الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ(38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(40)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[الرعد:38-41].
يخبر -سبحانه وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا رد على ما تعنت به المشركون نحو النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أنه قد أرسل رسلًا قبل النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وأن شأنهم أنهم كانت لهم أزواج وذرية، قال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً}، فكانوا بشرا يعيشون كالبشر ويقاسون من الحياة ما يقاسيه البشر، وأنهم لم يملكهم الله -تبارك وتعالى- مصائر العباد، ولم يوكلهم بهم، ولم يجعل الآيات تحت تصرفهم فيأتوا بالآية التي يريدونها، ويخرقوا العادات كما يشاؤون، يستطيع أن يقول للسماء انشقي تنشق أو الأرض قومي تقوم أو السماء امطري تمطر أو الزرع أخرج يخرج أو الميت قم فيقوم... لا، كل الآيات إنما هي عند الله -تبارك وتعالى-، فالرسول لا يستطيع أن يخرج آية من عند نفسه، لم يوكله الله بهذا، بل أي آية من الآيات إنما لا يأتي بها النبي إلا بإذن الله وبأمر الله –تبارك وتعالى-، ما هو في الجملة بل بالتحديد أي آية من الآيات لا يستطيع النبي أن يفعلها، فلا يستطيع أن يخرق أي عادة من العادات والسنن الجارية إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، أن يقول لهذا مت فيموت أو هذا أحيا فيحيا أو هذه الشجرة تحركي من مكانك تتحرك... لا، فهذه الآيات إنما هي بأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، ثم قال -جل وعلا- {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}، لكل أجل مما وعد الله -تبارك وتعالى- به كتاب مكتوب، وهذا فيه تهديد لهؤلاء الكفار المكذبين، أن اعلموا أن أمركم مكتوب، وأن ما يتوعدكم الله -تبارك وتعالى- به هذا أمر مكتوب لابد أن يقع كما أخبر الرب -تبارك وتعالى-.
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، إن الله -تبارك وتعالى- المقادير كلها بيده، وعلمه سابق في مخلوقاته -سبحانه وتعالى-، وأنه كتب مقادير الخلق قبل أن يخلقهم، كما جاء في الحديث «أول ما خلق الله القلم فقال أكتب، قال وما أكتب، قال أكتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة»، وهذا كتاب المقادير لا يتغير لأنه بعلم الله -تبارك وتعالى-، ثمة أمور من أمور القدر الله -تبارك وتعالى- يجعلها بأسباب ومسببات، ممكن يقع السبب هذا فيقع مسببه، وممكن لا يقع السبب هذا فلا يقع مسببه وهكذا، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «من أراد أن ينسى له في أجله ويبسط له في رزقه فليصل رحمه»، فعلى ظهر هذا الحديث أن صلة الرحم تزيد في العمر، بعضهم يقول تزيد في العمر البركة، والبركة نوع من الزيادة، والبعض يرى أن زيادة العمر هنا إنما هي زيادة حقيقية، يزيدها الله -تبارك وتعالى- بصلة الرحم، فكأنما من وصل رحمه زاده الله -تبارك وتعالى-، وهذا مقدر وهذا مقدر، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه»، إنسان يصيب ذنبا فيحرم به الرزق، الرزق كان هذا مساق له في قضاء الله -تبارك وتعالى- وقدره لو لم يرتكب هذا الذنب، فلما ارتكب هذا الذنب حرم هذا، فهذا أمر، كذلك قول النبي -صلوات الله والسلام عليه- «إن الدعاء والقضاء ليعترجان»، الدعاء يدعوا به العبد، والقضاء يكون قد قضي به أنه عقوبة ستأتي هذا العبد؛ فيدعوا، فإذا خرج الدعاء والقضاء يعترجان وأيهما أقوى يدفع الأخر، كل هذه أسباب ومسببات جعلها الله -تبارك وتعالى-، والله -جل وعلا- يعلم ما سيكون في النهاية، هذه أسباب تسبب والله -تبارك وتعالى- يعلم الذي سيكون في نهاية المطاف، والذي سيكون في النهاية الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- في اللوح المحفوظ.
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ ........}[الرعد:39]، أي من هذه المقادير، {........ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، الذي كتبت فيه المقادير النهائية التي يعودون إليها، كذلك قال أهل العلم يمحو الله ما يشاء ويثبت من كتابة الملكين، فإن العبد يعمل حسنة وقد يفعل بعدها ما يبطلها؛ تروح، يتصدق بصدقة فتكتب له، ثم بعد ذلك يمن على من تصدق عليه أو يؤذيه فتذهب؛ تمحى، يذهب أجرها، والعكس إنسان قد يذنب ذنبا ثم بعد هذا الذنب يتوب إلى الله -تبارك وتعالى- ويستغفره، فيمحى الذنب وتبقى هذه التوبة والمغفرة، فيمحوا الله -تبارك وتعالى- ما يشاء ويثبت من أعمال الإنسان، من كتابة الملكين، وعنده أم الكتاب القضاء الأول؛ القضاء الأول والنهائي، الذي سيكون عليه الأمر والذي سبق به علم الله -تبارك وتعالى-، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي بيده مقادير الخلق كلهم، يقلبها كيف يشاء -سبحانه وتعالى-، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، أما أن الله -تبارك وتعالى- يغير ما سبق في علمه فلا، ما سبق في علم الله -تبارك وتعالى- لا يتغير، وما حكم به الرب -تبارك وتعالى- فإنه لا يتغير، فإن فلانًا في الجنة أو فلانا في النار أو أن هذا له، لكل أجل كتاب, كل أمر مؤجل له كتاب معين لابد أن ينتهي، لكن من هذه الأسباب والمسببات فإن الله -تبارك وتعالى- {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39].
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[الرعد:40]، {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}، من العذاب، فهذا كذلك راجع إلى يعني {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، فربما جاءهم العذاب ثم لما أنابوا إلى الله -تبارك وتعالى-؛ الله -تبارك وتعالى- يصرف هذا العذاب، هذا كله، كله إلى الله -عز وجل-، {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ}، أي يا أيها النبي، {بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ}، من العذاب نصيبهم به وأنت حاضر وأنت موجود، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ}، ونصيبهم بعد وفاتك، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، يعني أن أمر محاسبة هؤلاء إلى الله -تبارك وتعالى-، أن يعجل لهم العذاب في حياتك أو يؤخر لهم ما يشاء من العذاب بعد موتك، فإن هذا إلى الله -تبارك وتعالى-، والنبي ليس بيده أن يجازي قومه وأن يحاسبهم، ليس وكيلًا عليهم، فإنما هذا أمرهم إلى الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[الرعد:40]، وهذا فيه وعيد للكفار أن الله -تبارك وتعالى- قادر على أن يعذبهم ونبيهم موجود -صلوات الله والسلام عليه-، وإن كان الله -تبارك وتعالى- قد أكرم هذه الأمة بهذا النبي الكريم -صلوات الله والسلام عليه-، فقال {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33]، لكن نرجع أن نقول أنه قد يكون العذاب قد حتم ثم يكون هناك سببا معين فيرفعه الله -تبارك وتعالى-، كما قال النبي -صلوات الله عليه وسلم- يوم بدر بعد أن أخذ المسلمون الفدية من الأسرى، قال «لقد أريت عذابكم دون هذه الشجرة»، يعني أنه قد اقترب، ولكن الله -تبارك وتعالى- رفعه عن المؤمنين وتجاوز عنهم، وأحل لهم -سبحانه وتعالى- الغنائم، وقال {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنفال:69]، غفر الله -تبارك وتعالى- لهم، وأذهب عنهم العذاب الذي كان يمكن أن يأتيهم عندما أخذوا الفدية، كما قال –تبارك وتعالى- {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال:67]، {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68]، لولا كتاب من الله سبق في ألا يعذبكم على هذا الأمر قد سبق في علم الله -عز وجل-، {........ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[الأنفال:68]، كان ربنا -سبحانه وتعالى- أمسكم بالعذاب إذ أخذتم وقبلتم الغنائم وما كان ينبغي لكم أن تقبلوها، كان ينبغي والأولى والأصلح هو قتل الأسرى، الشاهد أن هذا إنما مرده في النهاية إلى القضاء الذي قضاه الله -تبارك وتعالى- في الأزل، ولكن يعني ممكن أن يكون هنا بالأسباب والمسببات يكون أمرا، ثم إن الله {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}[الرعد:39]، -، {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}[الرعد:40].
ثم في سياق تهديد الكفار بصنيعهم، تهديد الكفار في الدنيا بصنيعهم في تكذيب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[الرعد:41]، {أَوَلَمْ يَرَوْا}، يعني الكفار، {........ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}[الرعد:41]، قال بعض أهل العلم {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ........}[الرعد:41]، الأرض التي هي أرض الكفار، ننقصها من أطرافها بأن نقطع من أرض الكفر ويوصل إلى أرض الإسلام، يعني تتسع رقعة الإسلام وتأخذ من أرض الكفر، وأن الحال سيستمر على هذا المنوال فيؤيد الله -تبارك وتعالى- أمة الإسلام ودولة الإسلام، اتساعًا في الأرض وتقليصًا لدولة الكفر، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ........}[الرعد:41]، أرض الكفر.
{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، قال بعض أهل العلم الدنيوي إن الأرض في أثناء حركتها ودوراناتها تفقد بعض ذراتها وبعض مكوناتها؛ تتلاشى وتخرج منها، فكأنها تنقص من أطرافها، إذا كان هذا صحيحًا فهو آية على كل حال من آيات الله -تبارك وتعالى- وقدرته -جل وعلا- على الخلق، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ ........}[الرعد:41]، كل أنواع الحكم، الله يحكم حكمه الكوني القدري -سبحانه وتعالى، وكذلك حكمه الشرعي الديني، لا أحد يعقب على حكم الله -تبارك وتعالى-، وكذلك حكمه -سبحانه وتعالى- في ذنوب عباده وسيئات وأعمال الناس، فهو الحكم -سبحانه وتعالى- الذي يحكم ولا معقب لحكم الله -تبارك وتعالى-، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}، يعني ليس له من يعقب على هذا الحكم، ويقول لا هذا الحكم صحيح، هذا الحكم خطأ، نغير هذا، نزيل هذا، نبدل هذا... لا، ليس هناك من يعقب على حكم الله -تبارك وتعالى-، بل الحكم لله -عز وجل- في الأول والختام، فما حكم به الرب -تبارك وتعالى- كونًا وقدرًا لابد أن يصير، وما حكم الله -تبارك وتعالى- به شرعًا ودينًا هذا شرعه وحكمه -سبحانه وتعالى-، ليس لأحد أن يعقب على حكم الله ويقول لو أن هذا الحلال صار حرامًا، ولو أن هذا الحرام صار حلالًا، ولو أن كذا ولو أن كذا ...، ونزيل هذا ونـ ... لا، الله لا يعقب أحد على حكمه -سبحانه وتعالى-، وكذلك حكمه -سبحانه وتعالى- في عباده، في سيئاتهم وفي حسناتهم، في أن يدخل هذا الجنة وأن يدخل هذا النار، الله يحكم -سبحانه وتعالى- فيما يشاء كما يشاء -سبحانه وتعالى- لا معقب لحكمه، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، وهو سريع الحساب ممكن يقع الذنب وممكن تأتي العقوبة في إثره، فقد يزيغ فقط قلب الشخص عن الحق؛ يرى الحق ثم يزيغ عنه، يكون في اللحظة والتو الذي يميل فيه عن الحق يزيغه الله -تبارك وتعالى- وتأتيه العقوبة، ويطمس على قلبه وعلى بصره ويعاقبه الله -تبارك وتعالى- أشد العقوبة بالضلال، والإضلال أشد عقوبة، الإضلال أشد عقوبة ممكن أن يعاقبها العبد في الدنيا أن يضله الله -تبارك وتعالى- ويعمي بصيرته، وكذلك ممكن أن تنزل عليه عقوبة من عقوبات الرب الكثيرة، والله -تبارك وتعالى- يعاقب عباده كما يشاء، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:42]، {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، من قبل هؤلاء المشركين من العرب؛ قد مكروا برسلهم، من قوم نوح إلى قوم هود إلى قوم صالح إلى قوم لوط إلى فرعون وملأه إلى شعيب، كل هذه الأمم لفت ودارت ومكرت برسلها، ووضعت من الأكاذيب ومن الأضاليل ومن الصد عن سبيل الله، وتحايلوا بصنوف الحيل، وأرادوا أن يوصلوا الضر إلى الرسل بكل طريق بالطرق الخفية؛ هذا المكر، المكر أصل المكر هو إيصال الضر إلى الأخرين بطريق خفي، وقد يكون معه إظهار المودة للآخر، ثم إذا به يعني يوصل الضر له بطريق خفي؛ هذا المكر، وفيه كذب وفيه نوع من اللف والدوران وفيه من اختراع الحيل، ولا يطلق إذا أطلق المكر فيطلق على الأمر السيء، وقد يكون هناك المكر الحسن هو إيصال الضر إلى من يستحق الضر بطريق خفي، فهذا مكر حسن، كالمكر بأهل المكر، فأهل المكر والكذب والخداع من مكر بهم فأوقعهم في شر أعمالهم فإنه قد مكر مكرًا حسنًا، هذا مكر حسن، {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، مكروا بالرسل، وأرادوا أن يخادعوا الله -تبارك وتعالى- ويخادعوا المؤمنين، {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، من أمم الكفر.
قال -جل وعلا- {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}، المكر كله لله أنه -سبحانه وتعالى- يعلم هؤلاء الذين يمكرون، يعني مهما مكر أهل المكر هو تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وتحت بصره، فكل مكرهم مكشوف معلوم لله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}، الله -تبارك وتعالى- يعلم ما تكسب كل نفس، كل نفس ما تكسبه يعلمه الله -تبارك وتعالى-، وإن كان هناك من يوقع الضر بعدوه بطريق خفي فالله أولى بذلك، ويمكر المكر الحسن فإنه يوقع أهل الشر في عاقبة شرهم، وأهل المكر أولًا قد كشفه الله؛ يعلمه الله -تبارك وتعالى-، بداية ونهاية، ويعاقبهم الله -تبارك وتعالى- بجنس ما صنعوه، فيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، من حيث لا يشعر به، من مأمنه يؤتى، من المكان الذي كان يأمن منه قد يأتيه العذاب، فيأتيه العذاب من حيث لا يشعر، {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}، كل ما يمكر به الماكرون هو تحت سمع الله -تبارك وتعالى- وبصره، والله -تبارك وتعالى- أقدر من كل أحد أن يرد عليه مكره وأن يأتيه العذاب من حيث لا يشعر.
{يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ}، هذا من معاني أن له المكر كله -سبحانه وتعالى-، أن كل نفس ماذا تكسبه من خير وشر هو بعلمه -سبحانه وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- مهددًا ومتوعدًا {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}، سيعلم الكفار لمن عقبى الدار، من الذي له عاقبة الدار في الدنيا والآخرة، عاقبة الدار في الدنيا من النصر والتمكين والعز سيجعلها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين كما وعد، والخسار والدمار والهزيمة والشنار واللعنة المتلاحقة سيجعلها الله -تبارك وتعالى- للكفار، فتكون عاقبة دار الدنيا أن العاقبة للمتقين نصرًا وتمكينًا وعزًا، وأن الخزي والندامة والهزيمة والذل على الكافرين، فهذا في الدنيا، وكذلك عقبى الدار في الآخرة، سيعلم الكفار لمن عقبى الدار عندما يدحضهم الله -تبارك وتعالى- في نار جهنم، ويكرم الله -تبارك وتعالى- رسوله والمؤمنين في الجنة، فعند ذلك يعلموا علم اليقين لمن عقبى الدار، من الذي كانت له عاقبة الدار.
قد وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على شفير بئر بدر، اختار النبي -صلى الله عليه وسلم- بئر خبيثة منتنة، وجمعت فيها جثث القتلى من المشركين السبعين وألقيت فيها، ثم وقف النبي -صلى الله عليه وسلم- على شفير البئر وناداهم بأسمائهم، يا فلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان، يا فلان يا فلان يا فلان يا فلان يا فلان ...، ناداهم جميعًا، والصحابة حول النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعون، ثم قال لهم؛ قال لهؤلاء المشركين «هل رأيتم ما وعد ربكم حقًا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا»، قالهم وجدتم أن الذي وعد الله -تبارك وتعالى- حق، أنا قد علمت أن الذي وعدني الله –تبارك وتعالى- به حق، فقال الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- يعني كيف تخاطب قومًا قد جيفوا، أنت تخاطب ناس خرجت ريحتهم يعني ماتوا وأنتنوا وطلعت ريحتهم، فقال «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»، يعني إنهم يسمعون أكثر منكم الآن، فهذه عقبى الدار، هذه عقبى الدار، العاقبة لهؤلاء الكفار الذين كانوا يقولون نحن ونحن ونحن ...، وأن هذا الرسول لا أمل له ولا طريق له ومنتهي والغلبة لنا، هذا قبل سويعات من قتلهم في بدر، كان أبو جهل واقفًا ويقول لا نرجع، يقول له أبو سفيان ارجعوا أنا استخلصت تجارتكم وارجعوا؛ تعالوا، فيقول لا نرجع نأتي بل نأتي وننحر الجزر وتغنينا القيان وتعلم العرب كلها بشأننا فيخافنا الجميع، وقال هذا، فكان يعلم أنه هو الذي له السطوة وله النصر وله التمكين في النهاية، ووقف صبيحة يوم بدر يقول الله أقطعنا للرحم وآتانا بما لم يعرف وأبغضنا إليك يعني منا ومن محمد فأحنه الغداة، أحنه؛ اهزمه في هذا اليوم، ثم بعد ذلك بعد ساعات كشف الأمر كله، وجعل الله -تبارك وتعالى- عاقبة الأمر للنبي والمؤمنين وعاقبة الخسار لهؤلاء.
فقول الله -تبارك وتعالى- {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}، لمن عقبى الدار في هذه الدنيا، وكذلك عقباها في الآخرة، فالنبي عندما يقول لهم هل علمتم أن ما وعد ربكم حقًا؛ حقًا في النار الآن، كانوا في النار يذوقون حرها وعذابها، فإن وجدت ما وعدني به ربي حقًا... نعم، وانظر التاريخ اليوم نحن الآن أربعة عشر قرن مئة من السنين ونحن في القرن الخامس عشر، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- النصر والعز والتمكين والبقاء لهذا الدين، لرسوله -صلى الله عليه وسلم- وللمؤمنين على مدى التاريخ، والذل والخسار للكافرين كذلك على مدى التاريخ، في كل القرون جعل الله -تبارك وتعالى- هذا الدين الحق هو الباقي، ثم كل جحافل الباطل جحفل جحفل. الله -تبارك وتعالى- ينهي أمرهم بالخسار والدمار، {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}، في الدنيا وفي الآخرة عندما تظهر الحقيقة كلها كاملة، تظهر الحقيقة كاملة لكل عين، ويرى أهل النار والكفار مآلهم، ويرى أهل الجنة المآل الذي قد آلوا إليه من رضوان الله -تبارك وتعالى- ورحمته.
ثم قال -جل وعلا- ختم هذه السورة العظيمة بآية عظيمة جدًا، قال -جل وعلا- {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرعد:43]، يعني بعد كل هذه الآيات التي بينَّها الله -تبارك وتعالى-، وكل هذه الدلائل، وكل هذه البصائر، ومع ذلك {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}، هذا النبي ليس مرسلًا! بعد كل هذه الأدلة التي تشهد بأنه رسول الله حقًا وصدقًا، يعاود هؤلاء الكرة ويقولون للنبي لست مرسلًا، أمر في غاية العجب، في غاية العجب أن يكون التكذيب على هذا النحو من الإصرار والاستمرار، {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}، والعجب أن الله -تبارك وتعالى- يخبر هذا الخبر عن الكفار بصيغة المضارعة، فيقول {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}، وكأن هذه المقالة هي مقالة الكفار دائمًا، وبالفعل منذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا}، الكفار يقولون للنبي لست مرسلًا، لليوم يقول الكفار من اليهود ومن النصارى ومن المشركين ومن غيرهم من الأمم يقولون ليس محمدًا رسولًا، ويقول الذين كفروا مع ظهور كل هذه الأدلة لست مرسلًا، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، أي لم يبق مجال لقول أدلة جديدة بعد كل هذه الأدلة، {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، يكفي أن أجعل الله شهيدا بيني وبينكم، أنا صادق أم أنتم، أنا كاذب أم أنتم، هذا الله -سبحانه وتعالى- هو الشهيد على ذلك في الدنيا وفي الآخرة، قل كفى بالله؛ يكفي يكفي يكفي الله -تبارك وتعالى-، يكفينا أن يكون الله -تبارك وتعالى- شهيدًا بيني وبينكم، {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}، من عنده علم الكتاب من الذين أتوا الكتاب من اليهود والنصارى، يعني أنا أستشهدهم كذلك هل أنا رسول الله حقًا وصدقًا أم لا، وبقي كذلك الذين عندهم علم من الكتاب في كل وقت وحين يشهدون بأن محمدا ابن عبد الله رسول الله، ويدخل طوائف من النصارى واليهود بعد أن يطلعوا على ما في كتابهم من الشهادة من أن محمدًا ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، والله -تبارك وتعالى- يظهر من آياته على مدى التاريخ ما يثبت أن محمدا ابن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا، وكذلك من شهادة أولئك، {........ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}[الرعد:43]، وبهذا تنتهي هذه السورة؛ السورة العظيمة سورة الرعد.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الآيات والحكم، وأن يشرح صدورنا لكتابه، وأن يجعله ربيع قلوبنا وجلاء همومنا وأحزاننا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.