الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آهل وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم،
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:1-4].
هذه مطلع سورة إبراهيم -عليه السلام-، وهذه السورة مكية بتمامها، أي أنها من القرآن المكي الذي نزل قبل هجرة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والسياق العام في هذه السورة هو بيان أهداف الرسالات، وسنة الله -تبارك وتعالى- في معاقبة الجبارين في الدنيا والآخرة، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، والذين يتهددون رسلهم ويتوعدونهم ويضعونهم بين أمرين لا خيار لهم فيه في زعمهم، إما القتل أو الطرد من أرضهم، وإما أن يكفوا عن هذه الرسالة، فهؤلاء الجبارون الذين عاندوا الرسل ووقفوا في وجههم على هذا النحو، هذه السورة تبين سنة الله -تبارك وتعالى- في عقوبتهم في الدنيا والآخرة.
بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه الصورة بهذه الحروف المقطعة الثلاثة؛ الألف واللام والراء، {الر}، ثم قال –جل وعلا- {........ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1]، كتاب؛ هذا الكتاب، وهو هذا القرآن المنزل على عبد الله ورسوله محمد، سمي كتابًا وذلك أن الله -تبارك وتعالى- كتبه في السماء، ثم أنزله على عبده قراءة ثم كتب في الأرض، وهو أعظم كتاب كتب في الأرض يقرأه العالمون، ويهدي إلى صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، المتضمن لكلام الله -تبارك وتعالى-، كلمته الأخيرة إلى أهل الأرض، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ}، الله -تبارك وتعالى- هو الذي أنزله، فالله -تبارك وتعالى- هنا يؤكد ويبين أنه هو الذي أنزله -سبحانه وتعالى-، ويتكلم الله عن نفسه في صيغة الجمع تعظيمًا لنفسه فهو الإله المعظم -سبحانه وتعالى-، الرب الكريم العظيم، {أَنزَلْنَاهُ}، وهذه الإشارة والتذكير بأن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى- يتكرر كثيرًا في سور القرآن وفي آياته، وكله تذكير بأن هذا الكلام كلامه وأن هذا الكتاب كتابه وأنه هو الذي أنزله -سبحانه وتعالى-، وفي هذا من المواعظ ما فيه، أولًا تذكير للعالمين أن هذا كلامه، وأن هذا كلامه المباشر إلى الناس جميعًا، ليس هو حكاية عن كلامه، لم يتكلم به مثلًا جبريل عن معنى أراده الله -تبارك وتعالى-، ولم يتكلم به الرسول عن معنى أراده الله، بل بألفاظه وحروفه من الله -تبارك وتعالى-، إذن فليعلموا أن هذا كلامه -سبحانه وتعالى-، وأن هذا كلام مباشر منه -سبحانه وتعالى- إلى المخاطبين بهذا القرآن وهم الناس أجمعون، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1]، {قَيِّمًا لِيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ}.
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ}، الله -سبحانه وتعالى- هو منزله إلى نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، إليك؛ يعني يا محمد، ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- أهداف نزول هذا القرآن؛ لما أنزله، فقال -جل وعلا- {........ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1]، لتخرج الناس؛ أي بهذا الكتاب، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، الظلمات؛ كل أنواع الظلمات، ظلمات الشرك والكفر والعناد والتشريع بما لم يشاءه الله -تبارك وتعالى- وكل ما هو بعيد عن طريق الرب -تبارك وتعالى-، طريق الرب هو الهدى وحده، وكل تحول وابتعاد عن هذا الطريق هو ظلمات، فالنور طريق الله -تبارك وتعالى-، هذا طريق نور لأن هذا الطريق أولًا فيه المعرفة الحقيقية بالله خالق الكون -سبحانه وتعالى-، وبأنه خلق العباد ليعبدوه -سبحانه وتعالى-، فإذن عبادته وحده -جل وعلا- هي الحق الذي أقيمت عليه السماوات والأرض، ثم تشريعه لعباده في أن يسلكوه، شرع لهم الدين القويم والشرعة النظيفة الطاهرة، فشريعته هي النظيفة الطاهرة وكل تحول عنها وابتعاد عنها ظلم وظلمات وابتعاد عن الحق، لتخرج الناس؛ أي بهذا الكتاب، من الظلمات؛ ظلمات الشرك والكفر، والبعد عن الله -تبارك وتعالى- والتشريع لما لم يشاءه الله -عز وجل- إلى النور، ثم قال -جل وعلا- {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، فإن هذا الإخراج إنما هو بإذن الله؛ بمشيئته -سبحانه وتعالى-، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ........}[الإنسان:30]، فإن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يهدي من يشاء إلى سلوك طريقه، وليس هذا يعني الذي يهتدي أو يضل يفعل هذا رغمًا عن الله أو بغير مشيئته أو بغير إذنه... لا، بل بإذن الله -تبارك وتعالى-، بإذنه وبمشيئته -سبحانه وتعالى-، فالهدى هداه، فالهدى هدى الله -تبارك وتعالى- هو الذي يهدي من يشاء، والنبي -صلوات الله عليه وسلم- إنما هو سبب لهذه الهداية، يما يقرأه من كتاب الله -تبارك وتعالى-، وما يرشد إليه وما يعلم به وما يبين به، فيكون هذا سبب والله -تبارك وتعالى- هو الموفق حقيقة إلى سلوك طريقه.
{بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}، هذا هو الهدى، صراط؛ الصراط هو الطريق، العزيز. الرب -سبحانه وتعالى- هو العزيز، أي الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، لا غالب له، فالعزة هي الغلبة، فالعزة في لغة العرب هي الغلبة، والله هو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، الحميد؛ المحمود -سبحانه وتعالى-، المحمود بذاته، فالله -تبارك وتعالى- هو أهل الحمد، في كل أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى- هو المحمود، على ذاته وعلى صفاته وعلى أسمائه ثم على آلائه وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، فهو الذي حمد نفسه وأثنى على نفسه بالثناء الذي لا يستطيع أحد من البشر أن يثني على الله -تبارك وتعالى- كما أثنى على نفسه –سبحانه وتعالى-، ثم أنه هو المحمود بكل ألسنة الخلائق، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}، يسبح متلبسًا بحمد الله -تبارك وتعالى-، فهو الحميد الذي يحمده كل خلقه مقالًا وحالًا، كل خلقه حامدون له، وأعظم هذا الخلق الملائكة، حامدون لله -تبارك وتعالى- مسبحون له، {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ}[الأنبياء:20]، وكل خلقه -سبحانه وتعالى-، الكافر أعمى لا يحمد الله -تبارك وتعالى- ولا يشكره، ولكن هو بحاله بقيامه لا شك أنه شاهد على أن الله -تبارك وتعالى- هو المحمود، فإن الله -تبارك وتعالى- خالقه ورازقه ومدبر شئونه -سبحانه وتعالى-، وهذا الخلق آية، كل خلق الله -تبارك وتعالى- آية، فالرب الإله الذي لا إله إلا هو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحميد؛ المحمود -سبحانه وتعالى، الله؛ فهذا الرب العزيز الحميد هو الله، الاسم الأعظم على ذات الرب -جل وعلا-.
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ........}[إبراهيم:2]، الذي له ملك، يملك ما في السماوات ويملك ما في الأرض -سبحانه وتعالى-، ما في السماوات السبع وما فوقها وما في الأراضين السبع وما تحتها، كل هذا ملكه -سبحانه وتعالى-، ملكه؛ يملك أصله ويملك فعله وتصرفه، فأصل هذا منه لأنه هو خالقه -سبحانه وتعالى-، الله خالق كل شيء، ثم هو يملك كذلك تصرفه؛ تصرف هذه المخلوقات كلها وتصريفها، ليل أو نهار، شمس وقمر، تنظيم هذا الكو، قيام الخلق فيما يقوم فيه كله إلى الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض، إذن الدعوة إلى هذا الإله دعوة حق، لأنه هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، فهو رب العباد، إلى صراط العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحميد، المحمود لأسمائه وصفاته وآلائه -سبحانه وتعالى-، {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ........}[إبراهيم:2]، إذن الدعوة إلى هذا الإله والكتاب المنزل ليقوم النبي بالدعوة إلى هذا الإله الذي هذه صفته دعوة حق، أن هذا الإله الذي ملك كل شيء وخضع له كل شيء وذل له كل شيء، وهو العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء وهو المحمود -سبحانه وتعالى-، ذاتًا وصفات وخلقًا؛ خلقه كله يحمدونه، إذن لا سبيل لأحد أن ينصرف عن هذا الرب -جل وعلا-.
ثم قال -جل وعلا- {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، الكافر بهذا الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، العزيز الحميد الذي له ما في السماوات والأرض، فالكافر بذلك مجرم، غاية في الإجرام، لأن كونه يكفر بهذا الإله، ويكفر به بعد قيام هذه الأدلة والشواهد على الرب -جل وعلا-؛ يكفر بعد ذلك، فهذا متوعد، قال {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ}، يعني الذين عرفوا هذه الحقائق وبلغوا بهذه الحقائق وكفروا بها وجحدوها، {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}، العذاب عقوبة شديدة، وسميت عذاب لأنها تعذب النفس ويقاسيها المعذب -عياذًا بالله-، شديد؛ وصف الله -تبارك وتعالى- هذا العذاب بأنه شديد، وسيأتي تفصيل لماذا كان هذا العذاب شديد.
وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الكافرين، فقال {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}[إبراهيم:3]، الكفر الذي اتصف به هؤلاء دواعيه عندهم أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، استحبوها؛ أحبوها أكثر من الآخرة، الحياة الدنيا؛ الدنيا من الدنو، إنها القريبة، والآخرة هي الثانية البعيدة، أو من الدنائة، الحياة الدنيا عن الآخرة وهي الحياة الآخرة حياة عليها وأما هذه دنيا؛ دنيئة، استحبوا هذه الحياة القريبة أن يعيشوا فيها ويتمتعوا بها، وانصرفوا عن الحياة الأخرى عن الآخرة، وهذا أكبر ضلال، لأن أولًا لو لم يكن ثمة عذاب وكان هناك تخيير بين أن يتمتع الإنسان في الدنيا ويحرم عذاب الآخرة لكان هذا من أكبر ضعف العقل وقلة الفهم، كيف يؤثر العبد ويقدم ويأخذ الداني هذا القليل، المتاع القليل هذا ويدع متاع الآخرة، ونعيم الآخرة العظيم، فمن آثر هذه الدنيا على الآخرة لو لم يكن ثمة عذاب، يعني لو لم تكن عقوبة على هذا الفعل لكان هذا من أكبر ضعف العقل وقلة الفهم، فهؤلاء استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ليس فقط أنهم فقدوا المتاع؛ متاع الآخرة، الباقي الذي لا ينقطع والخلود الدائم، بل كذلك أوردهم هذا النار، وهذا من ضلال على ضلال.
{وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، الصد؛ يأتي الصد صدا لازمًا ومتعديًا، يصدون عن سبيل الله إما يصدون غيرهم عن سبيل الله، والصد هو المنع، أو صد بنفسه عن سبيل الله، يعني يصدون عن سبيل الله يبتعدون بأنفسهم عن سبيل الله، {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، عن طريق الله، يمنعون الناس ويحالون ألا يسير أحد في طريق الله.
{وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}، يبغونها؛ يريدونها، التي هي سبيل الله، عوجًا؛ معوجة، للسالكين فيها، يعني يريدون أن تكون سبيل الله معوجة للسالكين فيها، فيشوهونها ويلقون عليها الشبه والشكوك ويحقرونها لمن يسلكها حتى ينصرف عنها إلى طريقهم؛ طريق الكفر الذي يسيرون فيه، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}، أولئك؛ المشار إليهم هؤلاء الكفار الذين هذه صفاتهم، في ضلال؛ الضلال الذهاب عن الحق، بعيد؛ يعني بعيدون عن الحق بعدًا عظيمًا جدًا، وأي ضلال أكبر من هذا! إيثار الدنيا على الآخرة، ثم الصد عن سبيل الله، ثم تشويه سبيل الله –تبارك وتعالى- للسائرين فيها، والعمى عن هذا الطريق؛ طريق الله -تبارك وتعالى-، الموصل إلى جنته وكرامته ورضوان الرب -جل وعلا-، إذن هذا بيان أولًا هذه المقدمة بيان هذا الكتاب؛ القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى-، وأنه قد أنزل إلى رسوله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولكن هؤلاء الكافرون الذين هذه صفتهم وهذا فعلهم في الناس أنهم يصدونهم عن سبيل الله.
قال -جل وعلا- مبينًا لطفه ورحمته -سبحانه وتعالى- بعباده، واعطائهم كل الوسائل التي يمكن أن تهدي إلى الحق، ولكن يكفر من يكفر ويضل من يضل، وكله بأمر الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، هذا من الطافه وإنعامه -سبحانه وتعالى- أنه ما أرسل من رسول إلى قوم إلى بلسان قومه، يتكلم بلسان القوم، بلسان قومه؛ بلغة قومه، ليبين لهم؛ لأنه لو كان رسولا من قوم آخرين، يتكلم بلسان آخر، ثم جاء يحتاج إلى من يسمع منه، يترجم لـ ...، ينقل كلامه إلى قومه، فيكون في هذا فيه نوع من الصعوبة والعسر عليهم، فالله -تبارك وتعالى- في الأمم السابقة ما أرسل رسولا إلا بلسان قومه، قال -جل وعلا- {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، ليبين لهم الرسول بنفسه دون واسطة ودون ترجمان.
ثم قال -جل وعلا- {........ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4]، الدين يتضح ويبين للناس، لكن الله -تبارك وتعالى- في نهاية الأمر يضل من يشاء من هؤلاء المرسل إليهم؛ هذه الأمم، ويهدي من يشاء -سبحانه وتعالى-، فإن له المشيئة النافذة في خلقه وفي عباده، وهو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه، إشارة الله -تبارك وتعالى- هنا وبيان لصفاته أنه العزيز الغالب؛ الذي لا يغلبه أحد، فإذا أراد الله -تبارك وتعالى- أن يهدي من يشاء هداه، وإذا أراد أن يضل من يضل أضله، فهو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-، ثم أنه الحكيم الذي يضع كل أمر في نصابه، فمن كان يستحق الهدى هداه ومن يستحق الاضلال أضله، والله هو العليم بخلقه -سبحانه وتعالى-، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أنه لن يضل إلا من أخذ طريق الضلال وانصرف عن طريق الهدى، كما قال -جل وعلا- { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5-10]، {........ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4].
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- ذكر عباده بأنه أرسل عبده ورسوله موسى -عليه السلام-، وذكر موسى هنا وذلك أنه النبي الذي سبق محمدًا -صلوات الله والسلام عليه-، والذي بقيت شريعته في الأرض يعمل بها من يعمل بها ممن ينتسبون إليه، ثم إن عيسى -عليه السلام- هو تابع في شريعته إلى موسى وبقي نبي بعث واليهود موجودون المنتسبون إلى شريعة موسى، والنصارى الذين ينسبون إلى عيسى موجودون وهم على شريعة موسى كذلك، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم:5]، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}، يخبر الله -سبحانه وتعالى- ويؤكد أنه هو الذي أرسل موسى النبي؛ نبي بني إسرائيل، {بِآيَاتِنَا}، الآيات جمع آية، الآية هي الدليل الواضح البيِّن على الحق، الذي يرسل الله -تبارك وتعالى- من أجله هذه الآية، وقد كان مع موسى -عليه السلام- تسع آيات كبرى بينات، منها عصاه التي إذا ألقاها أصبحت حية تسعى، ومنها يده السمراء إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها تخرج بيضاء، باقي جسمه كله بنفس لونه الأسمر وهي تخرج بيضاء، فهذه آية، ومنها ما ضرب الله -تبارك وتعالى- به الفراعنة بالآيات العظيمة؛ العقوبات الشديدة، {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ}[الأعراف:133]، ثم آيته الكبرى انفلاق البحر، عندما ضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كل فلق من البحر كالطود العظيم، وأمر الله -تبارك وتعالى- موسى أن يمشي في البحر، قال {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى}[طه:77]، آية عظمى من آيات الله -تبارك وتعالى-، أرسل الله -تبارك وتعالى- موسى قال {بِآيَاتِنَا}.
والهدف من هذه الرسالة قال {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}، وقوم موسى هم بنوا إسرائيل؛ فقد بعث إلى بني إسرائيل، أن أخرج قومك من الظلمات التي كانوا فيها إلى النور؛ نور الهداية والتوحيد، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، ذكر قومك بني إسرائيل بأيام الله، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، ذكرهم بأيام الله -تبارك وتعالى- معهم، فيذكر بني إسرائيل بأيام الله فإن هناك أيام نسبت هذه الأيام لله -تبارك وتعالى-، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- قد ابتلى بني إسرائيل بالخير والشر، بالشر عندما سلط عليهم فرعون قومه، يستذلونهم ويستحيون نسائهم ويذبحون أبناهم، قال -جل وعلا- {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، فهذا يوم من أيام بؤسهم وكان بأمر الله -تبارك وتعالى-، ثم يوم من أيام نعيمهم عندما أنقذهم الله -تبارك وتعالى- من هذا الذل بيدٍ قوية، أخرجهم من أرض مصر بهداية الرب -تبارك وتعالى- وقيادة موسى، إلى أن أوصلهم إلى برية سيناء وفلق لهم البحر، وهذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى- وهو يوم عظيم، {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:49-50]، وأنتم تنظرون إلى هلاكهم لأن هذا أشفى لصدورهم أن ينظروا عدوهم، الذي كان يعذبهم في أرض مصر ها هو يغرق ويموت أمام ناظريكم، فأمام أنظاركم ها أنتم ترون هؤلاء يموتون، {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ}، هذا من أيام الله -تبارك وتعالى-، ثم أيام كثيرة بعد ذلك فالتيه مرت عليهم من أيام الله -تبارك وتعالى-، جعلهم في التيه لا يهتدون سبيلًا أربعين سنة، هذا من أيام الله -تبارك وتعالى- بسبب وقوفهم وامتناعهم عن دخول الأرض المقدسة وحرب أهلها حتى ينتصروا، فلما جبنوا. الله -تبارك وتعالى- ضربهم بما ضربهم به، وكذلك رحمته -سبحانه وتعالى- بهم إذ ظلل عليهم الغمام في هذه الصحراء القاحلة الحارة.
وتفجير الماء لهم وهم في وسط هذه الصحراء، يضرب موسى الحجر بعصاه فينفجر منه إثنى عشر عينا، حتى يشرب كل سبط من أسباطهم من عين مستقلة، فلا يتنازعوا على الماء وهذا يعني أدعى لراحتهم وأمنهم، ثم ما يرزقهم الله –تبارك وتعالى- به من الرزق، المن والسلوى الذي يأتيهم دون عناء يأخذونه، السلوى نوع من العسل الرب مثل العسل؛ وهذا لحم، ويعيشون في الصحراء في المدة التي ضرب الله -تبارك وتعالى- عليهم التيه فيها، فهذه أيام الله -تبارك وتعالى-، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، إن في ذلك؛ في التذكير بهذه الآيات، هذه فيها آيات لكل صبار على أيام الله -تبارك وتعالى- الشديدة، شكور؛ يعني أنه شاكر لله -تبارك وتعالى- على نعمه، فأيام الله -تبارك وتعالى- التي توالت على بني إسرائيل أيام شدة، وهذه القيام فيها والمقام هذا مقام الصبر، وأيام عز ورحمة وخير وهذه هي أيام الشكر، فقال -جل وعلا- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، وهذا سنة الله -تبارك وتعالى- في عباده المؤمنين، أن يبتليهم بالحسنة والسيئة، أن يبتليهم بالحسنة والسيئة، فهذا من أيام الله وهذا من أيام الله، والله -تبارك وتعالى- أمر موسى أن يذكر قومه بهذا، قال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}[إبراهيم:5].
نقف عند هذه الآية ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.