الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (310) - سورة إبراهيم 42-52

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

يقول الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}[إبراهيم:42-46].

 ختم الله -تبارك وتعالى- هذه السورة؛ سورة إبراهيم -عليه السلام-، بهذه المواعظ العظيمة لخلقه، ووجه الخطاب إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}[إبراهيم:42]، الحسبان؛ الظن، ولا تظنن أن الله -سبحانه وتعالى- عندما أمهل الكفار فيما أمهلهم فيه من قول الباطل، ومن رد مقالة الرسل، ومن التكذيب بآيات الله -تبارك وتعالى-، ومن التهديد والوعيد للرسل ولعباده المؤمنين، وكان هذا هو الشأن عند نزول هذه السورة على النبي -صلوات الله والسلام عليه- في مكة، فقد كان الرسول متهددًا متوعدًا من الكفار؛ مستهزءًا به، الذي آمنوا به إما متستخفٍ بدينه وإما فارٌ بدينه؛ مهاجر به إلى أسقاع من الأرض، أناس بالحبشة وأناس هنا وأناس هناك، والنبي في مكة -صلوات الله والسلام عليه- ممنوع أن يعلن بدينه، بل ممنوع أصحابه أن يصلوا في بيوتهم ويرفعوا أصواتهم بالقرآن، ممنوع لأحد أن يجهر بشيء من هذا الدين، كل قبيلة استكلبت على من تحت أيديها من المؤمنين، يعذب المؤمنون في مكة وفي خارج مكة ولا يستطيع النبي أن يصنع لهم شيئًا، بل هو في مكان التضييق والإستهزاء به -صلوات الله والسلام عليه-، وكأن الناظر إلى هذا الأمر يرى الكفار كأنهم هم الذين يتصرفون في الأمر، وأن عقوبة الرب -تبارك وتعالى- غائبة عنهم وبعيدة عنهم، فيأتي هذا الخطاب الإلهي ليبين للجميع أن الله -تبارك وتعالى- محصٍ وقائم على كل نفس بما كسبت -سبحانه وتعالى-، وأن إمهاله لهؤلاء الكفار إنما هو إمهال للعذاب الأكبر.

قال -جل وعلا- {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ........}[إبراهيم:42]، سماهم الله -تبارك وتعالى- بالظالمين لأنهم معتدون وضعوا الأمر في غير محله، بدلًا من طاعة الله -تبارك وتعالى- والإيمان به وطاعة الرسل وتكريمهم وتعذيرهم، إذا هم يضعوا في مكان ذلك تكذيبهم وسبهم وشتمهم والوقوف في وجههم وصد الناس عن سبيلهم، قال -جل وعلا- {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}، هذا وقت حسابهم، إنما يؤخر هؤلاء الظالمين ليوم تشخص فيه الأبصار، وشخوص البصر هو انطلاقه في الجهة التي ينظر إليها دون أن يتحرك يمينًا وشمالًا، فالشاخص هو القائم يعني القائم إلى جهة واحدة، فهذا اليوم؛ يوم القيامة، وصف الله -تبارك وتعالى- حال الكفار فيه أن أبصارهم تكون شاخصة، يعني أنها ناظرة إلى مكان لا تهداه؛ مكان الهول والخوف ومكان النداء، {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ}.

{مُهْطِعِينَ}، مسرعين إلى حيث يدعوهم الداعي ويحشرهم إلى مكان الرب -تبارك وتعالى-، {مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}، اقناع الرأس أنها تنظر إلى أعلى، يعني نظرها إلى أعلى مرفوعة إلى أعلى إلى حيث الصوت، وحيث الزجر والأمر لهم بالتوجه، {لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}، لا يرتد إليهم طرفهم؛ الطرف طرف العين، يعني أن أجفانهم لا يغمضونها من شدة الخوف ومن شخوص البصر على مكان واحد، فلا يرتد إليه طرفه لينظر ثم ينظر إلى مكان أخر... لا، وإنما هو شاخص وناظر في مكان واحد معلق به كأن بصره قد علق بهذا المكان، {........ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}[إبراهيم:43]، أفئدتهم؛ قلوبهم، هواء؛ فارغة، ليس فيها شيء يثبت يعني كأنهم لا يفكرون في شيء، يعني ليس هناك في القلب شيء يمكن أن يمسك ويفكر فيه وإنما القلب فارغ، فإن الخوف والرعب الذي أخذهم جعل قلوبهم كأنها فارغة؛ ليس عنده شيء يمسكه، وهذا حال من يستبد به الخوف، حتى إنه لا يستطيع لو قيل له ما اسمك؟ فلا يستطيع أن يدرك سؤال السائل ولا أن يجيب عليه، لأن قلبه أصبح فارغًا من أي فكر لقد ملأه الرعب والخوف، {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}.

قال -جل وعلا- {وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}[إبراهيم:44]، {وَأَنذِرِ النَّاسَ}، خطاب من الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ينذر الناس، أنذر؛ حذرهم، الإنذار هو الإخبار بما يخيف؛ الإخبار بالشر، أنذرهم؛ حذرهم أن هناك شيء عظيم، أنذرهم بماذا؟ قال {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، يوم يأتيهم العذاب؛ وهذا يوم القيامة، يوم القيامة عندما يحضرهم العذاب، يأتيهم العذاب؛ يأتون العذاب ويحضر العذاب أمامهم ويدركون ويوقنون أنهم مواقعوه لا محالة، فيقول الذين ظلموا؛ مستغيثين بربهم، مستشفعين عنده، داعين له، ربنا؛ يعني يا ربنا، يدعوا الله، {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، أخرنا؛ أي أعدنا إلى هذه الحياة، وأعطينا مهلة أخرى وأخرنا فيها، وأجل قريب؛ يعني حدد لنا وقتًا قريبًا اختبرنا فيه، {نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ}، نجب دعوتك التي جاءت عن طريق الرسل ونتبع الرسل فيما يأمروننا به وينهوننا عنه، أو يوم يأتيهم العذاب في الدنيا، إذا أنزل الله -تبارك وتعالى- عقوبتهم في الدنيا وواقعوا العذاب بالفعل، فإنهم يتمنون أن يبقوا في هذه الدنيا، وأن يعطيهم الله -تبارك وتعالى- فرصة ثانية ليتحقق إيمانهم وليتبعوا الرسل.

{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ........}[إبراهيم:44]، فيجاوبون على هذا الاستعطاف والدعاء لله -عز وجل-، يقال لهم {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}، أولم تكونوا؛ يعني أيها الكفار، قد أقسمتم من قبل؛ حلفتم بالله، ما لكم من زوال؛ عن هذه الدنيا إلى الآخرة، وأن هذه الحياة الدنيا إنما هي الحياة الدنيا فقط، وليس هناك انتقال من هذه الدنيا إلى الآخرة لتحاسبوا فيه على أعمالكم، أقسمتم بهذا وحلفتم الأيمان المغلظة أنه لن تقوم الساعة وليس لهم عن هذه الدنيا زوال.

{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ}، وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ممن كان قبلكم، {........ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}[إبراهيم:45]، قد تبين لكم؛ ظهر لكم، كيف فعلنا بهم؛ من العذاب والنكال، قوم فرعون الذين أغرقهم الله -تبارك وتعالى-، عاد الذين أهلكوا، ثمود هذه ديارهم وقد استأصلهم الله -تبارك وتعالى-، قرى لوط، قوم فرعون، وضربنا لكم الأمثال بهؤلاء، وقد قال لهم الله –تبارك وتعالى- يعني فيما أنزله من القرآن وعلى لسان رسله مذكرًا بمصارع هؤلاء الغابرين، فضرب الله -تبارك وتعالى- لهم أمثالهم، أنكم إذا كفرتم كان مثلكم في العقوبة كمثل هؤلاء الذين عاقبهم الله -تبارك وتعالى-، {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}.

ثم قال -جل وعلا- {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ}، قد مكروا؛ أي الكفار، مكرهم؛ مكرهم الذي قدروا عليه، يعني أنهم أتوا بغاية ما عندهم من المكر، المكر هو إيصال الشر إلى الغير بطريق خفي، فقد يكون مع إظهار المودة له؛ وإظهار المودة وإظهار خلاف ما يبطن، ثم يوصل له الشر؛ مكر به، مكروا مكرهم بالرسل، فإنهم تآمروا مؤامراتهم كيف يبطلوا دعوتهم ويوقفوها، وكيف يقتلوهم وكيف يصرفوهم عن هذا الأمر بكل أنواع الصرف، بالتهديد والوعيد تارات وكذلك بالترغيب وبالاستمالة أخرى، وبمحاولة صرفهم عن هذا الطريق إلى غيره، فلهم أنواع عملوا قد مكروا مكرهم كل ما استطاعوه أن يمكروه أن يصرفوا الرسل عن هذا الطريق بكل مكر، قال -جل وعلا- {وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ}، مكرهم عند الله وذلك أن الله -تبارك وتعالى- مطلع عليهم، عالم بقلوبهم، عالم بأسرارهم، فمكرهم أمام الرب -تبارك وتعالى- لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى- من أحوالهم، ثم وصف الله -تبارك وتعالى- عظيم مكرهم، فقال {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، يعني أن مكرهم قد بلغ من الغاية ما إن مكروا بزوال جبل لأزالوه، {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، أي من شدته ومن اتقانه وإحكامه.

ثم قال -جل وعلا- {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ........}[إبراهيم:47]، لا تحسبن؛ لا تظنن أن الله سيخلف وعده الذي وعده لرسله، فقد وعد الله -تبارك وتعالى- رسله بالعز والنصر والتمكين، وأن تكون العاقبة لهم والدائرة على الكافرين؛ هذا لابد أن يكون، {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ........}[إبراهيم:47]، لا يمكن أن يكون هذا لأن الله -تبارك وتعالى- لا يخلف وعده، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}، أصدق من الله حديثًا، لن يخلف الله -تبارك وتعالى- وعده مع رسله، وقد كان هذا الشأن في الرسل السابقين ولابد أن يكون هذا الشأن في نبيه ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، فمهما ظهر وكان هذا هو الحال في مكة من علو الكفار وعتوهم ومكرهم بالنبي ومحاولتهم استمالته تارة وتهديده تارة، ثم التآمر في النهاية على قتله أو نفيه من مكة أو سجنه فيها حتى لا يصل إليه أحد ولا يصل إلى أحد، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]، ومكرهم بأصحابه، والناظر في هذا الوقت إلى حال النبي -صلى الله عليه وسلم- وحال أهل الإيمان في مكة وحال الكفار، يرى أنه كأن الكفار الدولة لهم والأمر بأيديهم وهم الفاعلون والمسلمون بحال من الضعف والاستكانة، وكأن الأمر لا يملكون شيئًا بأيديهم، فالله -سبحانه وتعالى- يقول {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ........}[إبراهيم:47]، لا تظنن أن الله سيخلف وعده -سبحانه وتعالى- لرسله، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}، إن الله عزيز غالب –سبحانه وتعالى- لا يغلبه أحد، ذو انتقام؛ صاحب انتقام، يعني أنه ينتقم -سبحانه وتعالى- ممن يعاديه ويسعى في سبيل كف الناس وصد الناس عن سبيله، فكل من عادى الرب -تبارك وتعالى- فهو مخذول، وأنه لابد أن تقع فيه نقمة الله -تبارك وتعالى-، وانتقامه عقوبته الذي ينزلها –سبحانه وتعالى- نقمة منه لهذا العبد المجرم المعادي لله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ}، أي من أعدائه -سبحانه وتعالى-.

ثم وصف الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء في المشهد الأكبر، قال -جل وعلا- {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48]، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ}، هذا يوم القيامة، {تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ}، التبديل تبديل صورة وليس تبديل ذات محل ذات؛ أرض محل أرض... لا، وإنما هي هذه الأرض التي خلقها الله -تبارك وتعالى- تكون يوم القيامة على غير الصورة المعهودة، الصورة المعهودة أرض فيها جبال شامخة ووهاد وأنهار تجري وأشجار وأراضي أخرى منبسطة ومعالم لكل أحد، أبنية وأخبية ومغارات في الجبال، فكل هذا يتغير، وإنما تمد الأرض كمد الأديم الواحد، منبسطة ليس فيها معلم لأحد، ما فيها أي معلم لأي أحد، بيت أو عشة أو خيمة أو عمود أو غير ذلك، بل إنما هي أرض هكذا، فالجبال تنسف نسفًا، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا}[طه:105-107]، لا عوجا ولا أمتا؛ شيء مرتفع، ولا شيء منخفض وإنما تسوى الأرض تسوية، ويكون الناس في أرض متربة بيضاء ليس فيها أي معلم لأي أحد، لا أرض محددة لأي أحد ولا فيها شجرة ولا فيها شيء، يوم لا ظل إلا ظل الله -تبارك وتعالى، والسماوات تبدل فليست السماء هي هذه التي نعهدها، بشموسها وأقمارها ونجومها الزاهرات ولونها الأزرق الجميل في النهار وليلها الداكن في الليل... لا، وإنما يكون قال -جل وعلا- {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ}[المعارج:8]، يعني أنها تكون كالمعدن المذاب، ووصف النبي -صلى الله عليه وسلم- قال «تدنوا الشمس من الرؤوس»، بعد أن تكور الشمس، يذهب ضوئها ويجمع بعضها على بعض وتكون من الرؤوس قدر ميل، والناس يأخذهم العرق فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه ومنهم من يأخذه العرق إلى ركبتيه ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه ومنهم من يأخذه العرق إلى ثدييه ومنهم من يلجمه العرق ومنهم من يغطه العرق غطيط، ويقومون في هذا ما شاء الله -تبارك وتعالى- أن يقوموا.

 {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}[إبراهيم:48]، برزوا؛ ظهروا، البراز هو الظهور، والبراز هو الأرض المنبسطة التي لا يستطيع إنسان أن يختفي فيها، فبرزوا يعني ظهروا على وجه الأرض وقاموا بهذا القيام لله الواحد القهار، الواحد الذي لا ثاني له، لا ند له، لا شبيه له، لا شريك له، فهو الواحد -سبحانه وتعالى- في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته لا يشاركه أحد -سبحانه وتعالى-، فهو الرب الإله الرحمن الرحيم الملك العلام -سبحانه وتعالى-، الذي لا يشاركه في صفاته أحد القهار لكل خلقه فكل خلقه مقهورون له، والقهر هو الغلبة والإذلال، وأن يكونوا تحت الأمر والنهي لا يملكون شيئًا إلا بأمر خالقهم -سبحانه وتعالى-، فهو الذي قهر كل شيء وذلك له كل شيء، السماوات والأرض والملائكة والجن والإنس كلهم مقهورون مأمورون بأمر ربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى- لا يملك لأحد نفع ولا ضر إلا بمشيئته وإذنه، وفي هذا اليوم يبلغ القهر أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن الله {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ........}[هود:105]، لا تكلم نفس إلا بإذنه؛ ما في نفس تستطيع أن تتكلم في هذا اليوم إلا بأمر الله -تبارك وتعالى-، {........ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا(21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22)وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23)يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}[الفجر:24]، وقال {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ........}[النبأ:38]، فالروح جبريل، والملائكة ملائكة الرب -تبارك وتعالى-، {........ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا}[النبأ:38]، فلا يتكلم أحد في هذا اليوم إلا بإذنه -سبحانه وتعالى-.

{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[إبراهيم:49]، ترى؛ تنظر، هذي رؤية عين، المجرمون؛ فاعلوا الإجرام، وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذا والجرم هو الذنب العظيم، {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ ........}[إبراهيم:49]، هؤلاء المجرمون الذين كفروا بالله -تبارك وتعالى- وعادوا الرسل ومكروا بهم، ومن أمثال هذا الذين استهزأوا بالنبي ومكروا به وفعلوا ما فعلوا به -صلوات الله والسلام عليه- من الأذى والمحنة والتآمر على قتله -صلى الله عليه وسلم-، {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}[إبراهيم:49]، مقرنين يعني موثقين ويقرن المجرم بالمجرم يعني يربطون في سلاسل ويقرن بعضهم ببعض، في الأصفاد؛ الأصفاد هذه الأغلال، الأغلا والقيود التي تصفد بها أيديهم وأرجلهم، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ........}[إبراهيم:50]، سرابيلهم؛ لباسهم، السربال هو ما يلبس، يعني ملابسهم لكن تقطع لهم هذه الثياب من قطران، والقطران معروف وهو هذا القار الذي هو هذه المادة المعروفة التي تخرج من باطن الأرض؛ من النفط، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ........}[إبراهيم:50]، وهذا القطران -عياذًا بالله- إذا مسته النار يصبح له حرارة هائلة جدًا ولزوجة والتصاق بما يلتصق به فيشتد حرارته، فحرارته أكثر من حرارة النار يعني أكثر من حرارة النار، فإذا سربل بسربال القطران ثم أشعل فيه النار -عياذًا بالله- يكون حر على حر، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم:50]، يعني أن النار تأخذهم من كل مكان حتى تأخذهم كذلك فتغطي وجوههم، فهم -عياذًا بالله- في وسط النار وذلك أن النار الوجه الذي هو أشرف ما في الإنسان وأعلاه تغطية النيران -عياذًا بالله-، {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم:50]، وهذه النار نار الآخرة، نار جهنم -عياذًا بالله-.

قال -جل وعلا- {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ........}[إبراهيم:51]، يعني هذه عقوبتهم وعندما تتم هذه العقوبة ليكون هناك جزاء من الله -تبارك وتعالى- لكل نفس ما كسبت في هذا اليوم العظيم، ليجزي الله؛ جمع الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين في هذا اليوم ليكون هناك جزاء لكل نفس بما كسبت، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ ........}[إبراهيم:51]، ما كسبت؛ الذي كسبته، {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، إن الله سريع الحساب؛ سرعته أنه يعاقب العقوبة في إثر الذنب، فقد أذنبوا ثم جاءتهم العقوبة سريعًا في إثر ذنوبهم {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}، فلا يكادون ينتهون من هذه الذنوب التي أمدهم الله -تبارك وتعالى- فيها وأمهلهم ليمكروا هذا المكر ويقولوا هذا الكفر، ثم جاءتهم هذه العقوبات بعد ذلك في إثر إجرامهم، أو سرعة الحساب أنه يحاسب الناس كنفس واحدة لا يشغله حساب هذا عن حساب هذا، والمعنى الأول هو الصحيح إن الله -تبارك وتعالى- سريع الحساب يعني أنه سريع المعاقبة لهؤلاء المجرمين، فإنهم فعلوا ذنبهم ثم أتتهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- في إثر ذلك.

ثم قال -جل وعلا- {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ}، هذا الذي جاء في هذه السورة بلاغ للناس، إخبار لهم ليبلغهم فيتعظوا به، {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ}، جميعًا والنبي قد أرسل للناس جميعًا -صلوات الله والسلام عليه-، {وَلِيُنذَرُوا بِهِ}، أنزله الله -تبارك وتعالى- لينذروا به؛ يحذروا، يحذروا هذا التحذير وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذه هي العاقبة التي ستكون لهؤلاء المجرمين عنده، وفيها من العذاب ما فيها؛ ما سمعنا، {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ ........}[إبراهيم:52]، وليعلموا تمام العلم يعني يوقنوا بهذا ويعلموه، أنما هو؛ الشأن والحال أو هو الرب -سبحانه وتعالى- إله واحد في الكون كله، ليس هناك إله غيره، ما للخلق جميعًا إله إلا الله -سبحانه وتعالى-، الذي ملك كل شيء وبيده ملكوت كل شيء، والذي هو الذي يحاسب الخلق وهو الذي سيعذب من خالف أمره وسينجي من أطاع أمره، فالأمر كله إليه والحساب كله إليه -سبحانه وتعالى-، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، فلا يعبدوا إلا هو ولا يتوجوهوا إلا إليه هو، أما إذا اتخذوا إله غيره, هنا يكون قد خالفوا الحق وأشركوا بالله -تبارك وتعالى-، {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}، أنزل الله -تبارك وتعالى- ذلك كذلك ليتذكر أولوا الألباب، ليذكر أولوا الألباب يعني يستحضروا هذه المعاني وهذه العلوم التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-، وهذا التخويف وهذا الإنذار فيتذكر به أولوا الألباب؛ أصحاب العقول، اللب؛ العقل، القلب، أصحاب القلوب النيرة المستهدية فتتخذ طريقها إلى الله -تبارك وتعالى-، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن نكون من أولي الألباب.

وبهذا تكون تمت هذه السورة، السورة العظيمة؛ سورة إبراهيم، وفيها هذه المواعظ البليغة، وفيها خطاب خاص للعرب خاصة الذين ينتمون إلى إسماعيل ابن إبراهيم -عليه السلام-، خطاب خاص لهم لعلهم أن يتذكروا به، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.