الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (300) - سورة الرعد 22-28

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ(22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:22-24].

 هذه الآيات من سورة الرعد في سياق بيان الله -تبارك وتعالى- صفات أولي الألباب، الذين استجابوا لربهم -سبحانه وتعالى-، بعد أن ضرب الله -تبارك وتعالى- مثلا لهؤلاء وهؤلاء وعقد مقارنة بين هذا وهذا لأن نتعظ، قال {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ........}[الرعد:19]، لا يمكن أن يكون مثل هذا، فمن علم أن الذي جاء النبي من الله الذي هو هذا الكتاب؛ القرآن، والوحي الموحى إلى النبي هو الحق، واتبع هذا الطريق وعرف النور وسار فيه؛ في هذا الصراط، الذي آخره جنة الرب –تبارك وتعالى- ورضوانه، الذي يجنب المؤمن كل الويلات والشرور في الدنيا والآخرة، وأكبر هذه الشرور في الآخرة النار الموقدة، فهذا الذي عرف طريقه على هذا؛ طريق الحق هذا، كمن هو أعمى لم يعرف الرسول ولم يعرف هذا القرآن، وظن ما ظن في هذا القرآن وعمي عنه وبقي يعيش أعمى ثم يكون مآله إلى النار -عياذًا بالله-، هل هذا مثل هذا؟ {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الرعد:19].

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين صفات أولي الألباب هؤلاء، أهل العقول السليمة الذين أحبهم الله -تبارك وتعالى- واصطفاهم واختارهم لهذا الطريق، قال {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ(21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:20-22]، أولئك، الموصوفون بهذه الصفات العظيمة، {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}، العاقبة الحسنة، العقبى هي النهاية؛ العاقبة، مأخوذة من العقب، فعقب الأمر هو نهايته، الدار؛ الدار بالألف واللام، والدار التي ينزلها الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان هي الجنة، فعقباهم في النهاية الدار، التي هي دارهم الجنة، ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هذا، فقال {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، فهذه عقباهم، جنات عدن؛ جنات إقامة، جنات جمع جنة، والجنة هي البستان العظيم الذي تلتف أغصانه فتستر الداخل فيها، لأن جنن بمعنى ستر، وهذا من صفات حلاوة البستان أن تكون أشجاره عظيمة، تلتف أغصانها؛ أغصان الأشجار بعضها ببعض، فمن دخل فيها تجنه؛ تستره، وهذه جنات الخلد، جنات الرب -تبارك وتعالى-، بساتين الرب في الآخرة، {جَنَّاتُ عَدْنٍ}، سماها الله عدن لأن العدن هو الإقامة، يدخلونها؛ ليس وحدهم، قال -جل وعلا- {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}، يجمعهم الله -تبارك وتعالى- مع بعضهم، من صلح من الآباء فإذا كان الآباء صالحين ألحق الله -تبارك وتعالى- بهم هؤلاء الذرية، كما قال –جل وعلا- {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}، يلحقهم الله -تبارك وتعالى- بهم في منازلهم، {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}، فالزوجة التي ماتت على الإيمان يلحقها الله –تبارك وتعالى- بزوجها، وذرياتهم؛ الأولاد يحلقهم الله -تبارك وتعالى- بالآباء وفي درجاتهم، ولا ينقص ذو المنزلة العالية؛ لا يهبطه الله -تبارك وتعالى- إلى قريبه في منزلة أدنى منها، بل يصعد الله -تبارك وتعالى- ويعلي الله –تبارك وتعالى- أهل المنازل النازلة إلى أهلهم في المنازل العالية، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ........}[الطور:21]، ما أنقصناهم من عملهم من شيء، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ}، هذا فضل الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- وهذا من الرحمة أن يجتمع هؤلاء الأزواج مع أزواجهم، والأبناء الصالحين مع آبائهم الصالحين في الجنة {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}، من كل باب من أبواب الجنة، {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}، مهنئين، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، والجنة لها ثمانية أبواب فيستقبلونهم على أبواب الجنة، وكذلك يستقبلونهم أفواجا من الملائكة في دخولهم، يدخلون عليهم من كل باب فيقولون لهم {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ........}[الرعد:24]، يسلمون عليهم، منظر عظيم جدًا، لا إله إلا الله، موقف عظيم ومقام كريم، ملائكة الرب -سبحانه وتعالى- يدخلون على أهل الإيمان؛ مسلمين عليهم، يقولون لهم سلام عليكم، كما إنسان قطع رحلة طويلة فيها مشقات وفيها وفيها وفيها ...، ثم جاء ليرتاح فيستقبل هذا الاستقبال الباهر العظيم، من من؟ من ملائكة الرب -سبحانه وتعالى-، يقولون لهم {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ........}[الرعد:24]، يعني بما صبرتم؛ نلتم، ما نلتموه في هذه الجنة؛ في جنة الرب وفي بستان الرب إنما هو بسبب صبركم، يعني قطعتم الطريق، جزتم هذه المفازة العظيمة، صبرتم على ما صبرتم، صبروا على الفتن وعلى الابتلاءات وعلى المحن التي كانت لهم في الدنيا، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، نعم لإنشاء المدح والثناء، عقبى الدار، عقباكم ونهايتكم أن تكون عقباكم هنا في هذه الدار العظيمة، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، المهم الدار في النهاية، الدار التي سيسكنها الإنسان في النهاية، فدار هؤلاء الجنة ودار أولئك النار -عياذًا بالله-، {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}[الرعد:23]، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، هؤلاء هم أهل الإيمان، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإخواننا المؤمنين منهم.

ثم قال -جل وعلا- ...، هذا الصنف الثاني يعني، والقرآن مثاني، والقرآن بصائر، فيبصر الله –تبارك وتعالى- بطريق أهل الهدى ويبصر كذلك بطريق أهل الضلال، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، ونقضه قطعة وفكه، عهد الله؛ ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه، من بعد ميثاقه؛ من بعد توثيقه وتأكيده، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، كل الذي أمرهم الله أن يصلوه، من الإيمان به والإيمان برسوله والإحسان إلى من أمر العبد بالإحسان إليه؛ من الوالدين ومن الأرحام، {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، أنواع الفساد، السرقة فساد، الزنا فساد، قتل النفس من أعظم الفساد، إهلاك الذرية، إهلاك الحرث، إهلاك النفس، كل معصية تقع في الأرض هي فساد، والله -تبارك وتعالى- يأمر بالصلاح والعمارة، كل ما هو من معاصي الرب -تبارك وتعالى- إنما هو فساد، وبعض هذا الفساد بعضه أكثر من بعض، وأعظم الفساد الشرك بالله -تبارك وتعالى-، أعظم فساد يقع في الأرض هو الشرك بالله، لأن إيقاع عبادة في غير الله -تبارك وتعالى- موجودة في غير محلها والعبادة أشرف الأعمال، أشرف أعمال الإنسان أن يعبد، ولا يستحق العبادة إلا خالقه ورازقه ومولاه -سبحانه وتعالى- خالق السماوات والأرض، فإذا وضعها فيمن لا يستحق العبادة من شمس أو قمر أو نجم أو بشر يبقى وضعها في غير محلها؛ ما يستحقها هذا، لا يستحق سجود ولا ركوع ولا خشية ولا إنابة، كيف يوضع هذه العبادة في غير الرب -سبحانه وتعالى-، فساد في الأرض؛ فيقع الفساد، {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}.

قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ}، أولئك الموصوفون بهذه الصفات لهم اللعنة؛ الطرد من رحمة الله -تبارك وتعالى-، لأن اللعنة في لغة العرب هي الطرد من القبيلة والانتفاء، نفي الشخص ذو الجرائر وذو الجرائم من القبيلة، القبيلة إذا كان شخص تكثر إساءاته وجرائره وجرائمه على القبيلة ويأتي لها العار، تقوم القبيلة تخرج وتقول لسائر القبائل في العرب فلان ابن فلان هذا منا نحن لعناه، لعناه يعني طردناه منا، فمن دونكم إياه، يعني إذا فعل شيئًا فعليه، واللعن في كلام الله -تبارك وتعالى- من لعنه الله -تبارك وتعالى- هو الذي طرده الله -تبارك وتعالى- من رحمته ومن عنايته ومن ولايته، أخرجه الله -تبارك وتعالى- من ولايته ومن حفظه ومن رعايته ومن انتسابه إليه أن يكون عبدًا لله، أخرجه منها، كما لعن الله -تبارك وتعالى- إبليس ولعن كل من تبعه، {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، سوء الدار؛ الدار السيئة، أسوأ دار النار، لا دار يسكنها الإنسان أسوأ من هذه الدار، ممكن نقول هذه الدار مثلًا في الدنيا دار ضيقة؛ فهي سيئة لضيقها، سيئة لنتنها، فيها ذبل، فيها نتن، سيئة لجيرانها، سيئة أي سوء تسمى دار سيئة، لكن لا أسوأ من سكنى النار -عياذًا بالله-، أن يسكن الإنسان في دار التي هي جهنم ما في أسوأ منها، لا يوجد دار أسوأ من هذه الدار التي إذا دخلها الشخص أغلقت عليه إغلاقًا لا ينفتح بعد ذلك، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ(8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:8-9]، ويبقى فيها كل ألوان العذاب موجودة، التي لو انفرد واحد منها قتله؛ لكنه لا يقتل؛ يموت به، النار لو انفرد العذاب بها بالشخص يموت في لحظات لكنه لا يموت، السم الهاري الذي يهري أمعائه ويقطع أمعائه من الزقوم أو من هذه الأشربة المتنوعة، {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}[ص:58]، من شكل هذه الأشربة التي تقطع الأمعاء، أزواج؛ ألوان، ولكن لا يأتي، كما قال الله {........ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17]، فبئست الدار؛ هذه الدار، يقول الله له اللعنة؛ طرد من رحمة الله، وأن الله -تبارك وتعالى- إذا طردهم من رحمته لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يقبل منهم صراخ مهما صرخوا، مهما صرخوا واستغاثوا فإنهم لا يغاثون، بل يزاد لهم العذاب مع الاستغاثة، كلما استغاثوا كلما زيد لهم في العذاب، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}، وإن دعوا على نفسهم بالهلاك مرة يقال لهم أدعوا ألف مرة ولن يستجاب لكم، {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}[الزخرف:77]، {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14]، لا تدعوا اليوم ثبورًا واحدًا يعني على نفسكم، الثبور هو الهلاك بأن يعني أهلكنا أهلكنا، فيقال لا، أدعوا ما تشاءون، {وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}، فهذه لا دار -عياذًا بالله- أسوأ من هذه الدار، {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، وبهذا الله -تبارك وتعالى- يضع العباد بهذا البيان المفصل أمام هذه النهايات الحتمية، المحتومة عند الله التي لابد أن تكون، نهاية هؤلاء المؤمنين ونهاية هؤلاء الكافرين.

ثم يردنا الله -تبارك وتعالى- مرة ثانية بعد هذا البيان في الآخرة إلى الدنيا، فيقول -جل وعلا- {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}[الرعد:26]، لِما يكفر الناس بربهم؟ ما أكبر داعي لهم إلى الكفر والعناد؟ هذا طريق الرب وهذا أمر واقع لا محالة وهذه نهايات واقعة لا محالة، فلِما يسمع الكافر أنه ينتظره مثل هذه العقوبة عند الله ولا يرعوي؟! لماذا؟ كله لهذه الدنيا، التشبث بهذه الدنيا والتمسك بها والظن بها، أن هذه الدنيا هي بيد الله -سبحانه وتعالى-، هي كذلك التي يتشبث بها ويؤثرها الكافر على طريق الرب؛ هي لله، فالله هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، فبسط الدنيا إذا بسطها الله -تبارك وتعالى- على إنسان وآتاه، وسع له في رزقه فمنه، وإذا قدر عليه؛ يعني ضيق عليه رزقه هذا منه كذلك وبفعل الله، الله -سبحانه وتعالى- وليس غيره، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ}، البسط هو التوسعة، والرزق هو كل ما ينتفع به، كل ما ينتفع به الإنسان في هذه الدنيا فهو رزق من الله -تبارك وتعالى-، فالطعام رزق والشراب رزق واللباس رزق وكل هذا رزق، والسكن رزق، كل هذا رزق، فالله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ يضيق على من يشاء.

قال -جل وعلا- {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، الكافر والمنافق يفرح بالدنيا إذا بسط له في هذا الرزق يفرح بها؛ وهذا من جهله، يفرح بها الفرح الذي يجعله ينسى الآخرة ولا يعمل للآخرة، وتجعل هذا كل همه وكل غايته في هذه، قال -جل وعلا- {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}، الحياة الدنيا مهما كانت في الآخرة بالنظر إلى الآخرة والجنة متاع، كمتعة زائلة صغيرة بجوار حياة دائمة فيها كل أنواع السرور لا تنقطع ولا تنتهي، فمن يفضل أن يتمتع لحظات ويؤثر هذا على حياة دائمة في السرور بلا انقطاع، فلو كان إنسان يأخذ هذا يعني يستبدل لحظة يوم في متاع الدنيا عن الحياة الخلود أبدًا يبقى لا عقل له، لا فهم له، فكيف والقسمة أيضًا ليست هذه فقط بل إن هذا الذي يأخذ هذا المتاع ليس فقط أنه يضيع عليه ...، يعني الذي يؤثر متاع الدنيا لا يضيع عليه نعيم الآخرة فقط بل يكون مآله النار أيضا؛ هذا أمر آخر، بل يكون مآله إلى النار، فلو أنه ليست هناك نار ولا يعذب فيها الكافر وإنما الكافر إستبدل متعته في الدنيا عن حياته الحقيقية؛ الحياة العظيمة في الآخرة، لكان هذا دليل على ضعف عقله وعلى عدم فهمه، فكيف والحال أنه سينتقل من هذا المتاع الدنيوي إلى النار -عياذًا بالله، هذا أشر وأكبر، {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}[الرعد:26].

ثم قال -جل وعلا- ويقول مرة ثانية، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، نفس المقالة التي يقولوها، يعني هذا تعجيب، الله -تبارك وتعالى- يعجب من حال الكافر، الذي الله –تبارك وتعالى- يأتيه بكل هذه الآيات، هو موجود في كل آيات الرب -تبارك وتعالى-، بل وجوده هو آية من آيات الرب، فإن حياته وكيانه وقيامه كل هذا آية من آيات الرب أن له خالق بارئ، وأنه لا يمكن أن يكون خلق هذا الخلق بدون هدف وبدون غاية؛ يستحيل هذا، فالله أقام الكافر في كل هذه الآيات مما يراه، أمامك، ورائك، عن يمينك، عن شمالك، ما يسمعه، كل هذا الخلق آية، كل هذا آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، هذه الآيات المنظورة ثم الآيات المسموعة، الرسل الذين جاءوا بهذه الآيات الواضحات البينات، بيَّن طريق الرب أتم البيان، قالوا للناس يا ناس نحن مرسلون من الله، الله هو خالق هذه السماوات والأرض، الله يدعوكم إلى هذا الطريق؛ هذا طريقه، ثم تفصيلات هذا الطريق بالدقة الإحكام، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، مبين لكل الأشياء، كل ما يريده الرب -تبارك وتعالى- منا بينه وفصله، ماذا تريد؟! ما الذي تريد أيها الكافر؟! أي آية تريد؟! قال -جل وعلا- {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، بعد كل هذه الآيات على صدق الرسول.

{........ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرعد:27]، هنا الجواب يبان أن الذي ضل هذا عن آيات الرب -تبارك وتعالى- فإنما ضل بمشيئة الله -عز وجل-، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}، وهذه أعظم الآيات، وهذه أعظم الآيات, يعني أن طريق الرب من أوضح الواضحات وهو أبين البينات، يعني هو أبين من الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك يعمى عنه الكافر، كيف إنسان يعمى عن وجود الشمس! لازم هناك سر عظيم، أمر عظيم جدًا، الله يخبر بهذا، بأن هذا الكافر الذي ضل عن هذه الآيات العظيمة هو من الله -سبحانه وتعالى-، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}، فمع وضوح الحجج والبينات والآيات إلا أن الكافر يعمى عليها؛ هذه أعظم آية، هذه أعظم آية ضلال الكافر عن طريق الرب، ماهو لون آية؟ لأن هذه مع وضوحها، انظر هذا الكافر عنده عقل وعنده فكر وعنده نظر ولكنه ما يؤمن، هو ذاهب للنار، يحذره يقوله أنت ذاهب إلى جهنم، طريقك هذا يؤدي إلى النار حتمًا وصدقًا لكن يظل أعمى وماشي، فإذن في سر آخر، في شيء هنا، لماذا هذا اتغطى قلبه بهذا الشكل؟ لماذا ما ينظر؟ لماذ ما يسمع؟ يبقى هنا في سر، هذا السر هذا الله هو الذي أضله على هذا النحو، ولماذا أضله؟ بيَّن الله -تبارك وتعالى- لماذا يضله، لأنه عندما يرى الحق؛ يريه الله -تبارك وتعالى- الحق، ويعمل أنه حق ويبطل فيه، ما يريده، يأتيه الضلال، فيجعله الله -تبارك وتعالى- يسير في طريق الضلال ويذهب بقدميه إلى النار يضحك، تصير النار أمامه وهو يضحك، {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ}[الانشقاق:13-14]، فيسير؛ يمشي في طريق النار وهو يضحك من فعل الرب -جل وعلا-، فعل الله -تبارك وتعالى- به.

 {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}، آية من آيات الله -عز وجل-، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}، هذه آية كذلك، أن الله -تبارك وتعالى- يهدي إليه من أناب، أناب؛ رجع، والتجأ إلى الله -تبارك وتعالى-، كل من أناب إلى الله -تبارك وتعالى- نجد أن الرب يهديه، وقد يكون أضعف فهمًا وأضعف عقلًا لكن يهديه، يعني كم من الناس تجد عقولهم تزن الجبال لكن الله أضلهم، وكم من الناس تجد أن مستواهم في الفهم والذكاء أقل من هؤلاء الدهاة العباقرة، لكن الله -تبارك وتعالى- هداهم إلى هذا الطريق، ويتذكر الرب يخاف ويبكي ويتمسك بالدين ويخاف أن يحيد ولو أنملة عن طريق الرب -سبحانه وتعالى-، آية من آيات الله -عز وجل-، الله هو الذي هداه، الله -سبحانه وتعالى- هو الذي هداه لأنه أناب إلى الله –تبارك وتعالى-.

فعندما يهدي الله -تبارك وتعالى- أمثال بلال وعمار وصهيب وسمية ومن على شاكلتهم من الضعفة والمساكين، ويحرم أمثال أبو الحكم ابن هشام، سعيد، العاص ابن وائل السهمي، أمية ابن خلف، ناس كما قال عمرو ابن العاص يقول كانت تزن عقولهم الجبال، شخص داهية من الدهاة، عقل عظيم راجح، لكن هؤلاء أهل العقول الكبيرة هؤلاء أضلهم الله -تبارك وتعالى-، وهؤلاء لعلهم ربما في الفهم وفي العلم وفي المعرفة بشؤون الحياة أقل من أولئك بكثير، لكن هؤلاء هداهم الله -تبارك وتعالى-، لكن لما عرفوا إنه على الحق، عرفوا إن هذا رسول الله اتبعوه، استجابوا له، وأولئك عرفوا أن هذا رسول الله لكن ما استجابوا، كيف نتبع هذا! نحن وبني هاشم، يقولوا منا نبي؛ ما نطيعه، القرآن هذا لو كان نزل على شخص أفضل من محمد كنا اتبعناه، {........ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، فهذا يضل، يطمس الله -تبارك وتعالى- على قلبه ويتركه يمشي إلى النار برجليه، ويدفع ماله ويدفع جهده ويقول نريد هذه الآلهة فقط، وقال {........ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6]، وعرف إنها باطلة وإنها ما تنفعه ولكن يظل متمسك بها، آية من آيات الله -عز وجل-، يعني إضلال الكافر آية، مع عقله ومع فهمه ومع ومع مع، كما قال -تبارك وتعالى- عن عاد وثمود، قال {وَعَادًا وَثَمُودَ}، وقال الله -تبارك وتعالى- {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، كانوا مستبصرين؛ كانوا أهل بصيرة في الدنيا، هذا فرعون مع قومه، مع علومهم وفهمهم وحذقهم لهذه الحياة ومهاراتهم، أينما كانوا فيه من العلوم ومن ومن ومن ...، من الصناعات ومن النظر، لم يكونوا كبني إسرائيل، ولكن منعهم الكبر، قالوا هؤلاء {........ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ}[المؤمنون:47]، فمنعهم هذا مع بصيرتهم، الله يقول {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ........}[النمل:14]، فعند ذلك الله -تبارك وتعالى- طمس بصائرهم، حتى يروا الآيات الآية تلو الآية تلو الآية تلو الآية ...، ولكن لا يؤمنوا بها، فالرب -تبارك وتعالى- لما طلب الكفار الآية {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، تريدون آية، {........ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرعد:27]، آية من أعظم آيات الله -تبارك وتعالى-؛ ضلال من يضل وهدى من يهتدي، وفعل الرب -تبارك وتعالى- لهذا.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين أنابوا، قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28]، فهؤلاء الذين أنابوا إلى الله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ........}[الرعد:28]، آمنوا؛ صدقوا، أتاهم الخبر اليقين من الله -تبارك وتعالى- عن طريق الرسل فصدقوا هذا، واطمأنت قلوبهم؛ طمأنينة القلب هي ثباته واستقراره على معنى الإيمان، إن بالفعل أنا على حق، أنا على حق ويقين وأن هذا طريق الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان بمعنى ثبتت عليه وركنت إليه وارتاحت إلى الإيمان، وعندما يذكر الله -تبارك وتعالى- تطمئن قلوبهم بهذا، لأنهم يعلمون أن الرب حق والإله حق وأن هذا الطريق حق وأن هذا رسول الله وأن هذا طريقهم، وأنهم قد أسندوا ظهرهم إلى جناب الرب -جل وعلا-، الذي يملك الأمر كله فسلموا أمورهم لله -تبارك وتعالى- واطمأنوا لذلك.

 {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ........}[الرعد:28]، قال –جل وعلا- {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، ألا؛ الإعلامية، فاعلموا أيها الناس أنه بذكر الله تطمئن القلوب، من ذكر الله -تبارك وتعالى- فإن قلبه يطمئن وذلك أنه يعلم أنه على الحق، وأنه على الصراط وأنه ملاقٍ ربه وأن الله محقق وعده؛ منجز وعده لهم، فتطمئن قلوبهم بذلك.

أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلني وإخواني المؤمنين منهم، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.