الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (299) - سورة الرعد 17-22

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعلم بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }[الرعد:18-24].

بعد المثل الذي فرق الله -تبارك وتعالى- به بين الحق والباطل، وضرب مثل الحق بالماء الذي يمكث في الأرض فينفع الناس والباطل بالزبد الذي يذهب جفاءً، في قول الله -تبارك وتعالى- {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}[الرعد:17].

بعد هذا شرع الله -تبارك وتعالى- يبين عاقبة الذين اتبعوا الحق واستجابوا لربهم -سبحانه وتعالى-، وعاقبة أهل الباطل الذين لم يستجيبوا له، قال -جل وعلا- {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}، الذين استجابوا لربهم؛ أجابوا ربهم -سبحانه وتعالى-، بأن اتبعوا طريقه، آمنوا بما جاءت به الرسل واتبعوا الطريق الذي دلتهم عليه الرسل إلى ربهم -سبحانه وتعالى-، واستجابوا بالأف والسين والتاء هذه زيادة الفعل هنا لبيان أنهم أجابوا كل الإجابة، لأن زيادة المبنى تدل دائمًا على زيادة المعنى، هم أجابوا الله -تبارك وتعالى- بمعنى أجابوه قالوا نعم، لبيك يا ربنا، آمنا وصدقنا، سمعنا وأطعنا، فاستجابوا لله -تبارك وتعالى-، أجابوا دعوة ربهم -سبحانه وتعالى- التي جاءتهم عن طريق الرسل.

 {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ}، ثم قال الله -تبارك وتعالى- {لِرَبِّهِمُ}، فاستجابتهم حق أن هذه الاستجابة لربهم، لأنه هو ربهم أي خالقهم ورازقهم ومتولي شؤونهم -سبحانه وتعالى-، فالاستجابة في مكانها، فالاستجابة في مكانها وفي محلها، فلم يستجيبوا لأمر بعيد أو لأمر مستنكر... لا، وإنما استجابوا لربهم؛ ربهم الذي يدعوهم -سبحانه وتعالى- إلى هذا الطريق.

قال -جل وعلا- {الْحُسْنَى}، صيغة المبالغة والنهاية من الحسن، والحسنى تشمل كل شيء حسن أعلاها الجنة، أعلى ما يعد الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين الجنة، لأنها دار القرار والاستقرار ودار الفرح والسرور والحبور والخلود والنهاية التي لا نهاية بعدها، فهم بقرب ربهم ثم ما في الجنة بعد ذلك من صنوف المسرات وأعلاها رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، والزيادة رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-، فهؤلاء الذي استجابوا لربهم هذه بشرى الله -تبارك وتعالى-، وعد الله –تبارك وتعالى- لهم أنهم لهم الحسنى، ويشمل هذا الحسنى كذلك في الدنيا، أن الله -تبارك وتعالى- يحسن إليهم كذلك ويجعل لهم الحسنى في الدنيا، من الحياة الطيبة، من اليقين، من اطمئنان القلب إلى الرب -تبارك وتعالى-، كما قال -جل وعلا- {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، فالحياة الطيبة كذلك، الحياة الطيبة التي معنى الطيبة ليست هي الحياة المترفة المرفهة التي يعبون فيها من الشهوات... لا، وإنما الحياة الطيبة معنى الحياة الطيبة الحياة الحقيقية، حياة يكون لكل خطوة من خطوات المؤمن أجر ومثوبة عند الله -تبارك وتعالى-،  يعلم أن هذا حق، فهو مطمئن القلب إلى أن الطريق الذي يسير فيه طريق حق، غير طريق الكفار طريق ظلمة، طريق شك وظلمة وعمه وكل يوم يزداد فيه خسار، فكل خطوة يخطوها إنما هي عليه، وكل شربة ماء يشربها إنما هي عليه، فشتان {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، فكانوا في الدنيا أهل الإيمان الذين استجابوا لربهم في الحياة كانوا في كنف الرب وفي ولايته وفي رعايته وفي عنايته –سبحانه وتعالى-، حتى وإن وقع عليهم ما وقع من الآفات والمصائب هذا أيضًا رضوان لهم من الله -تبارك وتعالى-، فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد:31]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، فهم وإن أصابهم من هذا ما أصابهم بأمر ربهم -سبحانه وتعالى- ومشيئته، فهو خير لهم، هذا كذلك من إحسان الرب -تبارك وتعالى- لهم، من يرد الله به خيرًا يصب منهم، فما يصابون كذلك به في هذه الحياة من المشقات والمعاناة هو من الحسنى، هو من الحسنى من إحسان الرب -تبارك وتعالى- لهم، وذلك أن هذا رفع لدرجاتهم، حط لسيئاتهم، زيادة في حسناتهم، فهم في أمر حسن منذ استجابوا لله، مادام استجاب لله -تبارك وتعالى- أصبح في كنفه، في ولايته، في هدايته، في نوره، ثم نهاية المطاف والمستقر الجنة، حيث لا نصب ولا وصب.

{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى}، الصنف الثاني قال –جل وعلا- {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ}، الله -تبارك وتعالى- أعطى صورة لهم في الآخرة؛ الصورة المزرية، التي هي من أسوأ صورهم، ما يقابلهم كله سيء لكن هذه لعلها من أسوأ الصور، انظر حالة الاستعطاف ومحاولة الخروج مما هم مقدمون عليه من العذاب، يقول -جل وعلا- {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ}، لو أن لهم؛ لكل واحد منهم، {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ}، { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}، لكل واحد كان يملك كل الذي في الأرض، بل ومثله معه؛ يعني وزيادة أرض بما فيها، هذه الأرض كلها بما فيها من كنوزها وخيراتها وأرض أخرى مثلها معها، ليقدمه حتى ينجو من العذاب؛ فدية له، فدية يقدمها لينجو من العذاب، قال -تبارك وتعالى- لو كان لهم هذا لكانوا قدموه ليفتدوا به، والحال أن كل أحد منهم سيأتي عاريًا ليس بيده شيء مما كان يملك، فلا يملك هذه الفدية لكن يقال له عندما يعاين العذاب، أرأيت لو كان لك مثل الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به؟ فيقول إي والله يا ربي كنت أفتدي به، فيقال كذبت، يقول الله له كذبت، قد طلب منك ما هو أهون من ذلك ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا، فهذا لا يقبل منه؛ لا يقبل من الكافر عدل لسيئاته ولو افتدى بمثل الأرض لو كان يملكها، {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ}، يعني لقدموه ليفتدوا به، لكن لو هذا حرف امتناع ما في هذا، وامتناع كذلك أن تقبل الفدية.

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ}، أولئك؛ هؤلاء الأبعدون، الذين لم يستجيبوا لربهم، {لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، سوء الحساب الذي هو نهاية الحساب، وذلك أن الكافر أصلًا لا يوزن له عمل؛ لا يحاسب، ولا يعاتب، فهم لا يستعتبون ولا يقاله لما فعلت ولما لم تفعل، وإنما يساق إلى النار سوقًا، هذا الكافر يساق إلى النار، لا يقيم الله -تبارك وتعالى- له وزنًا يوم القيامة لأنه لا وزنه له أصلًا، ليست له حسنة حتى تقام، ولكن سوء الحساب حسابهم، حسابهم هو هذا، حسابهم هو سوقهم إلى النار، {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:30-33]، يأخذ كتاب أعماله، وكتاب أعماله كلها قد سطرت فيه سيئاته فيسود وجهه لهذا ثم يقال خذوه فغلوه، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}[الحاقة:25-29]، هذا كلامه، ثم يقال{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ}[الحاقة:30-33].  

فهذا حسابه، حسابه عندما يقال له {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14]، ولا يجد له حسنة يمكن أن توضع في جوار سيئاته والكفر سيئة تهدم كل الحسنات، الكفر سيئة تهدم كل الحسنات، ليس مع الكفر والشرك حسنة، فهذا الذي يأتي ربه مجرمًا {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}، {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74]، فهؤلاء لهم سوء الحساب؛ هذا حسابهم.

{وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، المأوى هي ما يلجأ إليه الإنسان للراحة والهدوء والسكنى، هذا هو المأوى، كالبيت والخيمة التي تكون هي مأوى الإنسان، هنا المأوى هذا ليس مأوى للراحة والسكن وإنما هو المستقر، يعني هو مكان قرارهم، المكان الذي يكونون فيه، مأواهم أين؟ أين دارهم؟ أين مقرهم ومستقرهم؟ النار جهنم، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، جهنم هذه البئر العميقة التي أسوارها نار، وقاعها من الشفير من أعلاها إلى أسفلها يقذف الحجر فيها فيمكث سبعين سنة لا يصل قعرًا لها، وغطائها نار -عياذًا بالله-، {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ......}[الأعراف:41]، مهاد من النار وغواش تغشاهم -عياذًا بالله- من النار، فمأواهم هذه، ومأواهم هذه بمعنى ليست هي مأوى للراحة والاستقرار ولكنه هذا مكان حبسهم، {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}، حصار يحصرون فيها -عياذًا بالله-، {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ}، قال -جل وعلا- {وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، بئس للذم، المهاد؛ المكان الممهد، وهذا ليس مكانًا ممهدًا، كيف الإنسان المكان الممهد؛ المكان الذي يمهد ويسوى لراحة الإنسان، كما نقول مهد الصبي؛ المكان الذي يسوى لراحته، فإذا كان الفراش الذي سيكون عليه نارًا بئس أن يكون فراش الإنسان الذي يمكث عليه نارا -عياذًا بالله-.

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى- جعل مقارنة بين هذا وهذا، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ........}[الرعد:19]، هل يستوي هذا وهذا، من يعلم علم وهذا العلم آخذه عن دليل، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، أنزل إليك؛ هذا الوحي، هذا القرآن، النازل من الله -تبارك وتعالى- يعلم أنه الحق، فالذي رأى هذا وعلم أن القرآن حق نازل من الله -تبارك وتعالى-، {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى}، كمن عمي عن هذا ولم ينظر في هذا القرآن ولم يعرفه ولم يؤمن به فهذا أعمى، هذا النور المبين الذي هو أعظم من الشمس في ضوئها؛ كتاب الله -تبارك وتعالى-، فمن استنار به وآمن به وعرف عن طريق هذا القرآن يعرف طريقه، يعرف ربه وإلهه ومولاه وبدايته ومصيره، فهذا الذي آمن بهذا القرآن وعرف الحق وعرف صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، وعرف أن مآل الناس أهل الإيمان إلى الجنة وأهل الكفر إلى النار، هذا الذي هو عرف وأبصر هذا كمن هو أعمى عن هذا الأمر كله، ما عرف هذا ولا آمن بالله -تبارك وتعالى- ولا آمن برسالاته وعرف أن هناك جنة وهناك نار وهناك بعث؛ فعايش في عمى.

 قال –جل وعلا- {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، إنما يتذكر؛ التذكر إعمال للعقل، ونظر في هذه الأمور، ليكون هناك ذكرى وعبرة للمتذكر، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ}، يعني يعتبر وينظر ويتعظ ويعرف هذه ولكن {أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، أهل العقول السليمة، كل ذي لب الذي له عقل سليم هو الذي يتعظ بذلك ويتذكر بذلك، أما من لا يعمل عقله وليست له ذكرى وليس له لب فإنه لا شك أنه يظل أعمى.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يصف أولو الألباب هؤلاء من هم، هذه صفاتهم؛ صفات أهل الإيمان، قال -جل وعلا- {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}[الرعد:20]، الذين يوفون؛ يوفون يعني يأتون بالشيء ...، الوفاء هو الإتيان بالشيء وافيًا كاملًا، فالوفاء والتوفيه هو إكمال الأمر، {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}، يعني يؤدونه كاملًا كما عاهدوا الله –تبارك وتعالى- عليه، عهد الله؛ عهد الله لهم، والله -تبارك وتعالى- قد عهد إلى بني آدم أن يؤمنوا به وأن يسلكوا طريقه -سبحانه وتعالى- وألا يعبدوا غيره، {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس:60-62].

 فعهد الله -تبارك وتعالى- هو المنزل عن طريق رسله إلى الناس، جاء هؤلاء الرسل بنداء من الرب -تبارك وتعالى- ودعاء منه إلى الناس أن يسيروا في هذا الطريق، وأنهم إذا ساروا في هذا الطريق فلهم عند الله -تبارك وتعالى- الحسنى، وجزاؤهم كذا وكذا مما وعد الله -تبارك وتعالى- به، وإن تنكبوه وخرجوا عنه فلينتظروا عقوبة الرب -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، فهذا خطاب الله لهم وهذا عهد، عاهد الله -تبارك وتعالى- كل عباده أن يسلكوه، وأن من فعل؛ له كذا، ومن لم يفعل؛ له كذا، فهؤلاء الذين يوفون بعهد الله قالوا سمعنا وأطعنا والتزمنا بما عاهدنا الله عليه، فالمؤمن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله؛ عاهد الله -تبارك وتعالى-، أصبح بينه وبين الله عهد، وقامت بينه وبين الله صلة؛ صلة أن هذا عبد لله، مؤمن بالله -تبارك وتعالى-، متبع طريق الرب -جل وعلا- فيوفي بهذا، قال هذا؛ يوفي به، {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ........}[الرعد:20]، هذا معنى، وكذلك يدخل في عهد الله كل ما عاهد العبد غيره وأشهد الله -تبارك وتعالى-، فكل عهد، كل صلة، كل اتفاق، بين اثنين هو قد عاهد الله -تبارك وتعالى- على هذا.

{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}[الرعد:20]، النقض هو الحل بعد الإبرام، الإبرام هو تمتين الأمر ووصله وتوثيقه، ونقضه هو فكه وخلعه وقطعه، {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}، الميثاق كذلك هو العهد، الميثاق؛ الموثق، الذي هو تأكيد الأمر، فتوثيق الأمر هو تأكيده، فلا ينقضون ميثاقًا، لا ينقضون عهدًا وثقوه وأبرموه بينهم وبين الله –تبارك وتعالى- أو بينهم وبين العباد، {وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ}، وأعلى هذه المواثيق ميثاق العبد وربه –تبارك وتعالى-، أن يعبده ولا يشرك به شيئًا.

{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ........}[الرعد:21]، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل؛ كل أمر أمر الله أن يوصل يصلوه، والذي أمر الله -تبارك وتعالى- أن نصله حبله؛ صراطه، كما قال -جل وعلا- {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}، التمسك بهذا الحبل، أن تكون موصولا بحبل الله -تبارك وتعالى-، كذلك أمر الله -تبارك وتعالى- بصلة أناس بأعينهم ممن يكون لنا صلة بهم، كالوالدين والأرحام، صلة الأرحام هذه يجب أن نصلها ولا نقطعها فلا يدخل الجنة قاطع، القاطع الذي يقطع صلته بأبويه، العاق هذا، والعق هو القطع كذلك، أو صلته بأرحامه لأن الرحم أن الله قال للرحم «ألا يسرك أنه من وصلك وصلته ومن قطعكي قطعته»، فمن قطع رحمه قطعه الله -تبارك وتعالى-، فالذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل؛ كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به أن يوصل، من تمسك بكتابه، بسنة نبيه، بأن يصل الأرحام، هؤلاء يصلون، ما دام أن ربك أمرك أن تصل هذا فتكون متمسك به واصل له.

 {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ........}[الرعد:21]، الخشية؛ خوف مع تعظيم، يخافونه -سبحانه وتعالى- ويعظمونه، وذلك أنه الرب الإله الذي يؤاخذ بالذنب ويعاقب به وعقوبته شديدة، فيخافون من ربهم -سبحانه وتعالى- أن يؤاخذهم بذنوبهم، فهم دائمًا في خوف من الله -تبارك وتعالى- وهذا الخوف هو الحامل لهم على فعل الطاعة وعلى اجتناب المعصية، {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}، يخافون يوم القيامة أن يكون حسابهم سيئًا أمام الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن من نوقش الحساب عذب، لو نوقش الحساب وقيل له لما فعلت فهذا عذب، وفعلت كذ وكذا عذب، فالمؤمن يعرض أعماله عرضًا على الله -تبارك وتعالى- ويحاسب حسابًا يسيرًا، { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا}[الانشقاق:7-12].

 يخافون سوء الحساب؛ وسوء الحساب بعده ما يترتب على هذا، يعني ما يترتب على مناقشة الحساب وعلى هبوط الحسنات عن السيئات، ويكون إذا كان ما يترتب بعدها من دخول النار ولو برهة، ولو وقت قليل، ولو لحظات، فلو دخل النار يخاف من هذا، يخاف الخوف العظيم، وكذلك الموقف فإن أهوال يوم القيامة أهوال عظيمة، فالمؤمن يظل خائفا؛ خائف من هذا اليوم، قولة المؤمنين {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}[الإنسان:10]، {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}.

{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}، هذا أيضًا هؤلاء الذين كل هذا تفصيل لصفات أولي الألباب الذين استجابوا لربهم، {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}، صبروا على كل ما يصبر عليه من المشاق، صبروا على الطاعة، صبروا عن المعصية، صبروا على الأحداث التي نتنتابهم في هذه الدنيا، {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، صبروا على الأذى الذي ينالهم في هذا الطريق، هذا كله يدخل في معنى الصبر الذي مأمور المؤمن أن يصبر عليه، فيجب أن يصبر على الطاعة؛ الطاعة تحتاج صبر، مثل الصلاة والمداومة عليها تحتاج إلى صبر، والصوم من الصبر، والحج وما فيه من المشاق والمتاعب تحتاج إلى صبر، الزكاة تحتاج إلى مجاهدة واخراج لها، وصبر على هذه المجاهدة وخاصة إذا كان الإنسان شحيحًا بخيلًا، الصبر في الجهاد أعظم الصبر، أعظم الصبر على الجهاد في سبيل الله، فهذه الطاعة كله صبر على الطاعة،.

 الصبر عن المعصية، قد تكون المعصية التي تدعوه معصية لها دواعي شديدة في النفس، كداعية الزنا وغليان الشهوة فإذا صبر واعتصم بالله -تبارك وتعالى- وكف عن المعصية هذا صبر، احتاج حبس النفس، الصبر على انفاذ الغضب، فإذا أعتدي عليه وظلم صبر على هذا الظلم، فالصبر عن المعصية هذا أنواع من الصبر.

 الصبر بعد ذلك على الأحداث، الأحداث التي تأتي من موت عزيز، من مرض، من غيره ضر، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155)الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:155-156].

 ثم بعد ذلك الصبر على أذى الكفار وعلى عدوانهم، فهذا أمر عظيم جدًا وهذا مر، فيصبرون على هذا كذلك، والذين صبروا وصبرهم كان ابتغاء وجه ربهم، يعني أن صبرهم لله فصبروا في كل هذه الميادين وكان الداعي والدافع والحامل على صبرهم هذا هو أنهم يريدون وجه ربهم -سبحانه وتعالى-، يريدون التقرب إلى الله -تبارك وتعالى- ويريدون الفوز بمرضاته وما عنده -سبحانه وتعالى-.

{ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ}، أقاموا الصلاة؛ أدوها على وجهها الأكمل، هذا أيضًا من صفات هؤلاء أولي الألباب، {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً}، أنفقوا؛ الإنفاق إخراج المال، مما رزقناهم؛ من كل ما يؤتاه الإنسان هو من رزق الرب -تبارك وتعالى- وعطائه، سرًا وعلانية؛ وقدم السر على العلانية لأن صدقة السر أعلى وأعظم وأكرم من صدقة العلانية، قال {سِرًّا وَعَلانِيَةً}، {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}، يدرءون بالحسنة السيئة؛ يعني إذا أسيء إليهم قدمت لهم السيئة فإنهم يدفعونها بالحسنة، فمن سبهم مثلًا أو شتمهم أو عابهم يدعون له، يسامحونه، يقابلونه بالإحسان، كما قال -جل وعلا- {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ........}[فصلت:34]، يعني ادفع السيئة بما هو أحسن منها؛ أي بالحسنة، فيدرئون بالحسنة السيئة قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}، أولئك؛ هؤلاء المذكورون بهذه الصفات، لهم عقبى الدار؛ عاقبة الدار.

نأتي -إن شاء الله- إلى هذه الآيات مرة ثانية في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.