الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ(15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}[الرعد:15-16].
في سياق بيان عظمة الرب -تبارك وتعالى- وبيان آياته، تعريفًا منه -سبحانه وتعالى- لخلقه وعباده، قال -جل وعلا- {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ........}[الرعد:15]، لله؛ لا لغيره -سبحانه وتعالى-، {يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا}، طواعية من هذا المخلوق لله -تبارك وتعالى-، {وَكَرْهًا}، رغمًا عنه، {وَظِلالُهُمْ}، أي تسجد كذلك، {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}، أما سجود من في السماوات كالملائكة فإنهم يعبدون ربهم -تبارك وتعالى- ويسجدون، كما قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206]، له أي لا لغيره، ما قال ويسجدون له وقال وله يسجدون، والذين عند ربك هم ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، فإنهم يسجدون ساجدون لله -تبارك وتعالى-، وقد جاء في الحديث «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع أو كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا وفيها ملك ساجد لله أو قائم»، فهذه السماوات فيها ملائكة الله -تبارك وتعالى- سجدًا وقيامًا لله، والنبي وصف البيت المعمور الذي زاره النبي في السماء حال عروجه -صلى الله عليه وسلم-، في ليلة المعراج وسأل عن هذا البيت، فقال له جبريل هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، يصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدًا، في كل يوم، كل يوم يدخله سبعون ألف ملك يصلون فيه صلاتهم، ثم إذا خرجوا منه لا يعودون إليه أبدًا، وذلك أنه يأتي غيرهم وغيرهم وغيرهم ...، فالذين عند ربك؛ الذين في السماء، يسجدون لله -تبارك وتعالى-.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ}، من هؤلاء الملائكة الذين أخبر الله -تبارك وتعالى- عنهم، وقد يكون من مخلوقاته الأخرى التي خلقها، وعوالم أخرى هي عابدة الله -تبارك وتعالى- لم نخبر عنها، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا ........}[الرعد:15]، في الأرض الذين يسجدون طوعًا لله هم أهل الإيمان، فإن أهل الإيمان يسجدون طائعين لله -تبارك وتعالى-، وكذلك هذه المخلوقات التي خلقها الله -تبارك وتعالى- في الأرض، لها سجود عند الله -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، هذه في السماوات، {وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ}، وهذه في الأرض، فالشمس والقمر والنجوم هذه في السماء، ثم قال -تبارك وتعالى- {وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ}، وهذه في الأرض، {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ}، الذين هم أهل الإيمان، ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، فهذه كذلك المخلوقات كالجبال والشجر والدواب تسجد لله -تبارك وتعالى-، وهذه سجود الطاعة؛ من سجود الطواعية، طائعة لله -تبارك وتعالى- تسجد لله، وتسبيحها وسجودها لله -تبارك وتعالى- لا نعلمه، يعني كيفية سجود الملائكة، كيفية سجود الشمس، كيفية سجود القمر، كيفية سجود النجوم، هذا لا شك أن نحن لا نعلمه هذا، لكنها حتمًا تسجد لله -تبارك وتعالى-، فالله هو خالقها وهو مدبرها وهو المتصرف فيها -سبحانه وتعالى-، وهو الذي يعلم كيف تسبحه وكيف تسجد له -سبحانه وتعالى-، وقد أخبرنا بأنها تسجد له إذن هي تسجد له، بسجود قد لا نعرفه، كيف تسجد الشمس؟ هذا بسجود لا نعلمه نحن، سجودنا نحن نعلمه، هذا فيمن يسجد لله ويسبح لله -تبارك وتعالى- طوعًا.
وهناك من يسجد لله كرهًا، يعني رغمًا عنه، وهذا الذي يسجد لله -تبارك وتعالى- كرهًا الكافر، أما سجود الكافر قد يكون يوم القيامة كرها... نعم، فإنه عندما ينفخ في الصور يصعقون ويقعون لوجوههم؛ الجميع، وكذلك قهر يوم القيامة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}[هود:105]، أما سجودهم في الدنيا فهذا السجود قهري، كيف يكون؟ هذا لا نعرف طريقة هذا السجود، ولعله عندما نحن نشاهد هذه الأرض وهي تدور بأهلها على هذا النحو يكون كل من هم عليها يكونون في وضع ساجدين وخاضعين للرب -سبحانه وتعالى-، فهم في حال من الأحوال يكونون في حالة سجود للرب -تبارك وتعالى-، ولعله يدل على هذا قول الله -تبارك وتعالى- {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}، الظل وهو الواقع على الأرض من انعكاس الضوء من جهة فإن الجهة المقابلة للضوء يقع ظل الإنسان، فإذا وقع ضوء الشمس على شاهد وشاخص فإن الجهة المقابلة لهذا الضوء ظله، ظل هذا الإنسان عندما يكون الإنسان واقفًا فظله يكون واقع على الأرض؛ ساجد، تجد رأس الإنسان وجبهة الإنسان على الأرض، فضلال هذه الشواخص الله يخبر بأنها كذلك تسجد لله، {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ}، الذي هو وقت الصباح يكون في الجهة المقابلة للشمس جهة الغرب، الشمس من الشرق وهو يكون الظلال للغرب، وعندما الآصال وقت الأصيل الذي هو بعد زوال الشمس، هذا وقت العصر فتسجد كذلك شواخصهم كذلك على الأرض، فالله -تبارك وتعالى- كل مخلوقاته ساجدة له، تسجد له إما طوعًا وإما كرهًا، والذين يسجدون لله -تبارك وتعالى- كرهًا بصورة من الصور فإن الله خالقهم على هذه الأرض، هذه الأرض تدور بهم، في ناس تحت الأرض، في ناس فوق الأرض، فهم يسجدون لله –تبارك وتعالى- سجود قهري، وظلالهم كذلك تسجد كذلك قهرًا، أنه يجد ظله ساجد لله -تبارك وتعالى- على الأرض، وهذا لقدرة الرب -تبارك وتعالى-، هذا من قدرة الرب -تبارك وتعالى- على خلقه جميعًا، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[الرعد:15].
بعد هذا ...، بعد بيان هذه الآيات السابقة في هذه سورة الرعد التي جمعت كل هذه الآيات؛ آيات الخلق، التي يري الله –تبارك وتعالى- عباده آياته في هذا الخلق المشاهد، يأتي بعد ذلك بقى خطاب الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الكفار.
يقول الله -تبارك وتعالى- قل لهم، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، هذا خطاب للكفار المشركين، وكان العرب يعتقدون أن الله هو رب السماوات والأرض، ربها خالقها وربها سيدها وربها -سبحانه وتعالى- المتصرف فيها، وكل هذا كان يقر به مشركوا العرب، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ}، ووقع السؤال ووقع الإجابة لأنهم مقرون بهذا، {قُلِ اللَّهُ}، إذن {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}، سؤال يراد به التأنيب والتوبيخ والتحقير، قل؛ هذا إذا كان الرب -سبحانه وتعالى- هو خالق السماوات والأرض والمتصرف فيها إذن هو الإله وحده، لا ينبغي ولا يصح أن يكون إله غيره، ما دام أنه رب السماوات والأرض وخالقها والمتصرف فيها وحده -سبحانه وتعالى-، {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}، السؤال ليس للإستفهام إنما للتقرير، من دون هذا الرب الخالق للسماوات والأرض تتخذ ولياً لك تواليه، وهذا الولي الذي واليته وعبدته سواء كان من مَلِك أو من عبد صالح, اللات، العزة، مناة، أصنام عملتوها، {لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}، لا يملكون هؤلاء الأولياء الذين اتخذتموهم أولياء لأنفسهم فضلًا عن أن يملكوا لكم نفعا ولا ضرا، ما يقدر ينفع نفسه بنافعة ولا يقدر يضر نفسه بضر إلا بأمر خالقه ومولاه، وبمشيئة إلهه الذي خلقه وأقامه، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، الله يعمل به وهو يقول هذا وهو رسول الله أكرم الخلق وأكرم العباد على الله، {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ........}[الأعراف:188]، فأنا تجري علي الأحداث، كذلك أحداث الرب لأني لا أعلم الغيب، فهذا رسول الله الذي لو كان هناك من يعبد من دون الله لكان هذا أحق بالعبادة، يعني أحق بأن يعبد، فهذا عبد الله -تبارك وتعالى-، محمد ابن عبد الله ورسوله ما يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فقيل لهم {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا}، نفع؛ أي نفع، منكر هذه كلمة منكرة تضم أي نفع، ولا ضر؛ أي ضر، ولو شيء يسير.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ}، هذا كذلك سؤال يراد به التقريع والتأنيب، هل يستوي الأعمى الذي عمي عن إلهه وعن مولاه، عن ربه، عن خالق السماوات والأرض، والبصير الذي أبصر ربه -سبحانه وتعالى-، عرف ربه أنه الإله الواحد الذي لا إله إلا هو فعبده، فالكافر أعمى، الذي يعبد غير الله أعمى، لأنه وضع العبادة هذه فيمن لا يستحقها، والمؤمن مبصر عرف ربه وإلهه الحق -سبحانه وتعالى-، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}، تستوي هذه مثل هذه، الظلمات التي يعيش فيها الكافر والنور الذي يحيا فيه أهل الإيمان، {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ}، سؤال كذلك يراد به التقريع والتأنيب، هل أنت لما اتخذت شريكا أيها المشرك الكافر لله، هذا الشريك خلق كخلق الله فتشابه الخلق عليهم، ولا يمكن أن يكون الإله إلا خالقًا، فهل هذا الإله الذي أنت عبدته من دون الله، عبدت الشمس، عبدت القمر، عبدت الملائكة، عبدت الصالحين، عبدت من عبدت، هل هؤلاء لهم خلق مع الله -تبارك وتعالى-، وأشكل عليك اختلاط خلق الله -تبارك وتعالى- بخلق هؤلاء الآلهة، قال -جل وعلا- {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}، من اختلاط هذا، والحال أن ما في، لا يوجد ذرة خلقها غير الله -تبارك وتعالى-، فما في كل هذه المخلوقات من يدعي أنه هو خلقها، هات أي إله ممن يعبد ليقول أنا خلقت هذا، خلقت شجرة، خلقت حجرا، خلقت جبلا، خلقت نجما، خلقت شيءً من السماء، شيء من البحر، خلقت السمك، ما في أي شيء من هذه المخلوقات كلها، هل يشتبه على أي ذي عقل أن خالقها خالق واحد، وهو الرب الإله الذي لا إله إلا هو مرسل الرسل ومنزل الكتب، هل هناك من يدعي أنه خلق خلقًا مع الله -تبارك وتعالى-، هل ما يعبده الكافر ممكن أن يدعي أنه خلق شيئًا من هذا، أو أن الكافر عندما عبد هذا اشتبه عليه واختلط عليه خلق الله بخلق إلهه؛ هذا الذي يدعيه من دون الله، {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ}.
قال -جل وعلا- {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، قل لهم الله خالق كل شيء، كل شيء في السماوات وفي الأرض، مما نرى ومما لا نرى، {وَهُوَ الْوَاحِدُ}، المتفرد في ذاته وفي صفاته والمتفرد بالخلق، لم يجعل الله -تبارك وتعالى- لغيره نصيبا ولا حظا في خلق ذرة، ولا أن يعين الرب في هذا الخلق، ولا أن يشير عليه بشيء من هذا، فليس لله ظهير ولا مستشار في خلق شيء من مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، الذي قهر -سبحانه وتعالى- كل خلقه، فكلهم في قبضته -سبحانه وتعالى-، وتحت أمره وتحت مشيئته وبعلمه وبشهادته، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، فالله قائم على كل نفس بما كسبت، إن تفعل شيئا, الله -تبارك وتعالى- عندها، فالله عند قلب المخلوق وعند سمعه وعند بصره وعند بطشه وعند مشيه، {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، فقهر كل شيء بعلمه، فكل شيء تحت علمه وتحت سمعه وتحت بصره وتحت مشيئته، ما في حركة ولا تسكين إلا بأمره -سبحانه وتعالى-، {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، السماوات والأرض ملكه وتحت أمره وتحت قبضته -سبحانه وتعالى- قهرها.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11]، أتينا طائعين؛ وكانت طائعين جمع المذكر السالم، ما قالوا أتينا طائعات جمع المؤنث ...لا، لأن هنا تكلم الرب -تبارك وتعالى- كلام العالم بما تتكلم به، هذا كلام العقلاء، أتينا طائعين، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا}، فهي طائعة خاضعة لله، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ(2) وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ(3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ(4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}[الانشقاق:1-5]، هذه السماء العظيمة الشديدة الكبيرة الواسعة، وهذه الأرض بما فيها وما عليها، وهي أرض شديدة عظيمة عليها هذه الرواسي كذلك هي مستكينة لله، سكان السماء من هؤلاء الملائكة العظام الذي يقول النبي في بعض هؤلاء الملائكة «أذن لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه تخفق الطير خمسمائة عام»، هذا ملك من ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، وكلهم تحت قهر الله؛ تحت قهر الله -تبارك وتعالى-، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي قهرهم جميعًا، هو الذي ملكهم جميعًا، لا يتصرفون في شيء، بحركة، بسكون، بنزول من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك -سبحانه وتعالى-، {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]، كلام جبريل للنبي، لما قال النبي يقول لجبريل ألا تزورنا أكثر مما تزرونا؟ يحبه؛ النبي يحب جبريل، جبريل الروح الأمين، روح الله -تبارك وتعالى- الأمين، ينزل يقول له جبريل زرنا يعني أكثر من زيارتك، فينزل قول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ........}[مريم:64]، يعني لا أستطيع أن أنزل إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، فهو مأمور بالأمر بالساعة بالتحديد، فهو تحت الأمر الإلهي، هذا جبريل ينزل للنبي الذي رعب حين رآه، يقول رأيته وأنا نازل من غار حراء وقد سد الأفق، كلما نظرت في السماء رأتيه أمامي، ويقول لي جبريل أنت نبي هذه الأمة، النبي القوي الشديد يأتي مرعوبًا فقط من مرأى جبريل ويقول دثروني دثروني زملوني زملوني، يقول أتى إلى خديجة -رضي الله تعالى عنها- ترعد فرائصه يقول زملوني زملوني من مرأى الملك، فهذه الملائكة العظام هؤلاء لا يتصرفون ولا ينزلون إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر(3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، الملائكة تنزل بإذن الله -تبارك وتعالى- من كل أمر، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر:1-5]، فليس نزول هؤلاء الملائكة لا ينزلون ولا يصعدون ولا يتصرفون إلا بأمر ربهم -سبحانه وتعالى-، فالله هو الإله -سبحانه وتعالى- الواحد القهار، الذي قهر كل خلقه وذل له كل شيء وعظمه كل خلقه -سبحانه وتعالى-، وسبحوا له وحمدوه -سبحانه وتعالى-، الكافر فقط أعمى، فقط الكافر هو الأعمى عن ذلك، {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين كذلك بعض آياته؛ آيات جليلة في الخلق، فقال {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17]، مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- للإيمان والكفر، للحق والباطل، قال {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، الله هو منزل الماء من السماء -سبحانه وتعالى-، السماء؛ العلو، المنطقة التي فيها السحاب، ماء ينزله -سبحانه وتعالى- إلى الأرض، قال -جل وعلا- {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، يسيل الوادي بقدره؛ يعني بقدر سعته وعمقه يحمل من هذا الماء، فإذا كان الوادي -الشق هذا- واسع فإنه يحمل ماءًا كثيرًا، وإذا كان الوادي قليل وهذا الشق قليل يحمل قليلا، يصير رافدا صغيرا، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، قال -جل وعلا- {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا}، السيل وهو السيل هذا اندفاع ماء المطر في الأرض، عند ذلك من إندفاعه واحتكاك الماء بعضه بعضًا يطفو عليه الزبد، رابيا؛ رابي يعني يزداد، كلما مضى وصار الاحتكاك وصار سرعة الماء يقوم يربوا الزبد عليه، أصبح عندنا ماء نازل من السماء وجرى في أوديه بقدرها، وأصبح عندنا زبد رابيا فوق الماء، قال -جل وعلا- {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}، فالزبد كذلك يطفو عند صهر المعادن، الحلية والمتاع عندما نأتي بالأحجار التي فيها معدن الذهب أو معدن الرصاص أو غيره ويوقد عليها النار فإنه يتحول إلى زبد يطفوا عليه، من الأخلاط الموجودة في التربة التي كان فيها هذا المعدن، والذهب ينزل إلى قاع هذه الجفنة أو المكان الذي نصهر فيه المعدن، {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}، زبد كذلك يكون فوق هذا المنصهر ثم قال -جل وعلا- {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً}، الزبد الذي على الماء أو الذي على المعدن يذهب جفاءً، لا نفع له، الجفاء هو التافه الذي لا نفع له، فهذا يزال، زبد الماء يتجمع على بعض الشواطئ وينتهي ولا ينتفع به؛ يعني لا ينتفع به الناس، وكذلك هذا الغثاء والزبد الذي كان على المعدن المنصهر كذلك يرفع ويلقى لا نفع له، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ}، الذي ينتفع به الناس، {فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، فالماء يمكث في الأرض وهذا الماء الذي ينفع الناس، وكذلك المعدن الحقيقي هذا يمكث بعد ذلك ينزل وينتفع به الناس، الزبد لا ينتفعون به والماء والمعدن هو الذي ينتفع به، فالمعدن يبقى والزبد تأتيه الشمس بعد ذلك تضربه ويطلع جفاء لا نفع له.
قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}، كذلك بهذا الإيضاح والبيان يضرب الله الأمثال، لأي شيء؟ هذا للحق والباطل، الله يقول {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، يبين الحق والباطل، فأما الزبد؛ هذا الباطل، فيذهب جفاء، {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}، فالباطل من الشرك والكفر. ناس علق المشرك أمله في غير الله، وعبده وصنع ما صنع، صنع له تماثيل وأنفق له وتعب من أجله وبذل وبذل، كل هذا الذي صنعه زبد، ما له حقيقة، وضع العبادة في غير محلها، وضع الرجاء والدعاء في غير محله، فهذا ما ينفعه شيء، يأتي لا نفع، كل هذا الذي صرفه إنما كان عبارة عن زبد كالزبد الطافي على وجه الماء، أو الزبد الطافي على الإناء الذي صهرنا فيه الذهب ولم ينتفع به شيء، فالكافر لا ينتفع بعمله وعمله كله هباء لا نفع له؛ وإن تفشى وانتفخ، فإن الزبد يطفوا ويعلوا ولكنه لا يفيد، وأما أهل الإيمان الموحدون فإن عملهم حقيقي، الذي دعى الله -تبارك وتعالى- الإله الحق -سبحانه وتعالى-؛ دعاه وعبده، إنما هذا حق؛ فهذا باقي، وسينال ثوابه من الله -تبارك وتعالى- على كل ذلك، فهذا مشى في الطريق الصحيح، مشى في الحق، مؤداه الجنة، نجا من النار، تحصل هناك في ثمرة، في شيء حقيقي لهذا، كالماء الذي يمكث في الأرض ينتفع به الناس، قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}، يعني يضرب مثلا للحق والباطل، {فَأَمَّا الزَّبَدُ}، هذا الباطل، {فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}.
المثل هذا جمع شيء أخر وهو أن الحق كلٌ يأخذ منه على قدره وعلى سعته، فهذا الماء النازل من السماء يسيل أودية، الله يقول {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، كل وادي يسيل بقدره، فهنا كذلك أهل الإيمان، أهل الإيمان في من أخذ من هذا الحق ما أخذ، أخذ شيئا عظيما جدًا وفي من أخذ قليل، كما قال النبي «إن مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب الأرض»، مثل غيث أصاب الأرض، فشبه النبي -صلى الله عليه وسلم- العلم النازل من السماء بالغيث الذي أصاب الأرض، طبعًا إذا كانت الأرض طيبة، قال «كانت الماء نقية فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، وكان منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً، فهذا مثل من فقه في دين الله فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي جئت به»، فالماء النازل من السماء من الناس من يأخذ منه الكثير، يأخذ من الكتاب ويأخذ من السنة فيسيل، {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من أهل الحق ومن أهل الإيمان، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، وأن يجعل هذا القرآن ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وغمومنا وأحزاننا، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}.
نقف عند هذا ونكمل -إن شاء الله- في حلقة آتية، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.