الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (306) - سورة إبراهيم 13-19

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:13-17].

 بعد مقالة الرسل الواضحة البينة لقومهم إذ دعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، وقالوا لهم لما قالوا من هذا الرب الذي تدعون إليه، قالوا لهم {........ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[إبراهيم:10]، {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، نعم، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، وقد من علينا بالرسالة، ثم السلطان بيد الله {........ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[إبراهيم:11]، ثم قالوا {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}[إبراهيم:12].

وهنا بعد ذلك جاء كلام هؤلاء الكفرة الذي تهددوا فيه رسلهم ولم يجعلوا لهم خيار، إما السكوت عن هذه الدعوة وإما الإخراج، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ........}[إبراهيم:13]، ليس لكم خيار إلا هذا، إما أن تتركوا هذه الدعوة وترجعوا إلى الدين الذي نحن فيه وتعبدوا ما نعبد وإلا أخرجناكم من أرضنا، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ}، كل هذه من قوم نوح إلى الآخرين نفس المقالة وكأنهم اتفقوا عليها، {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا}، بالتهديد والوعيد والقسم، والعجب أنهم يقولون من أرضنا والحال أنهم في أرض الله -سبحانه وتعالى-، وأن الأرض لله -تبارك وتعالى- هي له، هو خالقها -سبحانه وتعالى-، ولكن هؤلاء العميان يظنون أنه مادام أن الله -تبارك وتعالى- أوجدهم هنا هي ملكهم إياها وأصبحوا هم القائمون المتصرفون فيها، لا حول ولا قوة إلا بالله، قالوا {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}، أو لنعودنكم مرة ثانية وتعودون إلى هذه الملة والطريقة والمنهج الذي نحن عليه؛ وهو الشرك والكفر، لما أوقف الكفار رسلهم على هذا الأمر ووضعوهم في هذا الموضع، وأنه لا خيار لهم إما الطرد من البلاد وإما الرجوع إلى الكفر، عند ذلك هنا يأتي موعود الله -تبارك وتعالى- بنصر رسله، قال الله -تبارك وتعالى- للرسل قال {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، فأوحى إليهم؛ الوحي هو الإعلام بطريق خفي، يعني أن الله -تبارك وتعالى- أرسل لهم ملائكته بالوحي؛ بهذا العلم، يعلمهم الله -تبارك وتعالى- قال {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، والله الذي يتوعد هنا ويهدد -سبحانه وتعالى- {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}، وجاء هؤلاء بالوصف الذين هم الكفار الذي حملهم على ما قالوا وهو الظلم، أنهم ظالمون معتدون، وضعوا الأمر في غير محله واعتدوا على رسل الله -تبارك وتعالى-، انظر نحن إذا أمام توعد وتهديد الكفار لرسلهم ونحن أمام وعد الله لرسله ووعيد -سبحانه وتعالى- لهؤلاء الكفار، من ينتصر؟ لا يمكن للكفار أن ينفذوا وعدهم وتهديدهم على الله -تبارك وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، يعني أن الله -تبارك وتعالى- سيستأصلهم ويطهر الأرض منهم، ويجعل هذه الأرض التي وقف عليها الكفار يومًا يقولون هذه أرضنا سيجعلها الله -تبارك وتعالى- للرسل وأتباعهم وأولادهم وذرياتهم، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، سكنى الأرض، السكنى من السكون وهي أن الإنسان يأمن فيها ويهدأ فيها وينعم فيها، {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:14]، ذلك؛ هذا الوعد من الله -تبارك وتعالى-، لكل من خاف مقامي من أهل الإيمان، ومقامي؛ مقام منسوب إلى الله -تبارك وتعالى- وهو مقام العبد بين يدي ربه -جل وعلا-، كل من خاف مقامه يوم القيامة بين يدي الرب للحساب هذي الموعود له، وخاف وعيد؛ خاف تهديد الرب -تبارك وتعالى-، والوعيد هو التهديد بالشر، فكل من خاف وعيد الله –تبارك وتعالى-؛ وعيده بالعذاب، إلى يوم القيامة الذي خاف في هذه الدنيا وخاف وقت قيامه بين يدي الله -تبارك وتعالى-، الله -تبارك وتعالى- سيحقق فيه هذا الموعود، ذلك؛ أي سكنى الأرض بعد الظالمين هذا من الله -تبارك وتعالى-، {........ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:14].

ثم قال -جل وعلا- {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم:15]، استفتحوا؛ الكفار، طلبوا الفتح؛ والفتح هو الحكم، {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ}، يعني أحكم بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين، واستفتحوا؛ طلبوا حكم الرب -تبارك وتعالى-، ظن هؤلاء الكفار الملاعين أن الرسل على باطل وأنهم هم الذين على الحق، وهم الذين على النور والهدى، وطلبوا من الله -تبارك وتعالى- أن يحكم فيما بينهم وبين الرسل، كما كان هذا الضال الأعمى أبو جهل يقف قبل هلاكه بسويعات، أنظر هلاكه قد حتم من الرب -جل وعلا-، ويقف وينادي الرب -تبارك وتعالى- ويقول اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم يعرف وأبغضنا عندك فأحنه الغداة، يناشد الرب -تبارك وتعالى- أن يهلك الله الأبغض عند الله -تبارك وتعالى-؛ هم أو الرسول محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ويناشد الرب -تبارك وتعالى- أن الذي أتى بما لم يعرف، أتى بدين لا أحد يعرفه، دين الكافر يقولون ديننا هذا معروف عليه آباؤنا وأجدادنا من قديم، وهذا النبي قد جاءنا بدين جديد، أمر جديد ونحلة جديدة ما عرفناها، يقول هذا؛ هذا أهلكه، فيدعوا هذا الكافر على نفسه، يظن أن النبي على باطل وأنه هو أبو جهل على الحق، انظر العمى الذي وصلوا إليه، وذلك أن الكافر عندما يفتري الكذب ويرد الحق بعد أن يعلمه يطمس الله -تبارك وتعالى- بصره؛ بصيرته، البصيرة تنطمس والقلب ينعمي ويزين له الباطل ويظن أن ما هو عليه هو الحق وأن ما عليه الرسل هو الباطل، فهؤلاء الكفار استفتحوا؛ طلبوا من الله -تبارك وتعالى- أن يحكم فيما بينهم وبين الرسل، وظنوا أنهم هم الذين على الحق ورسلهم على الباطل، قال -جل وعلا- {........ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم:15]، خاب؛ ليس هناك خيبة أكبر من هذه، الخيبة هي الخسار والدمار، هو أن يذهب الإنسان إلى أمر يظن أنه ناجح فيه والحال أنه خاسر فيه؛ فهذه أكبر خيبة، هذه الخيبة، الخيبة هو توجه الإنسان وذهابه واعتقاده وظنه أن هذا الأمر هو الأمر الذي فيه نجاحه وفلاحه، ثم يكون هو الأمر الذي فيه خساره ودماره، قال -جل وعلا- {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ}، الجبار؛ الظالم، المعتدي، الذي يجاوز الحد في انزاله عقوبته بغيره، عنيد، معاند، راد للحق مع اصرار على الباطل الذي هو عليه، {........ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}[إبراهيم:15]، قد خيبه الله بأن جعله يظن أن الخير فيما هو شر له وفيما هو هلاك له.

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- عقوبة هذا الجبار العنيد، قال {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}[إبراهيم:16]، {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، هي أمامه وهو ذاهب إليها لكنه هو تركها خلف ظهره، ما نظر إليها، فكانت من وارئه وهذا من خيبته، وهذا من خيبته أن الأمر الذي جعله خلف ظهره؛ موجود، نسيه، {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، سيأتيها؛ هذا الذي جعله خلف ظهره ولم يتفطن إليه ولم يذكره.

 {........ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ}[إبراهيم:16]، فيها -والعياذ بالله-، سماه الله ماء ولكن الله -تبارك وتعالى- بيَّن أنه ليس كهذا الماء الذي نعهد في هذه الدنيا، ماء النار -عياذًا بالله-، فإنه أولًا ماء غليظ كالمهل، كأي معدن مذاب، المهل في لغة العرب هو كل معدن مذاب، فعندما يذاب الرصاص؛ هذا مهل، فهو غليظ غلظ المعدن وليس رقيقًا رقة الماء المعروف، ثم هو نتن، ثم إن حرارته تنبعث منه، تنبعث منه الحرارة بما يصور الله -تبارك وتعالى- أنه يشوي الوجوه، كما قال -جل وعلا- عن أهل النار -عياذًا بالله- من حالهم {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}، يعني إذا قرب للوجه شوى الوجه من الحرارة المنبعثة فيه، هنا سماه الله ماءً صديدا، صديد من الصد، يعني أنه يصد عنه كل الصدود، لو كان يملك الذي سيتجرعه سبيل إلى صده لصده، لكنه يتجرعه، الجرعة هي المرة الواحدة من المشروب الذي يدخل الفم، وهذا يتجرعه يعني مرة على مرة، يسقاه، يتجرعه، يسقى هذا الماء مرة تلو المرة، {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ}، لأنه ينشب بحلقه وبلعومه وفمه، فلا يكاد يسيغه؛ لا يكاد ...، اساغة الماء هي جريانه إلى داخل الجوف، فهذا لا يكاد يفعل هذا وإنما يتغصصه وينشب بمدخله، {وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ}، وهذا من أعظم العذاب -عياذًا بالله-، وهذا يكفيه للموت، لكن من رأى أن شرب ماء يعني شرب رصاص مذاب زائد حره على هذا النحو، ينشب بالبلعوم ويتغصصه تغصص وإذا وصل الأمعاء هراها، كما قال -تبارك وتعالى- {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}، فهذا يكفي للموت، فيكفي جرعة واحدة وجرعة أو جرعتان لتقتل صاحبها، لكن الله -تبارك وتعالى- يخبر أنه لا يموت بذلك بل ولا يموت بأي سبب من أسباب العذاب.

{يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}، في النار، وهذه قول الله من كل مكان يدل على أن العذاب أنواع، وكل نوع من هذه الأنواع يحمل الموت لو انفرد ولو كتب لصاحبه موت ولكنه لا يموت، فيأتيه الموت من هذا الشراب، ويأتيه الموت من طعام يطعمه وهي الزقوم، ويأتيه الموت من حيات تلدغه؛ يسري سمها في بدنه، ويأتيه الموت من مقمعة بالحديد يقمع بها على رأسه، يخبر النبي بأنها لو ضربت؛ ضرب بها جبل، من جبال الأرض لهدته، ويأتيه الموت من النار الذي هو فيها، تشتعل في كل مكان، تتقد في جسده، يأتيه الموت من اللباس الذي يلبسه، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم:50]، فهذا كل هذه أسباب تأتيه بالموت ولكن لا يموت، يعذب العذاب الفائق بهذه الأنواع ولكنه لا يموت، {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ}، وما هذا المعذب الجبار المتكبر بميت، {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}، ما زال طويل، من ورائه؛ هذا الذي نسيه، وهذا الباقي له عذاب غليظ فاحش، فاحش كبير، صور عظيمة من صور العذاب من السلسلة والضرب والإهانة والجر والسحب في النار، والماء هذا الذي هذه صفته، والطعام الذي هذه صفته، وأزواج والتقريع والتأنيب والسباب واللعن التي تكون، فهو عذاب غليظ من كل الأنواع والأشكال.

ثم وصف الله -تبارك وتعالى- عمل الكفار مما يظنون أنه نافع لهم، قال -جل وعلا- {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:18]، {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ}، مثل يضربه الله -تبارك وتعالى- للكفار، ويضرب هنا أعمالهم بدل من الذين كفروا بدل يعني بعض من كل، ما مثل أعمال الكافر؟ أعمالهم قيل عنها في التفسير الأول أعمالهم التي ظنوا أنهم يتقربون بها إلى الله وأنها نافعة لهم عنده -سبحانه وتعالى-، ولكنها لما كانت مع الشرك والكفر والتكذيب بيوم القيامة لا تنفعهم، كما في حديث الصحيحين أن عائشة -رضي الله تعالى عنها- «قالت يا رسول الله عبد الله ابن جدعان كان يقري الضيف ويطعم الحاج ويصل الرحم ويعين على نوائب الحق، أينفعه ذلك عند الله؟ فقال النبي لا، إنه لم يقل يومًا ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين»، فعبد الله ابن جدعان كان رجلًا من المطعمين وأهل الخير الدنيوي؛ هذا في الجاهلية، كان يطعم الحاج بلا مقابل ويسقيهم وكانت له دار الندوة بجوار الكعبة؛ وهي مجمع الناس، وكان أي مظلوم يرفع عنه ظلمته، ويذبح للحجيج في كل يوم ويسقيهم، ويعني المحتاج ويصل أرحامه، ولكن هذا العمل كله لا ينفعه عند الله لأنه لم يقل يومًا ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وكذلك أعمال الكفار والمشركين، كل أعمال المشركين التي ظنوا أنها تنفعهم عند الله لما كانت على الشرك فإنها لا تنفعهم ولا تفيدهم، فهذا الأمر الأول، أعمالهم؛ أي التي ظنوا أنها نافعة، {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}، الرماد هو ما تخلفه النار، هذا الذي تخلفه النار بعد أن تحرق ما تحرقه من الأخشاب ونحوها يبقى الرماد، هذا الرماد يكون ناعم؛ مسحوق ناعم، وهذا إذا جاءته ريح فإنها تجمع هذه الذرات وتفرقها حيث ذهبت هذه الريح، ولو أن ذاهب ورائها أراد أن يجمع هذه الذرات مرة ثانية التي ذهبت بها الريح كل مذهب فإنه لا يستطيع ذلك، ذرات خفيفة جدًا وأخذتها الريح ونثرتها في كل مكان، فلا يستطيع أحد أن يجمعها ويعيد مرة ثانية هذا الرماد مرة ثانية، كأن الله -تبارك وتعالى- يقول إن كان الذي يركض خلف الريح ليجمع الرماد بقادر على أن يجمعه فكذلك هؤلاء الكفار يستطيعون أن يستفيدوا بشيء من أعماله هذه التي عملوها وظنوها أنها نافعة لهم عند الله.

فهذه أعمالهم {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}، يعني لا يقدرون أن يصلوا مما كسبوا من العمل على شيء ينفعهم عند الله -تبارك وتعالى-، يدخلهم به الجنة، يثيبهم الله -تبارك وتعالى- عليه، فالكافر مهما عمل من أعمال الإحسان فإن الله -تبارك وتعالى- يعطيه أجره في الدنيا، أجره في الدنيا بالصحة، بمال، بولد، بما يعطيه من المنافع عليه في هذه الدنيا، فإن بر والديه، إن تصدق، إن أحسن، ينفعه هذا فقط نفعًا دنيويًا، وليس في الآخرة، يعطيه الله أجره هنا ويأتي يوم القيامة ولا حسنة له، {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}، هذا هو الضلال؛ البعيد في الضلال، يعني أمر ضلال لكنه بعيد عن الحق بعد عظيم جدًا، وذلك أن الكافر يعمل يعمل ...، يظن أن هذا العمل نافع، ثم بعد ذلك يكتشف أنه لا ينفعه بشيء، هذا المعنى الأول.

 المعنى الثاني أعمالهم في الدنيا، حرثهم وزرعهم ونصبهم وجمعهم وكل هذا، لكنه في النهاية رماد يذهب، ثم يأتي هذا الكافر يوم القيامة ويجد أن هذه الدنيا التي اجتهد فيها وعمل فيها وسعى فيها وركد فيها وتمتع فيها ثم بعد ذلك تضمحل وتنتهي هذه الأعمال كلها، لم يعمل عملًا نافعًا له يوم القيامة، فيأتي يوم القيامة بالخسار والدمار ولا ينفعه هذا، {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}[الليل:11]، إذا تردى في النار ما الذي أغنى عنه المال؟ لا يفيده شيء، فلا يفيده كل الذي جمعه في الدنيا والذي كد فيها وخزنه وكدسه، يوم القيامة سيأتي عاريًا ولا مال له ولا جاه له ولا كل هذا الذي بناه في الدنيا قد انهدم وانتهى، {........ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:18]، فيأتي ولا يكون أمامه -عياذًا بالله- إلا النار، كما جاء في الحديث أن الله -تبارك وتعالى- يخاطب الكافر يوم القيامة، فيقول له «أرأيت لو أن لك مثل الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به؟»، هل كنت تفتدي لو تملك الآن هذا، «فيقول إي وربي»، يفتدي به؛ يعني من العذاب، يعني يدفعه لينجوا من العذاب، بس ينجوا من العذاب لا ليدخل الجنة، فيقول إي والله يا رب، «فيقال كذبت، قد طلبت منك ما هو أهون من ذلك؛ ألا تشرك بي شيئًا، فأبيت إلا أن تشرك بي شيئًا»، فهذا الكافر عمله الدنيوي الذي أمل عليه وركض فيه وسعى فيه لا ينفعه بشيء يوم القيامة، {........ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[إبراهيم:18].

ثم بيَّن -سبحانه وتعالى- الحق الذي هو أعظم الحق، قال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}[إبراهيم:19]، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم:20]، ألم تر؛ قد علمت، {أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، الله -سبحانه وتعالى-، كلمة الله علم على ذات الرب -سبحانه وتعالى-، وهو المعلوم عند كل الأمم والشعوب منذ القدم وإلى يوم القيامة بهذا الاسم الذي لم يتسمى به غيره؛ الله، {أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}، فلم يخلقها باطلًا، وخلقها الله -تبارك وتعالى- خلق تقدير وخلق ايجاد، يعني قدرها -سبحانه وتعالى- وأوجدها على هذه الصورة التي خلقها عليها -سبحانه وتعالى-، وأن هذا الخلق بالحق، بالحق؛ قائمة بالحق أولًا، وباقية على هذا الحق وسائرة في هذا الحق، وأن خلقها حق ليس باطلًا، وكل ظن أن لا حكم ولا طريق للرب يصير باطل، فمن ظن أن الرب -تبارك وتعالى- خلق هذا الخلق وتركه، لا يأمر عباده ولا ينهاهم ولا يبين لهم ويتركهم يفعلون ما يشاؤوا؛ إذا هذا عبث، إذا خلق هذا الخلق العظيم هذا لا حكمة فيه ولا غاية له ولا هدف، إذا ما له عقل ولا له هدف ولا له نهاية... لا، بل الله -تبارك وتعالى- قد خلق هذا الخلق لغاية عظيمة وهدف، هي أن يقوم هذا الخلق بعبادة الرب الإله الذي لاإله إلا هو الذي خلقه، إن هؤلاء البشر وجدوا في هذه الأرض ليسلكوا طريق الرب -تبارك وتعالى-، يبين الله لهم طريق، يبين لهم ما يسلكوه وما عليهم أن يتجنبوه، ثم ليقوموا بحق الإله الرب الذي خلقهم -سبحانه وتعالى-، فهذا حقه -سبحانه وتعالى- على خلقه، كما في الحديث «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ قال قلت الله ورسوله أعلم، قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»، فهذا حق الله على عباده، أنه أقامهم في هذه الدنيا وخلقهم إذن لابد عليهم أن يقوموا بعبادته وحده لا شريك له.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}[إبراهيم:19]، الأمر كله بالنسبة للناس مشيئة الله -تبارك وتعالى- النافذة فيهم، فإن يشأ أذهبهم وأتى الله -تبارك وتعالى- بخلق جديد، فالإنسان كما يقولون ممكن الوجود ليس واجب الوجود، ممكن يوجد وممكن لا يوجد، فقد وجد بعد أن لم يكن شيئًا، الأرض كانت موجودة قبله بما شاء الله -تبارك وتعالى- من السنين، ثم جاء الإنسان مخلوقا طارئً على هذه الأرض، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1]، لم يكن للإنسان ذكر أصلًا على هذه الأرض، ثم ذكر بعد ذلك عندما أهبطه الله -تبارك وتعالى- وأنزله، وأمر بما أمره فيه أن يسلك سبيل الرب -جل وعلا-، فوجود هذا الإنسان جاء بالمشيئة الإلهية وزواله كذلك بالمشيئة الإلهية، ولا يغير شيء، لا يتغير شيء من ملك الله -تبارك وتعالى-، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}[إبراهيم:19]، غيركم يعبدونه، فظن الإنسان بأنه سيد هذا الوجود وهو الأصل وأنه هو مركز الكون والكون كله راجع إليه، من أضل العقائد التي اعتقدها الناس في أنفسهم هذا، علمًا أن الإنسان لا شك أنه مخلوق طارئ ضعيف حقير بالنسبة إلى هذه الموجودات التي هي أكبر منه وأعظم منه، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}[الإسراء:37]، الأرض التي أنت تسير عليها هي أعظم منك وأكبر منك وأمتن منك، والجبال التي تعايشها هي أطول منك وأقوى منك، فهو خلق أمتن وأقوى من هذا الإنسان، فالإنسان مخلوق ضئيل بالنسبة إلى هذه المخلوقات، فكيف يقاس بغيره بعد ذلك من المخلوقات العظمى في السماوات!.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم:20]، وما ذلك؛ يعني هذا الأمر، تبديل الإنسان بخلق أخر يخلقه الله -تبارك وتعالى- مما يشاء، يخلق ما يشاء مما يشاء، خلقنا من الطين، الله قادر على أن يخلق خلق من أي جنس ومن أي عنصر آخر فالأمر كله إليه، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم:20]، يعني أنه بغالب يغلب الله -تبارك وتعالى-، بل الغلبة لله هو العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-.

نقف عند هذا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.