الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:1]، {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2]، {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:3]، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4]، هذا مطلع سورة النحل وهي سورة مكية، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بقوله -جل وعلا- {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ........}[النحل:1]، براعة إستهلال وجائت على نحو الوعيد والتهديد، وأنه قد أتى أمر الله بصيغة الماضي؛ أتى، وأمر الله؛ عذابه، الذي توعد به وتهدد به الكافرين، وقول الله -تبارك وتعالى- إنه أتى وهو سيأتي لأن هذا أمر متحقق الوقوع، فهو أمر سيقع في المستقبل لكن لأنه متحقق الوقوع فإن الله -تبارك وتعالى- قد عبر عنه بصيغة الماضي، وصيغة الماضي يعبر عنها بالأمر الذي يقع مستقبلًا إذا كان أمرًا حتميًا لابد أن يقع، كما أقول لشخص أتيتك -إن شاء الله-، أتيتك -إن شاء الله- أقصد أن أنا سآتيك غدًا، وأؤكد هذا أتيتك أن هو هذا أمر متحقق الوقع، {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ........}[النحل:1]، والذي كان يستعجله الكفار هو عذاب الله -تبارك وتعالى-، يقولون هذا إستهزاءًا وإستخفافًا وإعناتًا للرسول، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ ........}[العنكبوت:53]، وقال -تبارك وتعالى- عنهم في الموضع الأخر، قال {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16]، عجل لنا يعني أنه هاته لنا بعجل، قطنا؛ عذابنا الذي يهددنا به النبي محمد –صل الله عليه وسلم- قبل يوم الحساب، قال -جل وعلا- {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}، فهنا قول الله -تبارك وتعالى- {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، أنه حتمًا العذاب الذي يهددهم الله -تبارك وتعالى- به آتٍ لا محالة، {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}، لأن ما الذي يستعجل؟ يستعجل العذاب، وهذا من لا عقل له ولا فهم له هو الذي يستعجل عقاب نفسه، قال -جل وعلا- {........ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:1]، سبحانه؛ تنزيهًا له -جل وعلا-، وتعالى؛ الله -سبحانه وتعالى- عما يشركون به، وما الذي يشركون به؟ لا وجه أن يقارن بين الله -تبارك وتعالى- وبين هذه الآلهة المدعاة مهما كانت، يشركون به ملائكته والحال أنهم عبيده؛ وهم في قبضته، الرسل والصالحين كذلك هم عبيده لا يملك أحد لنفسه منهم نفعًا ولا ضر، يشركون به مخلوقاته ومخترعاته، الشمس، القمر، النجوم، هذه مخلوقاته ومخترعاته هو الذي خلقها وهو الذي أقامها -سبحانه وتعالى-، ماذا يمكن للمشرك أن ينصب له إلهًا مع الله -تبارك وتعالى- أو من دون الله أو يعطيه ما يعطي الله -عز وجل-، أي إله يمكن أن يكون كفئًا لله وندًا له -سبحانه وتعالى-، والحال أن الله -تبارك وتعالى- لا كفء له ولا ند له ولا شبيه له ولا شريك له -سبحانه وتعالى-، {........ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:1]، تعالى الله -تبارك وتعالى- علوًا كبيرًا أن يكون له شريك، ولد مماثل له، زوجة، أحد ينازعه الملك، خالق معه، رازق معه، متصرف في أي شيء من أي أنواع التصريف في نفسه أو في غيره، لا يوجد هناك في الكون كله من يستطيع أن يتصرف تصرفًا ما بدون إذن إلهه ومولاه، أي تصرف لا في نفسه ولا في غيره، فكل التصريف إنما هو للرب، فكيف يكون لله -تبارك وتعالى- يكون له ...، كيف يتخذ المشرك مع الله -تبارك وتعالى- إلهًا، يجعل له ما لله سواءً كان من ذات أو من صفة أو من حق، {........ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:1].
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- من هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}[النحل:2]، هذا من عمل الرب -تبارك وتعالى-، {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ}، الملائكة؛ ملائكته ينزلهم، {بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}، بالروح؛ بهذا الدين، بالدين وبالشرعة، والله -تبارك وتعالى- سمى هذا الدين روح لأنه يحيي القلوب، يحيي ديَّت، الإنسان الكافر ميت والمؤمن حي، عرف ربه، عرف طريقه، استفاد بكل هذه المقومات التي أعطاها الله -تبارك وتعالى- له، استفاد بقلبه، استفاد ببصره، استفاد بأذنه، أما الكافر فإنه معطل لكل هذه أدوات العلم والمعرفة التي أعطاه الله -تبارك وتعالى- له، أعمى لا يرى الحق، لا قلب له، لا يفقه الطريق، يسير إلى جهنم وهو لا يسمع ولا يبصر؛ فهذا الكافر، فالكافر ميت والمؤمن حي، فالله {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ}، هذا من أمره؛ من أموره -سبحانه وتعالى-، أو من أوامره -جل وعلا-، {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}، على من يشاء من عباده؛ هو الذي يختار -سبحانه وتعالى- الذي ...، يختارهم الذي يختارهم الله؛ له الخيرة، فهو الذي يختار رسله وأنبيائه -سبحانه وتعالى-، ويرسل الملائكة تحمل الوحي منه -سبحانه وتعالى-، الوحي الذي هو الروح إلى هذا الرسول ليبلغ الناس، {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، أن أنذروا؛ أي أيها الرسل الذين أتاكم هذا الوحي من الله؛ هذي الروح من الله، أن أنذروا الناس أنه لا إله إلا أنا فاتقون، هذه هي خلاصة الرسالات وهدفها وغايتها النهائية، أنه لا إله إلا الله، وأن يا أيها العباد اعبدوا ربكم الذي لا إله لكم غيره، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25]، الوحي كله ينصب عند هذه الكلمة؛ كلمة لا إله إلا الله، دعوة الرسل، كل ما دعوة الرسل غايته ونهايتها هي عبادة الرب الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، أن أنذروا أيها الرسل والأنبياء الذين أرسل عليهم الوحي أنه لا إله إلا أنا، لا إله على الحقيقة إلا الله -سبحانه وتعالى-، وكل ما إتخذ من إله غيره فباطل، كل ما يتخذه الكفار من إله غير الله باطل مهما عبدوا، عبدوا الشمس، القمر، النجوم، الكواكب، أي شي من ديَّت كل هذا خلق الله -تبارك وتعالى-، ولا يستحق شيء من هذا الذي عبد؛ لا يستحق الألوهة، لا يستحق الألوهية إلى الإله الواحد الخالق الرازق المتصرف في شئون خلقه -سبحانه وتعالى-، المنعم لهم، المتفضل لهم وحده -سبحانه وتعالى-، فالرب الذي هذه صفة ربوبته هو الذي يستحق وحده أن يكون الإله وحده -جل وعلا-، {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ}، خافوني وذلك أنه يخبر، يرسل رسله بهذا، بهذا بأمره هذا الإلهي ثم يحاسب، يحاسب على العباد وفق هذه الرسالة التي جائتهم، وإذا حاسبهم فهناك عقوبة للمعاند والمكابر والذي لم يستجب لأمر الله -تبارك وتعالى-، فاتقوني؛ خافوني، خافوا إلهكم وربكم ومولاكم -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:3]، هذه صفته أنه خلق السماوات والأرض بالحق، بالحق؛ خلقها بالحق، وذلك أن الهدف والغاية حق، الهدف أن تقوم هذه المخلوقات بعبادة الرب الإله -سبحانه وتعالى-، الله لا يرضى من خلقه جميعًا إلى أن يعبدوه ويقدسوه ويوحدوه -سبحانه وتعالى-، {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:3]، تعالى؛ ارتفع -سبحانه وتعالى-، وعلا شأنه -سبحانه وتعالى-، ولا مجال لمقارنة الرب -تبارك وتعالى- بما يشركه به المشركون من هذه الآلهة المدعاة.
هذه بعد ذلك بدأ الله -تبارك وتعالى- يبين إفضاله وإنعامه على الخلق وأنه لا يشاركه أحد في هذه الأفعال، فأولًا قال -جل وعلا- {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4]، هذا فعل الله -تبارك وتعالى-، الإنسان؛ كل الإنسان، جميع إنس الإنسان كله بدءًا بآدم -عليه السلام- إلى آخر أحد، هذه كله الإنسان، فالإنسان جنس الإنسان خلقه الله -تبارك وتعالى- من نطفة؛ بالتناسل، من بعد آدم إلى آخر ديَّت، أبو البشر آدم خلقه الله -تبارك وتعالى- من طين هذه الأرض بيديه -سبحانه وتعالى-، ثم كان بعد ذلك نسل آدم من بعد ذلك كله جاء من هذا الماء المهين الذي منه يتكون الإنسان، النطفة وهي هذا الشيء القذر المزر الذي يبدأ تتكون حياة الإنسان منه؛ نطفة المني، ثم قال -جل وعلا- {........ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4]، إذا الفجائية يعني ما كان الله -تبارك وتعالى- أن يخلقه من هذا الشيء القذر وهذا الشيء المهين؛ من ماء مهين، إلا إذا به عندما أصبح رجل وشب إذا هو يخاصم ربه -سبحانه وتعالى-، {........ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4]، خصيم لمن؟ لله -سبحانه وتعالى-، الذي خلقه من هذا الأمر المهين القذر، بيِّن العداوة وهذا بيان لخلق هذا الإنسان الكافر، أنه ينسى ربه وإلهه وخالقه وينسى أصله، نسي أصله وأنه كان بهذا الشيء الوضيع، وأن الله -تبارك وتعالى- خلقه بعد ذلك هذا الخلق المستوي، ولكنه ما كاد يستوي حتى خاصم ربه وجعل لله ند وجعل لله شريك، وبدأ يدافع عن شركه ويشتم ربه ويخاصمه، ويقول له ولد وله شريك وله زوجة وله وله ...، وكل هذا سب وشتم لله -تبارك وتعالى-، {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}[النحل:4].
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين ما خلق لهذا الإنسان، وهذه السورة سورة النحل هي سورة نقدر نقول سورة تعداد نعم الله -تبارك وتعالى- على هذا الإنسان، ومع هذا مع كفره وعناده وبعده عن الحق، فمن هذه النعم التي أنعم الله -تبارك وتعالى- بها على الإنسان، قال {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[النحل:5]، {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل:6]، يذكر الله -تبارك وتعالى- عباده بإنعامه وإفضاله عليهم، فذكر أو ما ذكر هنا الأنعام وهي بهيمة الأنعام، اللي هي ثمانية أزواج من الظأن ومن الماعز ومن الإبل ومن البقر، هذه بهيمة الأنعام التي خلقها الله -تبارك وتعالى- وذلك ليأكل الإنسان منها، ويأكل منها؛ من لحومها ومن ألبانها، وكذلك يستفيد بمنافع كثيرة جدًا بعد ذلك منها، من صوفها ووبرها وشعرها وجلودها وقرونها وعملها كذلك له، قال -جل وعلا- {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ........}[النحل:5]، دفء؛ ما تلبسون منها، من الصوف والوبر والشعر، فمن شعر الماعز نصنع الخيام ومن الصوف نلبس الملابس ومن الوبر نصنع البشوت والعباءات، ومنافع كثيرة، كل شيء، كل ما في خلق الإنعام كله منافع حتى الأظلاف نستفيد منها، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، منها؛ من هذه الأنعام، تأكلون؛ لحومها، وكذلك ألبانها وما يتبع هذا اللبن من ما يقشد وسمنها ومضيرها، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، تأكلون ما تأكلوا منها.
ثم {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل:6]، لكم فيها جمال، الجمال استمتاع بالصورة الحسنة، وبأخلاق وصفات الأنعام، لها صفات جميلة في طريقة رعيها، عنايتها بصغارها، تحببها وتعرفها على راعيها، وهذي أمور يعلمها من له خبرة وله ممارسة وله مخالطة لهذا الأمر، أمر يفوق الوصف، والجمال حسن هذا المنظر، وقال -تبارك وتعالى- ذكر من هذا الجمال، خص به حين تريحون، يعني عندما تريحون، الرواح هو العودة من المراعي في المساء، وحين تسرحون؛ والسراح اللي هو خروجها في الصباح، لكم في هذه الأنعام جمال، منظر بديع وحالة نفسية مريحة لأصحاب هذه الأنعام عندما يريحونها في الرواح في المساء، وحين يسرحون بها، وقدم الله –تبارك وتعالى- حال الرواح لأنه أكثر جمالًا وأكثر أنسًا، لأن في حال الرواح يأتي الإنسان بعد التعب بالرعي إلى المسكن، وتكون في العادة إذا كانت من ذوات الدر؛ قد حملت درها، قد ينتظرها صغارها عند النزل الذي ينزل فيه، إجتماع بعد ذلك يجتمع صغارها بكبارها ويحصل هناك هذه الأصوات الجميلة من الصغار والحنان الذي يكون من الكبار، أمر عظيم جدًا يعلمه ويحس به أهل هذه الحرفة والصناعة، فالله يذكر بهذا، يذكر عباده -سبحانه وتعالى- بهذه النعم فيقول {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}[النحل:6].
{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:7]، تحمل هذه الأنعام أثقالكم، ومن أنعام الحمل الإبل؛ هذه السفن العظيمة، تحمل أثقالكم، أثقالكم؛ أحمالكم الثقيلة، {إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ}، إلى بلد؛ قيل أي بلد يعني يريدها الإنسان في سفره، لم تكونوا بالغيه بغير هذه الأنعام إلا بشق الأنفس، بشق الأنفس؛ الشق النصف، يعني كان الإنسان يذوب نصفه حتى يصل إلى هذا، لو أن الله -تبارك وتعالى- كلف الإنسان دون أن يخلق له هذه الإبل أن يحمل متاعه هو بنفسه على ظهره أو يجرجره، لكان وصله بأثقاله من بلد إلى بلد لا يصل إلى بشق الأنفس، بعد عناء شديد يذهب نصف نفسه، فهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- أن سخر هذه الأنعام اللي فيها هذه المنافع وفيها كذلك هذا الحمل من بلد إلى بلد، إلى بلد؛ قيل هذا البلد المقصود هنا مكة، وأنه لو أن الله -تبارك وتعالى- لم يخلق لكم هذا وكلفكم بالحج وتسيرون من أماكن بعيدة وتحملون هذه الأثقال؛ من الطعام والميرة والماء، يعني على ظهوركم كل هذه المدة لتصلوا إلى مكة وقد كلفكم الله بهذا، فإنكم لن تصلوا إلا بشق الأنفس، وعلى كل حال مكة هي كذلك بلد من الذي يقصدها الإنسان؛ هذا يقصدها المقصد الديني، والبلدان الأخرى يقصدونها للمقاصد الدنيوية، فسواء كان هذا المقصد أو هذا المقصد فإن الله –تبارك وتعالى- سخر الأنعام للإنسان لحمل أثقاله على هذا النحو، {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النحل:7]، إن ربكم أيها الناس لرؤوف بكم رحيم -سبحانه وتعالى-، ومن رأفته بكم ورحمته أن خلق لكم الأنعام لهذه المنافع العظيمة.
ثم قال -جل وعلا- {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[النحل:8]، أي من جملة ما خلق الله -تبارك وتعالى- لنا وأنعم علينا، خلق الخيل والبغال صنف والحمير، قال -جل وعلا- {لِتَرْكَبُوهَا}، يعني هذه الأصناف أن الله -تبارك وتعالى- خلقها لركوب الإنسان عليها، {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}، زينة؛ جمال، أن هذا أمر جميل حسن في المنظر، الخيل الجميلة التي يأنس الإنسان بمنظرها، قد لا يركبها لكن بمنظرها وديَّت، وهو من جملة ما يزين المكان وهو زينة في عيون صاحبه، وتركبوا هذه كذلك للركوب وللزينة، ثم قال -جل وعلا- {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}، من الأدوات والآلات التي تقوم بهذه المهمة؛ بالزينة والحمل، وقد خلق الله -تبارك وتعالى- لنا بعد ذلك؛ بعد أن هدى الإنسان إلى صناعة الآلة، خلق لنا مركبات عظيمة جدًا زينة كالسيارات بأنواعها وأشكالها والطائرات وهذه المركبات والقطارات و ...، فهذه مما خلق الله -تبارك وتعالى-، خلقه كذلك لهذه الركوب وكذلك للزينة، قال -جل وعلا- مبشرًا {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}، يخلق ما لا تعلمون لكم في هذا السبيل، أو كذلك يخلق ما لا تعلمون من أنواع الخلق الذي لا نعلمه -سبحانه وتعالى-، والمعنى الأولى لـ {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}، مما ستركبونه ألصق لمعنى الآية، وفي سياق إمتنان الرب -تبارك وتعالى- على عباده، إستدل من إستدل من أهل العلم على أن الخيل لا يؤكل لحمها فالبغال والحمير إجماعًا لا يحل لحمها، وقد جاء الحديث الصحيح بتحريم لحوم الحمر الإنسية، كما في حديث علي إبن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- في غزوة خيبر أن النبي أرسل منادٍ ينادي في غزوة خيبر «إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس»، وكذلك البغال حرام يعني حرمتها بالإجماع، والخيل قال من قال من أهل العلم أنها هنا قرنت مع البغال والحمير وحصرت منافعها بالركوب والزينة، قال {........ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ}[النحل:8]، مما يدل على تحريم أكلها.
ثم قال الله -جل وعلا- {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[النحل:9]، لما ذكر الله –تبارك وتعالى- لنا نعم هذه الدواب التي تركيب ونسافر عليها ونقصد ما نقصده بها، من الهدف الذي نريد أن نصل إليه في بلد أخر، ذكر الله -تبارك وتعالى- الرحلة والسفر والسبيل المعنوي الأخر؛ سبيل الله -تبارك وتعالى-، وسفر الإنسان إلى الآخرة، قال {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ}، على الله –سبحانه وتعالى- قصد السبيل، السبيل؛ القاصد القاصد المتجة يعني الإتجاه الصحيح على الله -سبحانه وتعالى-، على الله -تبارك وتعالى- بيانه أو وكذلك على الله -تبارك وتعالى- إتجاهه، السبيل القاصد الصحيح الذي يقصد المقصد الصحيح ويوصل صاحبه إلى الهدف الصحيح، {وَمِنْهَا جَائِرٌ}، من السبل، جائر؛ مائل، كما في قول الله -تبارك وتعالى- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ........}[الأنعام:153]، فمن السبل التي يتخذها الناس جائر؛ يعني مائل عن الحق، {وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}، لو شاء الله -تبارك وتعالى- أن يجعلكم جميعًا في هذا السبيل الواحد وفي الصراط الواحد لفعل -سبحانه وتعالى-.
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- بعد أن بيَّن -سبحانه وتعالى- ما خطه لعباده؛ من السبيل الصحيح، وكان ذكر هذا السبيل المعنوي بعد السبيل الحسي، فكما أنت تسافر وتركب على الخيل والبغال والحمير تقصد مكانًا فتذكر طريقك إلى الله -تبارك وتعالى-، وأن هناك طريق سليم صحيح قاصد يوصلك إلى الهدف، وهناك طرق معوجة كثيرة تحرفك عن هدفك وتأخذ بك إلى الضلالة، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}[النحل:9]، ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين إنعامه وإفضاله على خلقه، قال {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}[النحل:10]، هو؛ الله -سبحانه وتعالى-، الذي يعرفكم بنفسه، {الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، ماء المطر، ومن السماء؛ من العلو، {لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ}، لكم من هذا الماء النازل شراب تشربونه، {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ}، ومنه؛ يعني من هذا الماء كذلك، شجر؛ ينبت الله -تبارك وتعالى- به شجر، الشجر هو هذا النبات وسمي شجر لشجار أغصانه بعضها مع بعض، فيه؛ في هذا الشجر، تسيمون؛ أنعامكم، والسوم؛ الرعي، يعني ترعون أنعامكم في هذا، فهذه نعمة الله -تبارك وتعالى-؛ إنزال المطر من السماء، وإنبات الشجر الذي ينبت على ماء المطر وعليه يرعى؛ يعني على هذا الشجر الإنسان يرعى فيه أنعامه.
{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:11]، ينبت الله -تبارك وتعالى- لكم بهذا المطر الذي ينزله من السماء الزرع؛ بأشكاله، والزرع اللي هو ليس له ساق من النباتات، والزيتون؛ خصه الله -تبارك وتعالى- لما فيه من المنافع العظيمة أشجارًا، والنخيل؛ خص كذلك لأنه أعظم وأفضل ثمار هذه الأرض، والأعناب؛ جمع عنب، ومن كل الثمرات بعد ذلك، خص الله -تبارك وتعالى- هذه ديَّت لأنها عامة وأعظم منافع الخلق في طعامهم منها، قال {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}، الأنواع التي هي نتاج الأشجار، فواكها وثمارها التي كذلك تدخر وتؤكل، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، إن في ذلك؛ في إنزال الله -تبارك وتعالى المطر، ليكون منه شربكم وليكون منه نبات هذه النباتات الكثيرة؛ كثيرة المنافع، التي عليها ترعى أنعامكم ومنها تأكلون هذه الثمار المختلفة، هذه كلها فيها آية ولكن لقوم يتفكرون، لناس عندهم فكر يعملون عقولهم في هذا الخلق العظيم وهذه النعم العظيمة، التي هي من الله ومن الله وحده لم يشاركه -سبحانه وتعالى- أحد في خلقها وفي نشرها لعباده -سبحانه وتعالى- على هذا النحو البديع.
نقف عند هذا، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.