الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (302) - سورة الرعد 33-39

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [الرعد:33-34].

 قول الله -تبارك وتعالى- {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، هذا الله -سبحانه وتعالى-، هو القائم على كل نفس بما كسبت، فهو شهيد على كل نفس، يعلم ما تكسب كل نفس في أي مكان تكون، كما قال -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7]، وقوله -تبارك وتعالى- {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، فالله -سبحانه وتعالى- علم الغيب والشهادة لا يعزب عنه شيء من أحوال خلقه -سبحانه وتعالى-، فهو معهم ثانية بثانية، وهو قائم -سبحانه وتعالى- على كل نفس بما كسبت علمًا منه -سبحانه وتعالى- وشهادة منه وكذلك محاسبة لهذه النفس، إما يعجل العقوبة لمن يشاء ويؤخرها لمن يشاء -سبحانه وتعالى-، ويجازي كل إنسان يعطيه جزاءه؛ جزاءه في الدنيا وجزاءه في الآخرة، فالدنيا فيها جزاء والآخرة هي دار الجزاء، الجزاء النهائي الذي يستحق كل إنسان فيها ما عمل، هذا الرب -سبحانه وتعالى- القائم على كل نفس فهو خالقها؛ خالق كل نفس، وبارئها وعليم -سبحانه وتعالى- بما تصنع وتعمل ثم هو يحاسبها -سبحانه وتعالى-، فهذا يشرك به! يجعل له ندا! يجعل له شريكا! هل من شريك مما يشرك به المشركون، إله اتخذوه من دون الله له هذه الصفة.

{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}، قائم عليها، يعلمها، يتصرف فيها -سبحانه وتعالى-، يجازيها على عملها، فهذا الرب الإله القائم على كل نفس بما كسبت، أيشرك به؟! أيجعل له شريك؟! ألا يخاف منه؟! قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}، جعلوا لله الذي هذه صفته -سبحانه وتعالى-، القائم على كل نفس أيًا كانت؛ بما كسبت، جعلوا له شركاء، كيف يجعل للرب الإله الذي هذه صفته شريك، وهؤلاء الشركاء أصلًا الله قائم عليهم -سبحانه وتعالى- ويعلم ما يفعلون، {قُلْ سَمُّوهُمْ}، هؤلاء الشركاء الذين تزعمون أنهم شركاء لله سواء شركاء في صفاته أو شركاء في حقوقه، تصرفون لهم ما لا يستحق إلا أن يصرف لله -تبارك وتعالى- من العبادة، {قُلْ سَمُّوهُمْ}، سموا لنا شركائكم هؤلاء حتى تعقد مقارنة بينهم وبين الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، الملائكة؛ الله خالقهم، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50]، الرسل والأنبياء؛ كانوا في خوف دائم من الله -تبارك وتعالى- واشفاق، وهم عابدون لله -تبارك وتعالى-، الشمس والقمر؛ كواكب ونجوم مسيرة، مدبرة بأمر الله -تبارك وتعالى- لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا، بشرا؛ ما في بشر من ملك أو من غيره يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، فضلًا عن أن يملكه لغيره إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ سَمُّوهُمْ}، سموا هؤلاء الشركاء حتى يعلم الجميع ويُعلم من هؤلاء الشركاء، ومن الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي يشرك به، {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ}، هذا استهزاء بهم وسخرية بهؤلاء المشركين، يعني هل تنبئون الله -تبارك وتعالى- بشريك لا يعلمه، هل هناك إله مخفي لا يعلمه الله -تبارك وتعالى-، موجود في هذه الأرض الله لا يعلمه؛ فأنتم تنبئونه بهذا، وتقولون يا ربي يا الله يا ملك السماوات إن لك شريكًا لا تعلمه، {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، بظاهر من القول؛ كذبه، يعني بقول ظاهر كذبه، عندما يقولون أن لله شريكا لا شك أنهم مفترون كاذبون، فالذين قالوا عيسى شريكا لله -تبارك وتعالى-، ندا لله، ذاته ذاته، يخلق ويرزق، والذين قالوا الملائكة والذين قالوا هذه الآلهة التي نعبدها من أصنام وأوثان وغيرها هي شرك لله، إنما هو قول ظاهر كذبه لكل ذي لب ولكل ذي عقل، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}، ظاهر من القول تظهرونه وقد يعلمون في حقيقة أمرهم أنهم كاذبون، وقد يعلمون في حقيقة أمرهم أن هؤلاء ليسوا آلهة ولا يستحقوا العبادة، {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}.

قال -جل وعلا- {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}، الله هذه الحقيقة، {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}، جمل في قلوبهم وفي نفوسهم مكرهم، كذب يراد به المكر، كذب كذبوه وافتروه في اتخاذهم آلهة دون الله -تبارك وتعالى-، وهذا الكذب والمكر الذي مكروه بأنفسهم وبمن اتبعوهم في هذا الأمر، هذا زين لهم، أصبح جميل في أعينهم ومستحسن عندهم واتبعوه وانساقوا فيه، وأصبح الشرك الذي زين لهم هذا أشربته قلوبهم وأحبوه، وإن كانوا هم الذي افتروا الفرية لكن بعدين في النهاية صدقوا أنفسهم فيها وساروا في هذا الأمر، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}، وزين هذا بالبناء لما لم يسمى فاعله والذي زين لهم هذا الشيطان، الذي زين لهم أفعالهم هذه الخبيثة؛ شركهم، الذي زين هذا لهم إنما هو الشيطان الذي جمل هذه الصور القبيحة من الشرك، وكل شرك فهو قبيح، زينه لهم وجمله لهم واتبعوه، {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ}، صدوا بالبناء لما لم يسمى فاعله، عن السبيل؛ السبيل الحق، الطريق الحق، يعني جاء من يمنعهم ويصدهم عن هذا السبيل ويجعلهم يسيرون في طريق الشيطان؛ هذا الشيطان، صدهم عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، طريق الحق الواصل إلى الرب -جل وعلا- ومال بهم إلى طريق الغواية.

 ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، من يضلل الله -تبارك وتعالى- من الذي يستطيع أن يهديه، {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}، فهؤلاء أضلهم الله -تبارك وتعالى- لما اتبعوا الشيطان، وجمل الشيطان لهم الشرك فاتبعوه، وصدهم عن سبيل الله -تبارك وتعالى- فاتبعوه فإن الله -تبارك وتعالى- عاقبهم، ختم على قلوبهم، أعماهم، أضلهم فانساقوا وراء الشيطان، استحسنوا ما افتروه من الكذب وانساقوا في هذا السبيل، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.

قال -جل وعلا- متهددًا ومتوعدًا لهم، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}[الرعد:34]، لهم؛ لهؤلاء المشركين الذين اتخذوا آلهة مع الله، {عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، عذاب معجل مما يبتليهم الله -تبارك وتعالى- به؛ هذا عذاب أدنى، أمراض، أسقام، قوارع، زلازل، مصائب، قتل، يعذبهم الله -تبارك وتعالى- على كفرهم وشركهم عذاب أدنى من العذاب الأكبر، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[السجدة:21]، وقال {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ}، {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ ........}[الرعد:34]، لام للتأكيد، عذاب الآخرة الذي هو النار أشق؛ أشق من عذاب الدنيا، لأن عذاب الدنيا على كل حال عذاب جزئي ووقتي، ولكن عذاب الآخرة عذاب تام كامل لا ينفك عنهم، عقابهم النار -عياذًا بالله-، {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}، ليس لهم من الله من واقٍ يقيهم، حامي يحميهم أو يقيهم عذاب الله -تبارك وتعالى- أيًا كان، يعني نصير ينصرهم من دون الله، حامٍ يحميهم يدفع عنهم عذاب الرب -تبارك وتعالى-، أي واقٍ، شفيع شفاعة تشفع لهم وتقيهم من عذاب الله -تبارك وتعالى-... لا، أخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم من ماتوا على الكفر والشرك فهؤلاء... لا، ليس لهم من الله -تبارك وتعالى- وقاية قط.

ثم عندما يذكر مآل أهل الضلال والكفر يذكر كذلك في المقابل مآل أهل الإيمان والصدق، قال -جل وعلا- {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}[الرعد:35]، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، هذا مثلها يمثلها الله -تبارك وتعالى- ويصورها، الجنة؛ بستان الرب -تبارك وتعالى- الأكبر، بستانه يوم القيامة، التي في السماء، التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وذخرها بما فيها من الطيبات نزل وكرامة لأهل طاعته، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، وعد بالبناء لما لم يسمى فاعله والتي وعد بها هو الرب -سبحانه وتعالى-، {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}، الذين خافوا الله -تبارك وتعالى- واتقوه وآمنوا به، فالتقوى حماية، التقوى هم الذين اتخذوا بينهم وبين عذاب الله وقاية، وذلك بالإيمان به وبطاعته -سبحانه وتعالى- واجتناب نواهيه، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، من تحتها؛ من تحت هذه الجنان، تحت أشجارها ومن تحت بساتينها ومن تحت قصورها، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ}، أكلها؛ ما يؤكل منها، التي هي ثمار الجنة، دائم؛ لا ينقطع، فهو ليس فصلي كما الشأن في ثمار بساتين الدنيا، فإن الثمرات في الدنيا فصلية، إما شتوية وتنقطع في الصيف، إما صيفية وتنقطع في الشتاء، إما في الخريف، إما في ...، أما هناك لا، ثمار أشجار الجنة لا تنقطع ولا تنتهي، كلما قطعت ثمرة حلت مكانها أخرى، فهي هكذا، فثمارها دائمة وظلها كذلك دائم، أكلها دائم وظلها دائم لا تنسخه الشمس، ليست هناك شمس تأتي فتقع على الأجسام فيكون ظل، ثم تميل مرة ثانية فتنسخ هذا الظل إلى مكان أخر... لا، إنما ظل دائم، كالحال الذي يكون يعني نور مع ظل، كالحال الذي يكون في وقت الفجر، من بعد ضوء الشمس من بعد بداية ضوء النهار إلى شروق الشمس، فهي ضوء دائم، ظل دائم، ظل دائم، وكذلك أشجار ظليلة، «إن في الجنة شجرة يسير الراكب تحتها مئة عام لا يقطعها»، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا}، ظلها دائم، أي وظلها دائم كذلك.

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه تجري من تحتها الأنهار، وأخبر -سبحانه وتعالى- في موضع آخر في القرآن أن هذه الأنهار مختلفة، ليست من جنس واحد وهو الماء، بل من أجناس متعددة، كما قال -تبارك وتعالى- {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}، فهي أنهار كذلك متعددة هذه الأنواع، {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ}، أي الجنة، {عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا}، عقباهم؛ نهاية أمرهم، العاقبة هي المآل ونهاية الأمر؛ آخر الأمر، {عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا}، خافوا الله -تبارك وتعالى-، {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}، وأما عاقبة الكفار فالنار، وشتان ...، شتان بين هذا وهذا؛ مقارنة، الله -تبارك وتعالى- يقارن هذا بهذا، يقارن نعيم أهل الجنة وعاقبتهم؛ عاقبة المتقين وعاقبة الكافرين، هذه الجنة وهذه النار شتان بين هذا وهذا في آية واحدة، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ........}[الرعد:35]، انظر يعني أهل الإيمان يعيشون في بستان دائم تجري الأنهار من تحته، ظل دائم، ثمار دائمة، متعددة الطعوم كل ثمرة تختلف عن الثمرة الأخرى، وهم في حبور دائم، هذه {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.

ثم قال -جل وعلا- أيضًا صور، يسوق الله -تبارك وتعالى- في السياق صور من صور الأدلة على أن هذا الدين حق، وأن محمدا ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- إنما أرسل بالدين الحق من الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ}[الرعد:36]، قال {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}، الذين آتاهم الله -تبارك وتعالى- الكتاب ممن سبق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ممن يعني من أهل التوراة ومن أهل الإنجيل، {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}، يفرحون فرح عظيم أنهم وقعوا على الأمل والمخلص الذي بشرهم الله –تبارك وتعالى- به في التوراة والإنجيل، فعندما يعلموا النبي يفرحوا بهذا، ويستبشروا بهذا كعبد الله ابن سلام -رضي الله تعالى عنه- وسالمان الفارسي وغيرهم من أهل ...، يعني من النصارى ومن اليهود الذين عندما علموا الحق فرحوا بما أنزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، واستبشروا به ودخلوا في هذا الدين، {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}، قال -جل وعلا- {وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ}، من الأحزاب؛ جماعات الكفر، وكلهم؛ كل الأمم أرسل إليها النبي -صلوات الله عليه وسلم-، {مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ}، ينكر بعض ما أنزل الله -تبارك وتعالى- إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- تكذيبًا ودفعًا له، {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}، قل لهم جميعًا إنما أمرت؛ بالحصر، {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}، الله أرسلني وأمرت أن أعبده وحده لا شريك له ولا أشرك به، {إِلَيْهِ أَدْعُوا}، دعوتي إليه لا إلى غيره، {إِلَيْهِ أَدْعُوا}، دعوتي إلى الله -سبحانه وتعالى-، وكانت دعوة النبي كلها إلى الله، لم يدعوا إلى نفسه ولا إلى قريش ولا إلى العرب ولا إلى غير ذلك، إنما كانت دعوته إلى الله -سبحانه وتعالى-، {وَإِلَيْهِ مَآبِ}، المرجع إلى الله -سبحانه وتعالى-، مرجعي وكذلك مرجعكم إلى الله –سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، وكذلك؛ كهذا الإنزال، أنزل الله -تبارك وتعالى- القرآن، أنزلناه؛ الله منزله –سبحانه وتعالى-، نسب الإنزال إلى نفسه هو الذي أنزله -جل وعلا-، {حُكْمًا عَرَبِيًّا}، حكما يحكم بين الناس في كل ما اختلفوا فيه، يحكم بين أهل الكتاب فيما اختلفوا فيه من كتابهم، يحكم على ما افتروه وأبطلوه بأنه مفترً وباطل، يحكم في كل ما اختلفت فيه الأمم؛ في كل المسائل المختلف فيها، من شأن الرب -تبارك وتعالى- وغيبه وصراطه وطريقه وما يحبه وما لا يحبه وماذا يريده من عباده، كل هذا أنزله الله –تبارك وتعالى-، أنزل هذا القرآن حكما، حكما من الله -تبارك وتعالى- بأنه أمر فاصل قاطع.

 {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، بلسان العرب ليكون واضحًا بيِّنًا، هذا اللسان المعجز المبين الذي يعني مفصل، فليس كما غيره من اللغات التي يمكن أن اللغة تحتمل معاني عدة ولا يتبين فيها الحق، اختار الله -تبارك وتعالى- أن ينزل كتابه الخاتم؛ كتابه القرآن الكريم، بلغة العرب البينة الفصيحة الواضحة التي توضح الأمر غاية الإيضاح بغير الألسنة الأخرى، {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}، فليس لأحد بعد ذلك حجة في أن يقول لم أفهم المراد، بل هذا بهذا اللسان الواضح البيِّن، {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا}.

ثم قال -جل وعلا- {........ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ}[الرعد:37]، هذا وعيد ليخاطب به النبي -صلوات الله والسلام عليه- والمعنى به كل أحد غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، {........ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ}[الرعد:37]، لئن اتبعت أهوائهم؛ أي أهواء اليهود وأهواء النصارى، الذين يريدون أن يصرفوك عن بعض ما أنزل الله -تبارك وتعالى- إليك، بعد ما جاء من العلم؛ الواضح البيِّن، وهذا جاءك من الله –تبارك وتعالى-، ما لك من الله من ولي ولا واقٍ؛ يتخلى الله عنك، يتخلى الله -تبارك وتعالى- عنك فلا يكون لك من الله ولي، ليس لك ولي ينصرك من الله ولا واقٍ يقيك من عذابه؛ تعذب، اعلم أنك تعذب ولا هناك حماية لك من دون الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- لرسوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}[الرعد:38]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ}، سنة الله -تبارك وتعالى-، من نوح -عليه السلام- إلى عيسى الذي هو آخر نبي قبل نبينا محمد -صلوات الله عليه وسلم- وليس بين عيسى وبين محمد نبي، فهؤلاء الرسل الذين أرسلهم الله -تبارك وتعالى- قبل النبي قال {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}، جعلنا لهؤلاء الرسل أزواجا؛ زوجات، وذرية؛ أولاد، كان لهم أزواجا وذريات كإبراهيم -عليه السلام- ونوح -عليه السلام- وهود وصالح ولوط، هؤلاء لهم أزواج وذرية وكانوا بشرا، يعني أنهم بشر مثل البشر تزوجوا ولهم أولاد ويقاسون هذه الحياة، يشترون ويبيعون وينزلون الأسواق.

 {........ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}[الرعد:38]، وأيضًا هؤلاء الرسل كذلك لا يستطيع أحد منهم أن يأتي بآية إلا بإذن الله، يعني لم يملك الله -تبارك وتعالى- رسول أن يأتي بآية للكفار من عند نفسه، بل إنما يتبع ما أمر به وإذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يجري له آية أجرى، فالآيات من عند الله -تبارك وتعالى-، وفي هذا رد على المشركين الذين كانوا يقولون لما لا يكون المرسل إلينا ملك فيخاطبنا، ملك من السماء يرسله الله -تبارك وتعالى- فيخاطبنا، وهذا تعنت. الله -تبارك وتعالى- قد اختار رسلا من البشر ليكونوا أقرب إليهم ليعرفوهم ما هو هؤلاء الرسل، يستطيعوا أن يصلوا إلى حقيقة أمرهم، وأنهم صادقون في هذا الأمر، ويؤيدهم الله -تبارك وتعالى- بالمعجزات، ثم يكونون قدوة لأقوامهم في العمل وفي الإيمان وفي سلوك الصراط الذي يريده الله -تبارك وتعالى-، فرسول بشر غير رسول ملك، والملك إذا جاءهم سيأتيهم في صورة بشر وبالتالي يلتبس عليهم الأمر، هل هو بشر ولا هو ملك ولا ماهي صفته ومن أين أتى هذا، فتلتبس عليهم الأمور، كذلك هؤلاء الرسل جعلهم الله -تبارك وتعالى- يعيشون كما يعيش الناس ويمارسون الحياة، {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان:7]، هذا تعنت من الكفار، الله -تبارك وتعالى- أراد أن يكون رسوله يعيش كالناس، ويقاسي الحياة كما يقاسي الناس، يمرض ويصح ويغتني ويفتقر، يجوع يومًا ويشبع يومًا، هذا كالبشر، كذلك ويكون له زوجات ويكون له أبناء وتكاليف الأسرة وأعمالها وأعبائها كذلك يقاسي كما يقاسي البشر، وهذا أكمل لحال النبي من أن يكون بشرًا مميزًا في خلقه وفي نوعه... لا، بشر {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، فالله يخبر بأن شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كشأن إخوانه السابقين من الرسل، وطلب الكفار أن يكون شأن النبي شأن آخر، له بيت مستقل، له جنة يأكل منها، يغنيه الله -تبارك وتعالى- عن طلب المعاش، لا يقاسي الحياة على هذا النحو، لا يكون له مثل الأولاد ويقاسي مصاعب الحياة في التربية كغيرهم... لا.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ........}[الرعد:38]، فكذلك الآيات عند الله -تبارك وتعالى- {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ}، النبي ليس يملك بأن يأتي بآية من عند نفسه، ثم قال -جل وعلا- {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، لكل أجل أجله الله -تبارك وتعالى- في قدر معين كتاب مكتوب، وهذا أمر مرعب لكل ذي لب وكل ذي فطنة أن كل أمر أجله الله -تبارك وتعالى- فهو مكتوب محسوب، وعندما يأتي هذا الأجل لابد أن يكون، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، تهديد لهؤلاء، يعني احذروا فإن الله -تبارك وتعالى- إذا كان قد هددكم بوعيد ما وأنه آتٍ وأن أجله عنده، اعلموا أنه مكتوب وأنه سيأتيكم، {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، فإن الله -تبارك وتعالى- قد أحكم الأمر إحكامًا كاملًا، بعلمه -سبحانه وتعالى-، بكتابته، بإحصائه، بأن يقع كل أمر في الوقت المحدد الذي حدده الله -تبارك وتعالى-.

{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، المحو؛ الإزالة، والإثبات هو التوثيق والكتابة، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، أم الكتاب؛ أصله، اللوح المحفوظ، هذا اللوح المحفوظ الذي كتب الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء، وهو ما لا يختلف المقدر والواقع عن هذا الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- شيئًا قط، وأما في الأسباب التي سببها الله –تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- سبب أسبابا وجعل لها نتائجا، وسبب أسبابا وجعل لها نتائجا، وهذا الأمر كما جعل الله –تبارك وتعالى- صلة الرحم تزيد في الرزق، المعصية تمنع الرزق، وهذا الذي قدره الله -تبارك وتعالى- بأسبابه يعلم الله -تبارك وتعالى- النهاية التي سيئول إليها، لكن أخبر الله -تبارك وتعالى- بهذا، أن العبد إذا فعل هذا حصل له هذا وإذا فعل هذا حصل له هذا، إذا فعل المعصية قد يكون الله -تبارك وتعالى- قد كتب له شيئًا من الرزق لهذا، فلما يفعل هذه المعصية يحرم هذا من الرزق، فهذا محو هذه وإثبات هذه وكله بمقادير الله -تبارك وتعالى-، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39].

سنعود إلى هذه الآية مرة ثانية -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.