الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده والرسول الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:26]، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ}[الحجر:27]، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:28]، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29]، {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر:30]، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:31]، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:32]، {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:33]، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر:34]، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن خلق آدم -عليه السلام-، هذا منه -سبحانه وتعالى- تذكير لهؤلاء البشر بقصة الخلق؛ بأبيهم آدم، كيف كرمه الله -تبارك وتعالى- وكيف أمر الملائكة بالسجود له، وكيف كانت النهاية بأن حقد وحسده إبليس وكان ما كان من ما قصه الله -تبارك وتعالى- علينا، من أخذ إبليس العداوة على نفسه أن يعادي آدم وذريته، تذكير من الله -تبارك وتعالى- يخبر -جل وعلا- قال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:26]، الإنسان؛ آدم، أبو البشر جميعًا، من صلصال؛ طين، إذا يبس كانت له صوت، من حمإ مسنون؛ طين قد خمر وأصبحت له رائحة، {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ........}[الحجر:27]، من قبل خلق آدم، {مِنْ نَارِ السَّمُومِ}، من مارج من نار، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا ........}[الحجر:28]، أخبر الله -تبارك وتعالى- الملائكة قبل أن يخلق آدم بخلقه، ومن المادة التي سيخلقه منها -سبحانه وتعالى-، وأنه عندما أن يستوي مخلوقًا عليهم أن يسجدوا جميعًا له، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:28]، {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}، تسويته أي من الطين على الصورة التي خلقه الله -تبارك وتعالى- عليها، {........ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}[الحجر:29]، قال -جل وعلا- {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ}[الحجر:30]، الملائكة بالأف واللام؛ جميع الملائكة، وقال الله -تبارك وتعالى- كلهم؛ هذا للتأكيد، حتى لا يقال بأنه تجاوز الملائكة وأنه كان هناك من سجد وهناك من لم يسجد، فقال الله -تبارك وتعالى- كلهم، ثم أجمعون يعني في وقت واحد، يعني جميعهم في وقت واحد إمتثالًا لأمر الله -تبارك وتعالى- سجدوا لآدم.
قال -جل وعلا- {إِلَّا إِبْلِيسَ}، إبليس رأس هؤلاء الشياطين وهو من الجن، كما قال -تبارك وتعالى- {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:31]، لم يستجب لأمر الله -تبارك وتعالى-، والإباء هو الإمتناع، أن يكون مع الساجدين؛ يعني مع هؤلاء الملائكة، والأمر لا شك أنه قد وجه إلى الجميع وإبليس قد كان في السماء مع الملائكة، وكان واجبًا عليه أن ينصت ويسمع لأمر الله -تبارك وتعالى- ويستجيب، ولكنه أبى أن يكون مع الساجدين من الملائكة، قال الإله الرب -تبارك وتعالى- موجهًا الكلام له، {........ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:32]، سؤال ليظهر إبليس ما في نفسه وإلا فالله -تبارك وتعالى- يعلم الذي منعه من السجود، ولكن ليظهر هذا وليكون إقرار منه على ذنبه وخطيئته، {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:32]، يعني ما الذي حملك ألا تمتثل لأمر الله -تبارك وتعالى- وتكون مع الساجدين، {قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:33]، لم أكن لأسجد لبشر؛ يعني إن هذا لا يمكن أن يكون ولا يتأتى، أن أسجد لهذا البشر الذي خلقته من صلصال من حمإ مسنون، وقوله هذا يعني أن هذا هو دونه في الخلق، قال {........ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}[ص:76]، والنار تأكل الطين وهي أرفع منه وأفضل منه مادة، يقول أنا أحسن منه مادة وعنصرًا وأعلى منه مقامًا، فكيف يسجد الفاضل للمفضول، وهذا إعتراضًا على أمر الله -تبارك وتعالى- ورد لهذا الأمر واستكبار، والأصل في أمر الله -تبارك وتعالى- أن يطاع، قال؛ أي لما ظهر منه هذا الكبر والتعالي عن أمر الله -تبارك وتعالى-، بل وكأنه رأى أن أمر الله ينافي الحكمة وينافي المنطق، إذ كيف وهو الأفضل والأشرف يسجد لمن هو دونه في الخلق.
قال -جل وعلا- {........ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}[الحجر:34]، طرد؛ طرده الله -تبارك وتعالى- منها، قيل من الجنة أو من الملأ الأعلى اللي فيه، أو منها أي من رحمة الله، فإنك رجيم؛ فعيل بمعنى مفعول، مرجوم، والرجم؛ الضرب بالحجارة، القذف، فهو مقذوف بكل لعنة، مقذوف بكل لعنة من لعنات الله -تبارك وتعالى-، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35]، عليك هذه اللعنة إلى يوم الدين، واللعنة هي هذه ما أصابه من سخط الله -تبارك وتعالى- ومن عقوبته، وأصل اللعن في لغة العرب هو النفي من القبيلة، فإن القبيلة العربية إذا كان لها إبن تكثر جرائره وتكثر جرائمه ويفعل ما تعير به القبيلة كلها، فإنها تنفيه عنها، وفيه هذا؛ لعنه، وتذهب في الأسواق وتعلن أنها نفت هذا الشخص منها، وأن جرائمه وجرائره على نفسه وعاره عليه وليس على القبيلة، واللعن في لغة القرآن من يلعنه الله -تبارك وتعالى- هو من طرده من رحمته -سبحانه وتعالى- وأخرجته عن ولايته، {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ}[الحجر:35].
قال أي إبليس زيادة في غيه وضلاله، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر:36]، أنظرني؛ أمهلني، الإنظار هو الإمهال، ومنه قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، فنظرة يعني إذا كان ذو عسر المدين فنظرة؛ إمهال، إلى أن يتيسر له ما يسد به دينه، أنظرني إلى يوم يبعثون يعني أمهملني لا تحكم علي بالموت، إلى يوم يبعثون؛ إلى اليوم الذي تبعثهم فيه للحساب، قال أي له الرب -تبارك وتعالى-، {........ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الحجر:37]، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر:38]، أجابه الله -تبارك وتعالى- سئله وهذا لزيادة حسرته وندامته وزيادة سيئاته، فهو يزداد في السوء، طلب ما يزداد به سوءًا فاعطاه الله -تبارك وتعالى- سئله، {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ}[الحجر:37]، {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}[الحجر:38]، قال؛ أي إبليس، برده سيرًا في الغواية وفي الضلال، لم يقطع غوايته ويعود إلى الله بل سار في غوايته، {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:39]، قال ربي؛ أي يا ربي، بما أغويتني؛ فنسب ما وقع فيه من الغواية والضلال وهو رؤية الأمر على غير حقيقته وبدل من الطاعة آثر المعصية، قال {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ}، أزينن لهم؛ التزيين هو التحسين والتجميل، وأزينن لهم ما قال هنا الذي سيزينوه والذي سيزينه الشيطان هو كل خروج عن طاعة الله، بدءًا من الشرك بالله يزينه ويحسنه في نظرهم، ونهاية بكل معصية وخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، فهذا فعل الشيطان أن يزين ويجمل ويحسن لهؤلاء؛ لبني آدم، كل خروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى-، {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}، ثم إستثنى قال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40]، لأغوينهم وغوايتهم هي إضلالهم بصنوف الضلال، أجمعين؛ جميعًا، {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40]، يعني إلا العباد الذين تستخلصهم أنت وتخلصهم ولا يكون لي سلطان عليهم، {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40]، والمخلص يعني الذي خلصه الله -تبارك وتعالى- وحماه وأخرجه من غواية الشيطان.
قال؛ أي الرب -سبحانه وتعالى-، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]، هذا صراط علي مستقيم؛ يشير الله -تبارك وتعالى- إلى الدين والشرعة والمنهاج، الذي يشرعه لعباده المؤمنين ليسلكوا فيه ويدخلوا فيه، {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]، شرعة الله وهو صراط على الله مستقيم، يعني أنه هو صراط بدئه هنا في الأرض ونهايته في السماء وفي الآخرة، عندما يلتقي هؤلاء المؤمنون بربهم -سبحانه وتعالى-، فيكرمهم بكرامته ويفيض عليه رضوانه ويدخلهم جنته -سبحانه وتعالى-، {........ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ}[الحجر:41]، لا عوج فيه، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ........}[الحجر:42]، إن عبادي؛ المنسوبين إلى الله -تبارك وتعالى-، الذين أضافهم الله -عز وجل- إليه وجعلهم عباده حقًا، {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}، نفى الله -تبارك وتعالى- أن يكون للشيطان أي تأثير عليهم، والسلطان هو السلطة والقوة والقهر، وسلطة الشيطان ليست هي بقوة وقهر وإنما هي بإضلال وتزيين وديَّت، كما يقول الشيطان يوم القيامة عندما يخطب في أتباعه {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}، هذا سلطاني، فسلطانه هو أن يدعوا أوليائه ويزين لهم الشر فيتبعوه على ذلك، ليس لك عليهم من سلطان أن يحميهم الله -تبارك وتعالى- من أن تطولهم غوايته، {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، إلا من إتبعك من الغاوين؛ الغاوي الضال، الذي دخل طريق الغواية والضلال وحسن في عينه تزيين الشيطان لمعاصي الرب -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- متهددًا لهم، قال {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:43]، جهنم هذه الدار، هذا السجن العظيم، هذه النار المحرقة، نار الله الموقدة، التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وهيأها وزخرها لأهل معصيته، لموعدهم؛ موعدهم النار، وموعدهم ويكون يوم القيامة، لموعدهم أجمعين؛ ما يستثنى منهم أحد ولا يتخلف منهم أحد عن هذه الدار، أحد من الغاوين لن يستثنى ولن يترك ديَّت، وإنما سيجمعون جميعًا إليها، {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:43] {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ}، وأبوابها ليست على متستوً واحد؛ المستوى الأفقي، وإنما هي باب أسفل باب فأسفل باب فأسفل باب ...، هكذا يعني ذهابًا إلى العمق، لها سبعة أبواب كل باب فوق باب، وذلك أن كل باب يؤدي إلى طبقة من طبقاتها -عياذًا بالله-، والنار دركات؛ دركات نزولًا، كما أن الجنة درجات صعودًا، {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، لكل باب من هؤلاء الضالين جزء يدخلون منه، مقسوم؛ قسم عن الأخرين، وعرف وحدد، فهذا جزء محدد، قسم من هذه الأقسام التي تدخل النار كل منهم يدخل من الباب الذي كتب الله -تبارك وتعالى- أن يدخل منه، فهذا هو المآل والنهاية في كل من أطاع هذا الشيطان، وهذي كلمة الله -تبارك وتعالى- التي لابد أن تكون.
ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- عن أوليائه، قال {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الحجر:45]، إن المتقين؛ المتقين جمع متقي، والمتقي هو الخائف الذي جعل بينه وبين عذاب الله وقاية، خاف عذاب الله -تبارك وتعالى- فجعل حماية، الوقاية هي الحماية بينه وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يكون هناك حماية للعبد من عذاب الله إلا بطاعة أمر الله -تبارك وتعالى-، طاعته فيما أمر والإنتها عما نهى الله -تبارك وتعالى- عنه، يفعل كل هذا خائف من الله -تبارك وتعالى-، راجيًا ما عند الله -تبارك وتعالى- خائف من عقوبته، هذا المتقي؛ المتقي الذي يخاف الله -تبارك وتعالى- واتقاه، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ ........}[الحجر:45]، بساتين، الجنات جمع جنة والجنة هي البستان العظيم، وعيون؛ عيون جارية من الماء في هذه الجنات، فهي جنات تسقيها هذه العيون الجارية الدائمة؛ نهر مطرد، كما جاء في الحديث «الجنة شجرة مثمرة ونهر مطرد وحورية حسناء»، فهذي ديَّت، {........ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الحجر:45]، {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}[الحجر:46]، هذا ما يقال لهم عند دخول الجنة، ادخلوها؛ يعني أيها المتقون، بسلام؛ بأمن وطمأنينة وراحة بال، آمنين؛ من كل شر، ليس في الجنة شر قط، شر بالخروج منها، شر بأمراض، بأسقام، بأوجاع، بسباب، بشتائم، بأ منغص، لا منغص، أمن من كل الشرور، {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}[الحجر:46].
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ........}[الحجر:47]، فهذا كذلك من الأمور التي أمنهم الله -تبارك وتعالى- بها، أن يكون بين إثنين خصومة ممن يدخلوا الجنة، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ........}[الحجر:47]، من الذي كان في الدنيا، فإنه قد يكون بين أهل الطاعة في الدنيا شيء من الغل والحسد والحقد، وقد يكون بعضهم قد خاصم بعضًا خصومة من هذه الخصومات، لكن إذا دخلوا الجنة فإن الله -تبارك وتعالى- ينزع كل ذلك من قلوبهم، حتى لا يبقى بين إثنين من هؤلاء المتقين خصومة ولا إحنة ولا تباغض، بل يكون هناك التصافي التام والحب التام، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر:47]، يعني حال كونهم إخوانًا، إخوان بالألف والنون ما قال إخوة؛ إخوانًا، للمبالغة في الأخوة يعني أنهم في غاية معنى الإخوة فيما بينهم، {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، سرر؛ هذه مجالسهم، مجالسهم سرر وهذه السرر جمع سرير، والتي يجلسون عليها منسوجة من الحرير، كما قال -جل وعلا- {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15]،{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا ........}[الواقعة:16]، مفروشة، {مُتَقَابِلِينَ}، والفرش التي يتكئون عليها فوق هذه السرر قال الله -تبارك وتعالى- في الطائفة العليا، قال {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}، ذكر البطانة، الإستبرق؛ الحرير، والدنيا قال الله -تبارك وتعالى- {........ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ}[الرحمن:76]، فهم على سررهم المنسوجة من الذهب والتي وضعت تكايا الحرير أو التي بطائنها الحرير فوقها، وهم متقابلون يعني يقابل بعضهم بعضًا في المجلس، وهذا من كمال جلوسهم أنه كل منهم يقابل أخاه، {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.
{لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ........}[الحجر:48]، المس؛ أدنى الملامسة، نصب؛ تعب، يعني لا يأتيهم قليل التعب الذي يمسهم مس، ما في أي تعب فيها وذلك أنه لا عمل فيها ولا شغل فيها، بل هم في قمة الحياة والنشاط والقوة وهم مخدومون من كل شيء، لا كسلًا بل إكرامًا لهم، كل شيء يأتيهم حيث يشاءون بالتمني؛ حتى الإشارة ديَّت، فثمار الجنة دانية، قطوفها دانية، {........ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}[الإنسان:14]، بالنظر؛ إذا نظر المؤمن المكرم إلى ما يشتهي من الثمر فإن الفرع ينزل عنده ليأكل منه، ثم إذا أكل ما إستلذه منه رجع الغصن إلى مكانه، يريد الشرب من النهر يفجر ماء النهر يأتيه حيث يكون، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا}، ينتقل بلا عناء وديَّت، يطير سريره إلى حيث يشاء من الجنة، فهم في راحة كاملة لا كد للعمل، ما يعمل ليزرع أو ليحصد أو ليجني الثمرة أو يعالج طبخ طعامه، بل أي شيء يريده من طعامه تأتي الطير فتطير في الجنة فيشتهيها فتخر بين يديه مشوية كما يشاء، يأكل منها ما شاء ثم تقوم تعود طيرًا في سماء الجنة، فليس هناك أي معالجة لأي أمر من الأمور يعالجه ويتعبه، يصعد على نخلة ليأتي بثمرتها أو يجمع ثمار، يغسل آنية، يغسل ثوبه، يرتقه... لا، لا عمل لأهل الجنة في معالجة شيء من معاشهم ولذائذهم قط، {لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ........}[الحجر:48]، قط، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}، لا خروج لهم من الجنة، وقد قيل بأن هذه الآية هي أعظم نص في الخلود، أعظم نص للخلود في الجنة وعد بالخلود فيها هو هذا النص {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}، يخبر -سبحانه وتعالى- أن أهل الجنة لن يخرجوا منها {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}، إذن هم باقون فيها بقاءًا لا إنقطاع له، هذا إخبار الله -تبارك وتعالى- ووعده -سبحانه وتعالى-، الآيات الآن عرضت المآل الذي سيئول إليه أتباع الشيطان المآل الذي سيئول إليه عباد الرحمن، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ........}[الإسراء:65]، هذه مآل هؤلاء {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:43]، {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ}[الحجر:44]، يدخلون فيها ثم تغلق هذه الأبواب وتوصد، {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ}[الهمزة:8]، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}[الهمزة:9]، وهذه الجنة بهذه الصفات وأهلها على هذا النحو من الإكرام المتناهي ومن الخلود الدائم الذي لا يبغي أهل الجنة عن الجنة حولًا {........ لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]، {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}.
بعد هذا يأتي بيان صفة الله -تبارك وتعالى-، ولماذا كان الأمر على هذا النحو عند المعاندين المكذبين وعند المؤمنين الموحدين المتقين، قال -جل وعلا- {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، هذه هي صفة الرب -تبارك وتعالى- ومن آثار هذه الصفة كانت عقوبة المجرمين وكرامة المتقين، {نَبِّئْ عِبَادِي}، النبأ هو الإخبار بالخبر العظيم، عبادي؛ جميعًا، عباد الله -تبارك وتعالى-، ولكن الذي يستفيد بهذا التنبيه هم عباده الذين إختاروا عبودية الرب -تبارك وتعالى- إختيارًا من أهل الإيمان، {........ أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، أني أنا؛ الرب -سبحانه وتعالى-، المتصف بأنه الغفور؛ والغفور هو الذي يستر، الغفر هو الستر ويستر العيوب، يستر المعاصي لعبده المؤمن التائب الراجع إليه فيغفرها له، يمحوها -سبحانه وتعالى- ويغطيها له ولا يفضحه بها ولا يعاقبه عليها، الرحيم؛ -سبحانه وتعالى- من الرحمة، وهذا من رحمته، المغفرة من رحمته -سبحانه وتعالى- والرحيم كذلك بعباده الذي يكرمهم، يواليهم، ينصرهم، يرزقهم، يجنبهم الشيطان، هذا كله من معاني رحمته -جل وعلا- الرحيم، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، وأن عذابي؛ عقوبته -سبحانه وتعالى-، هو العذاب الأليم؛ لا عذاب كعذاب الله -تبارك وتعالى-، لا يعذب أحد أعدائه كما يعذب الله -تبارك وتعالى- أعدائه، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، لا أحد يوثق أعدائه كما يوثق الله أعدائه، فمهما عرفت القيود والأغلال وكذا مما يأخذه الإنسان يعني يصنعه الإنسان للإنسان الذي يعاديه، لا يقاس هذا بتاتًا، لا مجال للقياس والمقارنة بين إيثاق الإنسان للإنسان يعني نكاية فيه ونكالًا به، وبين تقييد الله وإيثاقه وجعله -سبحانه وتعالى- الأغلال في أعناق وأيدي وأرجل المعاندين له، وكذلك ليس عذاب ...، الإنسان مهما بلغت قوته لإنسان أخر كعقوبة الله -تبارك وتعالى- لمن يعاقبه، {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25]، لا أحد يعذب كما يعذب الله، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26]، لا يوثق أحد كما يوثق الله -تبارك وتعالى- أعدائه، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، فعذاب الله هو العذاب ولا يقاس به أي عذاب أخر لغيره -سبحانه وتعالى-.
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- صورة من صور كذلك من صور عفوه ورحمته وعنايته بالمؤمنين وعقوبته للكافرين، فقال {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}[الحجر:51]، هذه القصة فيها الأمران، فيها ما هو دليل على رحمة الله -تبارك وتعالى-، أنه الغفور الرحيم العفو الكريم -سبحانه وتعالى-، المتفضل على عباده المؤمنين بصنوف إفضاله وإنعامه، وفيها كذلك كيف أن الله -تبارك وتعالى- يعاقب أعدائه، قال {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}[الحجر:51]، {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}[الحجر:52]، ضيف إبراهيم الذي أضافهم إليه عندما أتوه وزاروه هم ثلاثة من الملائكة، أتوه على رأسهم جبريل، جائوا إليه ليبشروه بأن الله -تبارك وتعالى- سيرزقه ولد من زوجته سارة، وهم في طريقهم إلى إهلاك قرى لوط، فقد جائوا بالبشرى لإبراهيم وجائوا بالهلاك لقوم لوط الكفرة، وهو نزلة واحدة، مهمة واحدة من السماء، لكن هذه المهمة فيها رحمة لبعض خلق الله -تبارك وتعالى- وهم أوليائه؛ لإبراهيم ولوط وأهله، وعقوبة من الله -تبارك وتعالى- لقوم لوط، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}[الحجر:51]، {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ}[الحجر:52]، وإلى آخر هذه القصة سنعود إلى ما قصه الله -تبارك وتعالى- من قصة إبراهيم ولوط وذلك في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.