الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ(28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ(29)كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد:28-30].
يخبر -سبحانه وتعالى- أنه مع وضوح الآيات وكثرة الآيات التي جاء بها النبي الدالة على أن هذا الدين حق، وعلى أن محمد ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، وأنا ما يدعوا إليه هو الحق، ولكن مع هذا فإن الكفار يتعنتون ويطلبون الآيات التي يقترحونها هم مع كل هذه الآيات، قال -جل وعلا- {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، فالله -تبارك وتعالى- بيَّن لهم، قال {........ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرعد:27]، هذه من أعظم آياته -سبحانه وتعالى-، أن الكافر مع عقله ومع فهمه يذهب إلى النار بقدميه وذلك أن الله قد أضله، فإنه لا يرى ولا يبصر هذا الطريق، فهذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، والمؤمن ولو كان أقل من الكافر أحيانًا ذكاءً وفهمًا وعلمًا إلا أن الله -تبارك وتعالى- يهديه، ويخاف ربه ويسير في طريقه، وذلك أنه أناب إلى الله -تبارك وتعالى-، فهداية من هدى الله -تبارك وتعالى- إلى الدين وضلال من ضل عن هذا الدين آية؛ من أعظم آيات الرب -تبارك وتعالى-، انظر في الأمم تجد الملأ وأهل القوة وأهل كذا ضلوا عن طريق الرب، وتجد أهل المستضعفين والمساكين وكذا هم الذين هداهم الله -تبارك وتعالى-، آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}[الرعد:27].
ثم بيَّن الذين أنابوا هؤلاء، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ........}[الرعد:28]، آمنوا؛ صدقوا، وعرفوا الحق واطمأنت قلوبهم بذكر الله أن هذا حق، وأعطاهم الله -تبارك وتعالى- طمأنينة القلب؛ ثباته، ثبات القلب على أن هذا هو طريق الإيمان، هو طريق الحق، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، لو ذكروا الله -تبارك وتعالى-، كل من ذكر الله وعلم الله على الحقيقة، والله هو خالق هذه السماوات والأرض، الرب الإله الذي لا إله إلا هو، اطمأن قلبه وهداه الله -تبارك وتعالى-، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وتتمسك بهذا الإيمان وتسير فيه وتعلم أنها على الحق اليقين، ولو عرض عليها النار أو ترك هذا الطريق تقبل النار، تقبل أن تموت ولا تترك طريق الرب -سبحانه وتعالى-، فيطمئن القلب ويثبت على الإيمان بذكر الله -تبارك وتعالى-.
ثم إشادة من الرب -تبارك وتعالى- بأهل الإيمان، قال {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}[الرعد:29]، آية عظيمة من الرب -جل وعلا-، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ........}[الرعد:29]، هذا خبر، إخبار من الرب -تبارك وتعالى- أن كل من آمن وعمل الصالحات فجمع بين الإيمان والعمل الصالح فهذا لابد...، الجزاء كله في الجنة لابد من ارتباط الإيمان بالعمل الصالح، وعملوا الصالحات؛ الصالحات جمع صالحة، والصالحة هو العمل الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- ويثيب صاحبه، فالصلاة والزكاة والصوم والبر كل شعب الإيمان هذه صالحات، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ ........}[الرعد:29]، طوبى هو صيغة المبالغة من الطيب، أعلى شيء في الطيبة لهم، {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، طبعًا أعلى ما يبشر به أهل الإيمان الجنة، فالجنة هي طوبى وهي دار الطيبين، وهي الدار التي لا أطيب منها ولا أحسن منها للسكنى، وهي سكنى أهل الإيمان، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإخواننا المؤمنين من أهلها، {طُوبَى لَهُمْ}، وكذلك الأمر الطيب لهم في كل الطريق، بداية من هنا من الإيمان هنا إلى نهاية الجنة، فكل شيء طيب لهم وذلك أن اختيار الله -تبارك وتعالى- لهم كله خير وكله طيب، {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، وكذلك من الطوبى جاء أن شجرة في الجنة يسير راكب في ظلها مئة سنة لا يقطعها، لا شك أن من نال ذلك ووصل إلى ذلك طوبى له، أمر طيب عظيم جدًا، {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، المآب؛ المرجع، يعني المرجع أحسن مرجع، لأن أحسن مرجع حيث الإنسان بعد السفر الطويل يلقي عصا التسيار ويرتاح، يرتاح أين؟ في الجنة، فهذا أحسن مرجع، أحسن مآب لهم، {وَحُسْنُ مَآبٍ}، غير المآب السيء للكافر، الذي يضع عصا التسيار بعد هذه الدنيا وما كان له فيها؛ في النار -عياذًا بالله-، فهذه عاقبة أهل الإيمان، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}[الرعد:29]، من الذي يخبر بهذا؟ هذا خبر الرب -سبحانه وتعالى-، وإعلان الرب -جل وعلا- الإله لأهل الإيمان، كل هذا رد على هؤلاء الذين قالوا نريد آية، الكافر الذين يريدون آية طبعًا على أهوائهم وعلى أمزجتهم يريدون آية، ويريدون بهذا إعنات النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأنك ما أتيتنا ببينة وما أتيتنا بآية ناصعة، أعطينا آية على هوائنا، هات لنا الملائكة نراهم، نريد أن نرى الملائكة، نريد أن نرى ربنا، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا ........}[الفرقان:21]، يريدون أن يروا الرب حتى يدخلوا في الإيمان، {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا}، {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:22].
قال الله -جل وعلا- لرسوله {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}[الرعد:30]، {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ}، يعني كهذا الإرسال الذي جئت به يا محمد، {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ}، لست بدعا من الرسل، أنت مرسل إلى أمة قد خلت من قبلها أمم، كذلك كل أمة من هذه الأمم السابقة أرسلنا لها رسولا، مثل ما أرسلناك إلى هذه الأمة، {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ}، الأمة هي الجماعة التي يجمعها صفات مشتركة، والنبي أرسل إلى كل الأمم -صلوات الله والسلام عليه-، ليس أمة العرب فقط وإنما كل أمم الأرض، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، يجعل الله -تبارك وتعالى- كأن مهمة النبي أن يقرأ عليهم ما أنزله الله -تبارك وتعالى- من هذا الوحي، ثم يضعهم أمام مسئوليتهم، يضعهم بعد ذلك أمام مسئوليتهم، {........ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}[النور:54]، لتتلوا عليهم؛ تتلوا تقرأ، الذي أوحينا إليك وهو هذا القرآن، هذه مهمتك، يعني أن مهمتك بالنسبة لهؤلاء القوم أن تقرأ عليهم الذي أوحيناه إليك، الوحي الذي جاءك تتلوه عليهم، توصله إليهم، {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، توصل لهم الرسالة.
قال -جل وعلا- {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، وهم هؤلاء الكفرة يكفرون بالرحمن، يعني علموا الله -تبارك وتعالى- ولكن يكفرون به، الرحمن صفة الرب -تبارك وتعالى-، اسم الله وصفته، اسم يتضمن معنى الصفة، الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، ما في مخلوق إلا وفيه من رحمة الله -تبارك وتعالى-، النملة تعيش برحمة الله -تبارك وتعالى-، فالله هو الذي خلقها، هو الذي هداها سبلها، هو الذي علمها كيف تجيب أكلها، كيف تخزنه، كيف تعمل كذا، كل شيء، طائر في السماء لا يطير إلا برحمة الله -تبارك وتعالى-، هو الذي خلقه، هو الذي هداه، هو الذي علمه كيف يبني عشه، كيف يبني وكره، كيف يربي فراخه، كيف يطير، كيف يحصل على رزقه، كيف يحمي نفسه، كل هذا، فالله وسعت رحمته كل شيء، أنت الإنسان انظر رحمة الله -تبارك وتعالى- بالإنسان، كيف بسط له هذه الأرض، رفع له هذه السماء، أدار له الماء على هذه، صرف له الرياح، وضع الجبال على هذه الأرض رواسي له، سخر له البحر، سخر له الأنهار، الله الذي {........ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}[إبراهيم:32-33]، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، هذا الرحمن، كل هذا فعل الرحمن -سبحانه وتعالى-، {........ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:34].
تكفر بالرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، لا يوجد شيء في السماوات والأرض إلا وهو قائم برحمة الله -تبارك وتعالى-؛ رحمة الله -عز وجل-، فوضع الشمس في مكانها رحمة من الله -تبارك وتعالى- بالعباد، لو لم يضع لهم هذه الشمس لما كانت لهم حياة، وضع القمر رحمة من الله -عز وجل-، بسط الأرض رحمة، البحر رحمة، هذا كله رحمة الله -عز وجل-، {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، تكفر أيها الكافر بالرحمن، الذي وسعت رحمته كل شيء، والذي وضع هذه الرحمة في كل هذه المخلوقات.
{قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، قل؛ لهم، هو؛ الرحمن، الذي أقام خلقه بهذه الرحمة السابغة حيث أنشأهم، {........ الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، {قُلْ هُوَ رَبِّي}، ربي؛ خالقي، سيدي، مولاي، المتصرف في، كل هذا من معاني الرب، مالكي الذي يملكني ويملك تصرفي، وبالتالي هو إلهي الذي لا أعبد إلا هو، {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، مادام هو ربي، هو خالقي ورازقي ومدبر شئوني إذن هو إلهي، يعني الذي لا أعبد إلا هو، لا إله إلا هو، لا إله يستحق الألوهية في الكون كله إلا هو -سبحانه وتعالى-، وكل ما يدعى ومن يدعى له الألوهية غيره باطل، من ادعى الألوهية لغيره باطل، من قال أن هذا إله، من قال أن البقرة إله أو الشمس إله أو القمر إله أو أن هذا المخلوق إله أو النبي إله أو الملك إله باطل كذاب، كل هؤلاء كذبة؛ يكذبون، فهذه ليست آلهة وإنما كل هذه مخلوقات هي بأمر خالقها، لا يملك مخلوق من هذه المخلوقات لنفسه نفعا ولا ضرا، لا الملك يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، ولا الرسل ولا الأنبياء ولا الأولياء ولا الشجر ولا الحجر ولا الشمس ولا القمر، كل ما ادعيت له هذه الألوهية فلا شك أنه باطل، فعيسى عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- وليس بإله، لم يخلق نفسه، لم يرزق نفسه، لا يحيي، لا يميت، هو في احتياج إلى إلهه وخالقه ومولاه -سبحانه وتعالى-، فما شأن عيسى إلا كشأن كل البشر وشأنه في الخلق شأن آدم، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ........}[آل عمران:59]، حقًا خلقه الله من أنثى بلا ذكر، لكن قد خلق آدم بغير أنثى ولا ذكر، خلقه الله -تبارك وتعالى- من الطين، فالله يخلق ما يشاء كما يشاء، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59]، فهذا كذلك قال له الله -تبارك وتعالى- كن فكان، {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}، بنفخة من نفخة الملك حملت مريم -عليها السلام-، ثم كان عيسى -عليه السلام- بأمر الله -تبارك وتعالى- وبكلمته كن، فكل من ادعيت له الألوهية غير الله فباطل، فقل لهم ربي الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، الذي أقام هذا الخلق برحمته، فجريان النهر برحمته وسريان الشمس برحمته -سبحانه وتعالى-، والفرس التي تحمل رجلها عن ابنها المولود ولكن إذا وضعت رجلها على ابنها، لو تركت هذا الرجل قتلته، لكن عندما تجد أنها على ابنها ترفعها، هذه الرفعة من رحمة الله -تبارك وتعالى-، من رحمة الله التي بثها في هذه المخلوقات يتراحموا بها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن لله مئة رحمة، أنزل منها واحدة يتراحم بها الخلق»، كل الخلق يتراحمون بها، «فمنها ما ترفع الفرس به رجلها عن ابنها»، هذه الرفعة هذه؛ رفعة الفرس رجلها عن ابنها من رحمة الله -تبارك وتعالى، فكيف بما هو أكبر من هذا، تجد البقرة تلد والبقرة حيوان له أنفة، لا يشرب ماء فيه شيء من الغبش ولا من النتن؛ لكنها تلد الآن ثم تأتي لابنها وهو بأخلاط البطن فتلحسه لحسًا، تنظف أخلاط البطن؛ تغسله، بعد سويعات قليلة يصبح هذه فروته جميلة نظيفة ناعمة، كل هذا غسلته وهي هذه الأنفة، هذه البقرة التي فيها أنفة وتكره أن تأكل أو تشرب شيء فيه هذا، لكن انظر بالنسبة إلى رحمتها، من الذي وضع هذا في قلبها وهي بقرة كما يقال بقرة، لكن انظر رحمة الله -تبارك وتعالى- التي وسعت الخلق كلهم.
{كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ........}[الرعد:30]، الله أكبر، الله أكبر، {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، قل لهم هو هذا الذي تكفرون به، {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، عليه لا على غيره، توكلت يعني جعلت كل همي وعزمي ومناي جعلته لله، كل شأني ألقيته على الرب -تبارك وتعالى-، سلمت أمري كله له، جعلت كل أموري له فهو الذي بيده الأمر كله -سبحانه وتعالى-، عليه توكلت سواء كان شأني وشأنكم هذه الخصومة التي بيني وبينكم، واتهامكم لي بأني كذاب وأني مجنون وأني وأني ...، سلمت أمري لله، جعلت أمري كله لله، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}، إلى الله لا إلى غيره متاب؛ متابي، يعني توبتي ورجوعي وإنابتي إلى ربي -سبحانه وتعالى- وإلهي.
ثم قال الله -تبارك وتعالى- معجبًا من هؤلاء المجرمين، قال {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[الرعد:31]، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ}، لو أن قرآنا؛ كلام يقرأ، تسير به الجبال؛ يعني لو وضع الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر تسير به الجبال لكان هذا القرآن، لكان هذا القرآن هو أحق الكلام بذلك، أحق الكلام بأن تسير به الجبال، يقال للجبل سر، يخاطب الله -تبارك وتعالى- بهذا القرآن الجبل؛ سر فيسير، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ}، قطعت به الأرض؛ يعني يقال للأرض انقطعي فتقطع، يكون هذا الكلام كلام الله -تبارك وتعالى- أحق الكلام بذلك، {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}، فيقوموا، يكلم الموتى بكلام فيقوموا، لو أن كلامًا يكلم به الميت فيقوم من موته لكان هذا القرآن، لكان هذا القرآن أحق الكلام بذلك، والجواب معروف جواب الشرط محذوف، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}، وجواب الشرط هذا محذوف وهو لكان هذا القرآن، يعني لكان هذا القرآن هو أولى به، بل إن الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه لو أن هذا القرآن أنزله الله -تبارك وتعالى- على جبل وخاطب به الجبل {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، ولكن هؤلاء صم؛ قلوبهم صماء لا تسمع، وهذا القرآن الذي بهذه المثابة، كلام الرب -تبارك وتعالى-، المفصل المبين الذي يدحض كل شبهة، والذي يبين الحق لا يترك فيه لبسًا، والذي لو كان الله -تبارك وتعالى- خلق في الكلام هذه الخاصية؛ خاصية أنه يوجه للجبل فيسير، ويوجه للأرض فتتقطع، ويوجه للموتى فيقومون، لكان هذا القرآن أحق؛ يعني أحق كلام بذلك، {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى}.
ثم قال -جل وعلا- {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا}، بل لله الأمر جميعًا، فإذا ضل هؤلاء عن هذا الكلام ولم يعلموا أن هذا كلام الله -تبارك وتعالى- المبين، معنى ذلك أن الأمر لله جميعًا، الله هو الذي أضلهم -سبحانه وتعالى-، هو الذي أعمالهم على هذا الأمر، ثم إن الأمر كله، كل مصير العباد، إلى الله -تبارك وتعالى- هو الذي سيحاسبهم على أعمالهم، {بَلْ لِلَّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا}، الأمر بالألف واللام؛ كل الأمور، كل الأمور التي تقع في الكون كلها قدرًا هو بقدر الله -تبارك وتعالى- وبأمره وبمشيئته -جل وعلا-، ثم قال -جل وعلا- موجهًا الكلام لأهل الإيمان {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}، يعني أفلم ييئس؛ اليأس هو انقطاع الأمل والرجاء، يقول ما وصل بكم الآن يعني الأمر، {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}، يعني ييأسوا من هذا الأمر، أن هذا ضلال الكافر إنما ضل بمشيئة الرب -تبارك وتعالى- وأن الله هو الذي أراد له هذا، فاقطع الأمل يا أيها المؤمن من إيمان الناس جميعًا لأن الله لم يرد ذلك -سبحانه وتعالى-، الله لم يرد كونًا وقدرًا أن يهدي الناس جميعًا، ولو أراد الله -تبارك وتعالى- أن يهتدي الجميع لاهتدوا، فيقول للمؤمن اقطع أملك في هذا، اقطع أملك في هداية الناس جميعًا لأن الرب -تبارك وتعالى- لم يشأ ذلك، ولم يرده -سبحانه وتعالى-، {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا}.
ثم جاء الكفار تهديد، فهذا الكافر الذي ضل، طبعًا اختار الضلال فأضله الله -تبارك وتعالى-، رأى الهدى ولم يؤمن به فأضل الله -تبارك وتعالى-، يأتيه التهديد لأنه وإن كان ضل بإرادة الله ومشيئة الله وأن الله أضله على هذا النحو، لكن له العقوبة لأنه اختار هذا الضلال وسار فيه، والله عاقبه هذه العقوبة، فسيأتي العقوبة؛ عقوبة كذلك بعد الضلال، العقوبة المترتبة على هذا الضلال في الدنيا والآخرة، قال -جل وعلا- {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، لا يزال؛ هذا للاستمرار، الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة في الدنيا؛ قارعة تقرعهم، إما تنزل على رؤوسهم فتهلكهم، وإما ينزلها الله -تبارك وتعالى- قريبة من دارهم فترعبهم، فيكونوا في قتل أو في رعب، لابد يستمر بهم هذا الأمر، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا}، من الكفر والعناد، قارعة تحل على رؤوسهم، {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}، أو تحل هذه القارعة قريبًا من دارهم؛ يرونها، يعني في غيرهم فيرعبوا بهذه، فيا بقتل يا برعب، {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}، وأن هذا سيستمر بالكفار حتى يأتي وعد الله؛ الذي هو يوم القيامة الذي يحاسبوا فيه، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، الله لا يخلف ميعاده -سبحانه وتعالى-، فقد وعد وأوعد الكفار بأن مآلهم إلى النار لابد يكون، ووعد كذلك أهل الجنة بأن مآلهم إلى الجنة فلابد أن يكون، الله لا يخلف الميعاد -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
ثم سلى الله رسوله -صلوات الله والسلام عليه- ويواسيه، فقال له {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[الرعد:32]، يعني أنه يا محمد قد كان الرسل الذين قبلك استهزئ بهم، لست وحدك من استهزئ به، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- استهزئ به الكفار استهزاءً عظيما، احتقارًا لشأنه {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}، كانوا يقولون {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}، يعني يقولون أما وجد الله غيره يرسله، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، قالوا مجنون، قالوا ساحر، قالوا كذاب، قالوا إنما أتى بهذا الأمر له غاية وله هدف من وراء هذا، اتهموه في نيته وفي مقصده -صلوات الله والسلام عليه-، فالاستهزاء بالنبي واحتقار شأنه واحتقار شأن المؤمنين معه وأنه لن يمر؛ ما له مستقبل، وسينتهي أمره ويندثر، فالله -تبارك وتعالى- يطيب خاطر نبيه -صلوات الله والسلام عليه-، ويبين أن إخوانه من الرسل قد تعرضوا لما يتعرض له من هذا الاستهزاء، قال -جل وعلا- {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ........}[الرعد:32]، الإملال والإملاء هو تطويل المدى، أمهلتهم، أعطيتهم مهلة يزدادوا فيها في الكفر وفي العناد، {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا}، يعني أطال الله -تبارك وتعالى- ليزداد عنادهم وكفرهم، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ}، وبعد هذا الإطالة لهم في الزمن ليكفروا أخذهم الله -تبارك وتعالى-، أخذهم؛ الأخذ هنا الإهلاك، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، سؤال للتقرير، والجواب والله قد كان شديدًا، انظر قوم نوح استهزأوا برسولهم وفعلوا وفعلوا ...، ثم أخذهم الله -تبارك وتعالى-، أخذهم جميعًا؛ أغرقهم، عقوبة شديدة، قوم عاد استكبروا وانتفشوا وفعلوا وفعلوا وفعلوا ...، تحدوا رسولهم، ثم أخذهم الله -تبارك وتعالى-، الريح العقيم التي تجعلها تسفي عليهم {........ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}[الحاقة:7]، ثمود، قرى لوط، أصحاب مدين، فهذه مصارع الغابرين، {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}، كيف كانت عقوبة الرب -تبارك وتعالى- لهؤلاء؟ سؤال لا يراد به الاستفهام وإنما يراد به التقرير والنظر، يعني انظروا كيف كان عقوبة الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء، والجواب قد كان عقابًا شديدًا، لقد كان هذا العقاب والله عقابًا شديدًا.
ثم تأتي بعد ذلك مقارنة، يقول الله -عز وجل- {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}[الرعد:33]، نعود إلى هذه الآية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.