الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (305) - سورة إبراهيم 6-12

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ(6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ(7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}[إبراهيم:6-8].

 يخبر -سبحانه وتعالى- عن عبده ورسوله موسى -عليه السلام- نبي بني إسرائيل، بأنه قال لقومه اذكروا نعمة الله عليكم، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى}، أي واذكر إذ قال موسى لقومه؛ موسى بني إسرائيل -عليه السلام-، وقومه هم بنوا إسرائيل وهم الذين تسموا بعد ذلك باليهود بعد بعثة موسى -عليه السلام-، من قولهم {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، أي رجعنا وتبنا إليك، {اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، يعني استحضروا هذه النعم في عقولكم وفي أذهانكم، نعمة الله؛ نعم الله، لأنه مفرد أضيف إلى معرفة فيعم، ونعم الله -تبارك وتعالى- عليهم كثيرة، ثم ذكر نعمته العظمى قال {........ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}[إبراهيم:6]، إذ أنجاكم؛ عندما أنجاكم، حينما أنجاكم من آل فرعون؛ من قوم فرعون، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، قد مضى أن بنوا إسرائيل ارتحلوا؛ إسرائيل وبنوه، إسرائيل؛ يعقوب –عليه السلام-، وبنوه الأحد عشر وكان قد سبقهم يوسف -عليه السلام- إلى مصر، وفي قصته المشهورة التي أفرد الله -تبارك وتعالى- لها سورة في القرآن، {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ........}[يوسف:3]، وأنه لما سكن إسرائيل وهو يعقوب وبنوه بعد ذلك مصر بدعوة من يوسف -عليه السلام-، ومكنهم الله -تبارك وتعالى- في الأرض وبوأهم فيها مبوئًا  صالحًا، وبقوا فيها ما شاء الله -تبارك وتعالى، ثم إن الفراعنة كما يقال قلبوا لهم ظهر المجن وخافوهم على أرضهم، وبدأ فرعون؛ فرعون موسى، يتبع معهم سياسة أخرى غير الأولى التي كانت فيمن سبقه من ملوك مصر مع بني إسرائيل، فإنه أنزلهم من أماكنهم التي تبوأوها وجعلهم شعبًا مستضعفًا مستذلًا، سخرهم في الأعمال الدنيئة والحقيرة، وسخرهم في العذاب للعذاب، يعني في الأعمال الشاقة تعذيبًا لهم، {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}، فقد سامهم الخسف، سامهم بمعنى كأنه يجعلهم قطيعًا يجعلهم يرعون العذاب رعيًا، ففي كل يوم يكلفون بجزء من الأعمال الشاقة التي يجب عليهم أن يقوموا بها وإلا عوقبوا، وكانت بعض هذه الأعمال الشاقة العمارة والبناء والزراعة وغيرها، وبعضها شاقة يكلفون بالأعمال الشاقة للأعمال الشاقة؛ تعذيبًا لهم.

ثم أنه بدأ في قتل ذكورهم وترك إناثهم ليتم له اضعافهم، كما قال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]، ثم إن الله -تبارك وتعالى- تمت مشيئته -سبحانه وتعالى- لتخليص هذا الشعب من يد فرعون، وذلك بأن أرسل موسى المخلص -عليه السلام- الذي خلصهم من أسر المصريين وخرج بهم إلى بريه سيناء، فموسى -عليه السلام- بدأ يذكر قومه بني إسرائيل بنعم الله -تبارك وتعالى-، وأولها هذه النعمة العظمى وهي تخلصيهم من هذا القهر والذل، وسوء العذاب الذي صبه عليهم فرعون، {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ}، يرعونكم، {سُوءَ الْعَذَابِ}، يعني العذاب السيء في كل شيء، فقد أقامهم في الأعمال الحقيرة والشاقة كسرًا لظهورهم وقهرًا لهم، وإضافة على ذلك {وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ}، مع سوء العذاب يذبحون أبنائكم، أبنائكم؛ ذكوركم، {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ}، يعني يتركون النساء حيات كذلك للخدمة وكذلك للإذلال، {وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، وفي ذلكم؛ هذا وهذا، النعمة التي أنعمها عليكم بهذا بلاء؛ أي لتشكروه، وكذلك ما كان من العذاب الذي صب عليهم من قوم فرعون بلاء، وفي ذلكم؛ الإثنين، {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}، بلاء شديد وكبير، عظيم من الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال لهم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ........}[إبراهيم:7]، وإذ تأذن أعلم، الأذان هو الإعلام، يعني يعلمكم الله -تبارك وتعالى- المرة تلو المرة، أذن الفعل المضارع أن هذا من إعلامه المستمر لعباده، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ........}[إبراهيم:7]، جملة شرطية لئن شكرتم الله -تبارك وتعالى- على نعمائه لأزيدنكم من الخير ومن النعمة، واللام للتأكيد، ولئن شكرتم؛ الشكر لله -تبارك وتعالى- يكون بالقلب واللسان والعمل، فبالقلب؛ يكون القلب شاكر وهو ذاكر لنعم الله -تبارك وتعالى-، مثنيًا على الله -تبارك وتعالى- بما هو أهله من إنعامه ورادًا كل نعمة وكل فضل إلى صنيع الرب -سبحانه وتعالى-، ثم اللسان يكون ذاكرًا لهذه النعمة، ثم بالعمل بعد ذلك، فالصلاة من الشكر والصيام من الشكر والحج من الشكر، وكل العبادات هي من شكر الله -تبارك وتعالى-، {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، أي من الفضل والنعمة، {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، الكفر هنا ستر النعمة وجحدها، طبعًا هذا يكون بالقلب كذلك وقد يكون باللسان وهو بالعمل كذلك، كفر جحود النعمة بالقلب؛ ألا يذكر القلب ولا ينسب هذه النعمة لله -تبارك وتعالى-، وقد يكون باللسان؛ عدم الثناء على الله -تبارك وتعالى-، أو ذكر الله -تبارك وتعالى- بالسوء، وكذلك بالعمل؛ الإعراض عن عبادة الرب -تبارك وتعالى-، وإن كفرتم؛ جحدتم بقلوبكم وبألسنتكم وفعلتم بأعمالكم عمل الكفر، إن عذابي لشديد؛ تهديد من الله -تبارك وتعالى-، هذا يستحق العذاب، فالذي أوتي نعم الله –تبارك وتعالى- وأنعم الله -تبارك وتعالى- عليه بالنعم، لم يقم بها ورد هذه النعم وجحدها فهذا يستحق العقوبة، قال {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}، ومن عذابه -سبحانه وتعالى- في الآخرة؛ النار، وهذا أشد العذاب، وفي الدنيا قد يكون بالعقوبات العاجلة.

ثم ذكرهم موسى بأن الرب -تبارك وتعالى- غني عن عباده، فقال ربنا -سبحانه وتعالى- {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}[إبراهيم:8]، {وَقَالَ مُوسَى}، أي لقومه، {إِنْ تَكْفُرُوا}، كلكم يا بني إسرائيل، يا شعب الله كما يسمون أنفسهم، {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ........}[إبراهيم:8]، أنتم وكل من في الأرض إن كفرتم وأصبحت الجميع على الكفر {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}، أي عن الجميع، غني بذاته -سبحانه وتعالى-، حميد؛ محمود بذاته -سبحانه وتعالى-، فهو غني عن عبادة العباد لأن الله -تبارك وتعالى- لا يستفيد بذلك شيئًا، ولا يكمل له شيء هو ناقص عنه -سبحانه وتعالى-، بل الرب -سبحانه وتعالى- هو الغني بذاته عن كل كل مخلوقاته -جل وعلا-، فهو في غير احتياج إلى شيء من مخلوقاته، ومنه ذكرهم وثنائهم، كما في الحديث «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا»، فإنه لا يزيد هذا في ملك الله -تبارك وتعالى- شيئًا أن يكون العباد كلهم أتقياء، وكذلك «لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، فالله هو الرب الإله الملك الخالق لكل شيء -سبحانه وتعالى-، الذي ليس في حاجة إلى غيره وكل عباده هم فقراء إليه؛ في حاجة إليه، غني حميد؛ محمود لذاته بذاته -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}[إبراهيم:9]، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ}، من تذكير موسى -عليه السلام- لقومه، وهو كذلك من تذكير الله -تبارك وتعالى- لعباده الذي أنزل عليهم هذا القرآن، ألم يأتكم؛ أي أيها الناس، نبأ الذي من قبلكم؛ نبأهم خبرهم، النبأ هو الخبر العظيم، من قلبكم قوم نوح؛ هؤلاء نوح، أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وعاد؛ قبيلة عاد، وثمود؛ قبيلة ثمود، وعاد وثمود قبيلتان عربيتان، إحداهما سكنت الأحقاف التي هي عاد في جنوب الجزيرة، وثمود سكنت في شمال الجزيرة في الحجر؛ حجر ثمود، وديارهم موجودة إلى اليوم، والذين جاءوا من بعدهم من الرسل والأنبياء، {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}، لا يعلم هؤلاء الرسل ويعلم هذه الأقوام الذين من بعدهم من الأقوام لا يعلمهم إلا الله؛ عدًا وحالًا، {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}، كل هؤلاء قوم نوح وعاد وثمود والأقوام الذين جاءوا من بعد ذلك جاءتهم رسلهم بالبينات؛ بالدلائل الواضحات الظاهرات، كل رسول قد أرسله الله -تبارك وتعالى- أعطاه ما على مثله آمن البشر، {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ}، تعجبًا كمن يتعجب من الأمر فيضع يده إلى فمه تعجبًا، يعني ما هذا يعني ما هذه المقالة التي يقولوها هؤلاء! شخص مثلنا ويقول أنه رسول الله، رسول الذي خلق السماوات والأرض، {وَقَالُوا}، أي هؤلاء جميعًا أي وكأنهم اتفقوا على مقالة واحدة، {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}، قالت هذه الأقوام لرسلها إنا؛ بالتأكيد، كفرنا بما أرسلتم به؛ بالذي أرسلتم به، والذي أرسلوا به الدعوة إلى الإيمان بالله الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-، رب السماوات والأرض، رب العالمين -جل وعلا-، وألا يعبد إلا هو، لأنه خالقهم ورازقهم وبارئهم، بهذا هي الدعوة التي جاء بها الرسل، كل رسول جاء إلى قومه يقول يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، اعبدوا الله ليس لكم من إله غيره، لا يوجد إله يعبد إلا هو، لأنه هو خالقكم، هو رازقكم، هو خالق هذه السماوات والأرض، وليس لكم ملجأ ولا مصير إلا إليه، وخلقكم لتعبدون ولا طريق لكم ولا مندوحة لكم عن عبادته -سبحانه وتعالى-، فهو الطريق الذي لا طريق غيره، إذن اسلكوه هذا صراط مستقيم، فهذا أمر الدعوة التي دعى إليها الرسل دعوة واضحة ناصعة ولا خيار فيها، لا خيار لأي أحد أن يعدل عن ذلك، أولًا للضرورة العليا التي تلجئ إليها ولأنه لا صراط غير هذا الصراط، يعني لا صراط منجي في الدنيا والآخرة إلا هذا الصراط.

{وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}، كل الذي أرسلتم به، {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، وإنا؛ وهم يؤكدون كذلك، {لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}، الشك؛ الريب، الشك هو أمر في العلم يستوي فيه الأمران؛ النفي والإثبات، هذا مثل هذا لأننا لا نستطيع أن نثبت ولا أن ننفي، فنحن في شك مما تقولون، مريب؛ يجعلكم موضع الريبة، وموضع الشك يعني نشك في صدق كلامكم وفيما دعوتم إليه.

{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ........}[إبراهيم:10]، يعني الأمر الذي نحن ندعوا إليه لا شك فيه، يعني لا يتطرق بتاتًا الشك عند كل ذي عقل وكل ذي لب، أفي الله شك؟ أولًا فاطر السماوات والأرض، هذي قضية أظهر القضايا لا ظهور لأمر من الأمور كهذه القضية، أن هذا الكون المشاهد له رب خالقه وفاطره، ففاطر السماوات والأرض الذي خلق هذه السماوات والأرض لابد أن يكون خالقًا عظيمًا، أولًا لابد أن يكون لها خالق وإلا كيف توجد، كيف توجد هذه السماوات والأرض؟ وكيف وجدتم؟ وكيف وجدت هذه الموجودات؟ التي هي على نسق بديع وفي حال من التركيب والخلق والتصريف لا أبدع من ذلك، لا يمكن أن يكون هذا بغير شيء، ولا يمكن أن تكون هي خلقت أنفسها هذه الأمور، فالشمس لا يمكن أن تكون وضعت نفسها في مكانها لتسير هذا السير، والأرض لا يمكن أن تكون وضعت نفسها في مكانها، والإنسان لا يمكن هذي البنية بنيت هكذا بدون أن يبنيها باني، كيف يكون؟ كيف يكون هذا الإنسان قد ركب هذا التركيب بدون أن يركبه أحد؟! وبدون أن ينظمه أحد يستحيل، ولا هو يزعم أي مخلوق من هذه المخلوقات أنه أوجد نفسه وركب نفسه، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، ثم {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، هذه دعوة الرسل، فأولًا بالنسبة إلى وجود الرب -سبحانه وتعالى- وأنه الرب الإله هذا لا شك فيه، أي إنسان عاقل ينظر إلى هذا الخلق لابد تدفعه ضرورة هذا إلى أن يؤمن بأن له ربًا وله خالقًا، فاطر السماوات والأرض، الأمر الآخر أن هذه دعوة الرسل؛ ماذا فيها، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}، هذا الرسول جاء للناس يقول لهم تعالوا ادخلوا طريق الرب ليمحوا عنكم سيئاتكم، من ابتعادكم عن الله -تبارك وتعالى-، من انصرافكم عنه، {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، وهذا فيه وعد ووعيد، يؤخركم في هذه الدنيا إلى أجل مسمى، كل واحد له عمر مسمى عند الله -تبارك وتعالى-، وكذلك الحياة كلها والدنيا كلها لها أجل مسمًا عن الله -تبارك وتعالى- لابد أن تنتهي إليه، ثم يكون الحكم ويكون حساب العباد عند ربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-، {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}، ماذا في هذا؟! ماذا في هذا؟! هذه دعوة الرسل، أن الله هو الإله الذي لا إله إلا هو، فاطر السماوات والأرض، أنه يدعوا عباده -سبحانه وتعالى- ليرحمهم ويسلك بهم السبيل إلى الجنة.

قالوا أي هؤلاء الكفرة في كل هذه الأمم معترضين على مقالة الرسل {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}، احتجاج سَقِط، قالوا أول حجة من حججهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، وماذا في هذا؟ ماذا أن يختار الله -تبارك وتعالى- من كل أمة رسول، يختاره، ينزل عليه الوحي، ويدعوا قومه إلى الرب -تبارك وتعالى-، هل في هذا من أمر يخالف الحكمة ويخالف العقل ويخالف المنطق؛ ما يخالف الحكمة، بالعكس بل هذا من حكمة الرب -تبارك وتعالى- أن يختار رجل منهم يعرفونه حتى يتأكدون من كلامه ومن صدقه، فيعرفون مدخله ومخرجه، أين هو، أين أبوه، أين كذا، ...، فيعرفون أصله وفصله، وبالتالي عندما يدعوهم يتأكدوا من مقالته، هل هو صادق في هذه المقالة أم لا، ثم تظهر الأدلة التي يوجدها الله -تبارك وتعالى- على يديه وعلى لسانه من البينات، تظهر صدق هذا الداعي أم كذبه، فقولهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، لا موضع له من الإحتجاج، قالوا {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، وماذا في هذا! إذا كان الآباء لا عقل لهم، عبدوا الأبقار والأحجار والأوثان والشمس والقمر، وعبدوا ما لا ينفع ولا يضر، حتم على الأبناء أن يسروا في طريق آبائهم وإن كان هؤلاء الآباء لا عقل لهم لا فكر لهم، {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، وهل آباؤكم على حجة قاطعة وكتاب منزل وأمر لا يتطرق إليه الشك، فالاحتجاج بما كان عليه الآباء مجرد الاحتجاج لا معنى له، احتجاج ساقط لا معنى له، طيب وماذا لو كان أباؤكم في ضلال مبين، وقد عبدوا ما لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يغني عنهم شيئًا.

الحجة الثالثة لهم قالوا {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}، هاتوا لنا سلطان مبين؛ يعني أمر ذو سلطة، له قوة قهرية، مبين؛ بيِّن واضح، وهل الذي أتاهم ليس بسلطان مبين! الذي أتاهم من كلام الرسل سلطان ومبين، في أنهم رسل الله وهذه آياته، وهذه الحجة التي يحتجوا بها على أن الله خالق السماوات والأرض؛ هذه حجة قهرية قاطعة، وأن الله -تبارك وتعالى- اختار هذا الرسول، كل رسول قد آتاه الله -تبارك وتعالى- ما على مثله آمن البشر، من الحجة القاهرة لقومه ليبين أنه رسول الله، لكن هؤلاء لا يريدون هذا وإنما يريدون أن يقترحوا من الآيات حسب أهوائهم وأمزجتهم، هات لنا ربنا نراه، هات لنا الملائكة نراهم، نزل علينا كتاب، يكون لك كنز، تفجر الأرض، افعل لنا هذا، فهم يريدون كل منهم يقترح بعقله السلطان المبين الذي يرى أنه لابد أن يكون هذا حتى يؤمنوا، وكأن الأمر أن الله -تبارك وتعالى- هو في حاجة إليهم ليدخلوا دينه وليتفضلوا هم على الرب الإله -سبحانه وتعالى-، لقد أتاكم الله -تبارك وتعالى- بالسلطان المبين الذي يقطع أي حجة ويبطل أي باطل، أما أن تقترحوا على الله -تبارك وتعالى- أن يأتيكم بما تريدون حسب أهواكم، طيب وإذا جاءكم السلطان هذا الذي ترونه والحجة والبينة والمعجزة التي تقترحونها ولم تؤمنوا، ماذا سيكون أمر الرب معكم؟ الاستئصال كما كان في ثمود، إن الله لابد أن يستأصلهم بعد ذلك، لأنهم طلبوا من الرب ما اقترحوا وحقق لهم الرب ما أرادوا ثم بعد ذلك استكبروا واستنكفوا عن طريق الرب، هذا ما احتج به الكفار على رسلهم، {........ قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[إبراهيم:10].

فانظر مقالة الرسل لهم، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، نعم، نحن بشر؛ نحن بشر، ومثلكم في البشرية نعم، ولدنا كما تولدون، نموت كما تموتون، نمرض كما تمرضون، نأكل ونشرب مما تأكلون ومما تشربون، نحن بشر تجري علينا كل الإحكام التي تجري على البشر، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، ولكن الله يمن؛ يعني يعطي ويتفضل، ومجال التفضل هنا بالرسالة والنبوة، الله -تبارك وتعالى- يتفضل بالرسالة وبالنبوة على من يشاء من عباده، هل تريدون أن تغلقوا وتحجروا فضل الله -تبارك وتعالى-، فضل الله -عز وجل- بالنبوة والرسالة يختار من عباده الذي يرى ويعلم الرب -تبارك وتعالى- أنه الرجل الكفؤ الذي يقوم برسالة الرب -تبارك وتعالى-، الله أعلم حيث يجعل رسالته -سبحانه وتعالى-، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، الآية القهرية هذه التي تريدونها؛ السطان، السلطة القهرية التي تقهركم أو تقترحونها أنتم لتؤمنوا هذا ليس بأيدينا، وإنما هو بأيدي الذي أرسلنا -سبحانه وتعالى-، {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، بمشيئته وسماحه -سبحانه وتعالى- وإرادته، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وعلى الله؛ أي لا على غيره فليتوكل المؤمنون، يعني نحن قد آمنا بالله -تبارك وتعالى- وقد سلمنا أمورنا له –سبحانه وتعالى-، أنتم تحاججتم بالباطل ودفعتم حجة الرسل الظاهرة الواضحة واقترحتم ما اقترحتموه، وحالهم ومقالهم حال الكفر والعناد للرب -تبارك وتعالى-، ونذر الشر من هؤلاء الأقوام قد ظهرت فنحن متوكلون على الله -تبارك وتعالى-، مسلمون أمورنا لله -جل وعلا-، هو الذي اختارنا، هو الذي أرسلنا، هو الذي أقامنا فيما أقامنا فيه، ونحن قد سلمنا أمرنا كله لله -سبحانه وتعالى-، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[إبراهيم:11]، وهنا قدم على الله ما قال فليتوكل المؤمنون على الله، بل قال على الله فليتوكل المؤمنون للحصر، التوكل في الرب -تبارك وتعالى- فيكون لا توكل لنا إلا على ربنا -سبحانه وتعالى-.

ثم قال {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم:12]، يعني لماذا لا نتوكل على الله؟ يقولون هذا في أنفسهم ولأقوامهم كذلك، يعني ما الذي يدعوا إلى ألا نتوكل على الله، {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا}، وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذي قد هدانا سبلنا، سبلنا؛ يعني الطريق الذي نسلكه إليه -سبحانه وتعالى- وهو الصراط المستقيم، {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}، سنوطن النفس أن تصبر على الأذية التي تلحقنا منكم، {........ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم:12]، يعني على الله لا على غيره فيتوكل من يريد التوكل، لأنه الرب الإله الذي بيده ملكوت كل شيء؛ الذي عنده كل شيء، فمن توكل عليه توكل على الملك، الذي لا يضيع ولا يخيب من سلم أمره إليه ومن أسند ظهره إليه، فهو الرب الإله -سبحانه وتعالى- الركن الشديد الذي لا يخيب من توكل عليه، قالوا {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ}، لا على غيره، {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}، ثم لننظر بعد ذلك مقالة هؤلاء الكفار ردًا على هذا البيان الواضح من رسل الله -تبارك وتعالى-.

وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.