الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:19-22].
يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد خلق السماوات والأرض بالحق، قال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ........}[إبراهيم:19]، يعني قد علمت، فقد أخبر الله -تبارك وتعالى- وأعلم وأعلن أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا بالحق، والحق أنه الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، وأنه خلق الخلق ليعبدوه -سبحانه وتعالى-، يقروا له بالوحدانية ويعبدوه وحده -جل وعلا، فهذا الحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، وكل خروج عن هذا الحق هو خروج إلى الباطل، فمن ظن أن الله -تبارك وتعالى- خلق الخلق لا يأمرهم ولا ينهاهم ويتركهم سدًا وعبثًا، فقد اتهم الله -تبارك وتعالى- بأنه خلق السماوات والأرض باطلًا، عبثًا، سدًا، لا هدف ولا غاية، ولا نهاية حكيمة ينتهي إليها الأمر، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]، وقال -جل وعلا- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}[الدخان:38]، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ........}[الدخان:39]، فخلق الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض بالحق، وذلك أنه الرب وحده، الإله وحده -سبحانه وتعالى-، الذي خلق هذا الخلق ولا يقبل من خلقه إلا أن يعبدوه وحده لا شريك له، لأنه لا ند له ولا شريك له ولا ظهير له ولا كفؤ له، وقيام الخلق بعبادة الرب وحده -سبحانه وتعالى- حق لله -تبارك وتعالى- عليهم، كما في الحديث «أتدري ما حق الله على العباد وما حق الله على العباد، قال قولت -هذا معاذ- الله ورسوله أعلم، قال حق الله على العباد أن يعبدوه فلا يشركوا به شيئًا».
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ........}[إبراهيم:19]، فخلقها حق وخلقت للحق وقامت على الحق، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}، فوجود الإنسان وجود طارئ، إن وجد فهو ممكن الوجود وإن ذهب فلا يتضرر الأمر شيء؛ ما ينقص شيء، فهو ليس أصل هذا الكون ولا هو خالقه ولا مشارك فيه ولا هو عمود من أعمدة هذا الخلق، بل هو خلق طارئ خلقه الله -تبارك وتعالى- بعد أن لم يكن شيئًا، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}[الإنسان:1]، خلقه الله والله -تبارك وتعالى- قادر على أن يذهبه وعلى أن يخلق خلقًا أخر، فهذا كله تابع لمشيئته -سبحانه وتعالى-، فقد خلق الله الإنسان من طين هذه الأرض، وجعل له أمد وغاية ومهلة وقدر معين، والله -تبارك وتعالى- يستطيع أن يخلق مثله ويخلق أفضل منه ويخلق أعلى منه ويبدله بخلق أخر، كله هذا إلى الله -جل وعلا- وهو يسير على الله -تبارك وتعالى-، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[إبراهيم:20]، وما ذلك؛ هذا الأمر، تبديل هذا الخلق والإتيان بخلق أخر بعزيز على الله، أي بممتنع عليه، يعني لا يمتنع هذا على الله -تبارك وتعالى- ولا يعثر عليه، بل هذا الأمر في قدرته -سبحانه وتعالى-.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- كيف سيكون حال الناس بين يديه يوم القيامة، قال {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا}، برزوا؛ ظهروا من قبورهم، وذلك بعد النفخة الثانية من الصور يظهر كل من كان في بطن هذه الأرض بروزًا فوقها، {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ(13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}[النازعات:13-14]، زجرة واحدة؛ نفخة واحدة في الصور، فإذا هم؛ الناس جميعًا، بالساهرة؛ بالساهرة بظهر الأرض، قائمين للرب -تبارك وتعالى-، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا}، كلهم، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}، لا يغادر أحد ولا ينسى أحد في بطن هذه الأرض، إن كان قد دفن في مكان بعيد، حرقت جثته، أخذ الطير جثته كل كان في بطن آلاف الطيور ذهبوا به، ألقي في البحر وأكلته الحيتان وفرقت أجزائه، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا}، كل من خلقهم الله -تبارك وتعالى- يخرجون جميعًا وقوفًا في صعيد واحد وفي مشهد واحد أمام الرب الإله –سبحانه وتعالى-، {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، هنا يبدأ إلقاء اللوم، فيقول الضعفاء من الناس وهم التبع؛ عامة الناس، يقولون لأهل العلية؛ علية القوم والقادة، يقولون لهم وهم, الله سماهم قال {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا}، استكبروا عن الحق وكانوا كبراء في الناس، كبراء الناس وسادتهم وقادتهم، فيقول الضعفاء منهم؛ ليس الضعف البدني، وإنما ضعف حالهم لأنهم كانوا تبع، شعوب ضعيفة مستهلكة تابعة للقادة والزعماء، قالوا لهم {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا}، أي تابعين ما كان لنا رأي، قلتم شيئًا واتبعناكم فيه، وقد جمع الله -تبارك وتعالى- بين هؤلاء وهؤلاء إلى العذاب.
{فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، يعني هل ستتحملون وتأخذون قسطًا من العذاب الواقع علينا فيرد عليكم، يعني تتحملون شيئًا من عذابنا يخف العذاب بأن تأخذوا جزء مما يقع علينا فيصبح عليكم، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}، أو أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء صارفون ذلك ومتحملون المسئولية، تقولون نحن الذين أضللنا هؤلاء، وبالتالي لا ذنب لهم, فيكن عذاب الجميع علينا دونهم، قالوا؛ أي المستكبرون والكبراء، {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ}، لو كنا قد اهتدينا ونسبوا هنا الهدى إلى الله -سبحانه وتعالى- والحال أن الله -تبارك وتعالى- قد بيَّن لهم الطريق وقد جاءتهم الرسل، ولكنهم استكبروا عنادًا وكبرًا وما كان عندهم من التواضع والتنازل من أن يتبعوا طريق الرسل، فقالوا {لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ}، يعني لو كنا نحن القادة كنا أرشدناكم كذلك إلى طريق الهداية، ثم قالوا لهم {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}، سواء علينا؛ هو يعني استواء الطرفين، هذا أو هذا، سواء علينا أجزعنا؛ والجزع هو الصراخ والانهيار واظهار اليأس والقنوت والاستغاثة، أجزعنا من العذاب أم صبرنا عليه، فحبسنا النفس عليه نعذب ونصبر دون صراخ واستغاثة، {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}، ما لنا من محيص؛ مهرب، ليس هناك مهرب من هذا العذاب، لقد أقفلت عليهم النار من كل جوانبها وأوصدت عليهم، وبالتالي يقولون فلا مهرب، فهنا كأنه نصح وموعظة من هؤلاء الكبراء والمستكبرين لأتباعهم، أنه لا فائدة في صراخنا أو صبرنا ليس لنا من محيص؛ مهرب، لا نحن ولا أنتم من هذه النار، وهنا تتم الخيبة والخسار والعار لهؤلاء التبع، الذين اتبعوا قادتهم وكبرائهم فأضلوهم السبيل، {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا(67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}[الأحزاب:68]، وهذا لا يفيد، طبعًا هم سيأخذون لا شك ضعفين، كما قال الله -تبارك وتعالى- {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ}.
وهنا يأتي دور الشيطان في تبكيت كذلك أتباعه؛ فيقول، قال -جل وعلا- {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم:22]، وهنا يصعد الشيطان على منبر من النار ويكون أمام الأتباع، الشيطان رأس الشر؛ رأس كل هذه الشرور، وهو الذي جر من جر من بني آدم ورائه إلى النار؛ فهو قائدهم، وهو الذي أخذ هذه المهمة على نفسه منذ أن حقد وحسد آدم، واستكبر عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، لم يسجد له كبرًا وعنادًا وأخرجه الله -تبارك وتعالى- من رحمته، فجعل نفسه مترصدًا بالمرصاد لهذا الإنسان ليضله، وليأخذ أكبر قدر من بني آدم معه إلى النار، فهنا يقف ليخطب في أتباعه جميعًا، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ}، أبوهم الكبير، الشيطان الأكبر إبليس عليه لعنة الله، {لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ}، قضي الأمر انتهى، وضع أهل النار في النار -عياذًا بالله-، وكذلك فاز أهل الجنة بما هم فيه إلى جنتهم، يقول لأتباعه {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ}، وهذا قول الشيطان هنا صدق، يقول لهم إن الله وعدكم وعد الحق، وعدكم وعد الحق بأنكم إذا سرتم في طريقه هداكم، وفقكم، أدخلكم الجنة، أنجاكم من الشيطان، حماكم منه، كل وعد الله -تبارك وتعالى- حق، {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، وأما أنا فقد وعدتكم وعدًا باطلًا وأخلفتكم وعدي؛ فهو كاذب، هو الكاذب لكنه صادق في هذه المقالة؛ أنه وعد أتباعه فأخلفهم، وعدهم تغريرًا، الذين عبدوا على باطل وعلى شرك وعدهم بالجنة والحال أنهم في طريق النار، ووعد من وعد بالسعي في هذه الدنيا وحسنها لهم وزينها في أعينهم وجعلها هي منتهى أملهم وغايتهم، وكان طبعًا وعدًا باطلًا، فإنهم رأوا بعد ذلك ما يترتب على إيثارهم هذه الدنيا من الآخرة، وهو أن الله -تبارك وتعالى- كتب لهم النار، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15-16]، زين الشيطان لهؤلاء الدنيا فركنوا إليها وآثروها عن الآخرة، وكان هذا الوعد الباطل من الشيطان لأتباعه.
قال {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}، شتى المواعيد الباطلة، وطبعًا كان هناك الخلف منه، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ}، لم يكن لي سلطان عليكم، السلطان هو القوة القاهرة التي لها تسلط، قالهم أنا ما كان لي عليكم من سلطان لأقهركم وأجبركم وآخذكم رغمًا عنكم إلى طريقي، {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ}، أنتم كنتم ضعاف العقول وضعاف النفوس، بمجرد دعوتي لكم إلى الباطل استجبتم لي وسرتم ورائي إلى الباطل، فإنما كان كل عمل الشيطان لهم التزيين، يعني الدعوة وتزيين الشر والوسوسة به والمواعيد الغرارة، لكن لم يكن له حجة، لا حجة عقلية قاهرة سلطان، ولا كذلك حجة سلطة فعلية قاهرة تقهرهم قهرًا إلى أن يدخلوا في الشرك والمعاصي... لا، وإنما زين لهم ما زين لهم من طرق الشر والغواية، من الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى- ومعصية الرب -تبارك وتعالى- فاتبعوه إلى ذلك؛ وهذا حق، {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، هذا سلطانه، هذا سلطان كما قال -تبارك وتعالى- {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}[النحل:98-100]، فسلطان الشيطان على الذين يتولونه، وسلطان الشيطان على أهل ولايته أن يزين لهم الباطل، أن يعدهم بالوعود الغرارة فيتبعوه في ذلك، قال {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ}، لا تلوموني على أني رأس الغواية ولوموا أنفسكم أنتم، لأنه لم تكن لكم عقول ناضجة ولب حقيقي وبصر نافذ واختيار صحيح، وإنما أنتم سمعتم الباطل فاتبعتموه، فلوموا أنفسكم أنتم السبب في ضلال أنفسكم، أنتم الذين سعيتم بأنفسكم في هذا الضلال، وهذا لزيادة غمهم ومقتهم وقهرهم.
ثم يقول لهم {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ}، ما أنا بمصرخكم؛ منقذكم، وذلك أن الصريخ هو الذي يستصرخ في حال الخطر والمصيبة فيأتي من يجيب صراخه في هذا، مصرخكم يعني منقذكم، لست أنا المنقذ يعني لست منقذًا لكم مما وقعتم فيه، وما أنتم بمصرخي كذلك فأنتم لا تستطيعون أن تنقذوني فهم كلهم في العذاب سواء، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}، إني كفرت بما أشركتمونِ من قبل؛ بما أشركتمونِ هذا الإضلال، وأني أنا شريك لكم في هذا فأنا متبرئ من هذا الدور الذي قام فيه بالإضلال، {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ}، أو كفرت بما أشركتموني من قبل بأن عبدتموني وألهتموني واتبعتموني فإنهم كانوا عبدة للشيطان، إما عبدة للشيطان على الحقيقة، وإما عبدة للشيطان بإتباع طريقه والسير خلفه وأخذ ما يشرعه لهم، فبطاعتهم للشيطان كانوا عبادًا له كما في قول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ}[يس:66-64]، فهنا يقول لهم {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، هو وهم كلهم قد ظلموا. إبليس ظلم وذلك أنه لم يتبع الحق وهؤلاء ظلموا بأنهم اتبعوا الشيطان وساروا في هذا، لهم عذاب أليم في النار، خطبة بليغة من هذا الشيطان الرجيم، وهذه الخطبة تزيد أهل النار سوءً على سوئهم، فهم في غاية السوء ثم يأتي هذا الذي كان سبب إضلالهم وقائدهم إلى الشر يتبرأ منهم الآن، ويحملهم أنفسهم المسئولية فيزيدهم غمًا على غمومهم وهمًا على همومهم، وهذا حتى يجتمع لأهل النار العذاب والغم من كل الجهات، فالكبراء والمستكبرون يتبرأون من الأتباع والشيطان يتبرأ من الجميع؛ ممن تبعوه، وهنا يأتي فيلعن بعضهم بعضًا ويمقت بعضهم بعضًا ويكون هذا زيادة في عذابهم في النار عياذًا بالله، هذه صفحة أهل الباطل وقد قدمها الله -تبارك وتعالى- هنا لأن المقام؛ مقام التحذير، في هذه السورة العظيمة؛ سورة إبراهيم، التي يخاطب الله -تبارك وتعالى- فيها العرب بالذات خطابًا خاصًا، خطابًا خاصًا للعرب بالذات أن تذكروا هذا.
الصفحة الثانية وهي أهل الجنة، قال -جل وعلا- {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}[إبراهيم:23]، {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، أدخل؛ بالبناء لما لم يسمى فاعله، ولا شك أن الذي أدخلهم الجنة هو ربهم وإلههم -سبحانه وتعالى-، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، جمع الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح كما هو في كل آية للقرآن، لا يرتب الله -تبارك وتعالى- الجنة إلا على مجموع الإيمان والعمل الصالح، وإذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فإن الإيمان ينصرف إلى أعمال القلوب، إلى التصديق بأخبار الله -تبارك وتعالى-، بغيب الله -تبارك وتعالى- والعمل بهذا التصديق، العمل عمل القلب كالخوف والإنابة والخشية والرجاء فيما عند الله -تبارك وتعالى- والتوكل على الله -عز وجل-، ثم عمل الجوارح من الصلاة؛ الصلاة عمل جوارح، والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين وصدق الحديث وإلى آخر شعب الإيمان؛ وكلها الصالحات، فشعب الإيمان كلها صالحات، الأعمال الصالحة، {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، جمع صالحة، وهو كل عمل مما شرعه الله -تبارك وتعالى- وعرفه لنا وحببنا فيه وهو عمل صالح، صالح في نفسه لأنه من الخير والبر والإحسان، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}، ثم لما يترتب عليه من الخير في الدنيا والآخرة، {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ}، جمع جنة، بساتين وهي جنة الرب -تبارك وتعالى- في الآخرة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}، تجري من تحت هذه الجنات؛ الأشجار الملتفة هذه الأنهار، الأنهار المختلفة؛ مختلفة الأجناس، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ........}[محمد:15]، من كل الثمرات، {وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ}، فهذه الجنة تجري من تحتها الأنهار، تحت أشجارها وتحت قصورها.
{خَالِدِينَ فِيهَا}، الخلود في لغة العرب هو المكث الطويل، خالدين فيها؛ ماكثين فيها مكثًا طويلًا، وهذا المكث لا انقطاع له، {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}، ما ينقطع وينتهي، يعني يأتيه زمن بعد حقبة حقبتين برهة طويلة من الزمن... لا، وإنما هو خلود لا انقطاع فيه، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، بمشيئته وسماحه -سبحانه وتعالى- وأنه هو الذي هدى لهذا وأنه هو الذي وفق لهذا -سبحانه وتعالى-، فكل هذا كان بإذن ربهم، وقوله هنا ربهم؛ تقريبهم من الله -تبارك وتعالى-، وبيان أن هذا من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، فهو ربهم خالقهم وبارئهم ومتولي شئونهم -سبحانه وتعالى- وهم الذين اعتقدوا بهذا، قالوا رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا، {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ}، تحيتهم التي يحيي بعضهم بعضًا فيها سلام، أعظم تحية السلام عليكم، تحية الله -تبارك وتعالى- لعباده، وكذلك سلام من الله -تبارك وتعالى- فقد أخبر أن الله -تبارك وتعالى- يسلم عليهم، كما في قول الله -عز وجل- {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس:58]، يسلم الله -تبارك وتعالى- عليهم، وكذلك سلام من الملائكة، كما قال -جل وعلا- {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24]، فيتلقون التحية من الرب -جل وعلا- ومن ملائكة الرب -جل وعلا- ومن بعضهم لبعض، فإن بعضهم يسلم على بعض.
ثم بيَّن -سبحانه وتعالى-، ضرب الله مثلا لكلمة الإيمان التي قالها هؤلاء أهل الإيمان، ثم كان من آثارها كل هذا الخير الذي حصل لهم، قال -جل وعلا- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:24-25]، هذا مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- لأهل الإيمان، الذين بدأوا طريقهم بكلمة؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، هذه كلمة طيبة، هذه الكلمة الطيبة، هذه الكلمة أثمرت بعد ذلك السير في طريق الرب -تبارك وتعالى-، السير في طريق الرب -جل وعلا- أثمر هذه الأعمال الصالحة التي كان بسببها بعد ذلك كل هذا الخير عند الله -تبارك وتعالى-، ثم كان في النهاية هي جنة الرب والخلود عنده -سبحانه وتعالى-، ضرب الله لذلك مثل بالشجرة الطيبة، الشجرة الطيبة؛ النخلة، تبدأ فسيلة صغيرة ثم بعد ذلك تستوي حتى تصبح نخلة عظيمة، وهذه التي بدأت فسيلة وأصبحت نخلة عظيمة إذا بها كل عام يأتي محصولها وخيرها، هذه رطبها وتمرها، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ ........}[إبراهيم:24]، أصل الشجرة هو جذورها، الذي يكون في الأرض هذا الأصل، ثابت؛ مستقر، {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}، فرعها وهو سوقها وفروعها المتفرعة منه في السماء، فهي قوية هذي كالنخلة، هذا النخلة أصدق وصف ينطبق على هذه الصورة، {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}.
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، تؤتي؛ تعطي، أكلها؛ ثمرتها، كل حين؛ كل عام، كلما مر عام تؤتي أكلها كل حين، بإذن ربها؛ بمشيئته -سبحانه وتعالى-، قال –جل وعلا- {........ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:25]، فأهل لا إله إلا الله قالوا كلمة، وهذه الكلمة أثمرت هذه الثمار اليانعة التي أوصلتهم بعد ذلك إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، ومثلهم كمثل هذه النخلة تكون فسيلة في أول الأمر ثم إذا بها شجرة عظيمة {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[إبراهيم:25].
لنا عودة إلى هذه الآية في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.