الجمعة 18 شوّال 1445 . 26 أبريل 2024

الحلقة (30) - سورة البقرة 97-101

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الأخوة الكرام، يقول الله –تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[البقرة:97]، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:98]، ذكر أهل العلم تفسير سر نزول هذه الآية، أن اليهود سألوا النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقالوا من يأتيك بالوحي؟ فقال جبريل، فقالوا هذا عدونا من  الملائكة، هذا ينزل بالحرب، وإنما الملك الذي يحبونه إنما هو ميكائيل، وذلك أنه يأتي بالزرع، وذلك لأنه موكل بالنبات وبالزرع وبالماء.

فيقول الله –تبارك وتعالى- {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}، الذي يعادي جبريل إنما هو يعادي الله –تبارك وتعالى- فإن جبريل هو روح الله، القدس المؤتمن على وحي الله –تبارك وتعالى-، النازل بالوحي منه –جل وعلا- على الرسل جميعًا، فهو سفير الله إلى الرسل، فهو النازل على موسى وعلى عيسى وعلى محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، فمن عادى جبريل فقد عادى الله –تبارك وتعالى-، وهو الذي أنزل القرآن على قلب النبي –صلوات الله وسلامه عليه-، وهذه صورة الوحي جبريل يقرأ الآيات، فيجمعها الله –تبارك وتعالى- في قلب النبي، لم ينزل بورق مكتوب ولا بصحائف مكتوبة يقرأها النبي، إنما وحي يلقيه، يقرأه من الله –تبارك وتعالى- فيجمع في قلب النبي، وأن هذا الوحي نازل بإذن الله –سبحانه وتعالى-، وهذا القرآن الوحي الذي جاء هو مصدق لما بين يديه من التوراة والإنجيل، بما عند اليهود ما يؤمنون به، {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، القرآن هداية عامة للناس جميعًا، وهدى خاص لأهل الإيمان، ثم هو فيه البشرى لأهل الإيمان.

ثم قال –جل وعلا- {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:98]، الذي يؤمن بالله –تبارك وتعالى- يجب أن يعظم الله، يحبه؛ يحب ملائكته، فإن ملائكته فاعلون بأمره –سبحانه وتعالى- ويحبه كذلك، ويؤمن بجميع رسله، فإنه هو الذي اختارهم، وهو الذي أرسلهم –سبحانه وتعالى-، فمن عادى أحدًا منهم كأنما عادى الله –تبارك وتعالى-، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ}، أي أحد يكون عدوًا لله وملائكته ورسله، ثم ذكر الله –تبارك وتعالى- جبريل، من باب ذكر الخاص بعد العام لأهمية في هذا الخاص، وهو أنه موضوع كراهة اليهود، وهو موضوع الرد، فإن اليهود كرهوا جبريل الذي نزَّل الرسالة على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، إما لقولهم إنه هو الذي يأتي بالحرب، ومن ظنهم أنه حوَّل الرسالة من شخص يكون في بني إسرائيل إلى النبي محمد في العرب، وكأن هذا فعل منه واختار منه، تعالى الله –تبارك وتعالى- أن يكون في ملائكته من يفعل ذلك ويقره، كيف يقر الله –تبارك وتعالى- الملك على الباطل! أو كيف يفعل ذلك بغير إذنه! وبغير أمره –سبحانه وتعالى- تعالى الله عن ذلك، وميكال هو رسول من الله –تبارك وتعالى-، وفيما وكله الله –عز وجل- ولا فرق في الإيمان بين جبريل وميكال، فإن هذا مأمور بما وكله الله –تبارك وتعالى- به، وهذا مأمور بما أمر الله –تبارك وتعالى- به، وكلٌ أقامه الله –تبارك وتعالى- فيما أقام من العمل، مؤمنًا بالله –تبارك وتعالى-، منفذًا لأمر الله –جل وعلا-.

قال –جل وعلا- {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}، أي أن الإيمان بالله يجب أن يكون كذلك هو الإيمان بملائكة الله جميعًا، برسل الله جميعًا، هؤلاء أمرٌ واحد، الإيمان أمرٌ واحد، فمن أخرج ملكًا من ملائكة الله، فقال أنا أؤمن بالله ولكن أبغض هذا الملك، فقد أبغض الله –تبارك وتعالى- وكفر بالله، وكذلك إذا قال أنا أؤمن برسول الله هذا ولا أؤمن بهذا الرسول، أو أكره هذا الرسول فقد كفر بالله –تبارك وتعالى- وكفر برسله جميعًا، لأن الذي اختار الرسل كلهم إنما هو الله –سبحانه وتعالى-، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:98]، كل هذا جاء في سياق بيان تناقض اليهود في معنى الإيمان، وأن دعواهم بأنهم مؤمنون بالتوراة وبحكمها، ومؤمنون بموسى، وكفرهم بالباقي؛ هو كفر كذلك بالتوراة وبموسى، لأن الإيمان قضية واحدة، ومن لم يأخذ الإيمان كله إذا كفر بفرعية من فرعيات هذا الإيمان، فقد كفر بالإيمان كله، فلو كفر برسول واحد فقد كفر بالرسل جميعًا، عادى ملكًا واحدًا لله –تبارك وتعالى- فقد عادى الله وملائكته جميعًا، ورسله كلهم لأن الإيمان قضية واحدة.

ثم قال –جل وعلا- {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}[البقرة:99]، في النهاية يخبر الله –تبارك وتعالى- بأن هذا القرآن المنزل على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، إنما نزل وهو آيات بينات، - {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا}، يؤكد الله –تبارك وتعالى- على أنه هو –جل وعلا- الذي أنزل هذه الآيات البينات المنزلة على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، {أَنزَلْنَا إِلَيْكَ}، مخاطب النبي محمد –صلوات الله وسلامه عليه- آيات جمع آية؛ والآية هي العلامة، وكل آية من آيات القرآن، كل هذه الجملة المفصولة برقم آية، لأنها دليل وعلامة على أنها من عند الله –تبارك وتعالى-، {بَيِّنَاتٍ}، بينات واضحات، البيِّن هو الواضح الظاهر، يقول العرب ((قد بيَّن الصبح لذي عينين))، أي أصبح ظاهرًا واضحًا، فكل من له عينين –مثلًا- يرى الصبح، فبيانها أنها من عند الله –تبارك وتعالى-، من قرأ هذه الآيات علم يقينًا أنها ليست من عند النبي –صلوات الله وسلامه عليه- وأنها من عند الله –جل وعلا-، وأن هذا القرآن لا يمكن أن يفترى من دون الله، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ}، لا يمكن أن يصوغه وأن يقوله إلا الله –سبحانه وتعالى-.

ثم قال –جل وعلا- {وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}، ما يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون، الخارجون عن طريق الرب –سبحانه وتعالى- لأن الفسق هو الخروج، وهذا الفسق هنا؛ فسق خارج عن الدين كله، وما يكفر بها لأن هذا كفر بآيات الله –تبارك وتعالى- فيكون فاسقًا خارجًا بالكلية عن طريق الرب –جل وعلا-، إذن في النهاية أقول هذه الآية جاءت في النهاية، بيان أن كفر اليهود بالقرآن المنزل على محمد –صلوات الله وسلامه عليه- هو الكفر بعينه، وهو الخروج عن طاعة الله –تبارك وتعالى- وعن طريقه مطلقًا وأن دعواهم بأنهم مؤمنون بما أنزل عليهم دعوة باطلة، الذين قال آمنوا بما أنزل الله القرآن، قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويعتبرون هذا إيمان، هذا ليس إيمان بل هذا هو عين الكفر أن تكفر بالذي أنزله الله –تبارك وتعالى- على محمد، مع ادعائك بأنك آمنت بالذي أنزله الله –تبارك وتعالى- على موسى، من آمن بما أنزل الله على موسى يجب أن يؤمن ما أنزل على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، لأن الجميع من ربٍ واحد، إلهٍ واحد –سبحانه وتعالى-، فهو الذي أرسل هذا الرسول، وهو الذي أرسل هذا الرسول.

ثم قال –جل وعلا- {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:100]، هذه الطبيعة المتأصلة والخلق المتأصل في اليهود، أنهم {....كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[البقرة:100]، {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا}، مع الله أو مع الخلق، هذه طبيعتهم، هنا يبين الله –تبارك وتعالى- الخلق الذي تخلقوا به، والجبِلَّة التي يسيرون عليها، أن بني إسرائيل على هذا النحو، {كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا}، عهدًا مطلقًا مع الله –تبارك وتعالى- أو مع العباد، {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}، النبذ هو الإلقاء بإهمال، كما أقول أكلت التمرة ونبذت النوى، نبذت النوى بمعنى أنني ألقيتها، فطبيعتهم على هذا النحو، أنهم إذا عاهدوا عهدًا لابد أن يخرج فريقٌ منهم فينبذ هذا العهد، سواء أن كان هذا العهد مع الله –تبارك وتعالى- أو مع الخلق، {أَوَكُلَّمَا}، كلما التي هي للاستمرار، {عَاهَدُوا عَهْدًا}، العهد الميثاق المؤكد، {نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، أكثرهم؛ أكثر بني إسرائيل لا يؤمنون، قلة منهم هي التي تؤمن بالله –تبارك وتعالى-، لذلك لم يؤمن مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في حياة النبي إلا قليل، بل قال –صلوات الله وسلامه عليه- «لو آمن بي عشرةً من يهود، آمن بي يهود»، ولكن النبي توفي، ولم يؤمن عشرة كاملة من اليهود به –صلوات الله وسلامه عليه-.

ثم قال –جل وعلا- {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:101]، {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، ولما جاء اليهود رسول هو محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، فالله هو الذي اختاره وهو الذي أرسله، فهو مرسل من عنده –جل وعلا-، {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}، جاء هذا النبي يصدق ما معهم في أساس الدين، فيما يدعوه إليه الدين من عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان برسله، والتخلق بالأخلاق الكريمة التي يحبها الله –تبارك وتعالى- وأنزلها في التوراة والإنجيل، فهو شِرعةٌ واحدة، كما قال –جل وعلا- {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13]، فهو دينٌ واحد وشِرعةٌ واحدة، في الأخذ بالحق والصواب والخلق الحسن، فالدين رسالة أخلاقية، نفس الأخلاق من الصدق والأمانة والوفاء والبر والصلة، ما أُمر به اليهود هو ما أُمر به النصارى هو ما أُمر به أهل الإسلام.

{مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}، قال –جل وعلا-  {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، أي لما جاءهم هذا الرسول الذي هو امتداد للدين الذي جاء به موسى، فهو خط واحد وصراط واحد، ويصدق ما عندهم، قال –جل وعلا-  {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ}، النبذ هو الإلقاء بإهمال، والكتاب الذي نبذوه كل كتب الله –تبارك وتعالى-، {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّه}، كان التوراة نبذوها وذلك لأن التوراة تأمرهم بالإيمان بمحمد –صلوات الله وسلامه عليه-، وبالإيمان به والسير خلفه، فعدم إيمانهم بمحمد –صلوات الله وسلامه عليه- وبالقرآن، هو نبذهم للتوراة التي أمرتهم بالسير خلف النبي محمد إذا بُعث وجاء إليهم، وهذه صفته كذا وكذا، وكذلك نبذوا كتاب الله القرآن، كتاب الله القرآن المنزل على محمد –صلوات الله وسلامه عليه-، وهو منزل لهم كذلك، وهم مخاطبون به وأمروا أن يؤمنوا به، وخطاب الله –تبارك وتعالى- خاصة في القرآن، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41]، فهذا القرآن رسالة موجهة إليهم كذلك، أن يؤمنوا بها وأن يؤمنوا بهذا النبي، فهم كذلك نبذوا هذا الكتاب، نبذوه وراء ظهورهم، أي ألقوه وتركوه وراء ظهروهم.

قال –جل وعلا- {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، وصفهم الله –تبارك وتعالى- في نبذهم التوراة المنزلة إليهم وأحكامها، والقرآن والموجه إليهم والنازل إليهم، أنهم تركه خلف ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أي كأنهم وأهل الجهل سواء، الجهَّال الذين لم ينزل الله –تبارك وتعالى- لهم كتاب ولم يعلمهم بأمر، أصبحوا مثل الجهَّال وكأنهم لا يعلمون هذا فتركوا ما يجهلون، والحال أنهم تركوا ما يعلمون، تركوا الذي يعلمونه؛ فقد تركوا التوراة وهم يعلمون ما فيها، وهي تأمرهم بالإيمان بمحمد –صلوات الله وسلامه عليه-، وتركوا النبي محمد –صلوات الله عليه وسلم- وهم يعلمون أنه رسول الله حقًا وصدقًا، وتركوا القرآن وهم يعلمون أنه كتاب الله المنزل من الله –تبارك وتعالى- والذي أمرهم بالحق، ففعلوا هذا كأنهم لا يعلمون.

وبالترك هذا ما الذي استبدلوه؟ قال –تبارك وتعالى- {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، تركوا الإيمان بالكتاب الهادي إلى السحر والشعوذة والكذب على أنبياء الله ورسله، {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}، تتلو تقرأ، والشياطين جمع شيطان، والشيطان هنا المتمرد من الجن؛ الجن الكفار الذي كفروا وتمردوا على أمر الله –تبارك وتعالى- هم الشياطين، {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ}، تتلو على ملك سليمان، وذلك أن الشياطين افتروا؛ السحرة افتروا على سليمان وقالوا إنه لم يسخِّر ما سخر له من الجن ومن الريح ومن الحيوان والطير إلا بالسحر، وسليمان النبي هو أحد أنبياء بني إسرائيل، هو سليمان بن داود، أبوه نبي وهو نبي؛ نبي ملك، فقد ملَّك الله –تبارك وتعالى- داود، آته الله –تبارك وتعالى- الملك، وورث سليمان ملك أبيه وكان ملكًا في بني إسرائيل.

وقد دعا سليمان ربه –تبارك وتعالى- {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]، قال –جل وعلا- {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36]، هذا من جملة ما سخر الله –تبارك وتعالى- له من دون من قبله ومن بعده، الريح تجري بأمره؛ يأمرها بأن تسير إلى جهة فتسير، وتحمله هو والجيش كاملًا، {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}، وأخبر الله –تبارك وتعالى- بأن الريح تسير في المرة الواحدة مسيرة شهر، مسيرة شهر كامل، غدوها شهر ورواحها شهر، كم شهرًا مثلًا بالإبل تسير أو بالخيل؟!، كان يقطعها بالريح سفرةٍ واحدة، {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36]، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37]، الشياطين الكفرة من الجن والمردة سخرهم الله –تبارك وتعالى- له بأمره، {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38]، أي من غضب عليه سلسله بالسلاسل، وقرنَّه بالأصفاد أي القيود، {هَذَا عَطَاؤُنَا}، هذا الذي سخره الله له وسلطه عليه عطاؤنا، أي عطاء الرب له، { .......... فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، فامنن الفكاك من الخدمة والأسر من الجن، أو أمسك في الخدمة وفي الأسر وفي القيد بغير حساب، أي أن الله –تبارك وتعالى- لا يحاسبه فيما فعل في الشياطين، من تسخير، سخرة يشتغل بلا أجر وعمل، وقال الله –تبارك وتعالى- {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ} اللي هم الشياطين،  {مِنْ مَحَارِيبَ} بناء للعبادة، {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}، جفان جمع جفنة، والجفنة هي قصعة الطعام، والجواب جمع جابية، والجابية هي البِركة الكبيرة، الحوض الكبير الذي يُجبى ويجمع فيه الماء، فالجفنة جفنة الطعام القصعة كالحوض الكبير للماء، يطبخ فيه ويأكل منه المئات مرة واحدة، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، فهذا ما سخر الله –تبارك وتعالى- له هذين الأمرين، وهو على أمر خارق للعادة، فتسخير الرياح على هذا النحو لتسير، يقول لها توجهي هنا توجهي هنا، وتحمله هو والجيش إلى حيث يريد، وتسخير الشياطين على هذا النحو، يعملون هذه الأعمال الكبيرة العظيمة الشاقة، ومن الجن من يغوصون له؛ والغوص عمل شاق في البحر، {.............. وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}[الأنبياء:82]، {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}، أي أن الله –تبارك وتعالى- حفظ هؤلاء الشياطين لهم، فيسخرهم ويقيمهم في خدمته، ولا يستطيعون أن يفُكوا أنفسهم من خدمته علمًا أن هذا أمر عظيم خارق للعادة.

فإن الإنسان لا يرى الجن والجن يروه، والجن الكافر منهم متمرد، فكيف يستطيع الإنسان -وهو أضعف من الجن- أن يأسر الجن وأن يقهره؟ وأن يسخره في هذه الأعمال الشاقة وهو لا يستطيع أن يفك نفسه، فهذا أمر قد سلطه الله –تبارك وتعالى- عليه، ومكنه منه –سبحانه وتعالى-، فجاء اليهود واعتقدوا بأن سليمان لم يسخر ما سخر له من الريح ومن الجن إلا بالسحر، أنه عن طريق السحر استطاع أن يسخر هؤلاء، والحال أن سليمان –عليه السلام- نبي كريم من أنبياء الله –تبارك وتعالى-، والسحر عمل خبيث كفر ومن عمل الشيطان، لأن السحر تعاقد بين الإنسان والجن، يخدمونه بشيء وهو يخدمهم بشيء، والخدمة التي يريدها الشيطان دائمًا من الإنسان الذي يتعاقد معاه هذا العقد، هي الكفر بالله –تبارك وتعالى- والشرك والنجاسة، وأمور عظيمة يفعلها الساحر تقربًا إلى هذا الشيطان، والشيطان يخدمه بما يخدمه فيه.

فيخبر –تبارك وتعالى- بأن اليهود تركوا الدين، والشِرعة والمنهاج والهداية وأحكام التوراة، تركوا النبي الخاتم محمد بن عبد الله –صلوات الله وسلامه عليه-، وتركوا ما يدعوهم إليه من الهدى والنور، واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان، ما قالت الشياطين تتلوه على ملك سليمان توهم الناس، بأنه ما سخر ما سخر إلا عن طريق السحر، قال –جل وعلا- {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، لم يكفر سليمان بأن يكون عبدًا لهؤلاء الشياطين مشركًا بهم، فاعلًا ما يفعله السحرة من استخدام الجن، لم يكفر سليمان، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، ولكن الشياطين هؤلاء هم الذين كفروا، {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، فتعلم السحر إنما هو عن طريق الشياطين، الشياطين هم الذين يوحون إلى أوليائهم فيعلمون طرق السحر التي بها يعقدون هذا العقد، الذي يكون بين الإنسان وبين الجن، اللي هو الجن الكافر هذا الشيطان، وكيف يخدم بعضهم بعضًا، فسليمان لم يستخدم الشياطين بسحر، وإنما سخرهم الله –تبارك وتعالى- له، وأذلهم الله –عزوجل- له من عنده بأمر من الله –تبارك وتعالى-، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي بالسحر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، هنا وما أنزل على الملكين وما هنا الصحيح والذي أنزل على الملكين، أي أن الشياطين يعلمون الناس السحر من عندهم، ويعلمونهم كذلك الذي أنزل على الملكين ببابل –مدينة معروفة- هاروت وماروت، الصحيح أن هاروت وماروت ملكين أنزلهم الله –تبارك وتعالى- ليعلموا الناس السحر تحذيرًا منه، وذلك أن السحر انتشر في بابل انتشارًا عظيمًا، وأصبح السحر يستذلون الناس ويستعبدونهم، فجاء من يعملهم أن هذا السحر هذه حقيقته كذا وكذا وكذا...، حتى يحذروه، وحتى يأخذوا الوقاية منه، وأنه الساحر ليس بمتصرف في الأشياء، ولا يبدل الحقائق، وإنما هذا فعلٌ خبيث مع الجن يفعل كذا وكذا، فجاء من يعلم الناس أن هذه هي السحر حتى يحذروه، ؟؟؟وهذي هي؟؟؟ فتكون هذه رحمة من الله –تبارك وتعالى- أنه يعلمهم الشر من باب حذره.

{وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ} أي هاروت وماروت، {مِنْ أَحَدٍ} من الناس الذين نزلوا يعلمونهم، {حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، أي تعلم السحر قد يفتن الإنسان بها، قد يرى أنه قد تعلم صنعة، تعلم أمر يستخدم به الشيطان يجلب له نفعة، فبدلًا من أن يكون قد تعلمه ليحذره، يتعلمه ليفعله، {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} أي بالعمل بالسحر، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ}، سنقف عند هذا –إن شاء الله-، ونكمل في الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.