الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (308) - سورة إبراهيم 25-32

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ(24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهي:24-27].

 ضرب الله -تبارك وتعالى- مثلًا لكلمة التوحيد التي قالها أهل الإيمان، وآمنوا بها وعملوا بمقتضاها فأثمرت كل هذه الثمار اليانعة من هداية الرب لهم ومن توفيقه في النهاية من سكنى دارة كرامته في الجنة، وضرب مثلًا -سبحانه وتعالى- لكلمة الكفر التي قالها أهل الكفر والعناد، فكانت كلمة لا أصل لها ولا أساس، انتهت هذه الكلمة إلى الباطل ثم ساقت أصحابها فأكلوا ثمارها المرة، إضلالًا وضلالًا في هذه الدنيا ثم نهاية إلى النار -عياذًا بالله-.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:24]، لا أطيب ولا أجل من كلمة التوحيد، أشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله، شبهها الله -تبارك وتعالى- بالشجرة الطيبة، وأطيب الأشجار كشجرة طيبة في هذه الأرض مما خلقه الله -تبارك وتعالى- لنا في هذه الأرض النخلة، فإنها أطيب الأشجار أولًا من حيث رسوها وثباتها فهي قوية تستعصي على الريح أحيانًا، ثم هي كريمة كل ما فيها نفع، جذعها، ليفها، جريدها، خوصها، ثم ثمارها، في التصنيف مع الغذاء غذاء ومع الفاكهة فاكهة ومع الدواء دواء، ثم سهولة حمل هذا الغذاء وتخزينه وأنه لا يصيبه الفساد ككثير من الثمار، فهي شجرة طيبة بكل معاني الطيبة من حيث طيبة ما خلق الله -تبارك وتعالى- للناس في هذه الدنيا، {........ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:24]، وهذا دليل قوتها وثباتها وعلوها.

{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}، في كل حين الذي هو الحين وقت نضجها، تؤتي أكلها بإذن ربها، ولا شك أن هذا بفضله ومنته -سبحانه وتعالى- وسماحه أن يكون الأمر على هذا النحو، والله يقول {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ}، الله -تبارك وتعالى- يضرب هذه الأمثال للناس، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، يتفكرون في هذا الأمر الذي ضرب الله -تبارك وتعالى- فيه المثل، انظر كلما طيبة ماذا أثمرت؛ أثمرت في النهاية الجنة والخلود فيها، وهذه كمن يزرع شجرة طيبة؛ كمن يزرع نخلة، انظر ماذا يأتيه من الثمار من وراء هذه النخلة.

قال -جل وعلا- {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ}، أخبث الكلمات كلمة الكفر؛ من قال لا إله، ومن قال هناك إله مع الإله الحق -سبحانه وتعالى-؛ كلمة كفر، أو من قال لله ولد أو له شريك أو له ند، أو قال لا يبعثنا الله -تبارك وتعالى- بعد الموت، كل هذه من كلمات الكفر أولًا كلمات خبيثة، نتنها وخبثها في ذاتها ثم ما يترتب على هذه الكلمة من الأثر، ضرب الله لهذه الكلمات الخبيثة؛ كلمة الكفر مثل، قال مثلها كالشجرة الخبيثة، خبيثة من حيث ثمرتها، ضرب الناس مثل لهذا بالحنظلة؛ شجرة الحنظل، فإن ثمارها خبيثة مجرد أن يصيب الإنسان شيء منها يعني في يديه فيحك عينيه؛ تلتهب عيونه، لا ينتفع بثماره إلا في الضرر، ثم هذه الشجرة الخبيثة بثمارها الخبيثة لا أساس لها، فإنها يمكن أن تقتلعها بضربة من قدمك، {........ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}[إبراهيم:26]، لا قرار لها ولا ثبوت لها، وهذا مثل ضربه الله -تبارك وتعالى- لكلمة الكفر، فأولًا كل ثمارها مرة باطلة، ماذا يثمر كلمة الكفر؟ الكفر يثمر الجحود، العناد، البعد عن الله -تبارك وتعالى-، المعاصي، كل المعاصي هي بنيات الكفر، هي أثر من آثاره، فالذي يزني ويسرق ويفعل ما ينهى عنه الرب -تبارك وتعالى- من أين هذا؟ لما كان كافرًا بالله -تبارك وتعالى- فإنه لا يأبه أن يخالف أمر الرب -تبارك وتعالى-، فالمعاصي ثمار الكفر وهي شعبه، فلا يتأتى من وراء كلمة الكفر إلا الثمار الخبيثة، فمثلها كهذه الشجرة الخبيثة، مثل كلمة الكفر كالشجرة الخبيثة، ثم إنه لا قرار لها، أي كلمة من كلمات الكفر لا تستقر ولا تبقى لأنه لا حقيقة لها، يستأصلها الرب -تبارك وتعالى-، {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ}، والاجتثاث؛ الاستئصال وإزالتها، {مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، جذر ثابت متجزر في الأرض، فشتان بين أهل الإيمان وبين أهل الكفر، بين الذين قالوا الكلمة الطيبة؛ أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وبين الذين قالوا كلمة الكفر.

قال -جل وعلا- {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ........}[إبراهيم:27]، الله يثبتهم على هذه الكلمة التي هي كلمة الثبات، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، يثبتهم عليه بأن تملأ هذه الكلمة قلوبهم، تملأ قلوبهم في هذه الدنيا فيؤمنون بها ويبقون متمسكين بذلك، حتى لو هددوا بالقتل وبالإحراق، فعندهم ثبات أهل الإيمان على هذه الكلمة، مهما كانت الفتن والزعازع والزلازل هم ثابتون على هذا، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، لا إله إلا الله، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ}، في الآخرة يثبتهم الله كذلك على هذه وقد جاء أن من هذا التثبيت تثبيتهم في القبر عند الاختبار والفتنة؛ فتنة القبر، وفتنة القبر بسؤال القبر، من ربك؟ ما دينك؟ ماذا تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فالمؤمن يثبته الله -تبارك وتعالى-، يقول ربي الله وديني الإسلام، وأقول في هذا الرجل بأنه محمد عبد الله ورسوله آتانا بالهدى من ربنا فآمنا وصدقنا، فهذا التثبيت؛ يثبتهم الله -تبارك وتعالى- بهذا، وكذلك يثبتهم الله -تبارك وتعالى- على هذا القول في الموقف يبقوا ثابتين، كما جاء في الحديث أنهم يقولون «ذهب الناس، ماذا تنتظرون؟ يقولوا ننتظر ربنا، يقولوا كنا نعبد الله الذي لا إله إلا هو»، نعبد الله هنا فيبقون هنا ثابتين على القول الثابت، على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى أن محمدا رسول الله، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ........}[إبراهيم:27]، يضلهم عن الهدى، لما؟ لأنهم ظالمون؛ لظلمهم، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، الذين عرفوا الحق وتركوه، ظلموا واتبعوا الباطل مع معرفتهم في بداية الطريق أن هذا باطل، ولكن لما اتبعوه عند ذلك أضلهم الله -تبارك وتعالى-، أعمى أبصارهم وجعلهم يتمسكون بهذا الباطل يظنون أنه الحق، {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ}، قال -جل وعلا- {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}، فالله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء لا معقب لفعله ولا مكره له -سبحانه وتعالى-، بل هو الذي يفعل ما يشاء كيف يشاء، وهو الرب الحكيم -سبحانه وتعالى- الذي يضع كل أمر في نصابه.

ثم قال -جل وعلا- { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }[إبراهيم:28-30].

 {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ........}[إبراهيم:28]، كفار قريش، كفار العرب، جاءتهم نعمة الله -تبارك وتعالى-؛ النعمة العظيمة، بعثة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، أعظم نعم الله -تبارك وتعالى- على أهل الأرض بعثته، بعثة هذا النبي واختيار هذا النبي أن يكون منهم عربيًا، فجعلوا هذه النعمة كفر بدلًا من أن يتقبلوها بالإيمان وبالخير وبالامتنان للرب -تبارك وتعالى-، منا يختار الله رسول. ورسول يهدينا إلى طريقه، كان الواجب عليهم أن يهبوا فيتمسكوا بهذا الرسول ويتمسكوا بسنته وينصروه ويؤيدوه -صلوات الله والسلام عليه-، ولكن جاءتهم هذه النعمة السابغة؛ أعظم نعم الله، أعظم أن يختار الله -تبارك وتعالى- منهم رسولًا يقودهم إلى الجنة ويهديهم سبيل الرشد، يقولون لا لست برسول، أنت كذاب، أنت مجنون، أنت أنت أنت ...، فبدلوا نعمة الله -تبارك وتعالى- التي أنعمها -سبحانه وتعالى- عليهم، بدلًا من شكرها كفرًا؛ كفرًا بالله -عز وجل-، قال -جل وعلا- {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}، أحلوهم؛ جعلهم يستحلوا، ويأتوا قومهم الذين اتبعوهم من أهل الكفر دار البوار؛ النار، كل ما فيها بائر لأنها هلاك في هلاك، فهي تهلك من فيها وهي كل ما فيها هلاك، ما فيها شيء نافع ينفع أحد، بل كلها النار هذه فراش نار جدران من نار وغطاء من نار وسُم هارٍ، طعام سم هارٍ، الشراب سم هارٍ، كل ما فيها بائر وهالك فهي دار البوار، {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}، جهنم هذه دار البوار -عياذًا بالله-.

{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}[إبراهيم:29]، يصلونها؛ يقاسون حرها، يدخلون فيها، قال -جل وعلا- {وَبِئْسَ الْقَرَارُ}، بئس المستقر، بئس المستقر أن يكون قرار الإنسان وقراره في هذه الدار -عياذًا بالله-، فانظر؛ انظر إلى الذين الله -تبارك وتعالى- يسوق لهم النعمة العظمى؛ محمد ابن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، رحمة الله المهداه منه -سبحانه وتعالى- إلى عباده، ثم يكون هذا موقفهم من النبي، كان الواجب أن يكون الأمر على خلاف ذلك، أن تقول العرب بكليتها وأن تقول قريش على الخصوص عندما يبعث الله -تبارك وتعالى- منهم ويختار منهم نبي على هذا النحو، رسول قائد يقودهم إلى الجنة، ثم بعد ذلك يتحولون ليكونوا أعداء له، أمر عظيم جدًا، أمر كبير، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}[إبراهيم:28]، {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}[إبراهيم:29]، وهذا الآية تنطبق على كل من آتاه الله -تبارك وتعالى- يعني أرشده إلى هذا الدين فكفر عنه، وابتعد عنه، فكل من ابتعد عن هذا الدين، جاءه هذا الدين ولكنه انصرف عنه قد بدل نعمة الله كفرًا، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ}[إبراهيم:28]، {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ}[إبراهيم:29].

ثم قال -جل وعلا- {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}[إبراهيم:30]، {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا}، أندادًا جمع ند، والند هو النظير، الشبيه، الكفؤ، نقول فلان ند فلان أنه مساوٍ له، فجعلوا لله مساوي، مشركوا العرب جعلوا لله مساوي في العبادة، فيعبدون الله -تبارك وتعالى-، يقدمون لله -تبارك وتعالى- أنواع من العبادة ويقدمون لكثير من آلهتهم الباطلة مثل هذه العبادة، يذبحون لهم كما يذبح لله، ينذرون لهم، يخافونهم، يقدمونهم، يرهبونهم، يطلبون منهم، يدعونهم، كما يصنعون ذلك مع الله -تبارك وتعالى-، فجعلوا لله أندادا في العبادة، والشرك ضروب فهناك من جعل لله أندادا في ذاته؛ أنه شبيه له، ذاته ذاته كما تقول النصارى في عيسى، أنه إله حق من إله حق، وأنه يخلق ويرزق ويحيي ويميت، بل جعلوه ذات الرب -تبارك وتعالى-، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وسائر المشركين الذين جعلوا لله -تبارك وتعالى- ند يخلق، كل من قال أن هناك من يخلق ويرزق ويحيي ويميت وأعطاه صفة من صفات الربوبية فقد جعله ندا لله -تبارك وتعالى-، كفرعون الذي جعل نفسه ما جعل نفسه ند جعل نفسه هو الله، قال يا أيها الناس ما علمت لكم من إله غيري، يعبد ويطاع وأنه له كل هذا الخلق، والنمرود الذي قال أنا أحيي وأميت، بل أنكر أصلًا أن يكون لله سلطانا على هذه الأرض، قال أنا أحيي وأميت، فلما قيل له فإن الله يأتي بالشمس من المشرق؛ قال له إبراهيم، قال {........ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:258]، فهؤلاء الذين {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}، جعلوا لله أندادا مشركوا العرب؛ من الملائكة ومن آلهتهم الباطلة، النبي دخل مكة وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنم وكل هذه الأصنام كانت تعبد من دون الله -جل وعلا-.

قال -جل وعلا- {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}، لام العاقبة، لأن كل من ادعى لله ولد بالضرورة لابد أن يضل، يكون هذا مآله الضلال عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن سبيل الله هو أن يعبد وحده لا شريك له، فمن جعل لله ندا في العبادة إذن هذا لابد وأن يقوده إلى الخروج عن طاعة الرب -تبارك وتعالى-؛ الضلال، قال {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ}، يضلوا الخلق، فنصبوا هذه الآلهة وذلك ليضلوا الناس ويضلوا من يتبعوهم عن سبيل الرب -تبارك وتعالى-، {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}، قل لهم تمتعوا؛ أي في هذه الدنيا ومتاع قليل، وهذا فعل الأمر هنا إنما هو للتهديد والوعيد، تمتعوا في الدنيا تهديد لهم ووعيد لهم وتبكيت لما هم فيه من الضلال، تمتعوا أي في دنياكم وبشرككم، {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}، مصير النهاية والمستقر بعد ذلك إلى النار، {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}، أعظم تهديد، لكن الكافر مغطى على عقله، مغطى على قلبه، مغطى على عينه، ما يسمع، لذلك هذا التهديد يأتي له ولا يعيره اهتمام، ويظل حتى يسقط في النار كما حكم الرب -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}[إبراهيم:31]، فهذه كلمة الرب -تبارك وتعالى- لأهل النار؛ هؤلاء الضالين، وهذه كلمة الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين الذي آمنوا بالنبي، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا}، أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال {قُلْ لِعِبَادِيَ}، وعباد الله -تبارك وتعالى- هم هؤلاء، الله نسبهم هنا إليه -سبحانه وتعالى- وهذا نسبة تشريف، نسبة تشريف أنهم عباد الرب -جل وعلا-، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ}، هذا طريقهم؛ طريق الفلاح هذا، هذا طريق الفلاح يقيموا الصلاة؛ يؤدوها على وجهها الأكمل، لأنها ذكر لله -تبارك وتعالى-، هي ذكر لله -تبارك وتعالى- وشكر له -جل وعلا-، {وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً}، ينفقوا مما رزقناهم؛ الانفاق إخراج جزء من المال، قال الله {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ}، من الذي رزقناهم، وهنا إشارة الله -تبارك وتعالى- بمن يعني بعضًا من ذلك، فالله لم يأمرنا أن ننفق كل ما رزقنا، ثم بيان أنه هو الذي يرزق -سبحانه وتعالى-، والرزق هو كل خير ينتفع به في هذه الدنيا، {سِرًّا وَعَلانِيَةً}، يعني حال كون الانفاق هذا بالسر دون أن يعلمه أحد أو العلانية أمام الناس، فإن هذا وهذا يحبه الله -تبارك وتعالى-، وقدم السر على العلانية لأنها أعظم أجرًا عنده -سبحانه وتعالى- وأفضل.

{........ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}[إبراهيم:31]، يعني هذه فرصة، هذه الفرصة فرصة العمل هنا في هذه الدنيا، قبل أن يأتي يوم؛ الذي هو يوم القيامة، لا بيع فيه؛ يبيع الإنسان معاصيه، ويستبدلها يكون عنده مال فيشتري حسنات من الأخرين أو يتنازل عن سيئات للأخرين بدراهم ودنانير... لا، ليس هناك بيع، كل إنسان مرهون بعمله، لا أحد يتنازل عن حسنه للآخر ولا أحد يحمل سيئات الآخر إلا في القصاص من الحقوق؛ يتقاصون بالحسنات والسيئات، لكن أن يبيع الإنسان، أن يكون للإنسان مال ويبيع سيئاته على الآخرين؛ يتخلص منها، أو يشتري حسنات من عند الآخرين... لا، فلا بيع فيه، ولا خلال؛ خلال المخاللة المحبة، والخلة هي أعلى درجات الحب، ما في صديق يستطيع أن ينفع صديقه في هذا الوقت، طبعًا إلا المتقين، لكن بالنسبة مع الكفر لا خلال، مهما كان صديقه ومهما كان قريبه، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ(35)وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ(36)لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}[عبس:34-37]، فلا خلة تنفع، لا صداقة تنفع صاحبها في هذا الوقت، مهما كانت هذا القرب وهذه الصداقة في الدنيا فإن هذا لا يفيد الكافر شيء، كما قال -جل وعلا- {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67]، إلا المتقين فإنهم يبقون على صداقتهم وعلى خلتهم متضامنين، بل إن من نجا من الصراط ولم يقع في النار يستشفعون لإخوانهم الذين سقطوا فيها، فيكون هناك فيه نفع وفيه شفاعة، شفاعة فقط لأهل الإيمان، كما في الحديث «يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يفزع أهل المؤمنين إلى ربهم فما أنتم بأشد مناشدة لي، فالحق استبان لكم من مناشدة المؤمنين ربهم يومئذ، يقولوا يا ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا، فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه»، فيخرجونهم، فهذا ينفع، صداقة أهل الإيمان وخلة أهل الإيمان نافعة لهم في أن يشفع بعضهم البعض، وأما هؤلاء الكفار فلا، لا يقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعة فيهم، ولو كان قريبهم ما كان من أهل الإيمان والتقوى لكن يشفع في كافر فإن الله لا يقبل ذلك، فقل لعبادي المؤمنين أن يعملوا لهذا اليوم، أن يعملوا لهذا اليوم الذي لا بيع فيه ولا خلال، ما في خليل ينفع خليله في هذا اليوم، {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}[إبراهيم:31]، اتضح الآن ما هو هذا, طريق أهل الإيمان وطريق أهل الكفران.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في آيات يعرف العباد بنفسه -سبحانه وتعالى-، من الذي يدعوكم أيها الناس إليه؟ هذا ربكم، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}[إبراهيم:32-34]، يعرف الله -تبارك وتعالى- العباد بنفسه بعد هذا، بعد بيان الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة ومثل هذا وهذا، ومثل الكفار الذين جاءتهم هذه النعمة فرفضوها، وبيان الله لطريق أهل الإيمان، يدعوا الله -تبارك وتعالى- الجميع إلى الدخول في الإيمان به وطاعته -سبحانه وتعالى-، إذ هو ربهم الذي أنعم عليهم بهذه النعم، الله؛ تعريفه -سبحانه وتعالى-، قال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، هذا فعله -سبحانه وتعالى- وهذه صفته، فهو خالق السماوات والأرض، هو الذي أخرج هذه السماوات العظيمة التي عرفنا شيئًا منها، وغاب عنا منها أمورا عظيمة جدًا لا تبلغها علومنا ولا آلاتنا، فهي أعظم وأجل من أن تحيط بها عقولنا، والأرض التي نحن عليها وما عرفنا حتى هذه الأرض ما عرفنا فيها إلا أقل مما هو موجود على الأساس، ما نجهله منها أكبر مما نعرفه فيها، بل أنفسنا التي هي أنفسنا، ما نجهل من حقيقة تركيبنا أنفسنا أكثر مما عرفنا، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}، الذي خلق السماوات والأرض؛ وخلقهم -سبحانه وتعالى- على غير مثال، فهو بديع السماوات والأرض، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، من السماء؛ من العلو، المكان الذي فيه السحاب، ماءًا؛ الذي هو ماء المطر، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}، الثمرات؛ ثمرات الأشجار، وهي متنوعة ومتعددة، رزقًا لكم؛ لطعامكم.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، سخر لكم الفلك؛ السفن، لتجري في البحر بأمره؛ جعل الله -تبارك وتعالى- البحر على هذا النحو وجعله أكبر مساحة من اليابسة وهذا لحكم عظيمة، منها سهولة انتقال الناس من جزء من اليابسة إلى جزء آخر، قال {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ}، وتسخيرها؛ تذليلها، بهذه القوانين والنظم التي جعلها الله -تبارك وتعالى- فيها، وما علمنا الله -عز وجل- كيفية تصنيع هذا وكيفية تسيير هذا في البحر، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، بإذنه ومشيئته -سبحانه وتعالى-، ومن أمره ما علمنا لنسلك هذا السبيل، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ}، مذللة، الأنهار الجارية بهذه المياة العذبة، فماء البحر مسخر ليحمل السفن على هذا النحو، والأنهار مسخرة بما سخرها الله -تبارك وتعالى- فيها سقيً للأرض وسقيً للناس.

{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ........}[إبراهيم:33]، التسخير؛ التذليل، {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ}، الدئوب هو العمل المتواصل دون كلال وملل، فهو أمر متواصل لا ينقطع، ليس فترة ثم ينقطع ثم فترة أخرى... لا، بل الشمس والقمر في دوران وعمل متواصل، فقد سخرهم الله -تبارك وتعالى- دائبين بالحركة التي يتحركها كل منهم؛ حركة دائبة لا تنقطع، ما يستريح القمر ليلة ولا الشمس تتوقف ساعة... لا، وإنما في هذا التسخير مستمرين أبدًا، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، على ظهر هذه الأرض، وما في هذا التسخير من النعم العظيمة، فالليل للراحة والسكون والبرودة التي تكون فيه بعد حر الشمس، والنهار بما فيه من الإشراق ومن الحرارة ليتم سعي الإنسان، كما قال -جل وعلا- {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73].

نقف -إن شاء الله- عند هذا ونكمل في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله على عبده ورسوله محمد.