الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}[الحجر:16]، {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[الحجر:17]، {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[الحجر:18]، {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19]، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر:20]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}[الحجر:21]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[الحجر:22]، {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}[الحجر:23]، هذه جملة من آيات الله -تبارك وتعالى- الكونية المنظورة، يسوقها الله -تبارك وتعالى- للتدليل على صدق ما جاء به الرسول -صل الله عليه وسلم- من الدعوة إلى عبادة الله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- خالق كل ما سواه، فمن آياته -جل وعلا- قال {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا ........}[الحجر:16]، جمع برج، وهي هذه النجوم والكواكب العظيمة القائمة في السماء؛ في العلو ظاهرة واضحة، وزيناها؛ أي السماء، للناظرين؛ زين الله -تبارك وتعالى- السماء للناظرين، زينة بهذه الكواكب المتلألئة التي ترصع سمك هذه السماوات، منظرها في هذا الليل هذا المنظر البديع بهذه التشكيلات المختلفة من هذه النجوم، والتي على مدار الساعة منذ بدء ظهور هذه النجوم ليلًا وإلى أن يغطيها النهار تتغير كل حين، بقبة السماء تدور ويتغير هذا المنظر دائمًا، قال -جل وعلا- {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}، تزيين دائم أي جملناها وحسناها لمن ينظر فيها، فالله -تبارك وتعالى- خلق هذه النجوم لمنافع عظيمة، أولها الدلالة على قدرته وعظمته -سبحانه وتعالى-، وأنه الخالق العليم القادرة على كل شيء، الذي قهر كل شيء وذل له كل شيء، ثم أمان لأهل الأرض، منظر جميل لهم يتمتعون بمرأها كل حين.
{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}[الحجر:17]، أنه حفظ الله -تبارك وتعالى- السماء من كل شيطان رجيم، أن يخترق هذا العلا ويتسمع إلى كلام الملائكة حيث يتكلمون في الأمر الذي قد قضاه الله -تبارك وتعالى- في السماء، من كل شيطان متمرد، رجيم؛ مرجوم، يرجمه الله -تبارك وتعالى- بالشهب، {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ........}[الحجر:18]، قال -جل وعلا- {........ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[الحجر:18]، إلا من استرق السمع من هؤلاء الشياطين فأتبعه شهاب مبين؛ يعني ورائه ليحرقه، والشهاب هو هذه الكتلة التي تخرج من النجم أو تكون موجودة في السماء، وتظهر ظاهرة واضحة كأنها سهم ينطلق له رأس، ومبين؛ بيِّن يظهر أمامنا، وقد أخبرنا الله -تبارك وتعالى- أن هذه الشهب إنما هي مسيرة بأمره -سبحانه وتعالى- وأنها تلحق الشيطان، وقد أخبر النبي -صلوات الله والسلام عليه- أن الشياطين يركب بعضها بعضًا إلى العنان؛ إلى السماء، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- إذا قضى الأمر في السماء فوق سبع سماواته تكلم بهذا الأمر فيصعق الملائكة لكلامه، أو كما قال النبي فيسمع لصوته كجر سلسلة على صفوان فيصعق الملائكة، فيكون أول من يفيق جبريل فيسأله الملائكة، يا جبريل ماذا قال ربك؟ يقول قال الحق، وهو العلي الكبير، ثم يخبرهم بما قضاه الله -تبارك وتعالى-، ثم ينتقل هذا الخبر من أهل السماء إلى سماء إلى سماء الدنيا والشياطين يركب بعضها بعضًا لإستراق هذا السمع، ليسمعون ماذا قضى الله -تبارك وتعالى- من أمر في المستقبل، فمن استرق السمع إنطلق الشهاب، فإما أن يدركه الشهاب قبل أن يلقي الكلمة إلى من دونه فيحرقه مع الكلمة فلا تصل الكلمة، وإما أن يلقي الشيطان الكلمة إلى من تحته وينطلق الشهاب فيحرقه ويكون الكلمة وصلت، ثم يتناقلها هؤلاء الشياطين واحدًا بعد واحد، لكن يخبر النبي بأن كلًا منهم يزيد فيها حتى تكون الكلمة من الصدق ومعها مئة كذبة، ثم بعد ذلك يوصلونها إلى أوليائهم من الإنس، ولذلك يأتي الخبر أحيانًا يسبق من هؤلاء العرافين والذين لهم أولياء من الجن، حتى يقول الناس وديَّت، ألم يقل لكم في يوم كذا وكذا سيكون كذا وقد كان، فتكون هذه الخبر الذي أخبر به ووقع هو من هذا الذي استرقه وأخذه الشيطان من الملائكة وبقي، ثم يكون بعد ذلك ما يحدث به الكاهن ولا يصدق، يكون من هذه الكذبات التي افتراها الجن زيادة على الكلمة الصادقة، قال -جل وعلا- {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ........}[الحجر:18]، أي من هؤلاء الشياطين، واستراق السمع هو أن يسرق ويتسمع إلى الأمر الذي قضاه الله يستمعه من الملائكة، {........ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ}[الحجر:18]، يتبعه الله -تبارك وتعالى- بشهاب بيِّن واضح يظهر في الأفق، فهذا من صنعه -سبحانه وتعالى- هذا من صنع الرب -تبارك وتعالى-.
{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19]، الأرض مددناها؛ مد الأرض هو بسطها، وسعتها وفرشها على هذا النحو البديع، وألقينا فيها رواسي؛ وهي الجبال، ألقى الله -تبارك وتعالى- في الأرض هذه الجبال في أماكنها التي أقامها الله فيها لترسوا الأرض، فتكون راسية ولا تميد ولا تتحرك بالبشر، {........ وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19]، أنبت الله -تبارك وتعالى- في الأرض من كل شيء موزون، موزون؛ مما يوزن، والوزن دليل الأمر عناية من الثمار والحبوب وما يتمتع به الإنسان من هذه الخيرات التي أنبتها الله -تبارك وتعالى- للإنسان في هذه الأرض، {........ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19]، يوزن، والوزن دليل على العناية بهذا الأمر؛ أنه أمر نفيس يزنه الإنسان، كذلك موزون يعني أنه متوازن مع غيره، فإن الله -تبارك وتعالى- جعل في هذه الأرض توازن في كل موجوداتها حتى لا يطغى شيء على شيء، نجد دائمًا أن كل شيء موجود يكون هناك فيه نسبة من نسب التوازن بينه وبين غيره، فمثلًا الحياة الحيوانية نجد أنها متوازنة، بعض الحيوانات تعيش على أن تأكل الأخر وحيوانات تعيش على النبات، ما جعل الله -تبارك وتعالى- حشرة من هذه الحشرات ولا حيوان من هذه الحيوانات يمتد وحده ولا يكون له مضاد وإلا كان غطى على غيره، فلو ذبابة من ذباب هذا الأرض ليس لها مضاد يوقفها لكان الذباب هو المسيطر على كل هذه الأرض، لو أن الأرانب مثلًا وهي مخلوق ضعيف ليس لها في هذه الأرض ما يكون مضاد لها لأفسدت الأرض كلها، لكن يجعل الله -تبارك وتعالى- لها الثعلب هذا لديَّت، وغيره من المفترسات تأكل منها فيكون هناك ثمة توازن في هذه الأرض، مما حصل الإنسان إذا تدخل بدون أن يعرف هذا التوازن ممكن أن يفسد الخلق، كما حصل في قارة استراليا عندما أخذ بعض المستعمرين ست أزواج فقط من الأرانب وألقاها في القارة، فلم يمضي إلى عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان إلا وسيطرت الأرانب على كل القارة، وكادت أن تهلك وأن تمحوا ما على القارة من الرعي، ثم قام الإنسان بعد ذلك بمكافحات طويلة حتى يحد من غلة الأرانب على القارة، {........ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19]، أنبت النبات لابد تجد كل شيء له مكافئ حتى تتم خريطة الخلق على هذا النحو البديع الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، {........ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ}[الحجر:19].
{وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ........}[الحجر:20]، جعلنا؛ إن الجعل من الخلق والتصيير، لكم؛ أيها الناس؛ فيها معايش؛ معايش في الأرض مما تعيشون فيه، المساكن التي تعيشون فيها، الصناعات والحرف التي تصنعون بها أثاثكم ومتاعكم، الأمور التي تخزنون بها طعامكم، يعني أن الله -تبارك وتعالى- هيأ للإنسان الأسباب والأساليب التي يعيش بها على هذه الأرض، {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر:20]، يعني خلقنا خلق كثير جدًا لا يعيش على رزق الإنسان وعلى إنتاج الطعام له والعناية به... لا، بل إن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقه وهو الذي يدبر شأنه، انظر إلى البحر وما فيه من هذه الأسماك والحيتان، من ملايين الملايين بمليارات الأطنان من الأسماك، هذه الله -تبارك وتعالى- هو الذي ينشئها ويرعاها ويطعمها ويرزقها، والإنسان ليس له فقط إلا أنه يصيد منها ليأكل، ولا يرزق الإنسان هذا السمك، وهذه الأنواع المختلفة والمتباينة من الحيوانات والزواحف والوحوش وغيرها مما بثه الله -تبارك وتعالى- في الأرض، تجميلًا لها وإبداعًا لها وإمتاعًا لهذا الإنسان الذي يخلق، عندما يرى أن الله -تبارك وتعالى- بث في الأرض من كل دابة مختلفة الألوان والأشكال والطباع والصفات، تمتع الإنسان بهذه الأنواع الهائلة التي بثها الله، وهذا لا يرزقه الإنسان، {........ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر:20]، لا ترزقونه بل الله -تبارك وتعالى- هو الذي يرزقه وهو الذي يعتني به -سبحانه وتعالى-، {........ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ}[الحجر:20].
{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ........}[الحجر:21]، إن من شيء؛ يعني مما يكون في هذه الأرض، إلا عندنا خزائنه؛ عند الله -تبارك وتعالى- خزائنه، يعني الزروع والثمار والأمطار كلها هذه الخيرات خزائنه بيد الله -تبارك وتعالى-، فهو الذي ينشئه ويخرجه وهو الذي ينزل منه ما يشاء -سبحانه وتعالى-، فكل خيرات هذه الأرض؛ معادنها التي زخرها الله -تبارك وتعالى- في بطنها، والمطر الذي ينزله الله -تبارك وتعالى- من فوقها، والزراعة التي يخرجها الله -تبارك وتعالى-، كل ذلك خزائنه بيد الله -عز وجل-، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ}[الحجر:21]، لا ينزل الله -تبارك وتعالى- هذا الرزق وهذا الخزائن إلا بقدر معلوم عند الله -تبارك وتعالى-، وهذه لحكم عظيمة يريدها الله -تبارك وتعالى-، بيَّن الله -تبارك وتعالى- بعض هذه الحكم لأنه لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء.
قال -جل وعلا- {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}[الحجر:22]، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، لواقح؛ إما لواقح لبعضها بعض، فالسحاب يلقح بعضه بعض عندما يصطك بعضه بعض، سحابة تكون موجبة وسحابة تكون سالبة ومن هذا الإصطكاك يحصل هذه الشرارة العظيمة؛ البرق، وهذا التلقيح ينشئ كما عرف البشر بعد ذلك أنه ينشئ مادة الكربون التي تذوب في الماء، وهي من أهم العناصر التي يحتاجها النبات لنموه، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، السحاب يلقح بعضه بعضًا للمطر ولإكساب الماء هذه الخاصية وهو ذوبان الكربون فيه، هذي من اللواقح، كذلك الرياح لواقح للنبات، فإنها تحمل حبوب اللقاح من الأشجار المذكرة إلى المؤنثة، وكذلك من الزهرة المذكرة إلى الزهرة المؤنثة، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ........}[الحجر:22]، ينزل الله -تبارك وتعالى- بعد هذا التلقيح في إصطكاك السحاب بعضه ببعض ماء؛ اللي هو ماء المطر، فأسقيناكموه؛ شربتهم منه، سقية من الله -تبارك وتعالى- لعباده، قال -جل وعلا- {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}، يعني إن الله -تبارك وتعالى- عندما ينزله يجعله يتسرب ويسير إلى هذه الخزانات العظيمة التي أوجدها الله -تبارك وتعالى- في الأرض، بعضها في بطون الجبال في بطن الجبل ينزل وهذا الجبل يأخذ هذا الماء ويمتصه ويبقى في خزائن منه ثم يخرج عيونًا من الجبل، يجعله الله -تبارك وتعالى- في الأرض ثم يخرجه الله -تبارك وتعالى- بعيون تتدفق من باطن الأرضإلى ظاهرها، أو يحفظه الله -تبارك وتعالى- في هذه الخزانات العظيمة في باطن الأرض، ثم إن الإنسان يحفر عليه ثم إنه يخرجه ويستنبطه من باطن الأرض، وهذا كله من رحمته وقدرته -سبحانه وتعالى-، أولًا أنه القادر العظيم ثم أنه الرب الإله الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ}، أن هذا فعل الرب -تبارك وتعالى- لكم.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}[الحجر:23]، الذي يفعل هذا الفعل كله ويخلق هذا الخلق كله بهذا الإحكام والتنسيق والترتيب والحكمة، قال -جل وعلا- {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ ........}[الحجر:23]، الإحياء منه -سبحانه وتعالى- والإماته منه –جل وعلا-، وإنا لنحن نحيي؛ نحيي كل هذه الأحياء، نحيي الناس، الحيوان، النبات، ونميت؛ يميتها الله -تبارك وتعالى-، والموت هو فقد هذه الحياة، {وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ}، لكل ما على الأرض وما في السماء، {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}[مريم:40]، ونحن الوارثون؛ المالكون، المالكون وأن هذا الملك وهو في أيدي من ملكه الله -تبارك وتعالى- هو لله، وكذلك يموت هؤلاء الذين ملكهم الله -تبارك وتعالى- والملك يبقى لله -تبارك وتعالى- فهو الوارث المالك -سبحانه وتعالى- الذي له الملك كله.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}[الحجر:24]، {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ ........}[الحجر:24]، المستقدمين في الحياة، وعلمنا المستأخرين الذين يأتوا بعد، المستقدمين من آدم فالقرون التي تلته إلى نزول هذا القرآن، والمستأخرين هم الذين يعني القرون التي تلي هذا إلى قيام الساعة، علم الله -تبارك وتعالى- هؤلاء وهؤلاء، فالمستقدمين الذين ماتوا أكلهم البلى قد علمهم الله -تبارك وتعالى- وأحصاهم وعدهم عدًا، وكذلك هو يعلم المستأخرين الذين الأجيال التي ستأتي بعد ذلك، {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الحجر:25]، وإن ربك؛ يا محمد، وأضاف الله نبيه إليه هنا لتشريف النبي وتعظيمه، وبيان أن هذا رب محمد هو الرب -سبحانه وتعالى- القادر على أن يحشرهم جميعًا، يحشرهم؛ الحشر هو الجمع، وإن ربك هو؛ تأكيد الأمر، يحشرهم؛ يجمعهم يوم القيامة، {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، حكيم يضع كل أمر في نصابه -سبحانه وتعالى-، ما في شيء خارج الحكمة، خارج العلم الإلهي المحكم الذي يضع كل أمر في نصابه تمامًا، عليم بأحوال خلقه -سبحانه وتعالى- لا يغيب عنه شيء -سبحانه وتعالى- من أحوال خلقه، هذه مجموعة الآيات هذا في هذا السياق هي بيان لقدرة الله وخلقه وهذه نماذج من خلقه -سبحانه وتعالى-، وفيها رد لهؤلاء الذين طلبوا آية من الله -تبارك وتعالى-، طلبوا آيه فهذه آياته؛ هذه آياته المنظورة، انظروا آياته -سبحانه وتعالى- وفيها إستدلال على أن الله -تبارك وتعالى- قادر على أن يعيدهم إلى الحياة.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان حكمته من خلق الإنسان، كيف خلقه في البداية وكيف كان الشأن مع إبليس، ثم كيف كان حكم الله -تبارك وتعالى- في النهاية وسنته مع آدم ومع ذريته ومع إبليس ومع ذريته، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:26]، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر:27]، يخبر -سبحانه وتعالى- أنه خلق الإنسان والمقصود بالإنسان هنا آدم؛ لأنه أبو البشر -عليه السلام-، قال {........ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:26]، الصلصال هو الطين الذي له صوت، إذا جف؛ يكن جف ويابس، فيكون له صوت؛ صوت الصلصلة إنما هي الصوت، نقول صلصلة الجرس اللي هو صوته عندما يضرب، {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}، حمإ؛ الطين الذي تخمر، مسنون؛ له رائحة، إسوَّد، يعني أنه طين من طين هذه الأرض خمر هذا الطين وأصبح له رائحة عندما يتخمر الطين، ثم أنه إذا يبس هذا الطين وديَّت صار صلصال، صار له صليل أي أن له رنين، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر:27]، الجان؛ وهذا جنس من أجناس الخلق ومنهم إبليس {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ}، وسمي الجان لأنه يستر؛ مستور عن الأعين، لأن جنن تأتي دائمًا للإستتار فالجان لأنه يستتر ولا يظهر، والجنة لأنها شجر ملتف ومن يدخل فيها يقوم يستر، والجنين هذا مستور في بطن أمه؛ تستره البطن، والمجنون عقله مستتر، عقله غائب مغطى، فالجان هذا الخلق يخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذا الخلق الجان قد خلقه من قبل؛ أي من قبل خلق آدم، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}، نار السموم؛ اللي هو أخبر الله -تبارك وتعالى- أن هذه النار اللي هي المتموج من النار، اللهب المتصاعد من أصل النار، فإذا أشعلت مثلًا نار كنار الخشب أو نار الفحم فإنها يطلع لها هذا اللهب المتموج من هذا النار، وسمومه هي حرارته التي تنبعث فيه، قيل أنها السموم لأن إذا كان إنسان فيها تدخل إلى مسام الجلد، خلق الله -تبارك وتعالى- هذا الجان من مارج من نار {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}، والله -تبارك وتعالى- يخلق ما يشاء مما يشاء، إذن عندنا أصبح ثلاث أجناس من الخلق، قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»، مما وصف لكم فآدم خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين، والجن خلقهم الله -تبارك وتعالى- من نار السموم، وخلق الله -تبارك وتعالى- الملائكة من النور، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر:27].
قال -جل وعلا- {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:28]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ}، اذكر إذ قال ربك؛ للملائكة؛ الملائكة في السماء، خلق الله -تبارك وتعالى- وهم مخلوقون من نور، قال لهم {........ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:28]، خالق بشرًا؛ هو آدم -عليه السلام-، قيل سمي بشرًا لظهور بشرته، يعني أن بشرة الإنسان؛ البشرة اللي هي الجلد ظاهر، لا يكسوها الصوف ولا يكسوها الشعر كالماعز أو الشياه أو وبر كالجمل، بل جسم الإنسان بشرته ظاهرة، {........ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:28]، من هذه المادة، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29]، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}، أي أعطاه الله -تبارك وتعالى- صورته السوية وهيأه -سبحانه وتعالى-، نحته من الطين على هذا النحو اللي هو نحو خلق الإنسان، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}، نفخت فيه من روحي يعني روح مخلوقة، هل هي روح مستقلة؟ أم هو روح جبريل اللي هو روح الله؟ فقد جاء أن جبريل هو روح الله كما في {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193]، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195]، نزل به الروح الأمين؛ جبريل، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}، قل نزله؛ أي القرآن، روح القدس؛ الروح المقدسة، وقد أخبر -سبحانه وتعالى- أن خلق عيسى إنما كان بنفخة من جبريل، قال -جل وعلا- عن مريم {........ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}[مريم:17]، فأرسلنا إليها روحنا؛ أي جبريل -عليه السلام-، {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا}، {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا}[مريم:18]، {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا}[مريم:19]، أنا رسول الله، فنفخ جبريل –عليه السلام- في مريم وكان منها عيسى، كما قال -تبارك وتعالى- {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ........}[التحريم:12]، فنفخنا فيها؛ في مريم، من ورحنا؛ والنافخ هو جبريل -عليه السلام-، وقال الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[آل عمران:59]، فمثل عيسى في الخلق كمثل آدم، فعيسى كان بنفخة الملك؛ روح الله -تبارك وتعالى-، وآدم كذلك قد كان بنفخة من روح الله -تبارك وتعالى-.
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29]، والفاء للتعقيب يعني بمجرد أن يصبح هذا الإنسان حيًا بنفخ الروح فيه فاقعوا له ساجدين، والوقوع هنا يعني مباشرة، ليس السجود بتمهل وإنما وقوع بالسجود له {فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}، إمتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى- وتكريمًا من الله -تبارك وتعالى- لهذا الإنسان، قال -جل وعلا- {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر:30]، فسجد الملائكة؛ الملائكة جميعًا سجدوا كلهم، الملائكة بالألف واللام تدل على أن الجميع سجد لله -تبارك وتعالى-، كلهم؛ تأكيد، أجمعون يعني في وقت واحد كلهم وقعوا إمتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى-، ساجدين لآدم كما أمرهم الله -تبارك وتعالى-.
نقف عند هذا ونكمل -إن شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.