الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (31) - سورة البقرة 101-105

تفسير الشيخ المسجل في تلفزيون دولة الكويت

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[البقرة:101]، {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، يخبر -سبحانه وتعالى- أن اليهود لما جاءهم رسول من عند الله، هو محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه- مصدقٌ لما معهم، أولًا صفته موجودةٌ عندهم في التوراة والإنجيل، يدعو إلى ما دعا إليه موسى -عليه السلام-، القرآن الذي بيده يدعو إلى ما دعت إليه التوراة من عبادة الله وحده لا شريك له، ومن تصديق الأخبار الموجودة فيه عن الله وعن رسالاته، وعن غيبه –سبحانه وتعالى-، بل والأخلاق والشِرعة من عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال -تبارك وتعالى- {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}[الشورى:13]، فلما جاءهم الرسول بالدين الذي يعرفون، نفس دين الإسلام الذي يعرفون، والذي دعوا إليه، فدين الله -تبارك وتعالى- واحد وهو الإسلام، فالدين الذي جاء به كل الرسل إنما دعوا إلى الإسلام، إسلام الوجه والقلب والطاعة والخضوع لله رب العالمين -سبحانه وتعالى- خالق السموات والأرض.

فلما جاءهم هذا الرسول من عند الله، يعلمون أنه من عند الله مصدقٌ لما معهم، قال -جل وعلا-  {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، أولًا نبذوا كتابهم التوراة المنزلة على موسى، وذلك أنها تأمرهم بالإيمان بمحمد -صلوات الله والسلام عليه-، فكفرهم بالنبي نبذٌ لأمر التوراة، الذي يأمرهم بالإيمان بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- النبي الخاتم، ثم كذلك نبذوا كتاب الله القرآن، وذلك أن القرآن موجهٌ إليهم، يدعوهم الله -تبارك وتعالى- فيه للإيمان به، كما في قول الله -تبارك وتعالى-، خاطب الله بني إسرائيل بأسمائهم، قال {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]، {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ}[البقرة:41]، فهي دعوة الله -تبارك وتعالى- كتاب الله المنزل والموجه إليهم، والذي يخاطبون فيه خاصة يا بني إسرائيل، أن يؤمنوا بهذا النبي الخاتم، الذي جاء برسالة تصدقُ ما جاء به موسى -عليه السلام-، فهؤلاء نبذوا كتاب الله، جنس الكتب؛ كتاب الله التوراة، كتاب الله القرآن وراء ظهورهم، أي نبذ إهمال، {كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، كفعل الجاهل بهذه الكتب كأنه لم يصل إليه كتاب، ولم يؤمر بأمر، واستبدلوا بدل من حمل كتاب الله -تبارك وتعالى- والعمل فيه -كتاب الله-، أخذوا أقوال الشياطين، أخذوا فعل الشياطين في السحر.

قال -جل وعلا- {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، اتبَّعوا ما تقرأه الشياطين على ملك سليمان، وسليمان قد ملَّكه الله -تبارك وتعالى- ملك خاص، لم يعطه الله -تبارك وتعالى- لغيره، والسبب في ذلك أنه عُرض عليه خيل الحرب، ثم بعد ذلك ألهاه هذا العرض عن صلاة عظيمة مكتوبة عليهم، وهي صلاة العصر حتى غربت الشمس، فحزن أشد الحزن لذلك، وقتل الخيل التي ألهته هذا الإلهاء، كما قال -تبارك وتعالى- {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}[ص:31]، {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}[ص:32]، أي توارت الشمس بالحجاب، {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}[ص:33]، ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}[ص:34]، {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[ص:35]، ثم قال -جل وعلا- {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ}، ده أول شيء، {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً}، أي ما هي عاصفة متقلبة-لا- رخاء، {حَيْثُ أَصَابَ}، {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37]، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[ص:38]، {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[ص:39]، أي أمنن على من شئت من الجن، وإمسكهم في الخدمة بغير حساب من الله -تبارك وتعال-.

فالشياطين -هؤلاء- الذي سخروا لسليمان، أوهموا الناس بأن سليمان عليهم إلا بالسحر، والحال أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي سلَّط سليمان على الشياطين يستخدمهم، ويقيمهم في الأعمال الشاقة التي أقامهم فيها، كما قال -جل وعلا- ومن {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}[ص:37]، وقال {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]، قال -جل وعلا- {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، أي لم يكفر بفعل السحر لأن السحر كفر -السحر كفر-، وهو عقد بين الشيطان والإنسان، الشيطان يخدم الإنسان؛ والإنسان كذلك يخدمه، يتبادلون منافع، أما المنفعة التي يريدها الشيطان من الإنسان هو أن يكفر، هذه هي المنفعة الأساسية، لأن هذه هي مهمة الشياطين، مهمة الشياطين إضلال بني آدم، في أن يكفر وأن يعبده، أنه يفسق بالله -تبارك وتعالى-، ولذلك يكلفونهم بأعمال غاية في الخسة والكفر، كتنجيس كلام الله -تبارك وتعالى-، كتابته بالنجاسة، الاحتقار بنعم الله -عز وجل-، السجود له، الاستغاثة بالشياطين، الشرك بالله، الكفر بالله، فالساحر مجرم عقد عقده مع الشيطان، ليخدمه الشيطان؛ يخدم ببعض الخدمة، أن يضُر إنسان، أن يفرِّق بين رجل وزوجته، أن يأتي له ببعض المنافع الدنيوية، يدلَّه على بعض الأمور من الغيب الإضافي، فهذه خدمته له فكُفر،

أما سليمان -عليه السلام- إنما سُلِط على الشياطين يسخِّرهم ويقهرهم فيما قهرهم به من الله، الله الذي سخَّر له، قال {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}[ص:36]، {وَالشَّيَاطِينَ} الله هو الذي سخَّرهم له، {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ}، مقيدين في الأصفاد، {هَذَا عَطَاؤُنَا} أي من الله،  {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ}، أمنُن من الإعفاء من الخدمة، أو أمسك في الخدمة بغير حساب، فقال -جل وعلا- {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} أي بالسحر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، وقد مضى في الحلقة الماضية أن الذي {أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ}، أي أنهما نزلا هذان الملكان إلى هذا المكان الذي انتشر فيه السحر، لتحذير الناس من السحر، وتعليمهم حقيقة السكر ليحذروها، وكان هذان الملكان يحذِّران من يعلمان السحر من أن يستخدمه وأن يسير فيه، قال -جل وعلا- {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، أي لا تكفر بالعمل بالسحر، {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، هذا هو غاية ما يفعله السحرة والشياطين الإفساد، ومن أعظم الإفساد عندهم، الإفساد بين المرء وزوجه، وذلك أن صلاح البيت وصلاح الزوج مع زوجه، من الأمور المحببه لله -تبارك وتعالى-، من السِلم والخير المحبب لله -تبارك وتعالى-، ولذلك يكرهه الشيطان ويحب دائمًا الفرقة، ولذلك جاء في الحديث أن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يجمع أبنائه كل حين، كمؤتمر يتبادلون فيه الخبرة والعمل، فيأتي أحدهم يقول ((مازلت)) أي بمن وكِّلت به حتى فعل كذا وكذا، هذا قتل هذا سرق وهذا زنى، ثم يأتي ويقول لكل واحد منهم لم تغني شيئًا، أي ما صنعت شيئًا ذا بال، فإذا جاء من يقول مازلت به حتى فرقت بينه وبين زوجه، فعند ذلك يقوم إبليس ويلتزمه، ويقول له أنت أنت، أي أنت الذي فعلت الفعل الأكبر، فالتفريق بين المرء وزوجه أمر محبب للشيطان، وإبليس يجعله في قمة وفي أعلى عمل؛ العمل الخبيث الذي يقوم به هو وزريته.

{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ}، أي الأمر الذي يفرقون به بين المرء وزوجه، تبغيض المرأة في زوجها، والزوج في زوجها حتى يحصل الفراق بينهما، المرء؛ الرجل هذا ديَّت، ومنه المرأة بتاء التأنيث، المرء وزوجه، قال –جل وعلا- {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أنا هذا السحر الذي يتعلموه لا يقع بغير مشيئة الرب -تبارك وتعالى- بل بمشيئته، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ}، لا يضرون بهذا السحر من أحدًا إلا بإذن الله، أن الله شاء أن يقع هذا بإذنه، بسماحه أن يقع مثل هذا الأمر في ملكه، وإلا لو أراد الله -تبارك وتعالى- ألا يقع لما وقع، {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ}، يتعلمون أي بالسحر هذا ما يضرهم ولا ينفعهم، فالسحر ليس بنافعٍ لشيء، وإنما عمله كله إضرار، {وَلَقَدْ عَلِمُوا} اليهود لقد علموا فيما أنزل الله -تبارك وتعالى- رسله، {لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، لَمَن اشتراه أخذه وترك الدين وترك الحق، {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، النصيب؛ الخلاق النصيب والحظ، أي ليس له حظٌ في الآخرة، لن يدخل جنة؛ لن يدخل جنة من أخذ السحر، ومن عمل به فهذا كافر، وليه له حظٌ ونصيبٌ في الآخرة عند الله -تبارك وتعالى-، ثم قال -جل وعلا- {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لبئس شيء؛ بئس للذَّم، أي ما أحقر وما أشد من هذا ذمًّا وقبحًا، الذي {شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ}، باعوا به أنفسهم هنا للشيطان، تركوا التوراة؛ تركوا حكم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، تركوا العمل بكلام الله -تبارك وتعالى- والصراط المستقيم إلى الله، والإيمان بالرسل، واتبعوا هؤلاء الشياطين، أصبح الشياطين هم قادتهم، وتعلموا ما تعلموا منهم، وأخذوا السحر وتركوا القرآن، فلا شك أن من أخذ السحر وترك القرآن قد باع نفسه بأبخث الأثمان، {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لبئس شيئًا هذا الذي شروا به أنفسهم، باعوا به أنفسهم في هذه المكاسب القليلة، وهذه المنافع القليلة التي أخذوها، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لو كان عندهم علم يقيني لعلموا أنهم قد عقدوا الثفقة الخاسرة.

ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[البقرة:103]، {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، آمنوا بالله وبرسالاته، ومن رسالاته آمنوا بهذا النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- وبالقرآن المنزَّل عليه، والثواب في هذا {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ثواب من عند الله، ومثوبة الله-–تبارك وتعالى- أمر عظيم جدًا، مثوبة الله في الدنيا الحياة الطيبة -الحياة الطيبة-، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النحل:97]، ثم الجنة؛ الجنة التي هي أعظم دار وأعظم ثواب والرضوان، {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ثواب يأتيه من عند الله، والله هو الملك الذي لا إله إلا هو، والرب الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، ملك كل شيء، فكيف يثيب؟ إذا أثاب فلا شك أن الثواب هنا بقدر المعطي، فعطاء الله عطاء عظيم لأن الرب عظيم -سبحانه وتعالى-، {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، أي من هذا الذي أخذوه ثواب السحر، {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}، لو كان عندهم علم لعلموا هذا، ولكن للأسف قد جهلوا، وتركوا دين الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر الحقير الذي أخذوه.

هذي سياق طويل مع اليهود على هذا النحو، فيه هدم كامل وسحق لما ادَّعوه، من أنهم أهل دين أو أنهم على شريعة وعلى رسالة، وأن الجنة خالصة لهم من دون الله، أنهم شعب الله المختار، وأنهم مهما فعلوا من ذنب فإنه مغفور لهم، وأنهم لن يمكسوا في النار إلا أيام معدودة لو كانوا مذنبين، فهذه الآيات جاءت دحض لكل ما قالوه وتذرعوا به، وبيان أنهم على الكفر الحقيقي، وأن نفوسهم حقيرة، قد استبدلوا بدين الله -تبارك وتعالى- بالعز والتمكين والمثوبة، هذه اللعاعات الحقيرة التي يأخذونها جزاء كفرهم بالله -تبارك وتعالى-، فلا شك أن من ترك الدين والصراط واتبع السحر، خسيسٌ في عقله وفي فهمه، لا عقل له أن يستبدل هذا بهذا، وأن يبيع نفسه للشيطان على هذا النحو.

بعد هذا وجَّه الله -تبارك وتعالى- الخطاب لعباده المؤمنين، أن يتقوا ويحذروا هؤلاء اليهود، وبيَّن الله جزء من دسائسهم ومكرهم بأهل الإيمان، فقال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:104]، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[البقرة:105]، كان من عادة هؤلاء اليهود الخبثاء أنهم إذا جاءوا مجلس النبي -صلوات الله والسلام عليه- يتكلمون بكلام يسبُّون فيه النبي، والمستمع يظن أنهم يعنون به معنىً حق، فيجيبون كلما -في الظاهر- يظن الظان أنهم يريدون بها معنىً صحيحًا، والحال أنهم يريدون بها معنىً خيثًا، من هذا أنهم كانوا يقولون يا محمد راعِّنا، فيظن من يسمع كلامهم أنهم يعنون الرعاية، أي راعِّنا انظر إلينا وارعنا سمعك، ونريد أن نخبرك، ولكنهم يريدون معنىً أخر، يريدون الرعونة، يسبُّون النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كانوا يأتون فبدلًا من أن يسلموا على النبي "السلام عليك"، يقولون "السام عليك"، والسام هو الموت، فمن يسمعهم ولم يدقق يظن أنهم يسلمون، والحال أنهم يدعون بالموت على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ومن هذا الكلمات الكثيرة التي لها معنىً، في الظاهر قد يكون معنىً حسن، وهم يعنون في باطن الأمر معنىً قبيح، الله -تبارك- هنا ينبِّه أهل الإيمان إلى كلماتهم الخبيثة التي قد يستخدمونها، حتى لا يستخدم المسلمون الألفاظ التي لا تحتمل إلا معنًى سليمًا صحيحًا، ويترك الألفاظ الموهمة للمعاني الباطلة.

قال -جل وعلا- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، خطابٌ منه -سبحانه وتعالى- لأهل الإيمان، والذين آمنوا أصبحت علم على المؤمنين، الذين آمنوا بمحمد -صلوات الله والسلام عليه- المسلمين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا}، لا تقولوا راعِّنا؛ وراعنا كلمة تعنى كما ذكرنا من الرعاية، ولكن اليهود عندما يقولونها يعنون بها الرعونة، {لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا}، وذلك لأن انظرنا؛ انظر ليس لها معنى يُأوَّل بمعنى أخر، لا تحتمل معنى آخر من المعاني القبيحة، {وَاسْمَعُوا}، اسمعوا لأمر الله -تبارك وتعالى- وأمر رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، سمعٌ واستجابة، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، هذا يدخل فيه أولًا وقبل كل شيء اليهود، {عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يتهددهم الله -تبارك وتعالى- بالعذاب الأليم، وذلك أنهم أي كفر وكذلك استهزاء واستبطان، والاستهزاء بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-.

ثم كشف الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك حقيقتهم لأهل الإيمان، فقال {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، ما يود ما يحب، أي نوع من المحبة وإرادة الخير، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}، الذين كفروا من أهل الكتاب؛ أهل الكتاب اليهود والنصارى، طبعًا الذي آمنوا من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام، لكن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب، كذلك عطف الله عليهم قال {وَلا الْمُشْرِكِينَ}، المشركين أصبح علم على الكفار من العرب خاصة، علمًا أن من أهل الكتاب مشركين، فاليهود أشركوا بادعائهم أن عُزير ابن الله، والنصارى مشركون كذلك لقولهم أنه عيسى ابن الله، وهم كفار بهذا، والعرب كذلك مشركون لأنهم اتخذوا وسائط بينهم وبين الله، كالملائكة والأصنام التي اتخذوها، وقالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، وجعلوا لهم شركة مع الله في التصريف، في الرزق، في العبودية؛ فيعبدونهم مع الله -تبارك وتعالى-، فالمشركون من العرب، أخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هؤلاء أعداء المسلمين، أعداء أهل الإيمان، الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم جميعًا لا يحبون أن ينزَّل على المؤمنين من خير من ربكم، {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ}، أي خير ما، {مِنْ رَبِّكُمْ}، إلهكم -سبحانه وتعالى- وبارئكم ومتولي شئونكم.

قال -جل وعلا- {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ}، الاختصاص اختيار وانتقاء، الله -سبحانه وتعالى- يختص برحمته من يشاء، والرحمة هنا رحمات الله كثيرة، ومن أعظم رحماته الهداية إلى طريقه، الرسالة، التوفيق إلى صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم، الله يختص به من يشاء -سبحانه وتعالى- من عباده، فالهدى ليس عامًّا لكل أحد، ولكن الله -تبارك وتعالى- يهدي من يشاء من عباده، بحكمته –سبحانه وتعالى- وبرحمته، أولًا في الرسالة الله أعلم حيث يجعل رسالته –سبحانه وتعالى-، وفي الهداية الله أعلم {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}، فالله أعلم من يشكره -سبحانه وتعالى- فيهديه، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ........}[الأنعام:125]، فالهداية من الله -تبارك وتعالى- اختصاص، الدعوة للجميع؛ دعوة الله -تبارك وتعالى- للإيمان بالإسلام للجميع، {وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ}، دعوة عامة، {........ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[يونس:25]، فيهدي من يشاء -سبحانه وتعالى- إلى صراطه المستقيم، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ}، رحمته؛ الهداية -سبحانه وتعالى-، {مَنْ يَشَاءُ} من عباده، الذين يقعون وفق المشيئة؛ ومشيئة الله -تبارك وتعالى- حكيمة، الله هو الحكيم -سبحانه وتعالى-، والله أعلم من يستحق هذه الهداية فيهديه -سبحانه وتعالى-، من يستحق الرسالة فيرسل له -جل وعلا-، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، الله صاحب الفضل العظيم، الفضل بمعنى العطاء؛ العطاء الهائل، العظيم الهائل الذي لا حدَّ له -سبحانه وتعالى-، لا حدَّ لعطائه -سبحانه وتعالى- وفضله -جل وعلا-.

فالدين والرسالة من فضل الله -تبارك وتعالى- ومن رحمته، يختص الله -تبارك وتعالى- بها من يشاء، هذا أولًا ليعلم المؤمنون أن هدايتهم إلى هذا الدين اختصاص من الله -تبارك وتعالى-، فالله قد خصَّهم بهذا، وأن هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب وهم ورَّاث؛ ورَّاث رسالة، ورَّاث كتاب، لكن الله تبارك وتعالى حرمهم من ذلك، فهذا الأمر إليه -سبحانه وتعالى-، حرمهم من أن يهتدوا، وأن يبصروا طريق الرب، ويبصروا الهدى العظيم المنزل على عبد الله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، وطبعًا حرمانهم بهذه الجرائم التي ارتكبوها، لما حسدوا وبغوا وطغوا وكفروا وردُّوا الحق عنادًا وكِبرًا، فإن الله -تبارك وتعالى- طمس بصائرهم على هذا النحو، فهاتان الآيتان في ختام حجاج الله -تبارك وتعالى- على بني إسرائيل، إلزامهم الحُجَّة وبيان حقيقة ما هم عليه، هاتان الآيان توجيه بليغ لأهل الإيمان بأن يعرفوا طريقهم، ويعرفوا عدوهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[البقرة:104]، هذا توجيه من الرب -تبارك وتعالى- بأن يراعي المسلمون أن ينتهجوا طريقهم بعيدًا عن خبث اليهود، ومكرهم حتى في الألفاظ، حتى في الألفاظ؛ فكل لفظٍ يستخدمونه يريدون به معنىً من المعاني المائلة، ينبغي للمسلمين أن يراعوا هذا، وهذه لا شك أن لا تقول راعَنا وقولوا انظرنا، إنما هي مخصوصةٌ لذاتها، ثم أنها مثال يحتذى في كل ما يريد به أعداء الله وأعداء الإسلام معنىً باطل، لا يجوز للمسلمين أن يتبعوهم في هذا.

ثم بيان حقيقة المخالفون لهذا الدين، سواء كان أهل الكتاب أو من المشركين،  {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، فإذن هؤلاء أعداؤكم، كأن الله -تبارك وتعالى- يقول هؤلاء أعداؤكم، لا يريدون لكم أي خير، إذن يجب أن يُتَخذوا أعداء، ثم إن الله -تبارك وتعالى- اعلموا أن الله قد اختصكم بالهداية وبهذا الأمر،  {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، فمن فضله وإحسانه هداكم إلى هذا الطريق، ولا حرج ولا مانع لفضل الله -تبارك وتعالى- إن أراد به قومًا ما، فهنا يعلم المؤمن الذي اهتدى إلى هذا الإيمان أنه قد كُرِّم، قد شُرِّف، قد نال رحمة الله -تبارك وتعالى- وفضل الله، فيتمسك بها ثم يعرف عدوه من هو، وأنه لا يريد له أي خير.

نكتفي اليوم بهذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.