الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}[الحجر:85]، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[الحجر:86]، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[الحجر:88]، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}[الحجر:89]، {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}[الحجر:90]، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}[الحجر:91]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92]، {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، {الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}[الحجر:96]، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}[الحجر:97]، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:98]، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، هذه مجموعة من المواعظ والتوجيهات من الله العليم الكبير -سبحانه وتعالى- إلى عبده ورسوله محمد -صل الله عليه وسلم-، وجائت في ختام هذه السورة؛ سورة الحجر، وكان السياق قبلها في بيان ما عاقب الله -تبارك وتعالى- به مجموعة من الأمم، الذين كانت أماكنهم حول هذه الجزيرة العربية التي بعث فيها النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فقد قص الله -تبارك وتعالى- ما كان من أمره -سبحانه وتعالى- ومن دعوته في إهلاك قرى لوط، ثم بعد ذلك في إهلاك مدين وإهلاكه لأصحاب الحجر، وهم الحجر؛ حجر ثمود، وهذه من مصارع هؤلاء كان مما يعرفه أهل الجاهلية العرب، خاصة قريش في أثناء رحلتها إلى الشام فكانت تمر؛ تمر بالحجر فتراه، وكذلك تمر بقرى لوط في وادي الأردن، وتشاهد كذلك أرض معان في مدين، فذكرهم الله -تبارك وتعالى- بمصارع هؤلاء الغابرين، وحذرهم -سبحانه وتعالى- بعد قوله {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[الحجر:49]، {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ}[الحجر:50]، {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}[الحجر:51]، الذين جائوا يبشرونه، ثم جائوا كذلك بالهلاك لقوم لوط.
بعد هذا قال الله -تبارك وتعالى- في ختام هذه السورة، قال {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ........}[الحجر:85]، هذا إخبار منه -سبحانه وتعالى- أنه ما خلق السماوات والأرض إلا بالحق، خلقها حق ثم إن الله -تبارك وتعالى- خلقها بالحق، غاية هذا الخلق الحق وهي أن يقوم هذا الخلق بعبادة الرب الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، فهذي غاية عظيمة شريفة فإن حق الله -تبارك وتعالى- على مخلوقاته أن يعرفوه وأن يعبدون وحده لا شريك له، لذلك خلق الله -تبارك وتعالى- الخلق ليعبدوه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، فقيام السماوات والأرض قيام بالحق وقيام لهذا الحق، الظن بأنه لا رسالة ولا طريق ولا أمر لله -تبارك وتعالى- ولا نهي في هذه الدنيا، وأن الحياة تنتهي بالموت ولا حكومة بعد ذلك هو إتهام لله -تبارك وتعالى- بأنه خلق هذه السماوات والأرض عبثًا وسدى، لا غاية لها، لا هدف لها، الهدف أن يوجد ناس في هذه الأرض يتصارعوا فيها، يأكلوا فيها، يشربوا فيها، يسلب بعضهم بعضًا، يفعلوا فيها ما يشاءون، لا أمر لخالقهم عليهم، وبالتالي يكون في النهاية تنتهي النهاية، قد يموت الظالم وهو ظالم ويموت المظلوم وهو مظلوم مطحون، وبالتالي لا يأخذ محسن جزاء إحسانه ولا مسيء جزاء إسائته، إذن هذا أمر لا شك يكون بهذا الخالق الذي خلق هذا خلق خلقه بغير هدف وبغير غاية وسدى، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[القلم:35]، {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:36]، فيخبر -سبحانه وتعالى- أنه ما ما خلق السماوات والأرض وما بينهما من هذه المخلوقات العظيمة؛ النجوم والكواكب والمجرات إلا بالحق، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ}، لابد أن الساعة وهو يوم القيامة، سماه الله -تبارك وتعالى- بالساعة لأن له وقتًا محددًا لابد أن ياتي، لآتية؛ يبين الله -تبارك وتعالى- يؤكد أنها لابد أن تأتي، لأن هذا تحقيق لهذا الحق الذي من أجله خلق السماوات والأرض، قال -جل وعلا- {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، ما دام الأمر على هذا النحو فاصفح الصفح الجميل، أصل الصفح هو الإعراض عن المشركين وعن أذاهم، ومأخوذ من صفحة الإنسان كأن الإنسان كأن من يعرض عنهم يأتيهم صفحة وجهه ويبتعد عنهم، والصفح الجميل هو الإعراض عن هؤلاء المكذبين المعاندين دون سب وتشهير وشتم، اصفح الصفح الجميل مع الذي يكون مع صبر ومع التوجه إلى الله -تبارك وتعالى- وعدم الدخول مع هؤلاء السفهاء في سفاهاتهم، ومثله قول الله -تبارك وتعالى- {........ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63].
{فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[الحجر:86]، إن ربك؛ الذي أرسلك يا محمد، هو الخلاق؛ صفة مبالغة من الخلق، وهو الخلاق وحده -سبحانه وتعالى-، هو الخالق وحده، الله خالق كل شيء، هو الذي يتولى الخلق وحده -سبحانه وتعالى-، ولا يخلق مع الله -تبارك وتعالى- غيره، لم يجعل الله -تبارك وتعالى- لمخلوق يدًا في خلق شيء ولا ذرة، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22]، ليس لله معين في خلق شيء ولو ذرة، والخلاق العليم بكل خلقه، العليم بكل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- في كل وقت، عليم بهم قبل أن يخلقهم، عليم بهم في كل وقت تسير فيه حياتهم، العليم بمآلهم ومصائرهم.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، توجيه من الرب -تبارك وتعالى- إلى العطاء الكبير الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- لرسوله؛ والفضل العظيم، الكنز الذي ليس كمثله كنز، الفوز الأكبر، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي ........}[الحجر:87]، سبعًا؛ قيل سبعًا من السور؛ سور القرآن، المثاني؛ التي تثنى، تقرأ المرة بعد المرة بعد المرة بعد المرة ...، {وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، فالسبع المثاني هي القرآن العظيم هنا من باب عطف عام على خاص، فالسبع المثاني خاصة قيل هي السبع الطوال، والقرآن العظيم كل القرآن، فالقرآن كله عظيم، إمتنان هنا من الله -تبارك وتعالى- بإنزال هذه السور العظيمة على نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- وفيها كل الخير، هذا حديث الرب، كلامه، هدايته -سبحانه وتعالى-، بيانه للطريق، تبصيره أهل الإيمان بكل شيء، تبصيره بكل شيء حتى بسبيل المجرمين، أعمالهم، صفاتهم، هدمه -سبحانه وتعالى- ودمغه لباطلهم، ما في من باطل إلا ودمغه الله -تبارك وتعالى-، تصبير وتثبيت للنبي وضرب الأمثال، أمر عظيم هذه اللي هي موضوعات القرآن، والسبع المثاني الطوال لا شك أنها البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف هذه قد إشتملت على غايات الدين كله، وعلى موضوعات القرآن جميعًا، وأيضًا قيل سبعًا من المثاني اللي هي الفاتحة سبع آيات، وهي مثاني؛ تثنى، تقرأ الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، والفاتحة وجه الإمتنان بها أنها مقدمة القرآن، وهي المعنى الجملي والإجمالي لكل الدين، جمع الله -تبارك وتعالى- فيها حقائق الدين كلها.
{بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ}[الفاتحة:1]، آية، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، آية، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، آية، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، آية، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[الفاتحة:5]، آية، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}[الفاتحة:6]، آية، {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}[الفاتحة:7]، آية، هذي سبع آيات تثنى، وهذه السبع مقدمة القرآن جمعت فيها كل علوم القرآن في هذه الفاتحة، بل كل علوم الدين في هذه الفاتحة، وقد يسر الله -تبارك وتعالى- شرحها وبيانها في الدروس السابقة، وقد إعتنى بها علماء التفسير عناية خاصة في معانيها لإشتمالها على الدين كله، وجاء الشرع بوجوب العناية فيها، فلا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب، ومما يدل على أن السبع المثاني الفاتحة وهي لعلها المقصودة هنا في هذه الآية، أن النبي -صل الله عليه وسلم- في حديث الصحيحين أنه قال لأبي إبن كعب -رضي الله تعالى عنه- وكان أقرأ الصحابة وأحفظ الصحابة بالقرآن، قال له النبي «لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد»، شوقه بهذا، «ثم إنه خرج مع النبي حتى إذا أراد النبي الخروج من باب المسجد فقال له يا رسول الله قلت لي كذا وكذا، فقال له فاتحة الكتاب هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»، قاله فاتحة الكتاب أعظم سورة في القرآن، هي السبع المثاني يعني السبع آيات المثاني تثنى، وهي القرآن العظيم الذي أوتيته، وهذا مطابق لقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، لا يمنع هذا أن يكون المقصود هو السبع المثاني آيات الفاتحة؛ فاتحة الكتاب، وكذلك هذه السور الطوال هي السبع المثاني كذلك، أنها كذلك تقرأ وتثنى، والقرآن كله هو مثاني، القرآن كله مثاني، كما قال -تبارك وتعالى- {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ........}[الزمر:23]، وذلك أن القرآن يقرأ المرة ثم يثنى ثم يثنى ثم يثنى ...، ولا يمل قارئه، فمن حكمة القرآن أنه لا يوجد كلام كلما قرئ يحب القارئ قرائته ويزداد فيه، وكلما إزداد قراءة فيه وديَّت بقيت جدته وبقيت حلاوته وبقيت طلاوته، وبقي معناه السر الذي يتجدد دائمًا بغير أي كلام أخر، فإن أي كلام أخر إذا قرأه القارئ المرة تلو المرة تلو المرة ...، يفقد جدته ويفقد بريقه ويخلق؛ يصير مثل الشيء القديم، كما تلبس ثوبًا يكون جديدًا في أول الأمر ثم بعد مدة إذا أكثرت لبسه إنتهى، القرآن لا، القرآن يبقى جديدًا مع كل قراءة، كلما قرأه القارئ كلما أصبح هذا القرآن في نفسه جديدًا وكأنه يقرأه لأول مرة؛ لا يمله، فلا يخلق على كثرة الرد ولا يمل، هذا القرآن، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، القرآن الذي يقرأ العظيم وذلك أنه هو كلام الرب -سبحانه وتعالى-، إذن هذه عطية الرب -سبحانه وتعالى- أنه إمتن عليك، إمتن على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، هذا النبي الخاتم محمد إبن عبد الله، بإنزال هذا القرآن الذي هذه صفته، الذي هذه صفة القرآن، أنزله عليه -سبحانه وتعالى- فضلًا منه ونعمة من الله -سبحانه وتعالى- على رسوله وعلى هذه الأمة، {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}[الحجر:87]، إذن هذا كنزك، هذا كنزك وهذا زخرك وهذا مهيعك وهذا كهفك وهذي يجب أن تكون وجهتك وتمسكك.
{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ ........}[الحجر:88]، لا تمدن عينيك؛ مد العين هو إطالة النظر، يعني لا تطل النظر إلى ما متعنا به أزواجًا منهم؛ من هؤلاء الكفار، يعني أعداد هؤلاء الكفار، إمتد الله -تبارك وتعالى- أعطاهم الله، متعهم الله -تبارك وتعالى- بالدنيا بأموال عظيمة، ما ممدود، أولاد، زوجات، جاه، سلطان، قال الله -تبارك وتعالى- كل هذا الذي أعطي الكفار {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ........}[الحجر:88]، فلا تتمنى ما عندهم ولا تمد عينك إلى هذا المال الذي أعطوه، ولا تحزن عليهم؛ أي بالمصير الذي يصيرون إليه، وهم صائرون إلى النار والنبي يعلم هذا، وكان يزداد حزنه من أن هؤلاء المكذبين مآلهم إلى هذه النار العظيمة، فيحزن عليهم الحزن الذي أحيانًا يقتله غمًا -صلوات الله والسلام عليه-، فالله يخفف عنه ويقول له لا تحزن عليهم، هذه مشيئة الرب -تبارك وتعالى- وإرادته فيهم، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، اخفض جناحك للمؤمنين؛ هذا الذي ينبغي أن يكون خلق النبي وسياسته مع أصحابه المؤمنين، وخفض الجناح لهم يعني لا ترفع عليهم يدك بسب أو بضرب ونحو ذلك، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}، أي عاملهم بالرقة واللطف والإحسان واصبر معهم وحديثهم وتعليمهم، وعلى ما قد يصدر من بعضهم من غلظة وجفاف، وهكذا كان النبي -صلوات الله عليه وسلم- ممتثلًا لأمر الله -تبارك وتعالى- في معاملة أصحابه المؤمنين.
{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}[الحجر:89]، قل لهم إني أنا النذير؛ بالألف واللام، المبين؛ البين الواضح، النذير؛ المحذر، من العقوبة الشديدة؛ عقوبة الرب -تبارك وتعالى- على الكفر والعناد، النبي أرسله الله -تبارك وتعالى- نذيرًا للعالمين؛ لينذرهم، يخوفهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى- وعذابه، ونذارته بينة، قل لهم هذا ديَّت، وهذا كان هو خطاب النبي العام، أول خطاب للنبي في عمومه قام ليخبره بهذا، قال لهم إن نذير لكم بين يدي عذاب شديد، بعد أن وقف على الصفا؛ رقى على الصفا، والصفا هي أشرف جبل بالنسبة لمكة لأنه أقرب هذه الجبال إلى الكعبة ومنه يبدأ السعي، فوقف النبي ورقى على الصفا وهو في وسط مكة ونادى كل قريش ببطونها، وقال لهم لو أخبرتكم أن خيلًا وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ إذا أخبرتكم إن في عدو قادم عليكم يريد أن يحاربكم، أتصدقوني؟ فقالوا ما جربنا عليك كذبًا، قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، أرسلني الله -تبارك وتعالى- لأنذركم عقوبته؛ عذابه يوم القيامة، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ}[الحجر:89]، أخبرهم بهذا الخبر وأعلن لهم هذا الإعلان.
ثم قال -جل وعلا- {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}[الحجر:90]، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}[الحجر:91]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92]، {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، المقتسمين؛ هؤلاء الكفار، الذين تقاسموا على الكفر، وتقاسموا على الصد عن سبيل الله، فقد إجتمعت قريش عندما رأت أن الإسلام بدأ ينتشر في القبائل، وأن النبي بدأ يأتيه ناس من الخارج وينقل لهم الإسلام، فإجتمعوا وتقاسموا فيما بينهم على أن بني هاشم؛ جماعة النبي -صل الله عليه وسلم- وأهله وبني المطلب، أنهم لا يشترى منهم ولا يباع لهم ولا يتزوج من بناتهم ولا يزوجون ويقاطعون، ما يسميه الناس اليوم مقاطعة إقتصادية، مقاطعة بل هذا إقتصادية وإجتماعية كذلك ويحصرون، فحصر المسلمون حصار شديد وحصر أهل النبي ديَّت، طبعًا تضامنوا معه أهله من بني هاشم وبني المطلب تضامنوا مع النبي حتى الكفار منهم وأصابت الجميع شدة شديدة، حتى إنهم أكلوا أوراق الشجر وأكلوا الجلود وصارت لهم شدة شديدة وأمر عظيم جدًا، {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ}[الحجر:90]، على الباطل، الذين تقاسموا ديَّت، وكان المكان الذي تقاسموا فيه على ديَّت، وقال وليقسم كل منكم على هذا كان في الخيف؛ في منى خيف بني كنانة.
{الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ}[الحجر:91]، جعلوا القرآن الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- على رسوله عضين؛ يعني أعضاء، أقسام، إما أنهم يجزئونه ويستجهزئون منه ويستهزئون بما ينزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وإما أنه يحلو لهم يستهزئوا بعضه ويشيدوا ببعضه، ولذلك كانوا دائمًا يعرضون على النبي -صل الله عليه وسلم- أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو أن يبدله، فجعلوا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى- عضين؛ أقسام وأعضاء، قال -جل وعلا- {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92]، {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، فهؤلاء الذين تقاسموا على الكفر وردوا هذا القرآن على هذا النحو وأرادوا أن يأخذوا منهم ما يحلوا لهم وأن يتركوا منه ما لا يشتهون، وظنوا أن بعضه يمكن أن يكون من الله وبعضه من غيره، فقال -جل وعلا- فوربك؛ يقسم الله -تبارك وتعالى- بنفسه –جل وعلا- ويضيف الله -تبارك وتعالى- الرسول إليه تشريفًا للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، {........ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92]، {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، هذا وعيد من الله -تبارك وتعالى- وتهديد لهم، وأن الله -تبارك وتعالى- سائلهم وأعظم ما يسألهم الله -تبارك وتعالى- عن لا إله إلا الله، عن كلمة التوحيد، عن شركهم الذي يشركون به بغير سلطان أتاهم، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}[الحجر:92]، {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الحجر:93]، عن ردهم لهذا الحق الذي جائهم، عن ردهم لهذا النذير المبين محمد إبن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-.
لما كان الأمر على هذا النحو قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]، فاصدع؛ الصدع اللي هو الإعلان، يعني أعلن هذا الدين الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليه وقله علانية، وكان النبي قبل ذلك يدعوا إلى الإسلام في مكة سرًا –صلوات الله والسلام عليه-، ويجتمع بمن آمن به سرًا وليس هذا بأمر معلن، فأمره الله -تبارك وتعالى- عند ذلك بأن يصدع بالحق الذي جائه وأن يخبر الناس علانية، قال {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر:94]، أعرض عنهم، أعرض عن أذاهم وعن محاسبتهم فالأمر إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، إنا؛ الرب الإله الذي لا إله إلا هو، كفيناك؛ نتولى عنك، قد تولينا عنك هؤلاء المستهزئين الذي يستهزئون بالنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وإستهزائهم به كان غاية الإستهزاء، طبعًا إنه ليس أهل لأن يكون لهذا الشرف العظيم {........ لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]، أو أهذا الذي يذكر آلهتكم كما قال -جل وعلا- حاكيًا مقالاتهم {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ........}[الأنبياء:36]، يعني أهذا هو ...، محمد هذا هو الذي يذكر آلهتكم بشر، قال -جل وعلا- {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}، قالوا عنه مجنون، قالوا عنه ساحر، قالوا عنه كذاب، قالوا عنه له هدف من وراء هذه الرسالة، وكان من رؤوس هؤلاء المستهزئين خمسة كلهم قد كفى الله -تبارك وتعالى- رسوله إياهم فقتلهم واحدًا إثر واحد، كان هؤلاء الخمسة العاص إبن وائل السهمي هذا كبير هؤلاء، وكان الذي أشد منه عدواة للنبي -صلوات الله والسلام عليه- هو الوليد إبن المغيرة المخزومي، فالوليد إبن المغيرة المخزومي والعاص إبن وائل السهمي والحاث إبن عبد يغوث الزهري وكذلك الحارس إبن الطلاطلة الخزاعي، فالأسود والأسود والحارس والعاص ها دول هؤلاء الخمسة كانوا من أكابر المجرمين الذين ناوئوا النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فقال الله -تبارك وتعالى- لرسوله {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، وقول الله -تبارك وتعالى- كفيناك بالماضي يعني أن الله -تبارك وتعالى- الأمر خلاص قد تولى أمرهم وشأنهم، وأن الله -تبارك وتعالى- مزيلهم وقد كان، فإن الله -تبارك وتعالى- أزال كلًا منهم بسبب يسير من أسباب الموت لكن كانت فيه نهايته، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95].
{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ........}[الحجر:96]، هذه جريمة؛ الجريمة الكبرى، طبعًا جريمتهم الكبرى أنهم جعلوا مع الله إلهًا أخر يعبدونه ديَّت، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، تهديد من الله -تبارك وتعالى- لهم، ثم بعد ذلك طيب الله -تبارك وتعالى- خاطر نبيه وسلاه، فقال له {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}[الحجر:97]، نعلم هذا، وكون الله -تبارك وتعالى- وهو ربه وإلهه يعلم ما يصيب النبي من الهم والغم من إستهزائهم به وسخريتهم به، وهذه الأقوال الشنيعة التي يقولونها عنه من أنه ساحر ومن أنه مجنون ومن أنه ومن أنه ...، كاهن، الله يقول نحن نعلم هذا، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ}[الحجر:97]، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ........}[الحجر:98]، سبح بحمد ربك؛ يوجهه الله -تبارك وتعالى- إلى عبادته، وتسبيح الله؛ تنزيه، أي متلبس بحمد ربك، {........ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}[الحجر:98]، صفة، السجود يبقى له صفة من صفاته -صل الله عليه وسلم-، والسجود ركن من أركان الصلاة يعني كن من المصلين، وسميت الصلاة هنا بالسجود لأنها أشرف أركان الصلاة، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، يعني إستمر على العبادة حتى يأتيك اليقين والمقصود باليقين الموت، اليقين الموت كما في حديث أم العلاء الأنصارية أنه لما توفي عثمان إبن مظعون وكان ممن آخى النبي -صل الله عليه وسلم- طار لهم في القرعة لهؤلاء الأنصار، فلما مات عثمان إبن مظعون جاء النبي يعوده فقالت والنبي يسمع شهادتي عليك أبا الثائب اللي هو عثمان إبن مظعون، أن الله قد أكرمك، وكانت تقول أم العلاء ما أعرف رجلًا يصلي الخمس أفضل منه، فقالت شهادتي عليك أبا الثائب أن الله قد أكرمك، فقال لها النبي وما يدريك أن الله قد أكرمه؟ قالت سبحان الله يا رسول الله، من يكرم الله إذا لم يكرمه، فقال له والله إني لرسول الله، لا أدري ما يفعل بي غدًا أما هو فقد أتاه اليقين وإني لأرجوا له الخير، أما هو يعني عثمان الذي مات الآن هذا فقد أتاه اليقين اللي هو الموت، وإني لأرجوا له الخير، قالت فوالله لا أزكي بعده أحدًا أبدًا، فاليقين؛ الموت، فاليقين هو الموت {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، يعني إستمر على عبادة الله -تبارك وتعالى- حتى يدركك الموت وأنت على ذلك، مواعظ عظيمة وتوجيه عظيم لرسوله -صلوات الله والسلام عليه-، في هذه الفترة الزمنية العصيبة التي مرت به -صل الله عليه وسلم- في مكة مع تآمر وتكالب المشركين عليه، وتذكير عظيم من الله -تبارك وتعالى-.
وبهذا نأتي إلى ختام هذه السورة العظيمة؛ سورة الحجر، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من المواعظ والأخلاق والآداب، وأن يرزقنا فهم هذا القرآن والعمل به، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.