الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ(32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار}ٌ[إبراهيم:32-34].
هذه الآيات الثلاث جاءت تعليمًا وتعريفًا من الرب -سبحانه وتعالى- الإله لخلقه بصفاته -جل وعلا- وانعامه عليهم -جل وعلا-، وجاءت بعد بيان المصير والمآل الذي سيئول إليه أهل الكفر به وأهل الإيمان به -سبحانه وتعالى-.
اعلموا أيها العباد أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وبالتالي الذي أوجد هذه السماوات والأرض هو الرب الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، الله؛ هذا فعل الله -جل وعلا- الذي لم يشاركه فيه أحد، {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، مطر، {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ}، الثمرات؛ كل نتاج هذه الأشجار مما يأكله الإنسان، {رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ}، البحر هذا سخره وسخر الفلك فيه لتجري في البحر إيصالًا واتصالًا بين أجزاء هذه اليابسة، بأمره، بأمر الله -تبارك وتعالى-، خلقه، مشيئته، تعليمه -سبحانه وتعالى-، قوانينه ونظمه التي وضعها ليكون على أساس هذا صناعة السفن، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ}، تجري دائمًا.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ........}[إبراهيم:33]، مستمرين يعملان ويسيران سيرًا لا ينقطع ولا يتوقف، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، ليكون في الليل ما يكون فيه من السكون والراحة والدعة والظلمة هذه المناسبة على ما تحتاجه هذه الخلائق إلى الراحة والاستقرار، والنهار بإشراقه ونوره وحرارته ليكون هذا مجالًا لعمل الإنسان.
{وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، هذه الجملة تبين سائر عطايا الرب -سبحانه وتعالى-، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، بالقال وبالحال، بقول الإنسان يسأل الرب -تبارك وتعالى- فيكون أو حاله يحتاج إلى هذا الأمر فيكون، فإن الله -تبارك وتعالى- من يرى ما يخرجه الله -تبارك وتعالى- من الكنوز ويطلعهم عليهم من الآلات والاختراعات عصرًا بعد عصر وجيلًا بعد جيل، يعلم أن لطف صنع الله -تبارك وتعالى- أمرا عظيما جدًا، فلا يكاد يضيق الأمر بالنسبة للحياة إلا ويتسع، ضاق الأمر بتوسع السكان فهدى الله -تبارك وتعالى- الناس إلى أنواع من الأسمدة، ومن اصلاح الزروع إلى شيء ضاعف الإنتاج مضاعفة عظيمة بحيث غطى هذا الأمر، كل ما احتاج الإنسان ووجد الإنسان البترول، فإذا هذا يغير حياة الإنسان على هذه الأرض، وهكذا نجد أنه كل ما ضاق الأمر في هذه الدنيا وإذا به يتسع بفضل الله -تبارك وتعالى-، فقول الله {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ}، كل ما سأله العباد للرب -تبارك وتعالى- قالًا وحالًا أعطاهم الله -تبارك وتعالى- إياه، {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ........}[إبراهيم:34]، نعمة الله؛ نعم الله، لو جلستم تقولون أنعم الله علينا بكذا وكذا وكذا وكذا ...، فإنه لا يمكن حصر ذلك، لا تحصوها؛ عدًا تحصروها فيه، وتقولون هذه مجموع ما أنعم الله -تبارك وتعالى- به علينا، يستحيل هذا، وذلك أن نعمه ظاهرة وباطنة، نعم نعلمها تظهر لنا ونعم باطنة خفية، وكل وقت يكتشف الإنسان من أسرار خلق الله، من نعمه -سبحانه وتعالى- الخفية ما كان يخطر له قبل ذلك على بال، فهذه نعم الله لا يمكن حصرها ولا عدها، وإن تعدوا نعمة الله يعني نعم الله -تبارك وتعالى-، لا تحصوها؛ لا تعدوها، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}، تعقيب من الله -تبارك وتعالى – على تعريف العباد، بعد أن عرف العباد بخلقه -سبحانه وتعالى- وإنعامه العظيم عليهم، لكن انظر مقابلة الإنسان لنعم الله -تبارك وتعالى-، لظلوم؛ كثير الظلم، ومن ظلمه جحود نعم الرب -تبارك وتعالى- ونسبة هذه النعم إلى غيره والإعراض عن هذا الأمر وعدم قيامه بشكر هذه النعم والتوجه بها نحو الرب -تبارك وتعالى-، كفار؛ كثير الكفر، والكفر هو الستر والتغطية، يعني أنه جاحد مغطي لنعم الله -تبارك وتعالى، كما قال -جل وعلا- {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}[النحل:83]، فيعرف نعم الله -تبارك وتعالى- وأن هذا الخلق ليس بيده، يعني أن هذا الخلق ليس بيد الإنسان ولم يفعله، ولكنه مع ذلك كافر بذلك، لا يعترف بذلك لربه وإلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}.
ثم وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى العرب الذي كانوا يشرفون ويفتخرون بنسبتهم إلى إبراهيم، ويقولون هذا بيته وهذا محل قدميه هنا في مقامه في الكعبة، ونحن أبنائه من إسماعيل، فكانوا يشرفون بهذا ويفتخرون به، ولكنهم للأسف أنهم خرجوا عن دينه وعن ملته وهذا محمد ابن عبد الله من نسله، وجاء يدعوهم إلى دين أبيهم إبراهيم والملة التي كانوا عليها، وهم يفتخرون به، كانوا يفتخرون بإبراهيم، إذن ادخلوا في هذه الملة، فهذه سورة إبراهيم فيها خطاب خاص للعرب بالذات، بدأها الله -تبارك وتعالى- بقوله {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[إبراهيم:1]، {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ}، فهذا خطاب من الله -تبارك وتعالى- بيان أنه أرسل عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم؛ إلى صراط العزيز الحميد، وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[إبراهيم:4]، وهذا فيه بيان أن الله -تبارك وتعالى- أرسل محمدًا بهذا اللسان العربي إلى هؤلاء العرب، ليبين لهم هذا الأمر ويتخذوا طريقهم إلى الرب -جل وعلا-.
قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35]، اذكروا هذا، واذكر إذ قال إبراهيم؛ النبي، الرسول -صلى الله عليه وسلم-، أبو العرب من إسماعيل وأبو بني إسرائيل من إسحاق، فإسحاق هذا أبو إسرائيل ومنه جاء هؤلاء، وهو أبو العرب لأن إسماعيل بكره والعرب كلهم بعد ذلك -عدنانيين وقحطانيين- يرجعون إلى إسماعيل، فإبراهيم الذي يفتخر العرب بنسبتهم إليه قال ...، هذه مقالته التي تخالف ما عليه المشركون الآن، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ........}[إبراهيم:35]، هذه دعوته، اجعل هذا البلد؛ وهو مكة، آمنًا من الشر، وقد أجاب الله -تبارك وتعالى- دعوته، فإنه حفظ الله -تبارك وتعالى- هذا البيت وجعله آمنا، مع كفر الناس؛ كفر العرب، وجعلهم القتل والسلب حرفة يحترفونها للحياة وللكسب، إلا أن هذا بقيت قلوب هذه العرب مجمعة على أن هذا حرم الله –تبارك وتعالى- وأنه يجب أن يبقى جزيرة آمنة، مو بالتواطؤ ولكن بالخوف والرهبة من أن يصيب ويخفر شيئًا من عهد الله -تبارك وتعالى- لهذا الحرم، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ........}[العنكبوت:67]، يتخطف الناس في الطرق لكن هذا المكان آمن، دعوة إبراهيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ}، مكة، {........ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35]، اجنبني؛ جنبني، ابعدني أنا وأولادي أن نعبد الأصنام، {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}، التي كان يعبدها عامة الناس في الأرض في الوقت الذي قام إبراهيم فيه يدعوا الناس إلى عبادة الرب -جل وعلا-، فقد بدأ دعوته في العراق وأهلها صابئة يعبدون الأصنام، وحطم أصنامهم وقال لهم ما قال ودعاهم إلى توحيد الرب -تبارك وتعالى-، فكان منهم في نهاية المطاف أن أرادوا تحريقه بالنار، أنجاه الله -تبارك وتعالى- ثم أخرجوه منها، مكث في الشام يدعوا إلى الله -تبارك وتعالى-، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أمره أن يسكن ابنه إسماعيل بهذه الأرض؛ أرض مكة، ودعى لأهلها، دعى لهذا البلد الذي أسكن فيه زوجه هاجر وابنها إسماعيل أن يجعله بلدًا آمنًا، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35].
ربي؛ أي يعني يا ربي، هذا دعاء إبراهيم، {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}، انهن؛ الأصنام، أضللن كثيرًا من الناس باتباع لهذه الأصنام، الأصنام هي في ذاتها ليس لها لسان يدعوا، ولكن لأوليائها ولأحبابها ولأنصارها لسان يدعوا إليها، فكانت هي أيضًا سبب في ضلال من ضل، ربي إنهن؛ أي الأصنام، {........ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36]، سلم الأمر لله -تبارك وتعالى-، فمن تبعني في طريق عبادة الرب وحده لا شريك له فإنه مني، أي من تبعني من ذريتي ومن الناس إلى هذا الطريق؛ أن نعبدك وحدك لا شريك لك، فإنه مني؛ هذا الذي أعتقد هذا الذي يكون هذا من إبراهيم حقيقي، يكون ابن إبراهيم على الحقيقة، أبوهم إبراهيم على الحقيقة بالفعل، ومن عصاني؛ أي من ذريتي ومن الناس، فإنك غفور رحيم؛ يعني أنت الغفور الرحيم، وهنا تسليم من إبراهيم لربه -سبحانه وتعالى-، أن هذا الأمر سلمه إلى الله -تبارك وتعالى-، وأنه يطلب من الله -تبارك وتعالى- لهم المغفرة والرحمة، إنك غفور رحيم، قال {........ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم:36]، لم يطلب لهم العقوبة والهلاك وإنما طلب مغفرة الرب ورحمته -سبحانه وتعالى-.
ثم قال ربنا؛ يعني يا ربنا، {إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}، داعٍ الله -تبارك وتعالى-، ربنا؛ يدعوا ربنا يا ربنا، إني؛ أي إبراهيم، أسكنت من ذريتي؛ بعض الذرية، بوادٍ غير ذي زرع؛ هذا الوادي هو مكة، وهو غير ذي زرع، ليس فيه أنهار جارية ولا كذلك أمطار مستمرة فأهلها لا يزرعون، ليس فيها زرع كبلاد الشام مثلًا، عند بيتك المحرم؛ أسكنتهم عند بيتك المحرم الذي حرمت، بيت الله -تبارك وتعالى- المحرم، وهذا دليل على أن هذا المكان طبعًا حرمه الله -تبارك وتعالى-، مكة حرمها الله -تبارك وتعالى- يوم خلق السماوات والأرض، وجعل هذا المكان مكانًا مخصوصًا، {عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، {........ لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}[إبراهيم:37]، ليحيوا في هذا المكان ويبقوا فيه ويقيموا الصلاة للرب –جل وعلا-، والصلاة هي العبادة، رمز العبادة، تجسيدا لتوحيد الرب -تبارك وتعالى-، هذه هي الصورة الكاملة لتوحيد الرب -تبارك وتعالى-، لأنها قيام بين يديه وركوع ذل بين يديه -سبحانه وتعالى-، وسجود بين يديه وأقرب ما يكون للعبد من ربه وهو ساجد، فهي ترجمة عملية لمعنى لا إله إلا الله والإيمان بالله -تبارك وتعالى-، {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ}، التي هي أشرف أعمال العبد، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، اجعل؛ من الجعل والتصيير، {أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، وإذا هوى القلب إلى المكان فإنه يأتي بصاحبه، لأن القلب هو ملك الجوارح، فاجعل أفئدة؛ الأفئدة القلوب، من الناس تهوي إليهم؛ ما قال أنها تحب هذا المكان أو تزورهم، بل قال تهوي إليهم، والهوي هو السقوط، يعني اجعل أفئدة الناس تندفع بكل قوتها إلى هذا المكان، وهذا قد حققه الله -تبارك وتعالى-، فإنه رغم أن هذا المكان غير ذي زرع وأن فيه من المشقات ما فيه، سواء كان هذا المشقة بالسكنى فيه أو بأعمال المناسك التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لعباده فيه، من الطواف والتزاحم فيه ومن السعي ومن الوقوف بعرفة والدفع منها ومن رمي الجمار، فيه مشقة وفيه صعوبة، ولكن قلوب الناس علقها الله -تبارك وتعالى- بهذا المكان ودعوة إبراهيم، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، تهوي كأنه تحبهم حبًا يجعلهم يندفعون، والهوي هو السقوط بشدة، تهوي إليهم، تحبهم، تحب المكان، تأتي إليهم من كل مكان، واجعل هذا في القلوب، قلوب الناس ترتبط بهذا المكان وقد كان، فإن قلوب الناس حتى في جهلتهم كانت مرتبطة بهذا المكان، ثم إن قلوب المؤمنين من كل مكان أصبحت معلقة بهذا المكان، الذي هو كأنه محل القلب من العالم، كما جعل الله -تبارك وتعالى- مكة هذه جعلها أم القرى، وجعل قلوب العبادة تهوي وتتوجه إلى هذا المكان، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}.
قال الله -تبارك وتعالى- لإبراهيم {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[الحج:27]، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}، فكتب الله -تبارك وتعالى- أن يأتي إلى هذا المكان من كل فج عميق من فجاج الأرض؛ من آخر الدنيا، يأتي مكة من أماكن لا تخطر على بال أحد أن يكون فيها مسلم، ويأتي قلبه معلق بهذا المكان ويأتي، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، من الثمرات؛ والثمرات هي نتاج هذه الأشجار، والمكان غير ذي زرع وليس فيه شجر، لكن دعى أن يرزقهم الله -تبارك وتعالى- من الثمرات وقد كان، فإن مكة بقيت تأتيها ثمرات الأرض من كل مكان تأتيها، تجد فيها كل أنواع الثمار الموجودة في الأرض، {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، لعل أهلها يشكرونك، وذلك أن هذه أسباب والأسباب هي بحسب العبد، وشكر الله -تبارك وتعالى- أنه يكون بالقلب وباللسان وبالعمل، {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}، دعوة عظيمة من إبراهيم -عليه السلام- لأهل مكة، والله -تبارك وتعالى- في هذا السياق يذكر العرب بنعمته -سبحانه وتعالى-، وبأبيهم إبراهيم الذي دعى هذا الدعاء وهم يعيشون فيما يعيشون فيه من نعم الدنيا بأثر هذه الدعوة التي دعاها أبوهم إبراهيم والذي كان على التوحيد، ولكنهم للأسف عاشوا في هذه النعمة التي هي من دعوة إبراهيم، وخالفوا ما كان عليه إبراهيم من التوحيد إلى الشرك.
هذا دعاء إبراهيم؛ تتمة دعائه، {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}، إنك يا ربي تعلم الذي نخفيه ونعلنه، وهذا بيان خلوص قلبه لله -تبارك وتعالى-؛ قلب السليم الخالص لله -تبارك وتعالى-، وإنما أعماله إنما يعملها كلها لله، {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ}، ما نخفيه في القلوب وما نعلنه؛ نظهره، قال -جل وعلا- {........ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:38]، لا يخفى على الله؛ يختفي، ويغيب عنه -سبحانه وتعالى-، من شيء؛ أي شيء في الأرض ولا في السماء، ثم شكر الله -تبارك وتعالى- فقال {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم:39]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ}، إبراهيم شاكر لله -تبارك وتعالى-، حمد الله -تبارك وتعالى-، الحمد؛ كل معاني الحمد والثناء على الله -تبارك وتعالى-، والله هو المحمود لذاته وصفاته وإنعامه -سبحانه وتعالى- وإفضاله، {الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}، بعد ما كبر إبراهيم -عليه السلام- فإن الله -تبارك وتعالى- قد كتب له الولد، إسماعيل من هاجر المصرية، وإسحاق من سارة، فوهبه الله -تبارك وتعالى-، قدم إسماعيل لأنه بكره، أول ولد ولد له وإسحاق بعد ذلك، {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}، لما دعوته استجاب الله -تبارك وتعالى- وسمع دعائي ورزقني على الكبر هذين الولدين، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- كلًا منهما نبيًا، فإسماعيل رسول نبي وإسحاق كذلك نبي، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ}[إبراهيم:39]، -سبحانه وتعالى-، سميع له؛ أي مجيب له -سبحانه وتعالى-، سمعه وأجابه -جل وعلا-.
{رَبِّ}، يقول إبراهيم؛ يعني يا ربي، {اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ}، انظر يطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يجعله مقيم الصلاة، وذلك أنها أشرف الأعمال وأعلاها وأعظمها وأنفعها للعبد، اجعلني؛ هكذا، يستعين بالله -تبارك وتعالى- على هذا الأمر، اجعلني؛ صيرني، من الذين يقيمون الصلاة لك، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، ومن ذريتي من يقوم بذلك، ما قال ذريتي كلهم وذلك أن الله -تبارك وتعالى- لا ينال عهده الظالمين، قال {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}، يعني من يقيم ذلك، اهدي من ذريتي من يقوم بذلك فيكون مقيم الصلاة، {رَبَّنَا}، يعني يا ربنا، {وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ}، تقبل دعائي لك، وتقبل الله -تبارك وتعالى- يعني أن يقبله الله -تبارك وتعالى- بأن يجيب الله -عز وجل- دعائه.
{رَبَّنَا}، يا ربنا، {........ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم:41]، دعى الله -تبارك وتعالى- أن يغفر له، بدأ بنفسه وهذا هو أدب الدعاء؛ أن تبدأ بنفسك، {وَلِوَالِدَيَّ}، دعى لوالديه؛ أمه وأبيه، {وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، دعى لسائر المؤمنين، {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}، هذا اليوم العصيب العظيم، ويوم يقوم الحساب؛ حساب الخلائق، وهذا يوم القيامة، ويقوم الحساب يعني أنه يكون، قيام الأمر يعني كونه أنه يصبح الأمر قائم، يقوم الحساب؛ حيث يحاسب الناس بين يدي الرب -تبارك وتعالى-، دعوة عظيمة، وأدعية إبراهيم كلها دعوة عظيمة وهي أعظم أدعية أثرًا في كل الدعوات، لا توجد دعوات كدعوة إبراهيم -صلوات الله والسلام عليه-، انظر دعواته هنا، دعواته بأن يكون هذا المكان محط قلوب العالمين؛ الذي هو مكة، وهذا له أثر عظيم، {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ}، فانظر أصبح مركز العالم، أصبح مركز العالم، مركز الإيمان للكل، منذ وقته، منذ أن دعى إبراهيم بحج البيت وقد حجه كل الأنبياء، كل الأنبياء بعد إبراهيم حجوا هذا البيت، وجعله الله -تبارك وتعالى- بالنسبة للنبي الخاتم القبلة التي يتوجه إليها كل الناس من كل مكان إلى هذا، وتهفوا قلوبهم إليه، ويأتون ليشهدوا المنافع العظيمة، ثم دعوته أن يجعل الله -تبارك وتعالى- من ذريته من يقيم الصلاة، انظر كيف حقق الله -تبارك وتعالى- هذا، فجعل من ذريته هذه الذرية، محمد من ذريته -صلوات الله والسلام عليه-، وهو أعظم عباد الله -تبارك وتعالى- إقامة للصلاة، وأتباعه الذين جاءوا من بعده ودعوة النبي للصلاة، أكبر رسول دعى للصلاة ودعى لعبادة الله هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، وانظر الآذان الذي ينتظم العالم من أول ما تشرق الشمس إلى آخر وقت تشرق فيه الشمس من الجهة الأخرى، في كل حين ووقت يقال حي على الصلاة، حي على الفلاح، ويأتي أفواج الناس كلهم يصلون، انظر العرب الذين أدخلهم الله -تبارك وتعالى- بجميعهم بعد ذلك في الإسلام، وكيف أنهم قاموا بصلاة الرب -تبارك وتعالى-، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ........}[إبراهيم:40]، من يقيم الصلاة، ثم نشر هذا في العالمين بعد ذلك، انظر أثر هذه الدعوة التي دعى بها إبراهيم -عليه السلام-، دعوات عظيمة.
دعى لوالديه وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن دعوته لوالديه هنا ودعوته لأبيه إنما كان عن موعدة وعدها إياه، ثم بعد ذلك لما تبين لإبراهيم أنه عدو لله تبرأ إبراهيم منه وذلك أن أباه قد بقي على الكفر، وأمر ابنه أن يفارقه قال {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}، وهذه الدعوة أمر الله -تبارك وتعالى- المسلمين أن يأتسوا بإبراهيم في كل عمله إلا في هذه الدعوة؛ أن يدعوا لوالديه، قال {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ........}[الممتحنة:4]، يعني إلا قول إبراهيم لأستغفرن لك لا تأتسوا به، وذلك وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن دعاء إبراهيم إنما كان عن موعدة، كما قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[التوبة:114].
فتتمة دعاء إبراهيم قال {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}[إبراهيم:41]، وقد ذكرنا أن إتيان هذا في هذا السياق هو تذكير للعرب بأبيهم إبراهيم -عليه السلام-، ودعوته هذه لهم بأن يجعل مكة البلد الآمن، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}[إبراهيم:35]، وأنه دعى أن يجنبه الله -تبارك وتعالى- هو وأولاده عبادة الأصنام، وكأن العرب عندما عبدوا الأصنام تركوا ملة أبيهم إبراهيم الذي يفتخرون به ويقولون نحن أبناء إبراهيم، إذن كونوا على ملته، فأنتم تعيشون في فضل الخير والنعمة بأثر دعوته التي دعى بها إبراهيم لهذا المكان ودعى بها للذرية، وهذا محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- هو أثر من آثار دعوة إبراهيم، الذي دعى أن يكون من أولاده من يقيم الصلاة، أكبر من أقام الصلاة ودعى إلى الصلاة هو محمد ابن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، ثم بعد ذلك شرع الله -تبارك وتعالى- يبين عقوبة هؤلاء المجرمين الذين صدوا عن دعوة أبيهم إبراهيم، وخرجوا عن هذه الدعوة وكفروا بالله، قال {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}[إبراهيم:42].
نقف -إن شاء الله- ونستأنف هذا في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.