الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (3) - مقدمة

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ أيها الإخوة الكرام موضوعنا في هذه الحلقة عن "غايات القرآن الكريم" لماذا أنزل الله تبارك وتعالى كتابه القرآن على عبده ورسوله محمد –صلى الله عليه وسلم-، هناك غايات كثيرة ونذكر منها عشر غايات وأهداف للقرآن الكريم في العالمين.

أول هذه الأهداف؛ أنّ الله –تبارك وتعالى- أنزل كتابه نذارة للعالمين، قال –تبارك وتعالى-: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1] والعالمون هنا كل من أرسل لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- والنذارة هي الإخبار بما يخوف، وقد خوف الله –تبارك وتعالى- عباده من العقوبة الشديدة  التي تنتظرهم إن هم لم يؤمنوا بنبيه –صلى الله عليه وسلم- وبهذا القرآن ويسلكوا الصراط الذي شرعه لهم –سبحانه وتعالى- قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)}[الفرقان]، فهذا الرب الإله الذي هذه صفته أنزل القرآن على عبده لينذر العالمين بالعقوبة الشديدة التي تنتظرهم، كما قال –جل وعلا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (2) قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ ....}[الكهف:1، 2] (لِيُنذِرَ) أي الرب –تبارك وتعالى- (بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ) من عنده، { ... وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}[الكهف]، فالقرآن نذير للعالمين، قال –جل وعلا-: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ (أي بالقرآن) جِهَادًا كَبِيرًا (52)}[الفرقان].

ثمّ القرآن بشارة لأهل الإيمان، والبشارة هي الخبر بما يسر، أنزل الله –تبارك وتعالى- كتابه ليبشر الله –تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بما ينتظرهم جزاء إيمانهم بالله –تبارك وتعالى- وتقواهم وسيرهم في طريق رب –جل وعلا-، الإيمان يحمل هذه البشارة، وقد جاءت هذه البشارة في آيات كثيرة من القرآن الكريم، يبشر الله –تبارك وتعالى- عباده بالحياة الطيبة في هذه الدنيا بوراثة الجنة، في قوله –سبحانه وتعالى-: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، {.... فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}[طه:123]، هذه بشارة، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)}[طه]، وكون هذه النذارة بكلام الله المباشر، وهذه البشارة كذلك بكلام الله المباشر لخلقه، تكون أعظم وأبلغ من أن تكون كلامًا يصوغه النبي –صلوات الله وسلامه عليه- أعني وحيًا من الله يصوغه النبي بكلامه هو، فكون هذه البشارة والنذارة نصًا ومعنًى من كلام الله، ثم خطابًا مباشرًا، فيكون هذا أبلغ في النذارة وكذلك أبلغ في البشارة.

من أهداف القرآن كذلك أنه هداية للعالمين، ومعنى الهداية أنّ الله –تبارك وتعالى- أراد أن يرشدهم إلى طريقه، فيبين لهم طريق الحق، معنى توحيده -سبحانه وتعالى- معنى الإيمان به، قال –جل وعلا-: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ...} [البقرة:185] ثم وصف القرآن فقال: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ....}[البقرة:185] {هُدًى لِلنَّاسِ} يعني هداية للناس جميعًا، والهداية هنا بمعنى الإرشاد والبيان، فالقرآن كتاب ميسر مفصل، بيَّن الله –تبارك وتعالى- به طريقه أتم البيان وقطع به العذر لكل أحد أن يقول: "لم أعرف طريق الرب"، بل هذا طريق الرب واضحًا قد فصله القرآن.

ثم القرآن بعد أنه هداية للناس جميعًا، هو هداية خاصة لأهل الإيمان، وهذا الهدى الخاص له معانٍ كثيرة، منها أنه خطاب مباشر من الرب –تبارك وتعالى- إذا استقبله الإنسان بصدق  صدّق هذا الصدق  وأخذه فإنّ الله –تبارك وتعالى- يشرح صدره له، ويحوله من إنسان إلى إنسان آخر يحييه الله –تبارك وتعالى- به كما قال –جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ(53)}[الشورى] فأخبر –سبحانه وتعالى- أنّه جعل كتابه هذا نورًا لكن يهدي الله –تبارك وتعالى - به طائفة خاصة من عباده به، يحولهم تحويلًا آخر ينشئهم إنشاءً، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا..} [الشورى: 52] وصف هذا القرآن بأنّه روح، وذلك أنّه يفعل فعل الروح في إحياء ما تدخل فيه، فالقرآن يحيى الله –تبارك وتعالى- به القلوب الميتة، ويفتح به الآذان الصم والأعين العمي، فيهدي الله –تبارك وتعالى- به من يشاء إلى طريقه، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ..} [الشورى: 52] أي النبي قبل نزول هذا الوحي عليه، إنما كان غافلًا عن هذا الدين القويم، وهذا الأمر العظيم الذي أنزله الله –تبارك وتعالى- عليه، {... مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ (أي القرآن) نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فقول الله {نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} من اختارهم الله –تبارك وتعالى- للهداية، وإلا فإنّ عامة الناس لا يهتدون به، بل هو كما قال الله: {... عَلَيْهِمْ عَمًى ... } [فصلت: 44]، كما قال –جل وعلا-: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}[يس:1-11] فأخبر –سبحانه وتعالى- أنّ هذا القرآن وهو نذارة عظيمة لكنه لا يستفيد منه الكافر، وإنما يستفيد منه من وفقه الله –تبارك وتعالى- إلى الإيمان، وهذا المعنى قد جاء في السورة الثانية من سور القرآن –السورة الكبرى- سورة البقرة، قال –جل وعلا-: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)}[البقرة:1-2] فحصر الله –تبارك وتعالى- الهداية به للمتقين، ثم وصف هؤلاء المتقين فقال: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}[البقرة:3-5] {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى} هؤلاء هم الموصوفين بهذه الصفات وهم المتقون على هُدًى مِنْ رَبِّك، فهؤلاء {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} يعني على هداية، و(عَلَى) هنا للتمكن من هداية الرب –سبحانه وتعالى-، فالقرآن هداية خاصة لأهل الإيمان، وهذا الهدَى الخاص له معانٍ، أولًا أنه ينقلهم من واقع لواقع، من الموت بالكفر والشرك إلى الحياة بهذا النور والإيمان، ثم إنّ خطاب الرب –تبارك وتعالى- لهم خطاب رحمة، خطاب موعظة، خطاب تحبيب في الأمر، خطاب تحذير من المعصية، فبهذا يستقيمون على طريق الرَّب –جل وعلا-.

من أهداف القرآن أنّ الله –تبارك وتعالى- جعله كتابًا لدحض الباطل، فليس هناك عقيدة من عقائد الباطل -مما ينتحلها الناس- إلا وجاء القرآن بإبطالها، ومن أجل ذلك نزَلَ القرآن منجمًا على مدى عمر النبي الرسالي، وهو عشرون سنة، كان النبي فيها رسولًا –صلوات الله وسلامه عليه- نزَلَ القرآن منجمًا أي مقطعًا يعني نُجم ثلاث آيات، آية مرة، شطر آية، كلمة مرة، سورة كاملة مرة تنزل، وقد اعترض الكفار على نزول القرآن على هذا النحو، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ....}[الفرقان:32] لماذا لم ينزل القرآن كله في كتاب واحد مرة واحدة على النبي؟ قال -جل وعلا-: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] هذا معنى، {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان:32] هذا معنى، {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33] وهذا المعنى المراد هنا {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} من أمثال الكفر {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} مثل التوحيد {وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}، فكل عقيدة وكل شبهة كان الكفار يأتون بها ليدفعوا بها الحق كان الله –تبارك وتعالى- يُنزل الآيات التي تبطل شبهتهم هذه، واستمر هذا على عمر النبي الرسالي كما ذكرنا؛ ليستوعب كل الشبهات التي يمكن أن يقابل بها الإسلام، فكل شبهات وعقائد المشركين –مشركي العرب- جاء القرآن بدحضها وإبطالها، وسيأتي هذا مفصلًا فى التفسير.

وكذلك كل الشبهات التي أتى بها اليهود، فإنّ القرآن جاء بدحضها وبيان بطلانها، ونشر فضائحهم ومخازيهم، وأقام الحجة عليهم بكل السبل، وكذلك النصارى؛ فإنّ القرآن ناقشهم في صلب عقائدهم، وفي تشريعاتهم، وبيَّن ما هم عليه من الباطل، وبيَّن الحق في هذا السبيل، وهم الناس؛ يعني كان الناس في هذا الوقت هؤلاء، ثم كذلك عقائد الدهرية الذين لا يؤمنون بإله ولا برب لهذا الكون ولا بخالق له، ويعيشون حياتهم يظنون أنهم وجدوا من غير مُوجِدْ، وأنهم يموتون ثم لا تكون حكومة ولا بعث ولا نشور كذلك، هؤلاء وهم سواد أهل الأرض في كل وقت وزمن، كذلك جاء القرآن ببيان فساد اعتقادهم، وبيان ما هم عليه من الباطل، هذا ليبقى القرآن كتاب عقيدة، كتاب معتقد، لا توجد عقيدة من عقائد الباطل إلا ودحضها مع بيان عقيدة الحق.

بهذا أقام الله –تبارك وتعالى- وهذا من أهداف القرآن؛ إقامة الحجة لله على عباده، {...لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ...}[النساء:165]، فالقرآن المكتوب على هذا النحو والذي نزل بهداية الرَّب وتفصيل الأمر على هذا النحو، من وصلته هذه الرسالة فيصبح لا عذر له، كما قال –تبارك وتعالى-: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)}[طه:99-101] (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) عن القرآن (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا) ذنب، وهذا الذنب يحمله حملًا أبديًا لا ينفك عنه، لا يستطيع أن يفتك من ذنبه هذا مهما فعل، ولو كان يملك مثل الأرض ذهبًا ليفتدي به لا يُفعل، لا شفاعة لا استبدال لا موت، يتمنى الموت ولا يكون فإذن قال الله –تبارك وتعالى-: {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا} [طه:101]، فمن أعرض عن القرآن بعد هذا البيان والإيضاح وإقامة الحجة  ينهار عذره عند الله –تبارك وتعالى- لا يستطيع أن يقول يوم القيامة لم أعرف الحق، لم أتبيّن الطريق، بل أقيمت الحجة على كل أحد.

وهذا كتاب ميسر للفهم وللعمل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:17] (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) جعلناه ميسرًا فإنه بلغة عربية يفهمها  أهلها كل من تكلم بالعربية يستطيع أن يفهم عن الله –تبارك وتعالى- مراده، فقد يسره الله لم يجعله كتابًا ككتب المنطق أو كتب الفلسفة مغلقًا لا يفهمه إلا طائفة خاصة بعلوم خاصة؛ حتى يرتقوا إلى أن يفهموا القرآن، بل يستطيع أن يفهمه كل من يدرك أساس اللغة فإنه يفهم عن الله –تبارك وتعالى-، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1)اللَّهُ الصَّمَدُ(2)لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3)وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ(3)}[الإخلاص] كلامٌ سهل واضح في معنى الرَّب الإله –سبحانه وتعالى- يفهمه كل أحد، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)}[الفاتحة:2-7] كلامٌ عربيٌ ميسر، من جمع شيئًا من العربية استطاع أن يفهم مراد الله –تبارك وتعالى، وأما الشرح والبيان النبوي الرسالي فإنّ هذا في تفصيلات الأحكام، لكن أصل الدين لا شك أنه  تُقام به  فالقرآن كتاب ميسر يقيم الله –تبارك وتعالى به الحجة على كل عباده.

أيضًا من أهداف القرآن –وقد ذكرنا هذا فى حلقة ماضية- الإعجاز أنّ الله جعله برهانًا للنبي –صلى الله عليه وسلم-، برهانًا على صدق النبي –صلى الله عليه وسلم- وهذا برهان باقي، وليس كمعجزات الأنبياء حيث يكون معجزة يراها يعني المعاصرون لها والمشاهدون لها ثم تنتهي بعد ذلك، لا هذه معجزةٌ مرئية مسموعة قائمة منذ النبي –صلى الله عليه وسلم- وإلى أن يشاء الله –تبارك وتعالى- برفعه هذا القرآن من الأرض، فأكبر معجزات الأنبياء، لم يعط نبي معجزة كهذه المعجزة، دليل على صدقه كهذا الدليل، ما من نبي إلا وقد أُوتيَ ما على مثله آمن البشر، وكان الذي أوتيته وحيًا أوحَاهُ الله إليه؛ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة، لذلك كان النبي هو أكثر الأنبياء  من الأتباع والأنصار وذلك أنّ الله -تبارك وتعالى- أعطاه هذا القرآن الذي تحدى الله –تبارك وتعالى- به الناس جميعًا، أنهم إن كذبوا النبي فيما يقوله أنه رسول الله؛ فليأتوا بسورة من مثل سور هذا القرآن، لا تتضمن معاني كمعاني سوره بل صياغة، أن يصوغوا من هذا الكلام الذي يتكلمون به، كلامًا يشبه هذا الكلام كلام الله –تبارك وتعالى- في النظم، في الحلاوة، في أداء المعنى المراد أداؤه بهذا المستوى، والعرب أمة كانت تُحسن هذا الأمر، تُحسنُ أمر الكلام وتضع النقاد له، الصيارفة الذين يعرفون الكلام العالي من الكلام السافل، الكلام الجيد الحسن من الكلام الرديء، كانوا يعرفون هذا تمامًا ويقدرون الكلام، ولذلك أقاموا أسواق لنقد الكلام، شعرًا ونثرًا ولاشك أنهم عجزوا وعجزَ مَنْ بَعدهُم وهذا كُبراء نُقادهم كـ"الوليد بن المغيرة" لما قيل له: قل في القرآن، لابد أن تقول فيه كلامًا ستأتينا وفود العرب وتسمع من النبي فتؤمن فنقول إنه شعر، فقال: عرفنا الشعر كله بسيطه ورجزه وطويله فوالله ما هو بالشعر، ولا يجري على نسق من أنساق الشعراء، قالوا: كهانة، قال: هذا عرفنا زمزمة الكهان وسجعهم، فما هو بزمزمتهم ولا بسجعهم، وأخبرهم أنه لا يجري  ثم قال لهم: إنّ لكلامه لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، فيعلوا على كل الكلام، ولا يمكن أن نجد كلامًا يعلو عليه في صياغته وبيانه، وإنه يحطم ما تحته، ولا يمكن مقارنة أي كلام أي شعر أي أسلوب بأسلوب القرآن في البيان.

وهكذا حاول كثير من الزنادقة والكفرة بعد ذلك أن يعارضوا القرآن بشيء من الكلام فيجعلوه في مستواه؛ فعجزوا عجزًا بينًا، أقول من أهداف نزول القرآن على الرسول –صلوات الله وسلامه عليه- أنه نزل على هذه الصورة المعجزة في الصياغة، ليكون دليلًا حيًا باقيًا للنبي –صلوات الله وسلامه عليه- قال –جل وعلا-: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ...}[العنكبوت:51] هذا الذين قالوا لولا أنزل عليه آية من ربه، لماذا لم تأت آية مثل آيات الأنبياء التي هي الآيات القاهرة كعصى موسى ونحو ذلك، قال –جل وعلا-: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ...} (القرآن) {... يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51].

هدف عاشر من أهداف القرآن؛ وهو أنه كتاب مثوبة، جعل الله –تبارك وتعالى- القرآن كتاب ثواب لأهل الإيمان، والثواب بالقرآن ثواب عظيم في كل شيء، طبعًا الإيمان به ,قراءته , القيام به في الصلاة , حفظه , محبته ,  العناية به، كل تعلق للمؤمن بالقرآن ففيه ثواب، فأدنى ذلك القراءة، قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «من قرأ حرفًا من كتاب الله أعطاه الله عشر حسنات، لا أقول لكم ألم حرف ولكن ألف حرف لام حرف ميم حرف»، فهذا ثواب عظيم على مطلق القراءة أي قراءة، حتى لو كان فيه صعوبة لمن يقرأ، كما قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «الذي يقرأ القرآن وهو يتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران»، والماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والسفرة هنا هم الملائكة، سموُا سفرة  لبياض الوجه، مع السفرة الكرام البررة، يقال لقارئ القرآن اقرأ ورتل وارتقي كما كنت ترتل في الدنيا فإنّ منزلتك عند آخر أية تقرأها" اقرأ يقال -يوم القيامة - لقارئ القرآن يعني حافظه، اقرأ ورتل كما أمر الله –تبارك وتعالى- بترتيل القرآن ، ارتقي علوًا في الجنة، فإنّ منزلتك -أي في الجنة- عند آخر آية تقرأها، قال بعض أهل العلم: "إن عدد درجات الجنة عدد آي القرآن"، فكأنّ من حفظ القرآن كان فى الدرجة العليا، على كل حال – الله –تعالى- أعلم لكن لاشك أنّه كل ما كان العبد أحفظ لآيةٍ من كتاب الله كان أعلى منزلةً في الجنة، فهذا من حيث القراءة والحفظ، وقال الله –تبارك وتعالى-: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ....}[العنكبوت:49]، وقد بيَّن –تبارك وتعالى- أنه بعلم القرآن يرفع الله –تبارك وتعالى- من يشاء من عباده، {...يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...}[المجادلة:11]، والعلم هو العلم بهذا الكتاب، لأن هذا هو العلم الحقيقي، لا علم أشرف من علم القرآن هذا أشرف العلوم وأعلاها منزلة، ولذلك قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل أتاه الله القرآن فهو يقرأه أناء الليل وأطراف النهار»، فهذا هو الذي ينبغي أن يُحسَد ويغبط، يُحسد هنا ليس بمعنى أن يُتمنى زوال النعمة منه بل أن يطلب العبد أن يكون له مثل ما له هذه هي الغبطة، لأن الحسد بمعنى زوال النعمة مذموم، أما الحسد بمعنى أن يتمنى الإنسان أن يكون له من الفضل مثل ما للآخر فهذا ممدوح، بل له أجره إن لم ينل ذلك، فقول النبي: « لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق» يعني أهلك ماله في الحق، يعني فى الصدقة وفي البر وفي الإحسان وفي الصلة وفي الإنفاق في وجوه الخير التي يحبها الله –تبارك وتعالى-، ورجل علمه الله القرآن أو أتاهُ الله القرآن فهو يقوم به – يقوم بالقرآن أناء الليل وأطراف النهار، يعني يقوم به في كل أوقاته، سواءً كان قيامه هنا بمعنى قيامه بالعمل، أو قيامه هنا قيامه في الصلاة، ثم إن القيام بالقرآن في الصلاة هذا من أشرف الأعمال كما قال –تبارك وتعالى-: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)}[السجدة]، وقال –جل وعلا- في بيان القائم بالقرآن: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:9]، فأهل العلم بالقرآن هم أشرف الناس وأعلى الناس، ولذلك قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»، قال أيضًا في الحديث الآخر: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين»، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما أي بأخذهم له وتعلمهم له، وقد كان النبي –صلوات الله وسلامه عليه- يرفعهم في الدنيا قبل الرفعة في الآخرة، فكان إذا أتاهُ وفد يسألهم أيهم أحفظ قرآنًا من غيره، فالأحفظ قرآنًا كان يُأَمْرهُ –صلى الله عليه وسلم- جاء رجل فقال أحفظ كذا وكذا وسورة البقرة قال: تحفظ سورة البقرة، قال: اذهب فأنت أميرهم، فكان يُؤَمِّر الأحفظ لكتاب الله –سبحانه وتعالى-، وكذلك تقديم الأحفظ في الصلاة كما قال النبي –صلوات الله وسلامه عليه-: «يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله»، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فجعل الإمامة للصلاة وهى نوع من التقديم جعلها لـلأقرأ لكتاب الله.

والشاهد من كل هذا أن الله جعل القرآن مثوبة، العناية به مثوبة، ولذلك أوصى النبي بهذا الأمر لتكون له الدرجة العليا عند الله –تبارك وتعالى- والمنزلة التي لا منزلة يعني فوقها والتي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وهو النبي إن شاء الله –صلوات الله وسلامه عليه-، قال –تبارك وتعالى-: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ ...}[الإسراء:79]، (فَتَهَجَّدْ بِهِ) بالقرآن {...عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، و(عَسَى) من الله يعني حق، {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، فلو كان ثَمّ عمل ممكن أن يعلي الله –تبارك وتعالى- به منزلة النبي في الجنة أشرف من القيام بالقرآن لدل الله النبي عليه –صلوات الله والسلام عليه- فدله على الحرص على هذا الأمر وهو القيام، وهو أول أمر كذلك من الأمور الخاصة أمر الله بها نبيه كقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)}[المزمل:1-5]، فأوصاه الله –تبارك وتعالى- بقيام الليل وكان هذا للمؤمنين عامة وللنبي معهم –صلوات الله وسلامه عليه- ثم خفف الله الحكم عن عامة المؤمنين وأبقاه فى حق النبي –صلوات الله والسلام عليه-.

هذه عشر أهداف من الغايات التي من أجلها نزل القرآن، وهي أهدافٌ عظيمة .

نسأل الله –تبارك وتعالى- أن يجعلنا من أهل القرآن، الذين اختارهم واصطفاهم كما قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)}[فاطر:32-35].

والحمد لله رب العالمين