الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (311) - سورة الحجر 1-16

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}[الحجر:1]، {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2]، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:3]، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}[الحجر:4]، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}[الحجر:5]، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:6]، {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحجر:7]، {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}[الحجر:8]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، هذه الآيات من سورة الحجر وهي سورة مكية، بدأها الله -تبارك وتعالى- بهذه الحروف الثلاثة المقطعة {الر}، ثم أشار -سبحانه وتعالى- إلى القرآن الكريم، فقال -جل وعلا- {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}، إشارة بالبعيد تعظيمًا لهذه الآيات المنزلة منه -سبحانه وتعالى-؛ آيات الكتاب، سمى الله -تبارك وتعالى- هذا القرآن المنزل من عنده كتابًا، فقد كتب في السماء ونزل إلى النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وكتب في الأرض، وأصبح كتابًا أعظم كتاب يحوي كلام الله -تبارك وتعالى-، هذا كلام الله ورسالته إلى العالمين، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، {وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}، القرآن هو هذا، سمي بالقرآن من القراءة، فإنه أعظم كتاب يقرأ في السماء ويقرأ في الأرض، وقرئ على لسان النبي الخاتم محمد -صلوات الله والسلام عليه-، يقرأ في الصلاة وخارج الصلاة، لم يقرأ كتاب مثله؛ مثل هذا القرآن، {........ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}[الحجر:1]، مبين يبين الحق تمامًا، لا يترك في الحق لبسًا، بل يوضح الحق أكمل توضيح، ومن توضيحه للحق أن يبين الباطل كذلك، {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55]، فهو يفصل الحق والباطل ويبين هذا وهذا ويفرق بين هذا وهذا، ويبين مراد الرب -تبارك وتعالى- وشرعته على أكمل البيان، وهو كذلك بيِّن، قرآن مبين؛ بيِّن، أنه من الله -تبارك وتعالى-، وهذي إشارة بالقرآن الكريم وذلك لتوجيه العباد إلى قيمة هذا القرآن، إنه كتاب قيم وأنه كتاب عظيم وأنه قرآن مبين، ولذلك ليقدر الناس قدر هذه الرسالة المنزلة إليهم من الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2]، ربما؛ قد يأتي للتقليل وقد يأتي للتأكيد، هنا للتأكيد، {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، يود؛ يتمنى ويشتهي، {........ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2]، قيل هذا في الدنيا، أنه قد يحصل لبعض الكفار هذا الشيء، عندما يطلعوا في حقيقة الإسلام يتمنى أن يكون مسلمين، وقد كان كفار العرب على هذا النحو بعضهم في بعض أحوالهم يتمنوا لو أنهم خلصوا وإتبعوا هذا القرآن، كما قالوا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، فكأنه الحائل بينهم وبين إتباع القرآن الذين يرون أنه كتاب عظيم في نظرهم وأنه يدعوا إلى الخير، لكنهم يروا أن الرسول ليس أهلًا لأن ينزل عليه هذا القرآن، وقد وقع لبعض الكفار نوع من التمنى أن يكون مسلمًا مع معرفته بأن هذا حق، ولكنه غره ما كان فيه من الدنيا كما وقع لهرقل عظيم الروم، فإنه كان قد قال لأبي سفيان وكان هذا في وقت بعد صلح الحديبية وأبو سفيان كافر في ذلك الوقت، أجلسه أمامه وسأله عن النبي، لما آتاه رسالة النبي –صل الله عليه وسلم- ودعوه من محمد إبن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من إتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم، يؤتيك الله أجرك مرتين، وإن لم تسلم فإن عليك إثم الأريثيين، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران:64]، لما وصله هذا الكتاب قال لجماعته أأتوني بإناس من قوم هذا الرجل الذي أرسل هذه الرسالة؛ أي من العرب، فجيء بهؤلاء كانوا تجار في الشام، جيء بأبي سفيان ومن معه من العرب، ثم قال لهم قال لترجمانه يعني أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي خرج فيكم يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان أنا، فأجلسه أمامه ثم أجلس أصحابه خلفه، وقال لأصحابه عن طريق الترجمان أنا سائل هذا الرجل عن هذا الذي أرسل الرسالة، فإن صدقني فصدقوه وإن كذبني فكذبوه، ثم سأله عشرة أسئلة وأجاب أبو سفيان، ثم قال هرقل بعد هذه الأسئلة وبعد أن فسرها لهم، قال لإن كان ما تقوله حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين؛ وكان هذا في بيت المقدس، ثم قال كلمته التي هي الشاهد الآن هنا، أنه قال ولوددت أني أخلص إليه، يقول وددت؛ أتمنى أن أخلص إلى هذا الرجل، أن يترك ملكه وما هو فيه من عزة ويأتي إلى النبي محمد، قال ولو كنت عنده -يعني الآن- لغسلت عن قدميه، قال ولو كنت عند محمد لغلسلت قدميه، وذلك تعظيمًا لشأنه وذلك لإيمان هرقل أو قوله أن هذا رسول الله، ولكن منع هرقل أن يعلن إسلامه وأن يأتي الضن بملكه، وبقي في هذا الملك وبقي كافرًا إلى أن هلك بعد ذلك، فهذا جائته ساعة وهو كافر تمنى أن يكون من أهل الإسلام، وهكذا قد يكون هناك من الكفار من إذا ظهر لهم الحق يتمنى أن يكون من أهل الإسلام، ولكن قد يصرفه ما يصرفه من الشواغل ومن الركون إلى هذه الدنيا، هذا المعنى الأول مما قاله أهل العلم في قول الله -تبارك وتعالى- {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2]، أي في الدنيا، والقول الثاني {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2]، أي في الآخرة، عندما يعاينوا العذاب فإنهم يتمنون أنه قد كانوا مسلمين في الدنيا، وأنهم أسلموا وآمنوا إتبعوا الرسول ليخلصوا مما وقعوا فيه من الهلاك والدمار، {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}[الحجر:2].

قال -جل وعلا- {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:3]، ذرهم؛ إتركهم، هؤلاء الذين عرفوا الحق وتركوه، {يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ}، يعني هذا الذي قد أصبح هو مقدار علمهم ومنتهى أملهم وشاغلهم هو الإستمتاع بهذه الحياة، الأكل فيها والتمتع بها والأمل يلهيهم، الأمل هو ما يؤمله الإنسان، ما يتمنى أن يتحقق وليس بمتحقق الآن ولكنه يتمنى أن يوجد في الزمن المستقبل، وإنتظاره لما يتحقق يأخذه وتمشي الأيام وتمشي الشهور وهو يركض خلف أمله الذي يؤمله؛ فيلهيه، يلهيه عن هذا الأمر العظيم، عن الإسلام، عن الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وإتباع الرسول والحق، ويلههم الأمل عن الحق، قال -جل وعلا- {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، تهديد؛ تهديد منه -سبحانه وتعالى-، فسوف يعلمون؛ يعني عاقبة هذا الذي صنعوه، عاقبة تركهم للإيمان بالله -تبارك وتعالى- ورسله، وإنشغالهم وركونهم إلى هذه الدنيا وتعللهم بالآمال التي يركضون خلفها كما يركض الراكض خلف السراب.

ثم قال -جل وعلا- {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}[الحجر:4]، {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ}، ما أهلك الله -تبارك وتعالى- من قرية؛ مدينة عظيمة أمة، يعيش فيها أمة، {........ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ}[الحجر:4]، يعني أن الله -تبارك وتعالى- قد أهلكها في الوقت المحدد تمامًا الذي كتب فيه نهاية أجلها، معلوم عند الله -تبارك وتعالى- قد كتبه الله وحسبه قبل أن يأتي الهلاك، فلم يكن هذا الأمر إعتباطًا ولا إتفاقًا ولا في وقت ما، بل كل أمة أهلكها الله -تبارك وتعالى- في وقتها؛ وقت إهلاكها التي حدده لها سلفًا، {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}[الحجر:5]، ما تسبق من أمة أجلها فيهلكها الله -تبارك وتعالى- قبل هذا الأجل، وما يستأخرون؛ ما يؤخرون إلى ما وراء هذا الأجل، بل يأتيهم الهلاك في الوقت الذي قدره الله -تبارك وتعالى- تمامًا، دون تأخير لهذا الأمر أو تقديم له.

ثم قال -جل وعلا- {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:6]، هذه مقالة الكفار للنبي -صلوات الله عليه وسلم-، مقالة إستهزاء به وإحتقار لشأنه وإستصغار له، {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ........}[الحجر:6]، ما قالوا يا محمد ولا يا رسول الله... لا، يا أيها الذي نزل عليه الذكر في زعمك؛ أنه ذكر وأنه من الله، {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}، وصفوه ونسبوه -صل الله عليه وسلم- إلى الجنون، فإنهم ما عقلوا أن يكون الله -تبارك وتعالى- قد إختار عبده ورسوله محمدًا -صل الله عليه وسلم-، وشرفه هذا التشريف بأن أنزل عليه رسالة من السماء؛ خصه بها من دون العالمين، وأمره أن يأخذ رسالته ليخرج بها إلى الناس ليبلغ الناس جميعًا، فقالوا هذا جنون، يعني كيف يمن الله -تبارك وتعالى- ويعطي الله -تبارك وتعالى- عبد هذه الرسالة على هذا النحو، وإنه مجنون فيما أيضًا بالنسبة للأخبار العظيمة التي أخبر بها، أنه ستكون له أمة عظيمة وأنه دينه سينتشر في الآفاق وأن الأمم ستدخل في هذا الدين وأن العاقبة ستكون له وأنه الله سيهلك الكافرين، يروا أن هذا أمر لا يصدر إلا من مجنون لا يعي ولا يدرك واقع الأمر.

ثم قالوا له {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحجر:7]، يعني هلا جئتنا بالملائكة؛ ملائكة الله -تبارك وتعالى- من السماء، ليكونوا معك ونراهم إن كنت من الصادقين حقًا، في أن الله -تبارك وتعالى- قد إختارك وأرسلك وأنزل لك هذه الرسالة، {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحجر:7]، وهذا الذي قالوه دليل على قلة عقولهم وعلى عنادهم وكفرهم، وإلا فما الغرابة في أن يختار الله -تبارك وتعالى- من عباده عبدًا، ومن خلقه ومن الناس رسول يخصه الله -تبارك وتعالى- بالهداية وينزل عليه كلمته ليبلغها للناس، هذا هو الحكمة؛ الحكمة تقتضي هذا، وأما أن يأتيهم ما إقترحوه من الملائكة قال -جل وعلا- {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ ........}[الحجر:8]، الملائكة لا ينزلهم الله -تبارك وتعالى- إلا بأمره وإلا بالحق، وإنزال الملائكة بالحق ...، من الحق في إنزال الملائكة يعني أنه ينزله على الرسول؛ يراها الرسول فقط، والرسول نفسه لما رأى الملك في صورته رعب منه رعبًا شديدًا؛ جبريل -عليه السلام-، والملائكة لو رأهم الناس على صورتهم التي خلقهم الله -تبارك وتعالى- عليها لصعقوا يعني من ساعتهم، ولم يستطيعوا أن يأخذوا عنهم شيء، ولو أتتهم الملائكة في صورة بشر لإلتبس الأمر عليهم؛ إلتبس الأمر على الناس، وهل هذا بالفعل هو ملك أم أنه إنسان جائهم من مكان أخر فالأمر يصبح مختلف، قال -جل وعلا- {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}[الحجر:8]، لم يكونوا على هذا الحال؛ منظرين يعني ممهلين إلى وقت محدد، حدده الله -تبارك وتعالى- لبقائهم في هذه الدنيا، لأنهم لو رأوا الملائكة لصعقوا، لو رأوا الملائكة على صورتهم التي خلقهم الله -تبارك وتعالى- عليها لكان في هذا نهايتهم؛ صعقوا، ولو جاء الملائكة في صورة أخرى غير صورهم؛ جائوا في صورة بشر، لأنكروهم كذلك ولإلتبس الأمر عليهم، {مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}[الحجر:8].

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9]، هذه الآية العظمى، هذي آية النبي العظمى، إنا نحن؛ الله -تبارك وتعالى- يؤكد ويخبر -سبحانه وتعالى- بأنه هو الذي أنزل هذا القرآن، إنا؛ الرب الإله -سبحانه وتعالى-، نحن؛ أكد الله -تبارك وتعالى- هذا الضمير بالضمير الأخر إنا نحن، نزلنا الذكر؛ وتأكيد كذلك بأنه هو الذي أنزل هذا الذكر -سبحانه وتعالى-، القرآن ذكر لأنه تذكير من الله -سبحانه وتعالى- لعباده بهذه الأمور العظيمة؛ لعلهم أن يتذكروا، {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، آية كذلك من آياته، وإنا؛ الله -تبارك وتعالى- الرب، له؛ لهذا الذكر، لحافظون؛ حفظ من الزيادة فيه والنقص فيه عند نزوله، وحفظ ببقائه في الأرض إلى المدة التي أراد الله -تبارك وتعالى- أن تبقى، وهي نهاية هذه الدنيا حيث يعود بعد ذلك هذا الذكر إلى الله، ويمحوه الله -تبارك وتعالى- من الأرض، فهو الذي أنزله وهو الذي حفظه ولا شك أن كل هذا دليل ومعجز، دليل على أن هذا القرآن من عند الله -تبارك وتعالى-، فأولًا أنه لم يتغير ولم يتبدل يعني في نزوله، نزل مفرق في عشرين سنة، وكان النبي تأتيه الآيات فيضعها، يقول ضعوها في المكان الفلاني وفي المكان الفلاني، فلما إنتهى إنزال القرآن إنتهى بناء القرآن كأنه في سوره سورة سورة وفي تنسيقه في السور أمر مكتمل من كل النواحي؛ لا نقص فيه، كأنه كائن حي معجز من حيث الصياغة والسلاسة والعزوبة، وتماسك وإرتباط معانيه بعضها ببعض، فالصورة كأنها كائن حي كامل يرتبط بعضها ببعض وقائم وحدة كاملة؛ وحدة موضوعية كاملة، ثم كل آية من آياته؛ هذه الآية التي تبدأ بفاصلة وتنتهي بفاصلة، هي معجزة من حيث صيغتها ومن حيث المعنى الذي إشتملته كذلك، وهو مقام التحدي، تحدى الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين بأن يأتوا بسورة من مثل سوره، فدلالة على أنه من الله دلالة قائمة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ........}[الحجر:9]، وكذلك الدلالة الأخرى حفظه، فإن الله -تبارك وتعالى- حفظه عن التغيير والتبديل، رغم حرص أعداء الله -تبارك وتعالى- على أن يغيروه وأن يبدلوه بكل سبيل، لكن الله -تبارك وتعالى- صانه، وهيأ له -سبحانه وتعالى- من الأسباب المادية والمعنوية ما يمنع أي مبطل أن يدخل فيه ما ليس منه، أو أن يخرج فيه ما هو منه، فهذي آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-؛ فتكفيهم، يكفي الكفار هذه الآية؛ القرآن على هذا النحو، ولكن الكفار يقترحون ما يشاءوا، يقترحون على الله -تبارك وتعالى- أن يأتيهم بالآيات التي هي على هواهم وعلى أمزجتهم، والحال أن الله -تبارك وتعالى- لو وافقهم وأنزل بعض هذه الآيات التي إقترحوها ولم يؤمنوا لكان في هذا إستئصالهم وعذابهم، وأما الآيات التي أنزلها الرب -تبارك وتعالى- فكافية، {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت:51]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بأن هؤلاء الكفار الذين عاندوا النبي والذين قابلوا النبي شأنهم كشأن غيرهم من أشياعهم، قال –جل وعلا- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}[الحجر:10]، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الحجر:11]، يعني حال النبي كحال من سبقه من الرسل -صل الله عليهم وسلم أجمعين-، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا}، يخبر الله -تبارك وتعالى- أنه قد أرسل، من قبلك؛ أي يا محمد، في شيع الأولين؛ شيع جماعات الأولين، شيعهم؛ جماعاتهم، الله -تبارك وتعالى- لم يترك أمة إلا وأرسل فيها نذير، {........ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر:24]، فقد أرسل الله رسله وأنبيائه تترى في كل الأمم وفي كل الشعوب، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ}[الحجر:10]، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الحجر:11]، كل هذه الجماعات والطوائف والأحزاب التي أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها الرسل، ما كان يأتيهم الرسول إلا إستهزأوا به، فكأنهم متفقون جميعًا على هذا الأمر، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ........}[الحجر:11]، أي رسول، {........ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الحجر:11]، إستهزائهم؛ إحتقارهم له وإستصغارهم له وتطنزهم وإقتراحهم عليه شتى المقترحات لتعجيزه وإظهار عجزه عن أن يأتي بما إقترحوه، نفس الأمر.

قال -جل وعلا- {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الحجر:12]، كذلك؛ يعني كهذه المعاندة والكفر مع ظهور الآيات وتبين أن هذا الرسول هو رسول الله حقًا وصدقًا ولكن الكافر يعانده هذه المعاندة، الله يخبر أنه كهذا إدخال الكفر والعناد إلى قلوب هؤلاء المجرمين، هكذا أدخل الله -تبارك وتعالى- العناد والكفر إلى قلوبهم، كذلك نسلكه؛ ندخله، سلك الأمر إدخاله ديَّت، كذلك نسلكه؛ أي الكفر والعناد، {........ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الحجر:12]، يسلكه الله -تبارك وتعالى-، يدخل هذا الريب والشك والكفر والعناد والمكابرة عقوبة منه -سبحانه وتعالى- لهم، لأنهم لما عرفوا الحق عرفوا أن هذا رسولهم وأبغضوه وكرهوه عند ذلك أعمى الله -تبارك وتعالى- أبصارهم، وأدخل الكفر والعناد إلى قلوبهم، {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الحجر:12]، {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ}، لا يؤمنون به هذا أصبح حتمًا عليهم، جعل الله -تبارك وتعالى- كفرهم به شيء لازم لهم، {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ}، ثم قال -جل وعلا- {........ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الحجر:13]، وقد خلت؛ مضت، سنة الأولين؛ السنة الطريقة والعادة التي كانت فيها، انظروا كيف الأولين تبدت لهم؛ ظهرت لهم، الأيات عيانًا بيانًا الآية تلو الآية يرونها ومع ذلك يبقوا على الكفر والعناد إلى أن يستأصلهم الله -تبارك وتعالى-، {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الحجر:12]،{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ}[الحجر:13].

ثم قال -جل وعلا- {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}[الحجر:14]، {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15]، يخبر –سبحانه وتعالى- أن هؤلاء المعاندين المكذبين لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، أنه لو فتح لهم بابًا من السماء فظلوا يعرجون فيه ويطلعهم الله -تبارك وتعالى- على آياته العظيمة، وأمور كبيرة من مكنون غيبه -سبحانه وتعالى-، ويخرم الله لهم العادة الجارية على هذا النحو فإن الصعود في السماء على هذا النحو خلاف العادة، وهو أمر خلاف سنن خلق الإنسان في هذه الأرض، فلو أن الله -تبارك وتعالى- خرق لهم العادة على هذا النحو، وفتح لهم باب إلى السماء فظلوا يعرجون إليه ويشاهدوا آيات الله -تبارك وتعالى- المنظورة، فظلوا فيه، ظلوا فيه؛ ظل تأتي لإستمر الفعل، {فِيهِ يَعْرُجُونَ}، فيعرجون في وقت ضوء ويرون من هذه الآيات، والعروج هو الصعود، {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ........}[الحجر:15]، يعني إنهم عند ذلك لم يقولوا سبحان الله، لا إله إلا الله، هذا خلق الله، هذه آياته، يرجعوا إلى الإيمان بالله، يستجيبوا للرسول... لا، وإنما ستكون مقالتهم {........ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15]، لقالوا من الكفر والعناد يتهموا أنفسهم فيقولوا إنما سكرت أبصارنا؛ التسكير القفل، يعني يقولوا أبصارنا قفلت، نحن نرى غير الذي نراه، لي هو حقيقي، وإنما أبصارنا قد سكرت فأصبحت ترى الأمر على غير محله، أو أنها قفلت فلا نرى حقيقة الشيء وإنما هذا الذي يحصل لنا إنما يحصل لنا لأننا قد سحرنا {........ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15]، والمسحور قد يرى الأمر على خلاف حاله ويتصور الأمور على خلاف حقائقها، فيخبر الله -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء الكفار قد بلغوا من العناد والمكابرة لأن الله -تبارك وتعالى- لو أطلعهم على آياته على هذا النحو وصنع لهم هذا الأمر لإتهموا أنفسهم، فمع رؤيتهم للآيات على هذا النحو إلا أنهم سيتهمون أنفسهم ويقولوا {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}[الحجر:15].

ثم وجههم الله -تبارك وتعالى- إلى آياته المنظورة في الكون، وأن هذه آية قائمة فهذه ممكن لأي صاحب عقل أن يستدل بها على وحدانية الرب -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[الحجر:16]، ولقد؛ تأكيد منه -سبحانه وتعالى-، جعلنا؛ خلقنا، في السماء؛ وهو ما علانا، بروجًا؛ هذه النجوم وهذه الشموس والأقمار، البرج هو البناء العالي العظيم، قال -جل وعلا- بروجًا؛ يعني أبينية عظيمة قائمة في هذه السماء، {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، زيناها؛ زينة السماء ديَّت، نهارًا وليلًا، زين الله -تبارك وتعالى- سماء النهار بهذه الشمس الساطعة العظيمة، وزين الله -تبارك وتعالى- سماء الليل بهذا القمر المنير وهذه النجوم المتلألئة؛ والتي يتغير منظرها كل وقت، في كل وقت تتغير قبة السماء وتظهر بمظهر أخر غير المنظر الأول، من إختفاء نجوم وظهور أخرى في مجموعات متناسقة وسلاسل عظيمة بمنظر بهي بديع، فزينها الله -تبارك وتعالى- للناظرين لينظروا بها في كل وقت، فليست هي صورة واحدة مطبوعة وإنما صورة متجددة متجددة متجددة ...، على الدوام، {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}.

{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[الحجر:17]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه قد حفظ السماء من كل شيطان رجيم، الشيطان؛ المتمرد العاتي، والعرب تسمي كل متمرد من أي جنس شيطان، فتسمي المتمرد من الإنس شيطان والمتمرد من الجن شيطان والمتمرد حتى من الحيوان شيطان، كما في الحديث «الكلب الأسود شيطان»، يعني متمرد، وقال عمر لما ركب على برزوه فهملج به قال إنما أركبتموني على شيطان، وقال -تبارك وتعالى- {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}، والمتمرد من الجن الكافر بالله -تبارك وتعالى- شيطان، سمي بذلك لأنه بعيد من شطن بعيد في الضلال، وأيضًا من كلام العامة أنهم يسمون الطفل كثير الحركة والشغب يسمونه شيطان من كثرة حركته، {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[الحجر:17]، شيطان من شياطين الجن، رجيم؛ مرجوم، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد أقام الشهب في إثرهم، الشياطين يركب بعضهم بعضًا لإستراق السمع ويرسل الله -تبارك وتعالى- الشهب في إثرهم، هذي آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، ولأن هذا الأمر يحتاج إلى شيء من التفصيل سنعود إليه -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، والشاهد هنا أن الله -تبارك وتعالى- يبين هنا آياته المنظورة لخلقه، وهذا رد على هؤلاء الكفار الذين طلبوا الآيات التي يقترحوها وقالوا {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ}[الحجر:6]، {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الحجر:7]، فرد الله -تبارك وتعالى- عليهم هذا الرد الذي سمعنا إلى أن وصلنا إلى قوله -جل وعلا- {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[الحجر:16]، {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[الحجر:17].

أكتفي بهذا -إن شاء الله-، ونعود -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.