائص، في أي خصائص له، وزنًا، طعمًا، رائحة، تركيبًا، أخلاطًا، كل هذا عند الله -تبارك وتعالى- كل شيء عنده بمقدار؛ وبمقدار دقيق، وقد عرف البشر الآن من عظمة الرب -تبارك وتعالى- في هذه المقادير، في كل خلق لله -تبارك وتعالى- مقادير عظيمة جدًا، من العناصر، من الأخلاط، لا يزداد شيء منها على الأخر، فكل شيء عنده مقدر، محسوب، مقنن -سبحانه وتعالى-، مما يدل على سعة علمه وإحكام خلقه -سبحانه وتعالى- وإحسانه؛ في غاية الإحسان، فهذا كله بأمر الله -تبارك وتعالى- الكوني القدري، وبخلقه وبعلمه -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}[الرعد:8].

{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}[الرعد:9]، من وصف الرب -تبارك وتعالى- أنه عالم الغيب والشهادة، الغيب والشهادة بالنسبة للمخلوقين، فإن كل مخلوق فيه أمور يشهدها وهي ما تقع تحت حسه وعلمه؛ وأمور غائبة عنه، كل المخلوقات هكذا، كل مخلوقات الله؛ من الملائكة، من الجن، من الإنس، عندهم غيب وشهادة بالنسبة إلى الموجود، أما الرب -تبارك وتعالى- فإنه لا غيب عنده، لايوجد شيء غائب على الله -تبارك وتعالى-، لا يغيب عنه شيء من خلقه، فخلقه كلهم تحت سمعه وبصره وبعلمه -سبحانه وتعالى-، في كل وقت وفي كل حين، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ}، {........ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]، فكل الخلق عن الله -تبارك وتعالى- كله شهادة، هذا بالنسبة للغيب والشهادة الذي هي بالنسبة للمخلوقين.

 ثم ثمة غيب هذا لا يعلمه إلا الله -تبارك وتعالى-، هذا غيب عن كل المخلوقين، يعني فيه المخلوقين عندهم شيء شهادة وشيء غيب؛ كالملك مثلًا، الملك ما يقع تحت علمه وحسه وبصره هذا بالنسبة إليه شهادة، وما هو خارج هذا؛ هذا غيب، الملائكة لا يعلمون الغيب، ما هو خارج علمهم لا يعلمونه، قال الملائكة {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، لما قال لهم الله -تبارك وتعالى- قال {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}، {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ........}[البقرة:32]، {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}، فالله -تبارك وتعالى- أطلع آدم على هذا الشيء من الغيب لم يطلع عليه الملائكة، فالغيب والشهادة هذا بالنسبة للمخلوقين هذا يعلمه الله -تبارك وتعالى-، كل شيء عند الله شهادة، ثمة غيب أخر هذا غيب على كل المخلوقين وهو ليس غيبًا على الله، بل هذا بعلم الله -تبارك وتعالى-، الغيب الذي هو غيب على كل المخلوقين الذي هي هذه الخمس، الذي قال فيها النبي «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله»، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[لقمان:34]، فهذه لا يعلمها أحد، هذه لا يعلمها أحد وإنما هذه بعلم الله -تبارك وتعالى-.

فعندما يقول الله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ........}[الرعد:9]، بالنسبة لكم أيها المخلوقين لا يعزب عن علم الله -تبارك وتعالى- شيء، {الْكَبِيرُ}، -سبحانه وتعالى- من صفته، وذلك أن كل هذا الوجود صغير بالنسبة للرب -سبحانه وتعالى-، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]، قال النبي أن الله -تبارك وتعالى- «يأخذ الأراضين على إصبع والسماوات على إصبع والشجر والحجر وبقية المخلوقات على إصبع، ثم يحركهن ويقول أنا الملك أين ملوك الأرض»، ابن عباس يقول ((ما السماوات والسبع والأراضين في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم))، فهذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- هو أكبر من كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، مخلوقاته صغيرة حقيرة بالنسبة إليه -سبحانه وتعالى-، الله هو {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}، العالي فوق عباده -سبحانه وتعالى-، فهو العلي العظيم والمتعالي عليهم، لأنه -سبحانه وتعالى- الذي قهر كل شيء وذل له كل شيء، وعلا كل شيء -سبحانه وتعالى-، فهو القاهر فوق عباده وهو المستوي على عرشه وعرشه فوق كل مخلوقاته، وهو الذي يخافه كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- ممن يعلمونه ويؤمنون به، وأما الجهال الذين لا يعرفون ربهم -تبارك وتعالى- فهم لا يخافونه لجهلهم؛ لأنهم جهال به، أما الذين يعلمون الله -تبارك وتعالى-، لهم علم بالله -تبارك وتعالى، مهما عظم خلقهم كالملائكة فإنهم في رعب من الله -تبارك وتعالى- وفي خوف دائم، كم قال -جل وعلا- {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}، الإشفاق هو نهاية الخوف؛ هؤلاء الملائكة، {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:26-28]، وقال عنهم أيضًا -سبحانه وتعالى- {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، فهم في رعب وفي خوف دائم من ربهم -سبحانه وتعالى-، فالله هو المتعالي، المتعالي على خلقه علو حقيقي، فهو العلي العظيم -سبحانه وتعالى-، الذي قهر كل خلقه؛ كل شيء، وذل له كل شيء -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، سواء؛ عند الله، من أسر القول؛ قال القول سرًا، ومن جهر به؛ أعلنه، نادى به، كل هذا عند الله -تبارك وتعالى- سواء، ليس الله -تبارك وتعالى- بأسمع لمن يجهر بالقول عن من يسر به بل هذا سواء، سواء أسر أو أعلن أن هذا كله بسمع الله -تبارك وتعالى- سواء، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10]، مستخف بالليل؛ ظلمة الليل تخفي الأشياء، وإذا اتخذا الإنسان ما يخفيه كذلك في هذه الظلمة يكون أشد خفاءً، كمن آوى إلى بيت ثم آوى بعد ذلك إلى حجرة مظلمة في البيت، ثم في هذه الحجرة المظلمة دخل في تحت غطاء وفراش، فأصبح من غطاء لغطاء لغطاء كل هذا عند الله سواء، {مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}، يكون بالنهار لكنه يدخل في سرب، السارب هو الداخل في السرب، والسرب هو الشق أو الحفرة الداخلة في الأرض، فإذا كان سارب في النهار مثلًا كالأرنب مثلًا الذي دخل في سربه أو الحية التي دخلت في جحرها أو أي حشرة أو أي شيء زاحف، دخل في هذا واختبأ فيه لم يظهر، يظهر ضوء النهار لكنه داخل في السرب، كل هذا عند الله -تبارك وتعالى- سواء، لا يخفى عليه هذا ولا يخفى عليه هذا -سبحانه وتعالى-، {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}[الرعد:10].

{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، له؛ لهذا المخلوق، لهذا الإنسان، معقبات من بين يديه ومن خلفه؛ معقبات قيل هؤلاء المعقبات هم الملائكة، يكونون أمامه وخلفه، يحفظونه من أمر الله؛ بالقدر، هؤلاء الملائكة تحفظ هذا المخلوق من أمر الله الذي لا يريد الله -تبارك وتعالى- أن يصيبه، الإنسان يسير وقد يقع في حفرة فيموت فيها، لكن إذا لم يكن الله -تبارك وتعالى- قد كتب له الموت في هذه الحفرة فإنه ينتبه قبل أن يسقط فيها؛ ولو بثواني فإذا به ينتبه، يكون يقود سيارته وتأتيه غفلة، وقد يصطدم بأمر يهلكه ولكنه قبل أن يكون هذا بلحظات ينتبه فينحرف عن هذا الأمر الذي يكاد يهلكه، ولو هي لحظة من اللحظات بقيت هذه الغفلة لانتهى، وكذلك من الخلف يكون الإنسان سائر وكذا وكذا، ويكون هناك شيء سيضربه في رأسه، يقع فيه، ثم ينتبه فجأة، ثم يفادي هذا الأمر، فهذا التوجيه وصون هذا المخلوق عن هذا الأمر الذي لا يريد الله -تبارك وتعالى- أن يصيبه، لم يكتب الله -تبارك وتعالى- في قدره أن يصاب هذا الإنسان بهذا الشيء بأمر الله فيحفظ منه، إلى أن يأتيه ما كتب الله -تبارك وتعالى- أن يصاب به فيصاب به، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، فكم من الناس يكونون في موضع الهلاك ولكن الله -تبارك وتعالى- ينجيهم بسبب ما، وذلك أنه لم يأتي أمره، ثم قد يخرج من هذه المهلكة ولكن بعد دقائق يموت في مهلكة أخرى، فهذا أمر هكذا، كتب الله -تبارك وتعالى- أن يموت هنا ولا يموت هناك، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}، أي من أمر الله الذي لم يرد الله -تبارك وتعالى- أن يصبه.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، كل هذا من صفة هذا الرب الذي طلبوا آية من الآيات منه على أن هذا الدين حق وأن النبي حق وأن ما يدعوهم إليه حق، هذا هو الرب الجليل -سبحانه وتعالى- الذي يكذب به الكفار، ويحيلون أن يعيدهم إلى الحياة مرة ثانية، قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}، وهو بيان شيء هنا؛ سنة من سننه -سبحانه وتعالى-، وأن فعل الله -تبارك وتعالى- في الناس إنما هو تابع لفعلهم في أنفسهم، فإن أصلحوا وساروا بطريق الصلاح فإن ثمة ثواب لهم، ثمة جزاء على هذا الأمر، إن أفسدوا وهلكوا فإن الله -تبارك وتعالى- له عقوبة بهم، إن الله لا يغير ما بقوم؛ من الخير الذي هم فيه، ومن الأمن والسعة، حتى يغيروا ما بأنفسهم؛ من أسباب هذا، فعند ذلك يغير الله -تبارك وتعالى- عليهم، كما قال -تبارك وتعالى- {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}[النحل:112]، فتغير عليهم صنيع الرب -تبارك وتعالى- بهم لتغير أحوالهم، لما تغيروا من الإيمان إلى الكفر وكفروا بأنعم الله بعد أن أنعم الله -تبارك وتعالى- عليهم غير الله -تبارك وتعالى- ما بهم، وكذلك إذا ارتضى قوم الذل والمهانة فإن الله -تبارك وتعالى- لا يعزهم إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من ما هم فيه، فإذا غيروا ما بأنفسهم من الكفر والعناد غير الله -تبارك وتعالى- ما يعاقبهم الله -تبارك وتعالى- به من العقوبات، ثم قال -جل وعلا- {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.

ونأتي إلى هذه الآية -إن شاء الله- مرة ثانية في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.